ahla-3alm
لمتابعتي على الانستجرام
https://www.instagram.com/murad_alnajar

تفسير سورة البقرة   Uo10

ahla-3alm
لمتابعتي على الانستجرام
https://www.instagram.com/murad_alnajar

تفسير سورة البقرة   Uo10

ahla-3alm
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ahla-3alm

 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  برامج  العاب كاملة PC  دراسات واكتشافات وعلوم الانسان  دخولدخول  التسجيلالتسجيل  
لمتابعتي على الانستجرام انقر هنا
ساعة
لدعم صفحتنا على الفيسبوك
صفحتنا على الفيس بوكتفسير سورة البقرة   An3m1.com_13252903071
قصف الشباب والبنات في جامعة الزرقاء
قصف الشباب والبنات في جامعة الزرقاء
لمتابعتي على الانستجرام انقر هنا

 

 تفسير سورة البقرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ahmadhamad
المدير
المدير
ahmadhamad


ذكر عدد المساهمات : 813
نقاط : 11867
تاريخ التسجيل : 13/06/2010
الموقع : فلسطين
العمل/الترفيه العمل/الترفيه : تطوير الموقع
المزاج المزاج : رائع جداً

تفسير سورة البقرة   Empty
29092011
مُساهمةتفسير سورة البقرة

الاية 1 الي الاية 6
نزلت سورة البقرة بعد الهجرة؛ ولذلك فهي مدنية؛ فإن كل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني؛ وما نزل قبلها فهو مكي؛ هذا هو الصحيح؛ لأن العبرة بالزمن . لا بالمكان..

وغالب السور المدنية يكون فيها تفصيل أكثر من السور المكية؛ ويكون التفصيل فيها في فروع الإسلام دون أصوله؛ وتكون غالباً أقل شدة في الزجر، والوعظ، والوعيد؛ لأنها تخاطب قوماً كانوا مؤمنين موحدين قائمين بأصول الدين، ولم يبق إلا أن تُبَيَّن لهم فروع الدين ليعملوا بها؛ وتكون غالباً أطول آيات من السور المكية..

القــرآن

(بسم الله الرحمن الرحيم) )الم) (1))ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)

التفسير:.

قوله تعالى: { بسم الله الرحمن الرحيم }: قد تقدم الكلام عليها في سورة الفاتحة..

.{ 1 } قوله تعالى: { الم } حروف هجائية: ثلاثة أحرف: ألِف، ولام، وميم؛ تقرأ لا على حسب الكتابة: "أَلَمْ"؛ ولكن على حسب اسم الحرف: "ألِفْ لامْ ميمْ"..

هذه الحروف الهجائية اختلف العلماء فيها، وفي الحكمة منها على أقوال كثيرة يمكن حصرها في أربعة أقوال

القول الأول: أن لها معنًى؛ واختلف أصحاب هذا القول في تعيينه: هل هو اسم لله عزّ وجلّ؛ أو اسم للسورة؛ أو أنه إشارة إلى مدة هذه الأمة؛ أو نحو ذلك؟

القول الثاني: هي حروف هجائية ليس لها معنًى إطلاقاً..

القول الثالث: لها معنًى الله أعلم به؛ فنجزم بأن لها معنًى؛ ولكن الله أعلم به؛ لأنهم يقولون: إن القرآن لا يمكن أن ينزل إلا بمعنى..

القول الرابع: التوقف، وألا نزيد على تلاوتها؛ ونقول: الله أعلم: أَلَها معنًى، أم لا؛ وإذا كان لها معنًى فلا ندري ما هو..

وأصح الأقوال فيها القول الثاني؛ وهو أنها حروف هجائية ليس لها معنًى على الإطلاق؛ وهذا مروي عن مجاهد؛ وحجة هذا القول: أن القرآن نزل بلغة العرب؛ وهذه الحروف ليس لها معنًى في اللغة العربية، مثل ما تقول: ألِف؛ باء؛ تاء؛ ثاء؛ جيم؛ حاء...؛ فهي كذلك حروف هجائية..

أما كونه تعالى اختار هذا الحرف دون غيره، ورتبها هذا الترتيب فهذا ما لا علم لنا به..

هذا بالنسبة لذات هذه الحروف؛ أما بالنسبة للحكمة منها فعلى قول من يعين لها معنًى فإن الحكمة منها: الدلالة على ذلك المعنى . مثل غيرها مما في القرآن..

وأما على قول من يقول: "ليس لها معنًى"؛ أو: "لها معنًى الله أعلم به"؛ أو: "يجب علينا أن نتوقف" فإن الحكمة عند هؤلاء على أرجح الأقوال . وهو الذي اختاره ابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره تلميذه الحافظ الذهبي، وجمع كثير من أهل العلم . هو الإشارة إلى بيان إعجاز القرآن العظيم، وأن هذا القرآن لم يأتِ بكلمات، أو بحروف خارجة عن نطاق البشر؛ وإنما هو من الحروف التي لا تعدو ما يتكلم به البشر؛ ومع ذلك فقد أعجزهم..

فهذا أبين في الإعجاز؛ لأنه لو كان في القرآن حروف أخرى لا يتكلم الناس بها لم يكن الإعجاز في ذلك واقعاً؛ لكنه بنفس الحروف التي يتكلم بها الناس . ومع هذا فقد أعجزهم .؛ فالحكمة منها ظهور إعجاز القرآن الكريم في أبلغ ما يكون من العبارة؛ قالوا: ويدل على ذلك أنه ما من سورة افتتحت بهذه الحروف إلا وللقرآن فيها ذكر؛ إلا بعض السور القليلة لم يذكر فيها القرآن؛ لكن ذُكر ما كان من خصائص القرآن:.

فمثلاً قوله تعالى: {كهيعص} [مريم: 1] ليس بعدها ذكر للقرآن؛ ولكن جاء في السورة خاصية من خصائص القرآن . وهي ذِكر قصص من كان قبلنا .: {ذكر رحمت ربك عبده زكريا...} (مريم: 2)

كذلك في سورة الروم قال تعالى في أولها: {الم * غلبت الروم} [الروم: 1، 2] ؛ فهذا الموضع أيضاً ليس فيه ذكر للقرآن؛ ولكن في السورة ذكر شيء من خصائص القرآن . وهو الإخبار عن المستقبل .: {غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} [الروم: 2 . 4)

وكذلك أيضاً قوله تعالى: {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 1، 2] ليس فيها ذكر القرآن؛ ولكن فيها شيء من القصص الذي هو أحد خصائص القرآن: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا...} (العنكبوت: 3)

فهذا القول الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره جمع من أهل العلم هو الراجح: أن الحكمة من هذا ظهور إعجاز القرآن في أبلغ صوره، حيث إن القرآن لم يأتِ بجديد من الحروف؛ ومع ذلك فإن أهل اللغة العربية عجزوا عن معارضته وهم البلغاء الفصحاء..

وقال بعضهم: إن الحكمة منها تنشيط السامعين؛ فإذا تلي القرآن، وقرئ قوله تعالى: { الم } كأنه تعالى يقول: أنصتوا؛ وذلك لأجل المشركين . حتى ينصتوا له ...

ولكن هذا القول فيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لكان هذا في كل السور؛ مع أن أكثر السور غير مبتدئ بمثل هذه الحروف؛ وأيضاً لو كان كذلك ما صارت في السور المدنية . مثل سورة البقرة .؛ لأن السور المدنية ليس فيها أحد يلغو في القرآن؛ فالصواب أن الحكمة من ذلك هو ظهور إعجاز القرآن..

.{ 2 } قوله تعالى: { ذلك الكتاب }: "ذا" اسم إشارة؛ واللام للبعد؛ فإذا كان المشار إليه بعيداً تأتي بهذه اللام التي نسميها "لام البعد"؛ أما الكاف فهي للخطاب؛ وهذه الكاف فيها ثلاث لغات:.

الأولى: مراعاة المخاطب؛ فإن كان مفرداً مذكراً فُتِحت؛ وإن كان مفرداً مؤنثاً كُسِرت، وإن كان مثنى قرنت بالميم، والألف: "ذلكما" ؛ وإن كان جمعاً مذكراً قرنت بالميم: "ذلكم"؛ وإن كان جمعاً مؤنثاً قرنت بالنون المشددة: "ذلكنَّ"؛ وهذه هي اللغة الفصحى..

اللغة الثانية: لزوم الفتح والإفراد مطلقاً، سواء خاطبت مذكراً، أو مؤنثاً، أو مثنى، أو جمعاً؛ فتقول للرجل: "ذلكَ" ؛ وللمرأة: "ذلكَ"؛ وللاثنين: "ذلكَ"؛ وللجماعة: "ذلكَ"..

اللغة الثالثة: أن تكون بالإفراد سواء كان المخاطب واحداً، أم أكثر . مفتوحة في المذكر مكسورة في المؤنث.؛ فتقول: "ذلكَ" إذا كان المخاطب مذكراً؛ وتقول: "ذلكِ" إذا كان مؤنثاً..

والخطاب في قوله تعالى: { ذلك } لكل مخاطب يصح أن يوجه إليه الخطاب؛ والمعنى: ذلك أيها الإنسان المخاطَب..

والمراد بـ{ الكتاب } القرآن؛ و{ الكتاب } بمعنى المكتوب؛ لأن "فِعال" كما تأتي مصدراً . مثل: قتال، ونضال . تأتي كذلك بمعنى اسم مفعول، مثل: بناء بمعنى مبني؛ وغراس بمعنى مغروس؛ فكذلك "كتاب" بمعنى مكتوب؛ فهو مكتوب عند الله؛ وهو أيضاً مكتوب بالصحف المكرمة، كما قال تعالى: {في صحف مكرمة * مرفوعة مطهَّرة * بأيدي سفرة} [عبس: 13 . 15] ؛ وهو مكتوب في الصحف التي بين أيدي الناس؛ وأشار إليه بأداة البعيد لعلوّ منزلته؛ لأنه أشرف كتاب، وأعظم كتاب..

قوله تعالى: { لا ريب فيه هدًى للمتقين }: أهل النحو يقولون: إنّ { لا } هنا نافية للجنس؛ و{ ريب } اسمها مبني على الفتح؛ لأنه مركب معها؛ فهي في محل نصب؛ ويقولون: إنّ { لا } النافية للجنس تفيد العموم في أقصى غايته . يعني تدل على العموم المطلق .، فتشمل القليل، والكثير؛ فإذاً القرآن ليس فيه ريب لا قليل، ولا كثير..

و "الريب" هو الشك؛ ولكن ليس مطلق الشك؛ بل الشك المصحوب بقلق لقوة الداعي الموجب للشك؛ أو لأن النفس لا تطمئن لهذا الشك؛ فهي قلقة منه . بخلاف مطلق الشك .؛ ولهذا من فسّر الريب بالشك فهذا تفسير تقريبي؛ لأن بينهما فرقاً..

والنفي هنا على بابه؛ فالجملة خبرية؛ هذا هو الراجح؛ وقيل: إنه بمعنى النهي . أي لا ترتابوا فيه .؛ والأول أبلغ؛ فإن قال قائل: ما وجه رجحانه؟

فالجواب: أن هذا ينبني على قاعدة هامة في فهم وتفسير القرآن: وهي أنه يجب علينا إجراء القرآن على ظاهره، وأن لا نصرفه عن الظاهر إلا بدليل، مثل قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] ، فهذه الآية ظاهرها خبر؛ لكن المراد بها الأمر؛ لأنه قد لا تتربص المطلقة؛ فما دمت تريد تفسير القرآن الكريم فيجب عليك أن تجريه على ظاهره إلا ما دلّ الدليل على خلافه؛ وذلك؛ لأن المفسر للقرآن شاهد على الله بأنه أراد به كذا، وكذا؛ وأنت لو فسّرت كلام بشر على خلاف ظاهره لَلامَكَ هذا المتكلم، وقال: "لماذا تحمل كلامي على خلاف ظاهره! ليس لك إلا الظاهر"؛ مع أنك لو فسرت كلام هذا الرجل على خلاف ظاهره لكان أهون لوماً مما لو فسرت كلام الله؛ لأن المتكلم . غير الله . ربما يخفى عليه المعنى، أو يعييه التعبير، أو يعبر بشيء ظاهره خلاف ما يريده، فتفسره أنت على ما تظن أنه يريده؛ أما كلام الله عزّ وجلّ فهو صادر عن علم، وبأبلغ كلام، وأفصحه؛ ولا يمكن أن يخفى على الله عزّ وجلّ ما يتضمنه كلامه؛ فيجب عليك أن تفسره بظاهره..

فقوله تعالى: { لا ريب فيه }: ظاهرها أنها جملة خبرية تفيد النفي؛ والمعنى: ليس فيه ريب أبداً؛ وقيل: إن الخبر هنا بمعنى النهي؛ فمعنى: { لا ريب فيه }: لا ترتابوا فيه؛ والذي أوجب أن يفسروا النفي بمعنى النهي قالوا: لأنه قد حصل فيه ريب من الكفار، والمنافقين؛ قال تعالى: {فهم في ريبهم يترددون} [التوبة: 45] ؛ فلا يستقيم النفي حينئذ؛ وتكون هذه القرينة الواقعية من ارتياب بعض الناس في القرآن قرينةً موجبة لصرف الخبر إلى النهي؛ ولكننا نقول: إن الله تعالى يتحدث عن القرآن من حيث هو قرآن . لا باعتبار من يتلى عليهم القرآن .؛ والقرآن من حيث هو قرآن لا ريب فيه؛ عندما أقول لك: "هذا الماء عذب" فهذا بحسب وصف الماء بقطع النظر عن كون هذا الماء في مذاق إنسان من الناس ليس عذباً؛ كون مذاق الماء العذب مراً عند بعض الناس فهذا لا يؤثر على طبيعة الماء العذب؛ وقد قال المتنبي:.

ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالا فما علينا من هؤلاء إذا كان القرآن عندهم محل ريبة؛ فإن القرآن في حد ذاته ليس محل ريبة؛ والله سبحانه وتعالى يصف القرآن من حيث هو قرآن؛ على أن كثيراً من الذين ادّعوا الارتياب كاذبون يقولون ذلك جحوداً، كما قال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33] ؛ فكثير منهم ربما لا يكون عنده ارتياب حقيقي في القرآن؛ ويكون في داخل نفسه يعرف أن هذا ليس بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يأتي بمثله؛ ولكن مع ذلك يجحدون، وينكرون..

وعلى هذا فالوجه الأول هو الوجه القوي الذي لا انفصام عنه . وهو أن الله تعالى وصف القرآن من حيث هو قرآن بقطع النظر عمن يُتلى عليهم هذا القرآن: أيرتابون، أم لا يرتابون فيه..

وقوله تعالى: { لا ريب فيه هدًى للمتقين }: وقف بعض القراء على قوله تعالى: { لا ريب }؛ وعليه فيكون خبر { لا } محذوفاً؛ والتقدير: لا ريب في ذلك؛ ويكون الجار والمجرور خبراً مقدماً، و{ هدًى } مبتدأً مؤخراً؛ ووقف بعضهم على قوله تعالى: { فيه }؛ وعليه فيكون الجار والمجرور خبر { لا }؛ ويكون قوله تعالى: { هدًى } خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: هو هدًى للمتقين..

و"التقوى":اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: بيان علوّ القرآن؛ لقوله تعالى: { ذلك }؛ فالإشارة بالبعد تفيد علوّ مرتبته؛ وإذا كان القرآن عالي المكانة والمنزلة، فلا بد أن يعود ذلك على المتمسك به بالعلوّ والرفعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {ليظهره على الدين كله} [التوبة: 33] ؛ وكذلك ما وُصِف به القرآن من الكرم، والمدح، والعظمة فهو وصف أيضاً لمن تمسك به..

.2 ومنها: رفعة القرآن من جهة أنه قرآن مكتوب معتنٍ به؛ لقوله تعالى: { ذلك الكتاب }؛ وقد بيّنّا أنه مكتوب في ثلاثة مواضع: اللوح المحفوظ، والصحف التي بأيدي الملائكة، والمصاحف التي بأيدي الناس..

.3 ومن فوائد الآية: أن هذا القرآن نزل من عند الله يقيناً؛ لقوله تعالى: ( لا ريب فيه )

.4 ومنها: أن المهتدي بهذا القرآن هم المتقون؛ فكل من كان أتقى لله كان أقوى اهتداءً بالقرآن الكريم؛ لأنه عُلِّق الهدى بوصف؛ والحكم إذا عُلق بوصف كانت قوة الحكم بحسب ذلك الوصف المعلَّق عليه؛ لأن الوصف عبارة عن علة؛ وكلما قويت العلة قوي المعلول..

.5 ومن فوائد الآية: فضيلة التقوى، وأنها من أسباب الاهتداء بالقرآن، والاهتداء بالقرآن يشمل الهداية العلمية، والهداية العملية؛ أي هداية الإرشاد، والتوفيق..

فإن قيل: ما الجمع بين قوله تعالى: { هدًى للمتقين }، وقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس وبينات من الهدى والفرقان}؟ (البقرة: 185) .

فالجواب: أن الهدى نوعان: عام، وخاص؛ أما العام فهو الشامل لجميع الناس وهو هداية العلم، والإرشاد؛ ومثاله قوله تعالى عن القرآن: {هدًى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185] ، وقوله تعالى عن ثمود: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17] ؛ وأما الخاص فهو هداية التوفيق : أي أن يوفق الله المرء للعمل بما علم؛ مثاله: قوله تعالى { هدًى للمتقين }، وقوله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدًى وشفاء} [فصلت: 44] ..

القـرآن

)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: 3-5)

التفسير:

.{ 3 } بعد أن ذكر الله عزّ وجلّ أن المتقين هم الذين ينتفعون ويهتدون بهذا الكتاب، بيَّن لنا صفات هؤلاء المتقين؛ فذكر في هذه الآية ست صفات:.

الأولى: الإيمان بالغيب في قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب }، أي يقرون بما غاب عنهم مما أخبر الله به عن نفسه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وغير ذلك مما أخبر الله به من أمور الغيب؛ وعلى هذا فـ{ الغيب } مصدر بمعنى اسم الفاعل: أي بمعنى: غائب..

الصفة الثانية: إقامة الصلاة في قوله تعالى: { ويقيمون الصلاة }، أي يقومون بها على وجه مستقيم، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمراد بـ{ الصلاة } هنا الجنس؛ فتعم الفريضة، والنافلة..

الصفة الثالثة: الإنفاق مما رزقهم الله في قوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون }، أي مما أعطيناهم من المال يخرجون؛ و "مِن" هنا يحتمل أن تكون للتبعيض، وأن تكون للبيان؛ ويتفرع على ذلك ما سيُبَيَّن في الفوائد . إن شاء الله تعالى ...

.{ 4 } الصفة الرابعة قوله تعالى: { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك }، أي يؤمنون بجميع الكتب المنزلة؛ وبدأ بالقرآن مع أنه آخرها زمناً؛ لأنه مهيمن على الكتب السابقة ناسخ لها؛ والمراد بـ{ ما أنزل من قبلك } التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وموسى، وغيرها..

الصفة الخامسة: الإيقان بالآخرة في قوله تعالى: { وبالآخرة هم يوقنون }؛ والمراد بذلك البعث بعد الموت، وما يتبعه مما يكون يوم القيامة من الثواب، والعقاب، وغيرهما؛ وإنما نص على الإيقان بالآخرة مع دخوله في الإيمان بالغيب لأهميته؛ لأن الإيمان بها يحمل على فعل المأمور، وترك المحظور؛ و "الإيقان" هو الإيمان الذي لا يتطرق إليه شك..

.{ 5 } قوله تعالى: { أولئك }: المشار إليه ما تقدم ممن اتصفوا بالصفات الخمس؛ وأشار إليهم بصيغة البعد لعلوّ مرتبتهم؛ { على هدًى } أي على علم، وتوفيق؛ و{ على } للاستعلاء؛ وتفيد علوهم على هذا الهدى، وسيرهم عليه، كأنهم يسيرون على طريق واضح بيّن؛ فليس عندهم شك؛ تجدهم يُقبلون على الأعمال الصالحة وكأن سراجاً أمامهم يهتدون به: تجدهم مثلاً ينظرون في أسرار شريعة الله، وحِكَمها، فيعلمون منها ما يخفى على كثير من الناس؛ وتجدهم أيضاً عندما ينظرون إلى القضاء والقدر كأنما يشاهدون الأمر في مصلحتهم حتى وإن أصيبوا بما يضرهم أو يسوءهم، يرون أن ذلك من مصلحتهم؛ لأن الله قد أنار لهم الطريق؛ فهم على هدًى من ربهم وكأن الهدى مركب ينجون به من الهلاك، أو سفينة ينجون بها من الغرق؛ فهم متمكنون غاية التمكن من الهدى؛ لأنهم عليه؛ و{ من ربهم } أي خالقهم المدبر لأمورهم؛ والربوبية هنا خاصة متضمنة للتربية الخاصة التي فيها سعادة الدنيا، والآخرة..

قوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون }: الجملة مبتدأ وخبر، بينهما ضمير الفصل الدالّ على التوكيد، والحصر؛ وأعيد اسم الإشارة تأكيداً لما يفيده اسم الإشارة الأول من علوّ المرتبة، والعناية التامة بهم كأنهم حضروا بين يدي المتكلم؛ وفيه الفصل بين الغاية، والوسيلة؛ فالغاية: الفلاح؛ ووسيلته: ما سبق؛ و "الفلاح" هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب؛ فهي كلمة جامعة لانتفاء جميع الشرور، وحصول جميع الخير.

تنبــــيه:

من المعروف عند أهل العلم أن العطف يقتضي المغايرة . أي أن المعطوف غير المعطوف عليه .؛ وقد ذكرنا أن هذه المعطوفات أوصاف للمتقين وهو موصوف واحد؛ فكيف تكون المغايرة؟

والجواب: أن التغاير يكون في الذوات كما لو قلت: "قدم زيد، وعمرو"؛ ويكون في الصفات كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدَّر فهدى * والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 . 4] ؛ قالوا: والفائدة من ذلك أن هذا يقتضي تقرير الوصف الأول . كأنه قال: "أتصف بهذا، وزيادة ...

الفوائد:.

.1 من فوائد الآية: أن من أوصاف المتقين الإيمان بالغيب؛ لأن الإيمان بالمُشاهَد المحسوس ليس بإيمان؛ لأن المحسوس لا يمكن إنكاره..

.2 ومنها: أن من أوصاف المتقين إقامة الصلاة؛ وهو عام لفرضها، ونفلها..

ويتفرع على ذلك: الترغيب في إقامة الصلاة؛ لأنها من صفات المتقين؛ وإقامتها أن يأتي بها مستقيمة على الوجه المطلوب في خشوعها، وقيامها، وقعودها، وركوعها، وسجودها، وغير ذلك..

.3 ومن فوائد الآيات: أن من أوصاف المتقين الإنفاق مما رزقهم الله؛ وهذا يشمل الإنفاق الواجب كالزكاة، وإنفاقَ التطوع كالصدقات، والإنفاقِ في سبل الخير..

.4 ومنها: أن صدقة الغاصب باطلة؛ لقوله تعالى: { ومما رزقناهم }؛ لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به، فلا تقبل صدقته..

.5 ومنها: أن الإنفاق غير الزكاة لا يتقدر بشيء معين؛ لإطلاق الآية، سواء قلنا: إن "مِن" للتبعيض؛ أو للبيان..

ويتفرع على هذا جواز إنفاق جميع المال في طرق الخير، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه حين تصدق بجميع ماله ؛ لكن هذا مشروط بما إذا لم يترتب عليه ترك واجب من الإنفاق على الأهل، ونحوهم؛ فإن ترتب عليه ذلك فالواجب مقدم على التطوع..

.6 ومن فوائد الآية: ذم البخل؛ ووجهه أن الله مدح المنفقين؛ فإذا لم يكن إنفاق فلا مدح؛ والبخل خلق ذميم حذر الله سبحانه وتعالى منه في عدة آيات..

تنـــبيه:

لم يذكر الله مصرف الإنفاق أين يكون؛ لكنه تعالى ذكر في آيات أخرى أن الإنفاق الممدوح ما كان في سبيل الله من غير إسراف، ولا تقتير، كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67] ..

.7ومن فوائد الآية: أن من أوصاف المتقين الإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله.

.8 ومنها: أن من أوصاف المتقين الإيقان بالآخرة على ما سبق بيانه في التفسير..

.9 ومنها: أهمية الإيمان بالآخرة؛ لأن الإيمان بها هو الذي يبعث على العمل؛ ولهذا يقرن الله تعالى دائماً الإيمان به عزّ وجلّ، وباليوم الآخر؛ أما من لم يؤمن بالآخرة فليس لديه باعث على العمل؛ إنما يعمل لدنياه فقط: يعتدي ما دام يرى أن ذلك مصلحة في دنياه: يسرق مثلاً؛ يتمتع بشهوته؛ يكذب؛ يغش...؛ لأنه لا يؤمن بالآخرة؛ فالإيمان بالآخرة حقيقة هو الباعث على العمل..

.10 ومنها: سلامة هؤلاء في منهجهم؛ لقوله تعالى: ( أولئك على هدًى من ربهم ).

.11ومنها: أن ربوبية الله عزّ وجلّ تكون خاصة، وعامة؛ وقد اجتمعا في قوله تعالى عن سحرة فرعون: {آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} (الأعراف: 121، 122)

.12 ومنها: أن مآل هؤلاء هو الفلاح؛ لقوله تعالى: ( وأولئك هم المفلحون )

.13 ومنها: أن الفلاح مرتب على الاتصاف بما ذُكر؛ فإن اختلَّت صفة منها نقص من الفلاح بقدر ما اختل من تلك الصفات؛ لأن الصحيح من قول أهل السنة والجماعة، والذي دلّ عليه العقل والنقل، أن الإيمان يزيد، وينقص، ويتجزأ؛ ولولا ذلك ما كان في الجنات درجات: هناك رتب كما جاء في الحديث: "إن أهل الجنة ليتراءون أصحاب الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق؛ قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال صلى الله عليه وسلم لا؛ والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين"(1) ، أي ليست خاصة بالأنبياء..

القـرآن

)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:6) )خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:7)

التفسير:

ثم ذكر الله قسماً آخر . وهم الكافرون الخلَّص .؛ ففي هذه السورة العظيمة ابتدأ الله تعالى فيها بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنون الخلَّص؛ ثم الكافرون الخلَّص؛ ثم المؤمنون بألسنتهم دون قلوبهم؛ فبدأ بالطيب، ثم الخبيث، ثم الأخبث؛ إذاً الطيب: هم المتقون المتصفون بهذه الصفات؛ والخبيث: الكفار؛ والأخبث: المنافقون..

.{ 6 } قوله تعالى: { سواء } أي مستوٍ؛ وهي إما أن تكون خبر { إن } في قوله تعالى: { إن الذين كفروا }؛ ويكون قوله تعالى: { أأنذرتهم } فاعلاً بـ{ سواء } مسبوكاً بمصدر؛ والتقدير: سواء عليهم إنذارُك، وعدمُه؛ وإما أن تكون { سواء } خبراً مقدماً، و{ أأنذرتهم } مبتدأً مؤخراً؛ والجملة خبر { إن }؛ والأول أولى؛ لأنه يجعل الجملة جملة واحدة؛ وهنا انسبك قوله تعالى: { أأنذرتهم } بمصدر مع أنه ليس فيه حرف مصدري؛ لكنهم يقولون: إن همزة الاستفهام التي للتسوية يجوز أن تسبك، ومدخولها بمصدر..

قوله تعالى: { إن الذين كفروا } أي بما يجب الإيمان به..

قوله تعالى: { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }: هذا تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. لا اعتذاراً للكفار .، ولا تيئيساً له صلى الله عليه وسلم و "الإنذار" هو الإعلام المقرون بالتخويف؛ والرسول صلى الله عليه وسلم بشير، ونذير؛ بشير معلم بما يسر بالنسبة للمؤمنين؛ نذير معلم بما يسوء بالنسبة للكافرين؛ فإنذار النبي صلى الله عليه وسلم وعدمه بالنسبة لهؤلاء الكفار المعاندين، والمخاصمين . الذين تبين لهم الحق، ولكن جحدوه . مستوٍ عليهم..

وقوله تعالى: { لا يؤمنون }: هذا محط الفائدة في نفي التساوي . أي إنهم أنذرتهم أم لم تنذرهم . لا يؤمنون؛ وتعليل ذلك قوله تعالى: ( ختم الله على قلوبهم )

و "الختم" : الطبع؛ و"الطبع" هو أن الإنسان إذا أغلق شيئاً ختم عليه من أجل ألا يخرج منه شيء، ولا يدخل إليه شيء؛ وهكذا فهؤلاء . والعياذ بالله . قلوبهم مختوم عليها لا يصدر منها خير، ولا يصل إليها خير..

.{ 7 } قوله تعالى: { وعلى سمعهم } أي وختم على سمعهم، فهي معطوفة على قوله تعالى: { على قلوبهم }؛ والختم على الأذن: أن لا تسمع خيراً تنتفع به..

قوله تعالى: { وعلى أبصارهم غشاوة }: الواو للاستئناف؛ فالجملة مستقلة عما قبلها؛ فهي مبتدأ، وخبر مقدم؛ ويحتمل أن تكون الواو عاطفة، لكن عطف جملة على جملة؛ و{ غشاوة } أي غطاء يحول بينها وبين النظر إلى الحق؛ ولو نظرت لم تنتفع..

قوله تعالى: { ولهم } أي لهؤلاء الكفار الذين بقوا على كفرهم { عذاب عظيم }: وهو عذاب النار؛ وعظمه الله تعالى؛ لأنه لا يوجد أشد من عذاب النار..

انتهى الكلام على الصنف الثاني من أصناف الخلق، وهم الكفار الخُلَّص الصرحاء..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم حين يردُّه الكفار، ولا يَقبلون دعوته..

.2 ومنها: أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان المنذِر والداعي؛ لأنه لا يستفيد . قد ختم الله على قلبه .، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] ، وقال تعالى: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [الزمر: 19] يعني هؤلاء لهم النار؛ انتهى أمرهم، ولا يمكن أن تنقذهم..

.3 ومنها: أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة، ولا بالإقبال على الله تعالى فإن فيه شبهاً من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ، ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله..

.4 ومنها: أن محل الوعي القلوب؛ لقوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم } يعني لا يصل إليها الخير..

.5 ومنها: أن طرق الهدى إما بالسمع؛ وإما بالبصر: لأن الهدى قد يكون بالسمع، وقد يكون بالبصر؛ بالسمع فيما يقال؛ وبالبصر فيما يشاهد؛ وهكذا آيات الله عزّ وجلّ تكون مقروءة مسموعة؛ وتكون بيّنة مشهودة..

.6 ومنها: وعيد هؤلاء الكفار بالعذاب العظيم..

مسألة:.

إذا قال قائل: هل هذا الختم له سبب من عند أنفسهم، أو مجرد ابتلاء وامتحان من الله عزّ وجلّ؟

فالجواب: أن له سبباً؛ كما قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ، وقال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية(المائدة: 13)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://ahla-3alm.ahlamountada.com
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

تفسير سورة البقرة :: تعاليق

ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:01 am من طرف ahmadhamad
الاية 7 الي الاية 13

)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:6)

(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:7)

التفسير:

ثم ذكر الله قسماً آخر . وهم الكافرون الخلَّص .؛ ففي هذه السورة العظيمة ابتدأ الله تعالى فيها بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنون الخلَّص؛ ثم الكافرون الخلَّص؛ ثم المؤمنون بألسنتهم دون قلوبهم؛ فبدأ بالطيب، ثم الخبيث، ثم الأخبث؛ إذاً الطيب: هم المتقون المتصفون بهذه الصفات؛ والخبيث: الكفار؛ والأخبث: المنافقون..

.{ 6 } قوله تعالى: { سواء } أي مستوٍ؛ وهي إما أن تكون خبر { إن } في قوله تعالى: { إن الذين كفروا }؛ ويكون قوله تعالى: { أأنذرتهم } فاعلاً بـ{ سواء } مسبوكاً بمصدر؛ والتقدير: سواء عليهم إنذارُك، وعدمُه؛ وإما أن تكون { سواء } خبراً مقدماً، و{ أأنذرتهم } مبتدأً مؤخراً؛ والجملة خبر { إن }؛ والأول أولى؛ لأنه يجعل الجملة جملة واحدة؛ وهنا انسبك قوله تعالى: { أأنذرتهم } بمصدر مع أنه ليس فيه حرف مصدري؛ لكنهم يقولون: إن همزة الاستفهام التي للتسوية يجوز أن تسبك، ومدخولها بمصدر..

قوله تعالى: { إن الذين كفروا } أي بما يجب الإيمان به..

قوله تعالى: { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }: هذا تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. لا اعتذاراً للكفار .، ولا تيئيساً له صلى الله عليه وسلم و "الإنذار" هو الإعلام المقرون بالتخويف؛ والرسول صلى الله عليه وسلم بشير، ونذير؛ بشير معلم بما يسر بالنسبة للمؤمنين؛ نذير معلم بما يسوء بالنسبة للكافرين؛ فإنذار النبي صلى الله عليه وسلم وعدمه بالنسبة لهؤلاء الكفار المعاندين، والمخاصمين . الذين تبين لهم الحق، ولكن جحدوه . مستوٍ عليهم..

وقوله تعالى: { لا يؤمنون }: هذا محط الفائدة في نفي التساوي . أي إنهم أنذرتهم أم لم تنذرهم . لا يؤمنون؛ وتعليل ذلك قوله تعالى: ( ختم الله على قلوبهم )

و "الختم" : الطبع؛ و"الطبع" هو أن الإنسان إذا أغلق شيئاً ختم عليه من أجل ألا يخرج منه شيء، ولا يدخل إليه شيء؛ وهكذا فهؤلاء . والعياذ بالله . قلوبهم مختوم عليها لا يصدر منها خير، ولا يصل إليها خير..

.{ 7 } قوله تعالى: { وعلى سمعهم } أي وختم على سمعهم، فهي معطوفة على قوله تعالى: { على قلوبهم }؛ والختم على الأذن: أن لا تسمع خيراً تنتفع به..

قوله تعالى: { وعلى أبصارهم غشاوة }: الواو للاستئناف؛ فالجملة مستقلة عما قبلها؛ فهي مبتدأ، وخبر مقدم؛ ويحتمل أن تكون الواو عاطفة، لكن عطف جملة على جملة؛ و{ غشاوة } أي غطاء يحول بينها وبين النظر إلى الحق؛ ولو نظرت لم تنتفع..

قوله تعالى: { ولهم } أي لهؤلاء الكفار الذين بقوا على كفرهم { عذاب عظيم }: وهو عذاب النار؛ وعظمه الله تعالى؛ لأنه لا يوجد أشد من عذاب النار..

انتهى الكلام على الصنف الثاني من أصناف الخلق، وهم الكفار الخُلَّص الصرحاء..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم حين يردُّه الكفار، ولا يَقبلون دعوته..

.2 ومنها: أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان المنذِر والداعي؛ لأنه لا يستفيد . قد ختم الله على قلبه .، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] ، وقال تعالى: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [الزمر: 19] يعني هؤلاء لهم النار؛ انتهى أمرهم، ولا يمكن أن تنقذهم..

.3 ومنها: أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة، ولا بالإقبال على الله تعالى فإن فيه شبهاً من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ، ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله..

.4 ومنها: أن محل الوعي القلوب؛ لقوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم } يعني لا يصل إليها الخير..

.5 ومنها: أن طرق الهدى إما بالسمع؛ وإما بالبصر: لأن الهدى قد يكون بالسمع، وقد يكون بالبصر؛ بالسمع فيما يقال؛ وبالبصر فيما يشاهد؛ وهكذا آيات الله عزّ وجلّ تكون مقروءة مسموعة؛ وتكون بيّنة مشهودة..

.6 ومنها: وعيد هؤلاء الكفار بالعذاب العظيم..

مسألة:.

إذا قال قائل: هل هذا الختم له سبب من عند أنفسهم، أو مجرد ابتلاء وامتحان من الله عزّ وجلّ؟

فالجواب: أن له سبباً؛ كما قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ، وقال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية(المائدة: 13)

القـرآن

)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة:Cool

التفسير:

.{ 8 } قوله تعالى: { ومن الناس }: { من } للتبعيض؛ أي: وبعض الناس؛ ولم يصفهم الله تعالى بوصف . لا بإيمان، ولا بكفر .؛ لأنهم كما وصفهم الله تعالى في سورة النساء: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 143] ؛ و{ الناس } أصلها الأناس؛ لكن لكثرة الاستعمال حذفت الهمزة تخفيفاً، كما قالوا في "خير"، و"شر": إن أصلهما: "أخير"، و"أشر"؛ لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال؛ وسُموا أناساً: من الأُنس؛ لأن بعضهم يأنس بعضاً، ويركن إليه؛ ولهذا يقولون: "الإنسان مدني بالطبع"؛ بمعنى: أنه يحب المدنية . يعني الاجتماع، وعدم التفرق ...

قوله تعالى: { من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } أي يقول بلسانه . بدليل قوله تعالى: { وما هم بمؤمنين } أي بقلوبهم .؛ وسبق معنى الإيمان بالله، وباليوم الآخر..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: بلاغة القرآن؛ بل فصاحة القرآن في التقسيم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ابتدأ هذه السورة بالمؤمنين الخلَّص، ثم الكفار الخلَّص، ثم بالمنافقين؛ وذلك؛ لأن التقسيم مما يزيد الإنسان معرفة، وفهماً..

.2 . ومنها: أن القول باللسان لا ينفع الإنسان؛ لقوله تعالى: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)

.3 ومنها: أن المنافقين ليسوا بمؤمنين . وإن قالوا: إنهم مؤمنون .؛ لقوله تعالى: { وما هم بمؤمنين }؛ ولكن هل هم مسلمون؟ إن أريد بالإسلام الاستسلام الظاهر فهم مسلمون؛ وإن أريد بالإسلام إسلام القلب والبدن فليسوا بمسلمين..

.4 ومنها: أن الإيمان لا بد أن يتطابق عليه القلب، واللسان..

ووجه الدلالة: أن هؤلاء قالوا: "آمنا" بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم؛ فصح نفي الإيمان عنهم؛ لأن الإيمان باللسان ليس بشيء..

القـرآن

)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:9)

التفسير:

.{ 9 } قوله تعالى: { يخادعون الله } أي بإظهار إسلامهم الذي يعصمون به دماءهم، وأموالهم..

قوله تعالى: { والذين آمنوا } معطوف على لفظ الجلالة؛ والمعنى: ويخدعون الذين آمنوا بإظهار الإسلام، وإبطان الكفر، فيظن المؤمنون أنهم صادقون..

قوله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم } أي ما يخدع هؤلاء المنافقون إلا أنفسهم، حيث منَّوها الأماني الكاذبة..

قوله تعالى: { وما يشعرون } أي ما يشعر هؤلاء أن خداعهم على أنفسهم مع أنهم يباشرونه؛ ولكن لا يُحِسُّون به، كما تقول: "مَرَّ بي فلان ولم أشعر به"..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: مكر المنافقين، وأنهم أهل مكر، وخديعة؛ لقوله تعالى: { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم }؛ ولهذا قال الله تعالى في سورة المنافقين: {هم العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4] ؛ فحصر العداوة فيهم؛ لأنهم مخادعون..

.2 ومنها: التحفظ من المنافقين؛ لأنه إذا قيل لك: "فلان يخدع" فإنك تزداد تحفظاً منها؛ وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون يقظاً حذراً، فلا ينخدع بمثل هؤلاء..

فإن قال قائل: كيف نعرف المنافق حتى نكون حذرين منه؟

فالجواب: نعرفه بأن نتتبع أقواله، وأفعاله: هل هي متطابقة، أو متناقضة؟ فإذا علمنا أن هذا الرجل يتملق لنا، ويظهر أنه يحب الإسلام، ويحب الدين، لكن إذا غاب عنا نسمع عنه بتأكد أنه يحارب الدين عرفنا أنه منافق؛ فيجب علينا أن نحذر منه..

.3 ومن فوائد الآية: أن المكر السيئ لا يحيق إلّا بأهله؛ فهم يخادعون الله، ويظنون أنهم قد نجحوا، أو غلبوا؛ ولكن في الحقيقة أن الخداع عائد عليهم؛ لقوله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم }: فالحصر هنا يدل على أن خداعهم هذا لا يضر الله تعالى شيئاً، ولا رسوله، ولا المؤمنين..

.4 ومنها: أن العمل السيئ قد يُعمي البصيرة؛ فلا يشعر الإنسان بالأمور الظاهرة؛ لقوله تعالى: { وما يشعرون } أي ما يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم؛ و "الشعور" أخص من العلم؛ فهو العلم بأمور دقيقة خفية؛ ولهذا قيل: إنه مأخوذ من الشَّعر؛ والشعر دقيق؛ فهؤلاء الذين يخادعون الله، والرسول، والمؤمنين لو أنهم تأملوا حق التأمل لعرفوا أنهم يخدعون أنفسهم، لكن لا شعور عندهم في ذلك؛ لأن الله تعالى قد أعمى بصائرهم . والعياذ بالله .، فلا يشعرون بهذا الأمر..

القـرآن

)فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10)

التفسير:

.{ 10 } قوله تعالى: { في قلوبهم مرض }: هذه الجملة جملة اسمية تدل على مكث وتمكنُّ هذا المرض في قلوبهم؛ ولكنه مرض على وجه قليل أثّر بهم حتى بلغوا النفاق؛ ومن أجل هذا المرض قال سبحانه وتعالى: { فزادهم الله مرضاً }: الفاء هنا عاطفة؛ ولكنها تفيد معنى السببية: زادهم الله مرضاً على مرضهم؛ لأنهم . والعياذ بالله . يريدون الكفر؛ وهذه الإرادة مرض أدى بهم إلى زيادة المرض؛ لأن الإرادات التي في القلوب عبارة عن صلاح القلوب، أو فسادها؛ فإذا كان القلب يريد خيراً فهو دليل على سلامته، وصحته؛ وإذا كان يريد الشر فهو دليل على مرضه، وعلته..

وهؤلاء قلوبهم تريد الكفر؛ لأنهم يقولون لشياطينهم إذا خلوا إليهم: {إنا معكم إنما نحن مستهزئون} [البقرة: 14] ، أي بهؤلاء المؤمنين السذج . على زعمهم . ويرون أن المؤمنين ليسوا بشيء، وأن العِلْية من القوم هم الكفار؛ ولهذا جاء التعبير بـ {إنا معكم} [البقرة: 14] الذي يفيد المصاحبة، والملازمة..

فهذا مرض زادهم الله به مرضاً إلى مرضهم حتى بلغوا إلى موت القلوب، وعدم إحساسها، وشعورها..

قوله تعالى في مجازاتهم: { ولهم عذاب } أي عقوبة؛ { أليم } أي مؤلم؛ فهو شديد، وعظيم، وكثير؛ لأن الأليم قد يكون مؤلماً لقوته، وشدته: فضربة واحدة بقوة تؤلم الإنسان؛ وقد يكون مؤلماً لكثرته: فقد يكون ضرباً خفيفاً؛ ولكن إذا كثر، وتوالى آلَم؛ وقد اجتمع في هؤلاء المنافقين الأمران؛ لأنهم في الدرك الأسفل من النار . وهذا ألم حسي .؛ وقال تعالى في أهل النار: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة: 20] ، وهذا ألم قلبي يحصل بتوبيخهم..

قوله تعالى: { بما كانوا يكذبون }: الباء للسببية . أي بسبب كذبهم .، أو تكذيبهم؛ و "ما" مصدرية تؤول وما بعدها بمصدر؛ فيكون التقدير: بكونهم كاذبين؛ أو: بكونهم مكذبين؛ لأن في الآية قراءتين؛ الأولى: بفتح الياء، وسكون الكاف، وكسر الذال مخففة؛ ومعناها: يَكْذِبون بقولهم: آمنا بالله، وباليوم الآخر . وما هم بمؤمنين .؛ والقراءة الثانية: بضم الياء، وفتح الكاف، وكسر الذال مشددة؛ ومعناها: يُكَذِّبون الله، ورسوله؛ وقد اجتمع الوصفان في المنافقين؛ فهم كاذبون مكذِّبون..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن الإنسان إذا لم يكن له إقبال على الحق، وكان قلبه مريضاً فإنه يعاقب بزيادة المرض؛ لقوله تعالى: { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً }؛ وهذا المرض الذي في قلوب المنافقين: شبهات، وشهوات؛ فمنهم من علم الحق، لكن لم يُرِده؛ ومنهم من اشتبه عليه؛ وقد قال الله تعالى في سورة النساء: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلًا} [النساء: 137] ، وقال تعالى في سورة المنافقين: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3] ..

.2 ومن فوائد الآية: أن أسباب إضلال اللَّهِ العبدَ هو من العبد؛ لقوله تعالى: { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً }؛ ومثل ذلك قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ، وقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} [الأنعام: 110] ، وقوله تعالى: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} [المائدة: 49] ..

.3 ومنها: أن المعاصي والفسوق، تزيد وتنقص، كما أن الإيمان يزيد وينقص؛ لقوله تعالى: { فزادهم الله مرضاً }؛ والزيادة لا تُعقل إلا في مقابلة النقص؛ فكما أن الإيمان يزيد وينقص، كذلك الفسق يزيد، وينقص؛ والمرض يزيد، وينقص..

.4 ومنها: الوعيد الشديد للمنافقين؛ لقوله تعالى: ( ولهم عذاب أليم )

.5 ومنها: أن العقوبات لا تكون إلا بأسباب . أي أن الله لا يعذب أحداً إلا بذنب .؛ لقوله تعالى:

( بما كانوا يكذبون )

.6 ومنها: أن هؤلاء المنافقين جمعوا بين الكذب، والتكذيب؛ وهذا شر الأحوال..

.7 ومنها: ذم الكذب، وأنه سبب للعقوبة؛ فإن الكذب من أقبح الخصال؛ وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكذب من خصال المنافقين، فقال صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب..."(1) الحديث؛ والكذب مذموم شرعاً، ومذموم عادة، ومذموم فطرة أيضاً..

مسألة :-

إن قيل: كيف يكون خداعهم لله وهو يعلم ما في قلوبهم؟

فالجواب: أنهم إذا أظهروا إسلامهم فكأنما خادعوا الله؛ لأنهم حينئذ تُجرى عليهم أحكام الإسلام، فيلوذون بحكم الله . تبارك وتعالى . حيث عصموا دماءهم وأموالهم بذلك..

القـرآن

)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة:11)

)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة:12)

التفسير:

.{ 11 } قوله تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض }: القائل هنا مبهم للعموم . أي ليعم أيَّ قائل كان؛ و "الإفساد في الأرض" هو أن يسعى الإنسان فيها بالمعاصي . كما فسره بذلك السلف؛ لقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]

وقوله تعالى: { في الأرض }: المراد الأرض نفسها؛ أو أهلها؛ أو كلاهما . وهو الأولى؛ أما إفساد الأرض نفسها: فإن المعاصي سبب للقحط، ونزع البركات، وحلول الآفات في الثمار، وغيرها، كما قال تعالى عن آل فرعون لما عصوا رسوله موسى عليه السلام: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} [الأعراف: 130] ، فهذا فساد في الأرض..

وأما الفساد في أهلها: فإن هؤلاء المنافقين يأتوا إلى اليهود، ويقولون لهم: {لئن أخرجتم لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم} [الحشر: 11] : فيزدادوا استعداءً للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربة له؛ كذلك أيضاً من فسادهم في أهل الأرض: أنهم يعيشون بين المسلمين، ويأخذون أسرارهم، ويفشونها إلى أعدائهم؛ ومن فسادهم في أهل الأرض: أنهم يفتحون للناس باب الخيانة والتَقِيَّة، بحيث لا يكون الإنسان صريحاً واضحاً، وهذا من أخطر ما يكون في المجتمع..

قوله تعالى: { قالوا إنما نحن مصلحون }؛ { إنما }: أداة حصر؛ و{ نحن }: مبتدأ؛ و{ مصلحون }: خبر؛ والجملة اسمية؛ والجملة الاسمية تفيد الثبوت، والاستمرار؛ فكأنهم يقولون: ما حالنا إلا الإصلاح؛ يعني: أنه ليس فيهم إفساد مطلقاً..

ومن توفيق الله أنه لم يلهمهم، فيقولوا: إنما نحن المصلحون؛ فلو أنهم قالوا: "نحن المصلحون" كان مقتضاه أن لا مصلح غيرهم؛ لكنهم قالوا: { إنما نحن مصلحون } أي ما حالنا إلا إصلاح؛ ولم يدَّعوا أنهم المصلحون وحدهم..

.{ 12 } قوله تعالى: { ألا إنهم هم المفسدون }؛ { ألا }: أداة تفيد التنبيه، والتأكيد؛ و{ إنهم }: توكيد أيضاً؛ و{ هم }: ضمير فصل يفيد التوكيد أيضاً؛ فالجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: { ألا }، و "إن" ، و{ هم } وهذا من أبلغ صيغ التوكيد؛ وأتى بـ "أل" الدالة على حقيقة الإفساد، وأنهم هم المفسدون حقاً؛ ووجه حصر الإفساد فيهم أن { هم } ضمير فصل يفيد الحصر . أي هم لا غيرهم المفسدون؛ وهذا كقوله تعالى: {هم العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4] أي هم لا غيرهم؛ فلا عداء أبلغ من عداء المنافقين للمؤمنين؛ ولا فساد أعظم من فساد المنافقين في الأرض..

قوله تعالى: { ولكن لا يشعرون } أي لا يشعرون أنهم مفسدون؛ لأن الفساد أمر حسي يدرك بالشعور والإحساس؛ فلبلادتهم وعدم فهمهم للأمور، لا يشعرون بأنهم هم المفسدون دون غيرهم..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: أن النفاق الذي هو إظهار الإسلام، وإبطان الكفر من الفساد في الأرض؛ لقوله تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض }؛ والنفاق من أعظم الفساد في الأرض..

.2 ومنها: أن من أعظم البلوى أن يُزَيَّن للإنسان الفساد حتى يَرى أنه مصلح؛ لقولهم: ( إنما نحن مصلحون )

.3 ومنها: أن غير المؤمن نظره قاصر، حيث يرى الإصلاح في الأمر المعيشي فقط؛ بل الإصلاح حقيقة أن يسير على شريعة الله واضحاً صريحاً..

.4 ومنها: أنه ليس كل من ادعى شيئاً يصدق في دعواه؛ لأنهم قالوا: { إنما نحن مصلحون }؛ فقال الله تعالى: { ألا إنهم هم المفسدون }؛ وليس كل ما زينته النفس يكون حسناً، كما قال تعالى: {أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [فاطر: 8] ..

.5 ومنها: أن الإنسان قد يبتلى بالإفساد في الأرض، ويخفى عليه فساده؛ لقوله تعالى: { ولكن لا يشعرون

.6 ومنها: قوة الرد على هؤلاء الذين ادعوا أنهم مصلحون، حيث قال الله عزّ وجلّ: { ألا إنهم هم المفسدون }؛ فأكد إفسادهم بثلاثة مؤكدات؛ وهي { ألا } و "إن" ، و{ هم }؛ بل حصر الإفساد فيهم عن طريق ضمير الفصل..

القـرآن

)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:13)

التفسير:.

.{ 13 } قوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس }: القائل هنا مبهم للعموم . أي ليعم أيَّ قائل كان؛ والكاف للتشبيه، و "ما" مصدرية . أي كإيمان الناس؛ والمراد بـ{ الناس } هنا الصحابة الذين كانوا في المدينة، وإمامهم النبي صلى الله عليه وسلم

قوله تعالى: { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء }؛ الاستفهام هنا للنفي، والتحقير؛ والمعنى: لا نؤمن كما آمن السفهاء؛ وربما يكون أيضاً مضمناً معنى الإنكار . أي أنهم ينكرون على من قال: { آمنوا كما آمن الناس }؛ وهذا أبلغ من النفي المحض؛ و{ السفهاء }: الذين ليس لهم رشد، وعقل؛ والمراد بهم هنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . على حدّ زعم هؤلاء المنافقين؛ فقال الله تعالى . وهو العليم بما في القلوب . رداً على هؤلاء: { ألا إنهم هم السفهاء }: وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: { ألا }، و "إن" ، وضمير الفصل: { هم }، وهو أيضاً مفيد للحصر؛ وهذه الجملة كالتي قبلها في قوله تعالى: { ألا إنهم هم المفسدون }..

قوله تعالى: { ولكن لا يعلمون } أي لا يعلمون سفههم؛ فإن قيل: ما الفرق بين قوله تعالى هنا: { ولكن لا يعلمون }، وقوله تعالى فيما سبق: { ولكن لا يشعرون }؟

فالجواب: أن الإفساد في الأرض أمر حسي يدركه الإنسان بإحساسه، وشعوره؛ وأما السفه فأمر معنوي يدرك بآثاره، ولا يُحَسُّ به نفسِه..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن المنافق لا تنفعه الدعوة إلى الخير؛ لقوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء }؛ فهم لا ينتفعون إذا دعوا إلى الحق؛ بل يقولون: { أنؤمن كما آمن السفهاء)

.2 ومنها: إعجاب المنافقين بأنفسهم؛ لقولهم: ( أنؤمن كما آمن السفهاء )

.3 ومنها: شدة طغيان المنافقين؛ لأنهم أنكروا على الذين عرضوا عليهم الإيمان: { قالوا أنؤمن }؛ وهذا غاية ما يكون من الطغيان؛ ولهذا قال الله تعالى في آخر الآية: {في طغيانهم يعمهون} [البقرة: 15] ..

.4 ومنها: أن أعداء الله يصفون أولياءه بما يوجب التنفير عنهم لقولهم: { أنؤمن كما آمن السفهاء }؛ فأعداء الله في كل زمان، وفي كل مكان يصفون أولياء الله بما يوجب التنفير عنهم؛ فالرسل وصفهم قومهم بالجنون، والسحر، والكهانة، والشعر تنفيراً عنهم، كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: 52] ، وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} [الفرقان: 31] وورثة الأنبياء مثلهم يجعل الله لهم أعداء من المجرمين، ولكن {وكفى بربك هادياً ونصيراً} [الفرقان: 31] ؛ فمهما بلغوا من الأساليب فإن الله تعالى إذا أراد هداية أحد فلا يمنعه إضلال هؤلاء؛ لأن أعداء الأنبياء يسلكون في إبطال دعوة الأنبياء مَسْلكين؛ مسلك الإضلال، والدعاية الباطلة في كل زمان، ومكان؛ ثم مسلك السلاح . أي المجابهة المسلحة؛ ولهذا قال تعالى: {هادياً} [الفرقان: 31] في مقابل المسلك الأول الذي هو الإضلال . وهو الذي نسميه الآن بالأفكار المنحرفة، وتضليل الأمة، والتلبيس على عقول أبنائها؛ وقال تعالى: {ونصيراً} [الفرقان: 31] في مقابل المسلك الثاني . وهو المجابهة المسلحة..

.5 ومن فوائد الآية: أن كل من لم يؤمن فهو سفيه، كما قال الله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: 130] ..

.6 ومنها: أن الحكمة كل الحكمة إنما هي الإيمان بالله، واتباع شريعته؛ لأن الكافر المخالف للشريعة سفيه؛ فيقتضي أن ضده يكون حكيماً رشيداً..

.7ومنها: تحقيق ما وعد الله به من الدفاع عن المؤمنين، كما قال تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 38] ؛ فإذا ذموا بالقول دافع الله عنهم بالقول؛ فهؤلاء قالوا: { أنؤمن كما آمن السفهاء }، والله عزّ وجلّ هو الذي جادل عن المؤمنين، فقال: { ألا إنهم هم السفهاء } يعني هم السفهاء لا أنتم؛ فهذا من تحقيق دفاع الله تعالى عن المؤمنين؛ أما دفاعه عن المؤمنين إذا اعتُدي عليهم بالفعل فاستمع إلى قول الله تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 12] : هذه مدافعة فعلية، حيث تنْزل جنود الله تعالى من السماء لتقتل أعداء المؤمنين؛ فهذا تحقيق لقول الله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 38] ؛ ولكن الحقيقة أن هذا الوعد العظيم من القادر جل وعلا الصادق في وعده يحتاج إلى إيمان حتى نؤمن بالله عزّ وجلّ، ولا نخشى أحداً سواه، فإذا ضعف الإيمان أصبحنا نخشى الناس كخشية الله، أو أشد خشية؛ لأننا إذا كنا نراعيهم دون أوامر الله فسنخشاهم أشد من خشية الله عزّ وجلّ؛ وإلا لكنا ننفذ أمر الله عزّ وجلّ، ولا نخشى إلا الله سبحانه وتعالى..

فنحن لو آمنا حقيقة الإيمان بهذا الوعد الصادق الذي لا يُخلَف لكنا منصورين في كل حال؛ لكن الإيمان ضعيف؛ ولهذا صرنا نخشى الناس أكثر مما نخشى الله عزّ وجلّ؛ وهذه هي المصيبة، والطامة العظيمة التي أصابت المسلمين اليوم؛ ولذلك تجد كثيراً من ولاة المسلمين . مع الأسف . لا يهتمون بأمر الله، ولا بشريعة الله؛ لكن يهتمون بمراعاة فلان، وفلان؛ أو الدولة الفلانية، والفلانية . ولو على حساب الشريعة الإسلامية التي من تمسك بها فهو المنصور، ومن خالفها فهو المخذول؛ وهم لا يعرفون أن هذا هو الذي يبعدهم من نصر الله؛ فبدلاً من أن يكونوا عبيداً لله أعزة صاروا عبيداً للمخلوقين أذلة؛ لأن الأمم الكافرة الكبرى لا ترحم أحداً في سبيل مصلحتها؛ لكن لو أننا ضربنا بذلك عُرض الحائط، وقلنا: لا نريد إلا رضى الله، ونريد أن نطبق شريعة الله سبحانه وتعالى على أنفسنا، وعلى أمتنا؛ لكانت تلك الأمم العظمى تهابنا؛ ولهذا يقال: من خاف الله خافه كل شيء، ومن خاف غير الله خاف من كل شيء..

.8 . ومن فوائد الآية: الدلالة على جهل المنافقين؛ لأن الله عزّ وجلّ نفى العلم عنهم؛ لقوله تعالى: { ولكن لا يعلمون }؛ فالحقيقة أنهم من أجهل الناس . إن لم يكونوا أجهل الناس؛ لأن طريقهم إنما هو خداع، وانخداع، وتضليل؛ وهؤلاء المنافقون من أجهل الناس؛ لأنهم لم يعلموا حقيقة أنفسهم، وأنهم هم السفهاء..
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:03 am من طرف ahmadhamad
الاية 14 الي الاية 27
)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة:14) )اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة:15)

التفسير:

.{ 14 } قوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا } أي قابلوهم، أو جلسوا إليهم؛ { قالوا } أي للمؤمنين الذين لقوهم؛ { آمنا } أي كإيمانكم..

قوله تعالى: { وإذا خلوا إلى شياطينهم }؛ ضُمِّن الفعل هنا معنى "رجعوا"؛ ولذلك عُدِّي بـ{ إلى }، لكن عُدِّي بالفعل { خلوا } ليكون المعنى: رجعوا خالِين بهم؛ والمراد بـ{ شياطينهم } كبراؤهم؛ وسمي كبراؤهم بـ "الشياطين" لظهور تمردهم؛ وقد قيل: إن "الشيطان" كل مارد؛ أي كل عاتٍ من الجن، أو الإنس، أو غيرهما: شيطان؛ وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الكلب الأسود بأنه شيطان؛ وليس معناه شيطان الجن؛ بل معناه: الشيطان في جنسه: لأن أعتى الكلاب، وأشدها قبحاً هي الكلاب السود؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "الكلب الأسود شيطان"(1) ؛ ويقال للرجل العاتي: هذا شيطان بني فلان . أي مَريدهم، وعاتيهم..

وكلمة: "شيطان" : النون فيها أصلية من "شطن" بمعنى بعُد؛ ولكونها أصلية صُرف الاسم بتنوين، كما في قوله تعالى: { ويتبع كل شيطان مريد } [الحج: 3] ؛ ولو كانت النون والألف زائدتان منعت من الصرف؛ لأن الألف والنون إذا كانتا زائدتين في عَلَم؛ أو وصف فإنه يُمنع من الصرف؛ وأما إذا كانتا زائدتين في غير علم، ولا وصف فإنه لا يمنع من الصرف..

قوله تعالى: { إنا معكم } أي صحب مقارنون لكم تابعون لكم؛ { إنما نحن مستهزئون } أي ما نحن إلا ساخرون بالمؤمنين: نظهر لهم أنا مسلمون لنخادعهم..

.{ 15 } قوله تعالى: { الله يستهزئ بهم } أي يسخر تبارك وتعالى بهم بما أملى لهم، وكفّ أيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عن قتلهم . مع أنهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار..

قوله تعالى: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون }؛ الطغيان مجاوزة الحد، كقوله تعالى: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] ؛ و "العمه" الضلال؛ والمعنى أن الله يبقيهم ضالين في طغيانهم؛ واعلم أن بين "يَمد" الثلاثي، و"يُمد" الرباعي فرقاً؛ فالغالب أن الرباعي يستعمل في الخير، والثلاثي في الشر؛ قال الله تعالى: {ونمد له من العذاب مداً} [مريم: 79] : وهذا في الشر؛ وقال تعالى: {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون} [الطور: 22] : وهذا في الخير؛ وهنا قال تعالى: { ويَمدهم }: فهو في الشر..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: ذلّ المنافق؛ فالمنافق ذليل؛ لأنه خائن؛ فهم { إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } خوفاً من المؤمنين؛ و{ إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } خوفاً منهم؛ فهم أذلاء عند هؤلاء، وهؤلاء؛ لأن كون الإنسان يتخذ من دينه تَقيَّة فهذا دليل على ذله؛ وهذا نوع من النفاق؛ لأنه تستر بما يُظَن أنه خير وهو شر..

.2 ومنها: أن الله يستهزئ بمن يستهزئ به، أو برسله، أو بشرعه جزاءً وفاقاً؛ واعلم أن ها هنا أربعة أقسام:

قسم هو صفة كمال لكن قد ينتج عنه نقص: هذا لا يسمى الله تعالى به؛ ولكن يوصف الله به، مثل "المتكلم"، و"المريد"؛ فـ"المتكلم"، و"المريد" ليسا من أسماء الله؛ لكن يصح أن يوصف الله بأنه متكلم، ومريد على سبيل الإطلاق؛ ولم تكن من أسمائه؛ لأن الكلام قد يكون بخير، وقد يكون بشر؛ وقد يكون بصدق، وقد يكون بكذب؛ وقد يكون بعدل، وقد يكون بظلم؛ وكذلك الإرادة..

القسم الثاني: ما هو كمال على الإطلاق، ولا ينقسم: فهذا يسمى الله به، مثل: الرحمن، الرحيم، الغفور، السميع، البصير... وما أشبه ذلك؛ وهو متضمن للصفة؛ وليس معنى قولنا: "يسمى الله به" أن نُحْدِث له اسماً بذلك؛ لأن الأسماء توقيفية؛ لكن معناه أن الله سبحانه وتعالى تَسَمَّى به..

القسم الثالث: ما لا يكون كمالاً عند الإطلاق؛ ولكن هو كمال عند التقييد ؛ فهذا لا يجوز أن يوصف به إلا مقيداً، مثل: الخداع، والمكر، والاستهزاء، والكيد. فلا يصح أن تقول: إن الله ماكر على سبيل الإطلاق، ولكن قل: إن الله ماكر بمن يمكر به، وبرسله، ونحو ذلك..

مسألة :-

هل "المنتقم" من جنس الماكر، والمستهزئ؟

الجواب: مسألة "المنتقم" اختلف فيها العلماء؛ منهم من يقول: إن الله لا يوصف به على سبيل الإفراد، وإنما يوصف به إذا اقترن بـ"العفوّ"؛ فيقال: "العفوُّ المنتقم"؛ لأن "المنتقم" على سبيل الإطلاق ليس صفة مدح إلا إذا قُرِن بـ"العفوّ"؛ ومثله أيضاً المُذِل: قالوا: لا يوصف الله سبحانه وتعالى به على سبيل الإفراد إلا إذا قُرِن بـ"المُعِز"؛ فيقال: "المعزُّ المُذل"؛ ومثله أيضاً "الضار": قالوا: لا يوصف الله سبحانه وتعالى به على سبيل الإفراد إلا إذا قُرِن "النافع"؛ فيقال: "النافع الضار"؛ ويسمون هذه: الأسماء المزدوجة..

ويرى بعض العلماء أنه لا يوصف به على وجه الإطلاق . ولو مقروناً بما يقابله . أي إنك لا تقول: العفوّ المنتقم؛ لأنه لم يرد من أوصاف الله سبحانه وتعالى "المنتقم"؛ وليست صفة كمال بذاتها إلا إذا كانت مقيدة بمن يستحق الانتقام؛ ولهذا يقول عزّ وجلّ: {إنا من المجرمين منتقمون} [السجدة: 22] ، وقال عزّ وجلّ: {والله عزيز ذو انتقام} [آل عمران: 4] ؛ وهذا هو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ والحديث الذي ورد في سرد أسماء الله الحسنى، وذُكر فيه المنتقم غير صحيح؛ بل هو مدرج؛ لأن هذا الحديث فيه أشياء لم تصح من أسماء الله؛ وحذف منها أشياء هي من أسماء الله . مما يدل على أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم..

القسم الرابع: ما يتضمن النقص على سبيل الإطلاق: فهذا لا يوصف الله سبحانه وتعالى به أبداً، ولا يسمى به، مثل: العاجز؛ الضعيف؛ الأعور.... وما أشبه ذلك؛ فلا يجوز أن يوصف الله سبحانه وتعالى بصفة عيب مطلقاً..

والاستهزاء هنا في الآية على حقيقته؛ لأن استهزاء الله بهؤلاء المستهزئين دال على كماله، وقوته، وعدم عجزه عن مقابلتهم؛ فهو صفة كمال هنا في مقابل المستهزئين مثل قوله تعالى: {إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً} [الطارق: 15، 16] أي أعظمَ منه كيداً؛ فالاستهزاء من الله تعالى حق على حقيقته، ولا يجوز أن يفسر بغير ظاهره؛ فتفسيره بغير ظاهره محرم؛ وكل من فسر شيئاً من القرآن على غير ظاهره بلا دليل صحيح فقد قال على الله ما لم يعلم؛ والقول على الله بلا علم حرام، كما قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] ؛ فكل قول على الله بلا علم في شرعه، أو في فعله، أو في وصفه غير جائز؛ بل نحن نؤمن بأن الله جل وعلا يستهزئ بالمنافقين استهزاءً حقيقياً؛ لكن ليس كاستهزائنا؛ بل أعظم من استهزائنا، وأكبر، وليس كمثله شيء..

وهذه القاعدة يجب أن يسار عليها في كل ما وصف الله به نفسه؛ فكما أنك لا تتجاوز حكم الله فلا تقول لما حرم: "إنه حلال"، فكذلك لا تقول لما وصف به نفسه أن هذا ليس المراد؛ فكل ما وصف الله به نفسه يجب عليك أن تبقيه على ظاهره، لكن تعلم أن ظاهره ليس كالذي ينسب لك؛ فاستهزاء الله ليس كاستهزائنا؛ وقرب الله ليس كقربنا؛ واستواء الله على عرشه ليس كاستوائنا على السرير؛ وهكذا بقية الصفات نجريها على ظاهرها، ولا نقول على الله ما لا نعلم؛ ولكن ننزه ربنا عما نزَّه نفسه عنه من مماثلة المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ..

أما الخيانة فلا يوصف بها الله مطلقاً؛ لأن الخيانة صفة نقص مطلق؛ و"الخيانة" معناها: الخديعة في موضع الائتمان . وهذا نقص؛ ولهذا قال الله عزّ وجلّ: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم} [الأنفال: 71] ، ولم يقل: فخانهم؛ لكن لما قال تعالى: {يخادعون الله} [النساء: 142] قال: {وهو خادعهم} [النساء: 142] ؛ لأن الخديعة صفة مدح مقيدة؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة"(1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تخن من خانك"(2) ؛ لأن الخيانة تكون في موضع الائتمان؛ أما الخداع فيكون في موضع ليس فيه ائتمان؛ والخيانة صفة نقص مطلق..

.3 ومن فوائد الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى قد يُملي للظالم حتى يستمر في طغيانه..

فيستفاد من هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي تحذير الإنسان الطاغي أن يغتر بنعم الله عزّ وجلّ؛ فهذه النعم قد تكون استدراجاً من الله؛ فالله سبحانه وتعالى يملي، كما قال تعالى: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون }؛ ولو شاء لأخذهم، ولكنه سبحانه وتعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . كما جاء في الحديث(3) ..

فإن قال قائل: كيف يعرف الفرق بين النعم التي يجازى بها العبد، والنعم التي يستدرج بها العبد؟

فالجواب: أن الإنسان إذا كان مستقيماً على شرع الله فالنعم من باب الجزاء؛ وإذا كان مقيماً على معصية الله مع توالي النعم فهي استدراج..

.4 ومن فوائد الآيتين: أن صاحب الطغيان يعميه هواه، وطغيانه عن معرفة الحق، وقبوله؛ ولهذا قال تعالى: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون }؛ ومن الطغيان أن يُقَدِّم المرء قوله على قول الله ورسوله؛ والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدِّموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم(الحجرات: 1).

القـرآن

)أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة:16)

التفسير:

.{ 16 } قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }؛ "أولاء" اسم إشارة؛ والمشار إليهم المنافقون؛ وجاءت الإشارة بصيغة البُعد لبُعد منزلة المنافق سفولاً؛ و{ اشتروا } أي اختاروا؛ و{ الضلالة }: العماية؛ وهي ما ساروا عليه من النفاق؛ و{ بالهدى }: الباء هنا للعوض؛ أخذوا الضلالة، وأعطوا الهدى . مثلما تقول: اشتريت الثوب بدرهم؛ فالهدى المدفوع عوض عن الضلالة المأخوذة، كما أن الدرهم المدفوع عوض عن الثوب المأخوذ..

قوله تعالى: { فما ربحت تجارتهم } أي ما زادت تجارتهم . وهي اشتراؤهم الضلالة بالهدى..

قوله تعالى: { وما كانوا مهتدين } أي ما كانوا متصفين بالاهتداء حينما اشتروا الضلالة بالهدى؛ بل هم خاسرون في تجارتهم ضالون في منهجهم..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: بيان سفه هؤلاء المنافقين، حيث اشتروا الضلالة بالهدى..

.2 ومنها: شغف المنافقين بالضلال؛ لأنه تبارك وتعالى عبر عن سلوكهم الضلال بأنهم اشتروه؛ والمشتري مشغوف بالسلعة محب لها..

.3 ومنها: أن الإنسان قد يظن أنه أحسنَ عملاً وهو قد أساء؛ لأن هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى ظناً منهم أنهم على صواب، وأنهم رابحون، فقال الله تعالى: { فما ربحت تجارتهم }..

.4 ومنها: خسران المنافقين فيما يطمعون فيه بالربح؛ لقوله تعالى: ( فما ربحت تجارتهم )..

.5 ومنها: أن المدار في الربح، والخسران على اتباع الهدى؛ فمن اتبعه فهو الرابح؛ ومن خالفه فهو الخاسر؛ ويدل لذلك قوله تعالى: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 1 . 3] ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الصف: 10، 11] : تقف على {خير لكم} ؛ لأن {إن كنتم تعلمون} إذا وصلناها بما قبلها صار الخير معلقاً بكوننا نعلم . وهو خير علمنا أم لم نعلم..

.6 . ومن فوائد الآية: أن هؤلاء لن يهتدوا؛ لقوله تعالى: { وما كانوا مهتدين }؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ ولذلك لا يرجعون؛ وهكذا كل فاسق، أو مبتدع يظن أنه على حق فإنه لن يرجع؛ فالجاهل البسيط خير من هذا؛ لأن هذا جاهل مركب يظن أنه على صواب . وليس على صواب..

القـرآن

)مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) (البقرة:17) )صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (البقرة:18)

التفسير:

.{ 17 } قوله تعالى: { مثلهم } أي وصْفهم، وحالهم { كمثل الذي استوقد ناراً } أي طلب من غيره أن يوقد له ناراً، أو طلب من غيره ما يوقد به النار بنفسه؛ { فلما أضاءت ما حوله } أي أنارت ما حول المستوقد، ولم تذهب بعيداً لضعفها؛ { ذهب الله بنورهم } يعني: وأبقى حرارة النار؛ و "لما" حرف شرط، و{ أضاءت } فعل الشرط؛ و{ ذهب الله } جواب الشرط؛ والمعنى: أنه بمجرد الإضاءة ذهب النور؛ لأن القاعدة أن جواب الشرط يلي المشروط مباشرة..

وفي هذه الآية نجد اختلافاً في الضمائر: { استوقد }: مفرد؛ { حوله }: مفرد؛ { بنورهم }: جمع؛ { تركهم }: جمع؛ { لا يبصرون }: جمع؛ قد يقول قائل: كيف يجوز في أفصح الكلام أن تكون الضمائر مختلفة والمرجع فيها واحد؟ الجواب من وجهين:.

الأول: أن اسم الموصول يفيد العموم؛ وإذا كان يفيد العموم فهو صالح للمفرد، والجمع؛ فتكون الضمائر في { استوقد }، و{ حوله } عادت إلى اسم الموصول باعتبار اللفظ؛ وأما { نورهم }، و{ تركهم }، و{ لا يبصرون } فعادت إلى الموصول باعتبار المعنى..

الوجه الثاني: أن الذي استوقد النار كان مع رفقة، فاستوقد النار له، ولرفقته؛ ولهذا قال تعالى: { أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم... } إلخ..

وعلى الوجه الثاني تكون الآية ممثلة لرؤساء المنافقين مع أتباعهم؛ لأن رأس المنافقين هو الذي استوقد النار، وأراد أن ينفع بها أقرانه، ثم ذهبت الإضاءة، وبقيت الحرارة، والظلمة، وتركهم جميعاً في ظلمات لا يبصرون..

قوله تعالى: { وتركهم في ظلمات }: جمعها لتضمنها ظلمات عديدة؛ أولها: ظلمة الليل؛ لأن استيقاد النار للإضاءة لا يكون إلا في الليل؛ لأنك إذا استوقدت ناراً بالنهار فإنها لا تضيء؛ و الثانية: ظلمة الجو إذا كان غائماً؛ و الثالثة: الظلمة التي تحدث بعد فقد النور؛ فإنها تكون أشد من الظلمة الدائمة؛ و{ لا يبصرون } تأكيد من حيث المعنى لقوله تعالى: { في ظلمات } دال على شدة الظلمة..

.{ 18 } قوله تعالى في وصفهم: { صم } خبر لمبتدأ محذوف . أي هم صم؛ و{ صم } جمع أصم؛ و"الأصم" الذي لا يسمع، لكنه هنا ليس على سبيل الإطلاق؛ بل أريد به شيء معين: أي هم صم عن الحق، فلا يسمعون؛ والمراد نفي السمع المعنوي . وهو السمع النافع؛ لا الحسي . وهو الإدراك؛ لأن كلهم يسمعون القرآن، ويفهمون معناه، لكن لما كانوا لا ينتفعون به صاروا كالصم الذين لا يسمعون؛ وذلك مثل قول الله تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون}(الأنفال: 21).

قوله تعالى: { بُكْمٌ } جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ والمراد أنهم لا ينطقون بالحق؛ وإنما ينطقون بالباطل؛ و{ عُمْيٌ } جمع أعمى؛ والمراد أنهم لا ينتفعون بما يشاهدونه من الآية التي تظهر على أيدي الرسل . عليهم الصلاة والسلام..

فبهذا سُدت طرق الحق أمامهم؛ لأن الحق إما مسموع؛ وإما مشهود؛ وإما معقول؛ فهم لا يسمعون، ولا يشهدون؛ كذلك أيضاً لا يؤخذ منهم حق؛ لأنهم لا ينطقون بالحق؛ لأنهم بُكم؛ فهم لا ينتفعون بالحق من غيرهم، ولا ينفعون غيرهم بحق..

قوله تعالى: { فهم لا يرجعون }: الفاء هذه عاطفة، لكنها تفيد السببية . أي بسبب هذه الأوصاف الثلاثة لا يرجعون عن غيِّهم؛ فلا ينتفعون بسماع الحق، ولا بمشاهدته، ولا ينطقون به..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: بلاغة القرآن، حيث يضرب للمعقولات أمثالاً محسوسات؛ لأن الشيء المحسوس أقرب إلى الفهم من الشيء المعقول؛ لكن من بلاغة القرآن أن الله تعالى يضرب الأمثال المحسوسة للمعاني المعقولة حتى يدركها الإنسان جيداً، كما قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] ..

.2 ومنها: ثبوت القياس، وأنه دليل يؤخذ به؛ لأن الله أراد منا أن نقيس حالهم على حال من يستوقد؛ وكل مثل في القرآن فهو دليل على ثبوت القياس..

.3 ومنها: أن هؤلاء المنافقين ليس في قلوبهم نور؛ لقوله تعالى: { كمثل الذي استوقد ناراً }؛ فهؤلاء المنافقون يستطعمون الهدى، والعلم، والنور؛ فإذا وصل إلى قلوبهم . بمجرد ما يصل إليها . يتضاءل، ويزول؛ لأن هؤلاء المنافقين إخوان للمؤمنين من حيث النسب، وأعمام، وأخوال، وأقارب؛ فربما يجلس إلى المؤمن حقاً، فيتكلم له بإيمان حقيقي، ويدعوه، فينقدح في قلبه هذا الإيمان، ولكن سرعان ما يزول..

.4 ومن فوائد الآيتين: أن الإيمان نور له تأثير حتى في قلب المنافق؛ لقوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله}: الإيمان أضاء بعض الشيء في قلوبهم؛ ولكن لما لم يكن على أسس لم يستقر؛ ولهذا قال تعالى في سورة المنافقين . وهي أوسع ما تحدَّث الله به عن المنافقين: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} [المنافقون: 3] ..

.5 ومنها: أنه بعد أن ذهب هذا الضياء حلت الظلمة الشديدة؛ بل الظلمات..

.6 ومنها: أن الله تعالى جازاهم على حسب ما في قلوبهم: { ذهب الله بنورهم }، كأنه أخذه قهراً..

فإن قال قائل: أليس في هذا دليل على مذهب الجبرية؟

فالجواب: لا؛ لأن هذا الذي حصل من رب العباد عزّ وجلّ بسببهم؛ وتذكَّر دائماً قول الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] . حتى يتبين لك أن كل من وصفه الله بأنه أضله فإنما ذلك بسبب منه

.7 ومن فوائد الآيتين: تخلي الله عن المنافقين؛ لقوله تعالى: [ وتركهم]

ويتفرع على ذلك: أن من تخلى الله عنه فهو هالك . ليس عنده نور، ولا هدًى، ولا صلاح؛ لقوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون )

.8 ومن فوائد الآيتين: أن هؤلاء المنافقين أصم الله تعالى آذانهم، فلا يسمعون الحق؛ ولو سمعوا ما انتفعوا؛ ويجوز أن يُنفى الشيء لانتفاء الانتفاع به، كما في قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} (الأنفال: 21)

.9 ومنها: أن هؤلاء المنافقين لا ينطقون بالحق . كالأبكم..

.10 ومنها: أنهم لا يبصرون الحق . كالأعمى..

.11 ومنها: أنهم لا يرجعون عن غيِّهم؛ لأنهم يعتقدون أنهم محسنون، وأنهم صاروا أصحاباً للمؤمنين، وأصحاباً للكافرين: هم أصحاب للمؤمنين في الظاهر، وأصحاب للكافرين في الباطن؛ ومن استحسن شيئاً فإنه لا يكاد أن يرجع عنه..

القـرآن

)أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) (البقرة:19) )يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:20)

التفسير:

.{ 19 } قوله تعالى: { أو كصيِّب من السماء }؛ { أو } هنا للتنويع؛ لأن المثل الثاني نوع آخر؛ والكاف اسم بمعنى "مِثل"؛ فالمعنى: أو مِثل صيب؛ ويجوز أن نقول: إن الكاف حرف تشبيه، والتقدير: أو مَثلهم كصيب؛ و "الصيِّب" المطر النازل من السماء؛ والمراد بـ{ السماء } هنا العلو..

قوله تعالى: { فيه ظلمات } أي معه ظلمات؛ لأن الظلمات تكون مصاحبة له؛ وهذه الظلمات ثلاث: ظلمة الليل؛ وظلمة السحاب؛ وظلمة المطر؛ والدليل على أنها ظلمة الليل قوله تعالى بعد ذلك: { يكاد البرق يخطف أبصارهم }، وقوله تعالى: { كلما أضاء لهم مشوا فيه }: وهذا لا يكون إلا في الليل؛ و الثاني: ظلمة السحاب؛ لأن السحاب الكثير يتراكم بعضه على بعض، فيَحدُث من ذلك ظلمةٌ فوق ظلمة؛ و الثالث: ظلمة المطر النازل ؛ لأن المطر النازل له كثافة تُحدِث ظلمةً؛ هذه ثلاث ظلمات؛ وربما تكون أكثر، كما لو كان في الجو غبار..

قوله تعالى: { ورعد وبرق }؛ "الرعد" هو الصوت الذي نسمعه من السحاب؛ أما "البرق" فهو النور الذي يلمع في السحاب..

فهؤلاء عندهم ظلمات في قلوبهم . فهي مملوءة ظلمة من الأصل؛ أصابها صيب . وهو القرآن . فيه رعد؛ والرعد هو وعيد القرآن؛ إلا أنه بالنسبة لهؤلاء المنافقين وخوفهم منه كأنه رعد شديد؛ وفيه برق . وهو وعد القرآن؛ إلا أنه بالنسبة لما فيه من نور، وهدى يكون كالبرق؛ لأن البرق ينير الأرض..

قوله تعالى: { يجعلون أصابعهم في آذانهم }؛ الضمير في { يجعلون } يعود على أصحاب الصيب؛ ففيها حذف المضاف؛ والتقدير: أصحاب الصيب؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأنه ليس المشبه به هنا هو الصيب؛ وإنما المشبه به الذين أصابهم الصيب؛ و "أصابع" جمع أصبع، وفيه عشر لغات أشار إليها في قوله:.

وهمزَ أنملةٍ ثلِّث وثالثَه التسعُ في إصبعٍ واختم بأصبوع هذا وقد قيل: إن في الآية مجازاً من وجهين؛ الأول: أن الأصابع ليست كلها تجعل في الأذن؛ و الثاني: أنه ليس كل الأصبع يدخل في الأذن؛ والتحقيق: أنه ليس في الآية مجاز؛ أما الأول: فلأن "أصابع" جمع عائد على قوله تعالى: { يجعلون }، فيكون من باب توزيع الجمع على الجمع . أي يجعل كل واحد منهم أصبعه في أذنه؛ وأما الثاني: فلأن المخاطَب لا يمكن أن يفهم من جعْل الأصبع في الأذن أن جميع الأصبع تدخل في الأذن؛ وإذا كان لا يمكن ذلك امتنع أن تحمل الحقيقة على إدخال جميع الأصبع؛ بل الحقيقة أن ذلك إدخال بعض الأصبع؛ وحينئذ لا مجاز في الآية؛ على أن القول الراجح أنه لا مجاز في القرآن أصلاً؛ لأن معاني الآية تدرك بالسياق؛ وحقيقة الكلام: ما دلّ عليه السياق . وإن استعملت الكلمات في غير أصلها؛ وبحث ذلك مذكور في كتب البلاغة، وأصول الفقه، وأكبر دليل على امتناع المجاز في القرآن: أن من علامات المجاز صحة نفيه، وتبادر غيره لولا القرينة؛ وليس في القرآن ما يصح نفيه؛ وإذا وجدت القرينة صار الكلام بها حقيقة في المراد به..

قوله تعالى: { من الصواعق }؛ { من } سببية . أي يجعلونها بسبب الصواعق؛ و{ الصواعق } جمع صاعقة؛ وهي ما تَصعَق . أي تُهلك . مَنْ أصابته؛ هذه الصواعق معروفة بآثارها؛ فهي نار تنطلق من البرق؛ فإذا أصابت أحداً، أو شيئاً أحرقته؛ وغالباً تسقط على النخيل، وتحرقها؛ وترى فيها النار، والدخان؛ وأحياناً تسقط على المنازل وتهدمها؛ لأنها كتلة نارية تنطلق بشدة لها هواء تدفعه أمامها..

فيجعلون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق لئلا يموتوا؛ ولكنهم لا ينجون منها بهذا الفعل؛ إلا أنهم كالنعامة إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لئلا تراه؛ وتظن أنها إذا لم تره تنجو منه! وكذلك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق لا يسلمون بهذا؛ إذا أراد الله تعالى أن يصيبهم أصابهم؛ ولهذا قال تعالى: { والله محيط بالكافرين }، فلن ينفعهم الحذر..

.{ 20 } ولما بَيَّن الله شدة الصوت، وأنهم لفرارهم منه، وعدم تحملهم إياه يجعلون أصابعهم في آذانهم بَيَّن شدة الضوء عليهم، فقال تعالى: { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي يقرب أن يخطف أبصارهم . أي يأخذها بسرعة، فتعمى؛ وذلك لقوته، وضعف أبصارهم..

قوله تعالى: { كلما أضاء لهم مشوا فيه }؛ فكأنهم ينتهزون فرصة الإضاءة، ولا يتأخرون عن الإضاءة طرفة عين؛ كلما أضاء لهم . ولو شيئاً يسيراً . مشوا فيه..

قوله تعالى: { وإذا أظلم عليهم } أي أصابهم بظلمة؛ وذلك أن الضوء إذا انطفأ بسرعة اشتدت الظلمة بعده؛ { قاموا } أي وقفوا..

قوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } دون أن تحدث الصواعق، ودون أن يحدث البرق؛ لأن الله على كل شيء قدير؛ فهو قادر على أن يُذهب السمع والبصر بدون أسباب: فيذهب السمع بدون صواعق، والبصر بدون برق؛ { إن الله على كل شيء قدير }..

هذا المثل ينطبق على منافقين لم يؤمنوا أصلاً؛ بل كانوا كافرين من قبل، كاليهود؛ لأن المنافقين منهم عرب من الخزرج، والأوس؛ ومنهم يهود من بني إسرائيل؛ فاليهود لم يذوقوا طعم الإيمان أبداً؛ لأنهم كفار من الأصل؛ لكن أظهروا الإسلام خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعزه الله في بدر؛ فهؤلاء ليسوا على هدًى . كالأولين؛ الأولون استوقدوا النار، وصار عندهم شيء من النور بهذه النار، ثم . والعياذ بالله . انتكسوا؛ لكن هؤلاء من الأصل في ظلمات؛ فيكون هذا المثل غير المثل الأول؛ بل هو لقوم آخرين؛ والمنافقون أصناف بلا شك..

و "الصواعق" عبارة عما في القرآن من الإنذار، والخوف؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم في آية أخرى: {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون: 4] ؛ و "البرق" نور الإسلام، لكنه ليس نوراً يستمر؛ نور البرق ينقطع في لحظة؛ وميض؛ فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلاً، ولا فكروا في ذلك؛ وإنما يرون هذا النور العظيم الذي شع، فينتفعون به لمجرد خطوة يخطونها فقط؛ وبعد ذلك يقفون؛ كذلك أيضاً يكاد البرق يخطف أبصارهم؛ لأنهم لا يتمكنون من رؤية النور الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لكبريائهم، وحسدهم للعرب يكاد هذا البرق يعمي أبصارهم؛ لأنه قوي عليهم لا يستطيعون مدافعته، ومقابلته..

فالظاهر أن القول الراجح أن هذين مثلان يتنَزلان على صنفين من المنافقين..

فإن قال قائل: الصنف الأول كيف نقول: إنه دخل الإيمان في قلوبهم؟

فالجواب: نقول: نعم؛ قال الله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3] ؛ وهذا يدل على أنهم آمنوا أولاً، ثم كفروا ثانياً؛ لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم، ولم تستنر به؛ وإنما هو وميض ضوء ما لبث أن طفئ؛ وإلا فإن الإيمان إذا دخل القلب دخولاً حقيقياً فإنه لن يخرج منه بإذن الله؛ ولهذا سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يدخلون في الإسلام: "فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فيه؛ فقال: لا؛ فقال: وَكَذَلِكَ الْإِيْمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلوبَ"(1) ؛ لكن الإيمان الهش - الذي لم يتمكن من القلب - هو الذي يُخشى على صاحبه..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: تهديد الكفار بأن الله محيط بهم؛ لقوله تعالى: { والله محيط بالكافرين }..

.2 ومنها: أن البرق الشديد يخطف البصر؛ ولهذا يُنهى الإنسان أن ينظر إلى البرق حال كون السماء تبرق؛ لئلا يُخطف بصره..

.3 ومنها: أن من طبيعة الإنسان اجتناب ما يهلكه؛ لقوله تعالىSadوإذا أظلم عليهم قاموا)

.4 ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم )

.5 ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى الله عزّ وجلّ أن يمتعه بسمعه، وبصره؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم }؛ وفي الدعاء المأثور: "متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا"(1) ..

.6 ومنها: أن من أسماء الله أنه قدير على كل شيء..

.7 ومنها: عموم قدرة الله تعالى على كل شيء؛ فهو جلّ وعلا قادر على إيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، وعلى تغيير الصالح إلى فاسد، والفاسد إلى صالح، وغير ذلك..

)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)

التفسير:

.{ 21 } يا أيها الناس }: النداء هنا وجِّه لعموم الناس مع أن السورة مدنية؛ والغالب في السور المدنية أن النداء فيها يكون موجهاً للمؤمنين . والله أعلم بما أراد في كتابه؛ ولو قال قائل: لعل هذه آية مكية جعلت في السورة المدنية؟

فالجواب: أن الأصل عدم ذلك - أي عدم إدخال الآية المكية في السور المدنية، أو العكس؛ ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح؛ وعلى هذا فما نراه في عناوين بعض السور أنها مدنية إلا آية كذا، أو مكية إلا آية كذا غير مسلَّم حتى يثبت ذلك بدليل صحيح صريح؛ وإلا فالأصل أن السورة المدنية جميع آياتها مدنية، وأن السور المكية جميع آياتها مكية إلا بدليل ثابت..

قوله تعالى: { اعبدوا ربكم } أي تذللوا له بالطاعة؛ وذلك بفعل الأوامر، واجتناب النواهي ذلاً تاماً ناشئاً عن المحبة، والتعظيم؛ و "الرب" هو الخالق المالك المدبر لشؤون خلقه؛ { الذي خلقكم } أي أوجدكم من العدم؛ { والذين من قبلكم } معطوف على الكاف في قوله تعالى: { خلقكم } . يعني وخلق الذين من قبلكم؛ والمراد بـ "من قبلنا" : سائر الأمم الماضية..

وقوله تعالى: { الذي خلقكم } صفة كاشفة تبين بعض معنى الربوبية؛ وليست صفة احترازية؛ لأنه ليس لنا ربان أحدهما خالق، والثاني غير خالق؛ بل ربنا هو الخالق..

قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ "لعل" هنا للتعليل . أي لتصلوا إلى التقوى؛ ومعلوم أن التقوى مرتبة عالية، حتى قال الله عزّ وجلّ في الجنة: {أعدت للمتقين} [آل عمران: 133] ، وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ، وقال تعالى: {واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة: 194] ..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: العناية بالعبادة؛ يستفاد هذا من وجهين؛ الوجه الأول: تصدير الأمر بها بالنداء؛ و الوجه الثاني: تعميم النداء لجميع الناس مما يدل على أن العبادة أهم شيء؛ بل إنّ الناس ما خُلقوا إلا للعبادة، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56)

.2 ومنها: أن الإقرار بتوحيد الربوبية مستلزم للإقرار بتوحيد الألوهية؛ لقوله تعالى: { اعبدوا ربكم }..

.3 ومنها: وجوب عبادة الله عزّ وجلّ وحده . وهي التي خُلق لها الجن، والإنس؛ و"العبادة" تطلق على معنيين؛ أحدهما: التعبد . وهو فعل العابد؛ و الثاني: المتعبَّد به . وهي كل قول، أو فعل ظاهر، أو باطن يقرب إلى الله عزّ وجلّ..

.4 ومنها: أن وجوب العبادة علينا مما يقتضيه العقل بالإضافة إلى الشرع؛ لقوله تعالى: { اعبدوا ربكم }؛ فإن الرب عزّ وجلّ يستحق أن يُعبد وحده، ولا يعبد غيره؛ والعجب أن هؤلاء المشركين الذين لم يمتثلوا هذا الأمر إذا أصابتهم ضراء، وتقطعت بهم الأسباب يتوجهون إلى الله، كما قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} [لقمان: 32] ؛ لأن فطرهم تحملهم على ذلك ولابد..

.5 . ومن فوائد الآية: إثبات أن الله عزّ وجلّ هو الخالق وحده، وأنه خالق الأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: ( الذي خلقكم والذين من قبلكم )

.6 ومنها: أن من طريق القرآن أنه إذا ذَكر الحكم غالباً ذَكر العلة؛ الحكم: { اعبدوا ربكم }؛ والعلة: كونه رباً خالقاً لنا، ولمن قبلنا..

.7 ومنها: أن التقوى مرتبة عالية لا ينالها كل أحد إلا من أخلص العبادة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: (لعلكم تتقون )..

.8 وربما يستفاد التحذير من البدع؛ وذلك؛ لأن عبادة الله لا تتحقق إلا بسلوك الطريق الذي شرعه للعباد؛ لأنه لا يمكن أن نعرف كيف نعبد الله إلا عن طريق الوحي والشرع: كيف نتوضأ، كيف نصلي... يعني ما الذي أدرانا أن الإنسان إذا قام للصلاة يقرأ، ثم يركع، ثم يسجد... إلخ، إلا بعد الوحي..

.9 ومنها: الحث على طلب العلم؛ إذ لا تمكن العبادة إلا بالعلم؛ ولهذا ترجم البخاري . رحمه الله . على هذه المسألة بقوله: "باب: العلم قبل القول، والعمل ..

القـرآن

)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:22)

التفسير:

.{ 22 } قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فراشاً... } هذا من باب تعديد أنواع من مخلوقاته عزّ وجلّ؛ جعل الله لنا الأرض فراشاً مُوَطَّأة يستقر الإنسان عليها استقراراً كاملاً مهيأة له يستريح فيها . ليست نشَزاً؛ وليست مؤلمة عند النوم عليها، أو عند السكون عليها، أو ما أشبه ذلك؛ والله تعالى قد وصف الأرض بأوصاف متعددة: وصفها بأنها فراش، وبأنها ذلول، وبأنها مهاد..

قوله تعالى: { والسماء بناءً } . كما قال تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} [النبأ: 12] : السماء جعلها الله بمنزلة البناء، وبمنزلة السقف، كما قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}(الأنبياء: 32)

قوله تعالى: { وأنزل من السماء ماءً }: ليست هي السماء الأولى؛ بل المراد بـ{ السماء } هنا العلو؛ لأن الماء . الذي هو المطر . ينزل من السحاب، والسحاب بين السماء، والأرض، كما قال الله تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله} [النور: 43] ، وقال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار....} [البقرة: 164] إلى قوله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164] ؛ وبهذا نعرف أن السماء يطلق على معنيين؛ المعنى الأول: البناء الذي فوقنا؛ والمعنى الثاني: العلو..

قوله تعالى: { فأخرج به } أي بسببه؛ { من الثمرات } جمع ثمرة؛ وجمعت باعتبار أنواعها..

قوله تعالى: { رزقاً لكم } أي عطاء لكم؛ وهو مفعول لأجله..

قوله تعالى: { فلا تجعلوا } أي لا تُصَيِّروا { لله أنداداً } أي نظراء، ومشابهين في العبادة { وأنتم تعلمون } أنه لا نِد له في الخلق، والرزق، وإنزال المطر، وما أشبه ذلك من معاني الربوبية، ومقتضياتها؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الخالق هو الله، والرازق هو الله، والمدبر للأمر هو الله إقراراً تاماً، ويعلمون أنه لا إله مع الله في هذا؛ لكن في العبادة ينكرون التوحيد: يشركون؛ يجعلون مع الله إلهاً آخر؛ وينكرون على من وحّد الله حتى قالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5] ؛ وإقرارهم بالخلق، والرزق أن الله منفرد به يستلزم أن يجعلوا العبادة لله وحده؛ فإن لم يفعلوا فهم متناقضون؛ ولهذا قال العلماء . رحمهم الله .: توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ يعني من أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية؛ ومن أقر بتوحيد الألوهية فإنه لم يقرَّ بها حتى كان قد أقر بتوحيد الربوبية..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: بيان رحمة الله تعالى، وحكمته في جعل الأرض فراشاً؛ إذ لو جعلها خشنة صلبة لا يمكن أن يستقر الإنسان عليها ما هدأ لأحد بال؛ لكن من رحمته، ولطفه، وإحسانه جعلها فراشاً..

.2 ومنها: جعْل السماء بناءً؛ وفائدتنا من جعل السماء بناءً أن نعلم بذلك قدرة الله عزّ وجلّ؛ لأن هذه السماء المحيطة بالأرض من كل الجوانب نعلم أنها كبيرة جداً، وواسعة، كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات: 47).

.3 ومنها: بيان قدرة الله عزّ وجلّ بإنزال المطر من السماء؛ لقوله تعالى: { وأنزل من السماء ماء }؛ لو اجتمعت الخلائق على أن يخلقوا نقطة من الماء ما استطاعوا؛ والله تعالى ينزل هذا المطر العظيم بلحظة؛ وقصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قال: ادع الله يغيثنا، فرفع (صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: "اللهم أغثنا"(1) ، وما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته..

.4 ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بإنزال المطر من السماء؛ وجه ذلك: لو كان الماء الذي تحيى به الأرض يجري على الأرض لأضر الناس؛ ولو كان يجري على الأرض لحُرِم منه أراضٍ كثيرة . الأراضي المرتفعة لا يأتيها شيء؛ ولكن من نعمة الله أن ينزل من السماء؛ ثم هناك شيء آخر أيضاً: أنه ينزل رذاذاً . يعني قطرةً قطرةً؛ ولو نزل كأفواه القرب لأضر بالناس..

.5 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: ( فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم )..

.6 ومنها: أن الأسباب لا تكون مؤثرة إلا بإرادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( فأخرج به )..

.7 ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يضيف الشيء إلى سببه أن يضيفه إلى الله مقروناً بالسبب، مثل لو أن أحداً من الناس غرق، وجاء رجل فأخرجه . أنقذه من الغرق؛ فليقل: أنقذني الله بفلان؛ وله أن يقول: أنقذني فلان؛ لأنه فعلاً أنقذه؛ وله أن يقول: أنقذني الله ثم فلان؛ وليس له أن يقول: أنقذني الله وفلان؛ لأن هذا تشريك مع الله؛ ويدل لهذا . أي الاختيار أن يضيف الشيء إلى الله مقروناً بالسبب . أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الغلام اليهودي للإسلام وكان هذا الغلام في سياق الموت، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، فأسلم؛ لكنه أسلم بعد أن استشار أباه: التفت إليه ينظر إليه يستشيره؛ قال: "أطع أبا القاسم" . أمر ولده أن يسلم، وهو لم يسلم في تلك الحال، أما بعد فلا ندري، والله أعلم؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"(1) ، وهكذا ينبغي لنا إذا حصل شيء بسبب أن نضيفه إلى الله تعالى مقروناً ببيان السبب؛ وذلك؛ لأن السبب موصل فقط..

.8 . ومن فوائد الآية: بيان قدرة الله، وفضله بإخراج هذه الثمرات من الماء؛ أما القدرة فظاهر: تجد الأرض شهباء جدباء ليس فيها ورقة خضراء فينزل المطر، وفي مدة وجيزة يخرج هذا النبات من كل زوج بهيج بإذن الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءاً فتصبح الأرض مخضرَّة} [الحج: 63] ؛ وأما الفضل فبما يمن الله به من الثمرات؛ ولذلك قال تعالى: { رزقاً لكم }..

.9 ومنها: أن الله عزّ وجلّ منعم على الإنسان كافراً كان، أو مؤمناً؛ لقوله تعالى: { لكم }، وهو يخاطب في الأول الناس عموماً؛ لكن فضل الله على المؤمن دائم متصل بفضل الآخرة؛ وفضل الله على الكافر منقطع بانقطاعه من الدنيا..

.10 ومنها: تحريم اتخاذ الأنداد لله؛ لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً }؛ وهل الأنداد شرك أكبر، أو شرك أصغر؛ وهل هي شرك جلي، أو شرك خفي؛ هذا له تفصيل في علم التوحيد؛ خلاصته: إن اتخذ الأنداد في العبادة، أو جعلها شريكة لله في الخلق، والملك، والتدبير فهو شرك أكبر؛ وإن كان دون ذلك فهو شرك أصغر، كقول الرجل لصاحبه: "ما شاء الله وشئت"..

.11 . ومن فوائد الآية: أنه ينبغي لمن خاطب أحداً أن يبين له ما تقوم به عليه الحجة؛ لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون }، ولقوله تعالى في صدر الآية الأولى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] ؛ فإن قوله تعالى: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] فيه إقامة الحجة على وجوب عبادته وحده؛ لأنه الخالق وحده..

القـرآن

)وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)

التفسير:

.{ 23 } قوله تعالى: { وإن كنتم... }: الخطاب لمن جعل لله أنداداً؛ لأنه تعالى قال: ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون * وإن كنتم في ريب )

وفي ذكر هذه الآية المتعلقة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إشارة إلى كلمتي التوحيد؛ وهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ لكن شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد القصد؛ والثاني: توحيد المتابعة؛ فكلاهما توحيد؛ لكن الأول توحيد القصد بأن يكون العمل خالصاً لله؛ والثاني توحيد المتابعة بأن لا يتابع في عبادته سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا تأملت القرآن وجدت هكذا: يأتي بما يدل على التوحيد، ثم بما يدل على الرسالة؛ ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {أفلم يدَّبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} [المؤمنون: 68] ، ثم قال تعالى: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} [المؤمنون: 69] ؛ وهذا مطَّرد في القرآن الكريم..

قوله تعالى: { في ريب }: "الريب" يفسره كثير من الناس بالشك؛ ولا شك أنه قريب من معنى الشك، لكنه يختلف عنه بأن "الريب" يُشعر بقلق مع الشك، وأن الإنسان في قلق عظيم مما وقع فيه الشك؛ وذلك؛ لأن ما جاء به الرسول حق؛ والشاك فيه لا بد أن يعتريه قلق من أجل أنه شك في أمر لا بد من التصديق به؛ بخلاف الشك في الأمور الهينة، فلا يقال: "ريب"؛ وإنما يقال في الأمور العظيمة التي إذا شك فيها الإنسان وجد في داخل نفسه قلقاً، واضطراباً..

قوله تعالى: { مما نزَّلنا }: المراد به القرآن؛ لأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم { على عبدنا }: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله . تبارك وتعالى . وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في المقامات العالية: في الدفاع عنه؛ وفي بيان تكريمه بالمعراج، والإسراء؛ وفي بيان تكريمه بإنزال القرآن، كما قال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ، وقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [الإسراء: 1] ، وقال تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10] ، وقال تعالى: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا }: هذا في مقام التحدي، والمدافعة؛ وأفضل أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم هي العبودية، والرسالة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله، ورسوله"(1) ؛ و "العبودية" : هي التذلل للمحبوب، والمعظم؛ ولهذا قال الشاعر في محبوبته:.

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي يعني: لا تقل: فلان، وفلان؛ بل قل: يا عبد فلانة؛ لأن هذا عنده أشرف أوصافه، حيث انتمى إليها . نعوذ بالله من الخذلان..

قوله تعالى: { فأتوا بسورة }: أمر يقصد به التحدي . يعني: إذا كنتم في شك من هذا القرآن فإننا نتحداكم أن تأتوا بسورة واحدة؛ { من مثله }: يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ والمعنى: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عائداً إلى القرآن المنزل؛ والمعنى: من مثل ما نزلنا على عبدنا . أي من جنسه؛ وكلاهما صحيح..

قوله تعالى: { وادعوا شهداءكم } أي الذين تشهدون لهم بالألوهية، وتعبدونهم كما تعبدون الله، ادعوهم ليساعدوكم في الإتيان بمثله؛ وهذا غاية ما يكون من التحدي: أن يتحدى العابدَ والمعبودَ أن يأتوا بسورة مثله.

قوله تعالى: { من دون الله } أي مما سوى الله؛ { إن كنتم صادقين } أي في أن هذا القرآن مفترًى على الله؛ والجواب على هذا: أنه لا يمكن أن يأتوا بسورة مثله مهما أتوا من المعاونين، والمساعدين..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: دفاع الله سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله }؛ لأن الأمر هنا للتحدي؛ فالله عزّ وجلّ يتحدى هؤلاء بأن يأتوا بمعارضِ لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم..

.2 ومنها: فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوصفه بالعبودية؛ والعبودية لله عزّ وجلّ هي غاية الحرية؛ لأن من لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره؛ فإذا لم يعبد الله عزّ وجلّ . الذي هو مستحق للعبادة . عَبَدَ الشيطان، كما قال ابن القيم . رحمه الله . في النونية:.

هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان 3. ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: { مما نزلنا }؛ ووجه كونه كلام الله أن القرآن كلام؛ والكلام صفة للمتكلم، وليس شيئاً بائناً منه؛ وبهذا نعرف بطلان قول من زعم أن القرآن مخلوق..

.4 ومنها: إثبات علوّ الله عزّ وجلّ؛ لأنه إذا تقرر أن القرآن كلامه، وأنه منزل من عنده لزم من ذلك علوّ المتكلم به؛ وعلو الله عزّ وجلّ ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة؛ وتفاصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ ولولا خوض أهل البدعة في ذلك ما احتيج إلى كبير عناء في إثباته؛ لأنه أمر فطري؛ ولكن علماء أهل السنة يضطرون إلى مثل هذا لدحض حجج أهل البدع..

.5 ومن فوائد الآية: أن القرآن معجز حتى بسورة . ولو كانت قصيرة؛ لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله)..

.6 ومنها: تحدي هؤلاء العابدين للآلهة مع معبوديهم؛ وهذا أشد ذلًّا مما لو تُحدوا وحدهم..

القـرآن

)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:24)

التفسير:

.{ 24 } قوله تعالى: { فإن لم تفعلوا } يعني فإن لم تأتوا بسورة من مثله..

ولما قال تعالى: { فإن لم تفعلوا } . وهي شرطية . قطع أطماعهم بقوله: { ولن تفعلوا } يعني: ولا يمكنكم أن تفعلوا؛ و{ لن } هنا للتأبيد؛ لأن المقام مقام تحدٍّ..

قوله تعالى: { فاتقوا النار }: الفاء هنا واقعة في جواب الشرط . وهو { إن لم تفعلوا } يعني: إن لم تفعلوا، وتعارضوا القرآن بمثله فالنار مثواكم؛ فاتقوا النار . ولن يجدوا ما يتقون به النار إلا أن يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم

قوله تعالى: { التي وقودها الناس والحجارة }؛ { التي } اسم موصول صفة لـ{ النار }؛ و{ وقود } مبتدأ؛ و{ الناس } خبر المبتدأ؛ والجملة: صلة الموصول؛ و "الوقود" ما يوقد به الشيء، كالحطب . مثلاً . في نار الدنيا؛ في الآخرة وقود النار هم الناس، والحجارة؛ فالنار تحرقهم، وتلتهب بهم؛ و{ الحجارة }: قال بعض العلماء: إن المراد بها الحجارة المعبودة . يعني الأصنام؛ لأنهم يعبدون الأصنام؛ فأصنامهم هذه تكون معهم في النار، كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98]؛ وقيل: هذا، وهذا . الحجارة المعبودة، والحجارة الموقودة التي خلقها عزّ وجلّ لتوقد بها النار..

قوله تعالى: { أعدت }: الضمير المستتر يعود على النار؛ والمعِدُّ لها هو الله عزّ وجلّ؛ ومعنى "الإعداد" التهيئة للشيء؛ { للكافرين } أي لكل كافر سواء كفر بالرسالة، أو كفر بالألوهية، أو بغير ذلك..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن من عارض القرآن فإن مأواه النار؛ لقوله تعالى: ( فاتقوا النار)

.2 ومنها: أن الناس وقود للنار كما توقد النار بالحطب؛ فهي في نفس الوقت تحرقهم، وهي أيضاً توقد بهم؛ فيجتمع العذاب عليهم من وجهين..

.3 ومنها: إهانة هؤلاء الكفار بإذلال آلهتهم، وطرحها في النار . على أحد الاحتمالين في قوله تعالى:

{ الحجارة }؛ لأن من المعلوم أن الإنسان يغار على من كان يعبده، ولا يريد أن يصيبه أذًى؛ فإذا أحرق هؤلاء المعبودون أمام العابدين فإن ذلك من تمام إذلالهم، وخزيهم..

.4 ومنها: أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: { أعدت }؛ ومعلوم أن الفعل هنا فعل ماض؛ والماضي يدل على وجود الش
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:04 am من طرف ahmadhamad
الاية 28 الي الاية 41

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:28)

التفسير:

.{ 28 } قوله تعالى: { كيف تكفرون بالله... }: الاستفهام هنا للإنكار، والتعجيب؛ والكفر بالله هو الإنكار، والتكذيب مأخوذ من: كَفَر الشيء: إذا ستره؛ ومنه الكُفُرّى: لغلاف طلع النخل؛ والمعنى: كيف تجحدونه، وتكذبون به، وتستكبرون عن عبادته، وتنكرون البعث مع أنكم تعلمون نشأتكم؟!..

قوله تعالى: { وكنتم أمواتاً }: وذلك: قبل نفخ الروح في الإنسان هو ميت؛ جماد؛ { فأحياكم } أي بنفخ الروح؛ { ثم يميتكم } ثانية؛ وذلك بعد أن يخرج إلى الدنيا؛ { ثم يحييكم } الحياة الآخرة التي لا موت بعدها؛ { ثم إليه ترجعون }: بعد الإحياء الثاني ترجعون إلى الله، فينبئكم بأعمالكم، ويجازيكم عليها..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: شدة الإنكار حتى يصل إلى حد التعجب ممن يكفر وهو يعلم حاله، ومآله..

.2 ومنها: أن الموت يطلق على ما لا روح فيه . وإن لم تسبقه حياة .؛ يعني: لا يشترط للوصف بالموت تقدم الحياة؛ لقوله تعالى: { كنتم أمواتاً فأحياكم }؛ أما ظن بعض الناس أنه لا يقال: "ميت" إلا لمن سبقت حياته؛ فهذا ليس بصحيح؛ بل إن الله تعالى أطلق وصف الموت على الجمادات؛ قال تعالى في الأصنام: {أموات غير أحياء} [النحل: 21] ..

.3 ومنها: أن الجنين لو خرج قبل أن تنفخ فيه الروح فإنه لا يثبت له حكم الحي؛ ولهذا لا يُغَسَّل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يرث، ولا يورث؛ لأنه ميت جماد لا يستحق شيئاً مما يستحقه الأحياء؛ وإنما يدفن في أيّ مكان في المقبرة، أو غيرها..

.4 ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ فإن هذا الجسد الميت ينفخ الله فيه الروح، فيحيى، ويكون إنساناً يتحرك، ويتكلم، ويقوم، ويقعد، ويفعل ما أراد الله عزّ وجلّ..

.5 ومنها: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون }؛ والبعث أنكره من أنكره من الناس، واستبعده، وقال: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] ؛ فأقام الله . تبارك وتعالى . على إمكان ذلك ثمانية أدلة في آخر سورة "يس":.

الدليل الأول: قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس: 79] : هذا دليل على أنه يمكن أن يحيي العظام وهي رميم؛ وقوله تعالى: {أنشأها أول مرة} دليل قاطع، وبرهان جليّ على إمكان إعادته كما قال الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] ..

الدليل الثاني: قوله تعالى: {وهو بكل خلق عليم} [يس: 79] يعني: كيف يعجز عن إعادتها وهو سبحانه وتعالى بكل خلق عليم: يعلم كيف يخلق الأشياء، وكيف يكونها؛ فلا يعجز عن إعادة الخلق..

الدليل الثالث: قوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون } [يس: 80] : الشجر الأخضر فيه البرودة، وفيه الرطوبة؛ والنار فيها الحرارة، واليبوسة؛ هذه النار الحارة اليابسة تخرج من شجر بارد رطب؛ وكان الناس فيما سبق يضربون أغصاناً من أشجار معينة بالزند؛ فإذا ضربوها انقدحت النار، ويكون عندهم شيء قابل للاشتعال بسرعة؛ ولهذا قال تعالى: {فإذا أنتم منه توقدون} [يس: 80] تحقيقاً لذلك..

ووجه الدلالة: أن القادر على إخراج النار الحارة اليابسة من الشجر الأخضر مع ما بينهما من تضاد قادر على إحياء العظام وهي رميم..

الدليل الرابع: قوله تعالى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى} (يس: 81)

ووجه الدلالة: أن خلْق السموات والأرض أكبر من خلق الناس؛ والقادر على الأكبر قادر على ما دونه..

الدليل الخامس: قوله تعالى: {وهو الخلَّاق العليم} [يس: 81] ؛ فـ {الخلاق } صفته، ووصفه الدائم؛ وإذا كان خلَّاقاً، ووصفه الدائم هو الخلق فلن يعجز عن إحياء العظام وهي رميم..

الدليل السادس: قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] : إذا أراد شيئاً مهما كان؛ و {شيئاً} : نكرة في سياق الشرط، فتكون للعموم؛ {أمره} أي شأنه في ذلك أن يقول له كن فيكون؛ أو {أمره} الذي هو واحد "أوامر"؛ ويكون المعنى: إنما أمره أن يقول: "كن"، فيعيده مرة أخرى..

ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لا يستعصي عليه شيء أراده..

الدليل السابع: قوله تعالى: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} : كل شيء فهو مملوك لله عزّ وجلّ: الموجود يعدمه؛ والمعدوم يوجده؛ لأنه رب كل شيء..

ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى نزه نفسه؛ وهذا يشمل تنزيهه عن العجز عن إحياء العظام وهي رميم

الدليل الثامن: قوله تعالى: ( وإليه ترجعون )..

ووجه الدلالة: أنه ليس من الحكمة أن يخلق الله هذه الخليقة، ويأمرها، وينهاها، ويرسل إليها الرسل، ويحصل ما يحصل من القتال بين المؤمن، والكافر، ثم يكون الأمر هكذا يذهب سدًى؛ بل لابد من الرجوع؛ وهذا دليل عقلي..

فهذه ثمانية أدلة على قدرة الله على إحياء العظام وهي رميم جمعها الله عزّ وجلّ في موضع واحد؛ وهناك أدلة أخرى في مواضع كثيرة في القرآن؛ وكذلك في السنة..

.6ومن فوائد الآية: أن الخلق مآلهم، ورجوعهم إلى الله عزّ وجلّ..

القـرآن

)هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:29)

التفسير:

لما ذكر جلّ وعلا أنه قادر على الإحياء والإماتة، بيَّن منَّته على العباد بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً

.{ 29 } قوله تعالى: { هو الذي خلق لكم } أي أوجد عن علم وتقدير على ما اقتضته حكمته جلّ وعلا، وعلمه؛ و{ لكم }: اللام هنا لها معنيان؛ المعنى الأول: الإباحة، كما تقول: "أبحت لك"؛ والمعنى الثاني: التعليل: أي خلق لأجلكم..

قوله تعالى: { ما في الأرض جميعاً }؛ { ما } اسم موصول تعُمّ: كل ما في الأرض فهو مخلوق لنا من الأشجار، والزروع، والأنهار، والجبال... كل شيء..

قوله تعالى: { ثم } أي بعد أن خلق لنا ما في الأرض جميعاً { استوى إلى السماء } أي علا إلى السماء؛ هذا ما فسرها به ابن جرير . رحمه الله؛ وقيل: أي قصد إليها؛ وهذا ما اختاره ابن كثير . رحمه الله؛ فللعلماء في تفسير { استوى إلى } قولان: الأول: أن الاستواء هنا بمعنى القصد؛ وإذا كان القصد تاماً قيل: استوى؛ لأن الاستواء كله يدل على الكمال، كما قال تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى} [القصص: 14] أي كمل؛ فمن نظر إلى أن هذا الفعل عُدّي بـ { إلى } قال: إن { استوى } هنا ضُمِّن معنى قصد؛ ومن نظر إلى أن الاستواء لا يكون إلا في علوّ جعل { إلى } بمعنى "على"؛ لكن هذا ضعيف؛ لأن الله تعالى لم يستوِ على السماء أبداً؛ وإنما استوى على العرش؛ فالصواب ما ذهب إليه ابن كثير رحمه الله وهو أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام، والإرادة الجازمة؛ و{ السماء } أي العلوّ؛ وكانت السماء دخاناً . أي مثل الدخان؛

{ فسواهن سبع سموات } أي جعلها سوية طباقاً غير متناثرة قوية متينة..

قوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم }؛ ومن علمه عزّ وجلّ أنه علم كيف يخلق هذه السماء..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: منّة الله تعالى على عباده بأن خلق لهم ما في الأرض جميعاً؛ فكل شيء في الأرض فإنه لنا . والحمد لله . والعجب أن من الناس من سخر نفسه لما سخره الله له؛ فخدم الدنيا، ولم تخدمه؛ وصار أكبر همه الدنيا: جمع المال، وتحصيل الجاه، وما أشبه ذلك..

.2 ومنها: أن الأصل في كل ما في الأرض الحلّ . من أشجار، ومياه، وثمار، وحيوان، وغير ذلك؛ وهذه قاعدة عظيمة؛ وبناءً على هذا لو أن إنساناً أكل شيئاً من الأشجار، فقال له بعض الناس: "هذا حرام"؛ فالمحرِّم يطالَب بالدليل؛ ولو أن إنساناً وجد طائراً يطير، فرماه، وأصابه، ومات، وأكله، فقال له الآخر: "هذا حرام"؛ فالمحرِّم يطالب بالدليل؛ ولهذا لا يَحْرم شيء في الأرض إلا ما قام عليه الدليل..

.3 ومن فوائد الآية: تأكيد هذا العموم بقوله تعالى: { جميعاً } مع أن { ما } موصولة تفيد العموم؛ لكنه سبحانه وتعالى أكده حتى لا يتوهم واهم بأن شيئاً من أفراد هذا العموم قد خرج من الأصل..

.4 ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ . أي أنه يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء }: و{ استوى } فعل؛ فهو جلّ وعلا يفعل ما يشاء، ويقوم به من الأفعال ما لا يحصيه إلا الله، كما أنه يقوم به من الأقوال ما لا يحصيه إلا الله..

.5 ومنها: أن السموات سبع؛ لقوله تعالى: ( سبع سموات )

.6 ومنها: كمال خلق السموات؛ لقوله تعالى: ( فسواهن )..

.7ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: ( وهو بكل شيء عليم )

.8ومنها: أن نشكر الله على هذه النعمة . وهي أنه تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً؛ لأن الله لم يبينها لنا لمجرد الخبر؛ ولكن لنعرف نعمته بذلك، فنشكره عليها..

.9 ومنها: أن نخشى، ونخاف؛ لأن الله تعالى بكل شيء عليم؛ فإذا كان الله عليماً بكل شيء . حتى ما نخفي في صدورنا . أوجب لنا ذلك أن نحترس مما يغضب الله عزّ وجلّ سواء في أفعالنا، أو في أقوالنا، أو في ضمائر قلوبنا..

القـرآن

)وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)

التفسير:

.{ 30 } قوله تعالى: { وإذ قال ربك }: قال المعربون: { إذ } مفعول لفعل محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ قال؛ والخطاب في قوله تعالى: { ربك } للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولما كان الخطاب له صارت الربوبية هنا من أقسام الربوبية الخاصة..

قوله تعالى: { للملائكة }: اللام للتعدية . أي تعدية القول للمقول له؛ و "الملائكة" جمع "مَلْئَك"، وأصله "مألك"؛ لأنه مشتق من الأَلُوكة . وهي الرسالة؛ لكن صار فيها إعلال بالنقل . أي نقل حرف مكان حرف آخر؛ مثل أشياء أصلها: "شيئاء"؛ و "الملائكة" عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وجعل لهم وظائف، وأعمالاً مختلفة؛ فمنهم الموكل بالوحي كجبريل؛ وبالقطر، والنبات كميكائيل؛ وبالنفخ في الصور كإسرافيل؛ وبأرواح بني أدم كملَك الموت... إلى غير ذلك من الوظائف، والأعمال..

قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة }؛ خليفة يخلف الله؛ أو يخلف من سبقه؛ أو يخلف بعضهم بعضاً يتناسلون . على أقوال:.

أما الأول: فيحتمل أن الله أراد من هذه الخليقة . آدم، وبنيه . أن يجعل منهم الخلفاء يخلفون الله تعالى في عباده بإبلاغ شريعته، والدعوة إليها، والحكم بين عباده؛ لا عن جهل بالله سبحانه وتعالى . وحاشاه من ذلك، ولا عن عجز؛ ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، كما قال تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس} [ص: 26] : هو خليفة يخلف الله عزّ وجلّ في الحكم بين عباده..

والثاني: أنهم يخلفون من سبقهم؛ لأن الأرض كانت معمورة قبل آدم؛ وعلى هذا الاحتمال تكون { خليفة } هنا بمعنى الفاعل؛ وعلى الأول بمعنى المفعول..

والثالث: أنه يخلف بعضهم بعضاً؛ بمعنى: أنهم يتناسلون: هذا يموت، وهذا يحيى؛ وعلى هذا التفسير تكون { خليفة } صالحة لاسم الفاعل، واسم المفعول..

كل هذا محتمل؛ وكل هذا واقع؛ لكن قول الملائكة: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } يرجح أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء، وتفسد فيها، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كما فعل من قبلهم . واستفهام الملائكة للاستطلاع، والاستعلام، وليس للاعتراض؛ قال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني: وستتغير الحال؛ ولا تكون كالتي سبقت..

قوله تعالى: { ونحن نسبح } أي نُنَزِّه؛ والذي يُنَزَّه الله عنه شيئان؛ أولاً: النقص؛ والثاني: النقص في كماله؛ وزد ثالثاً إن شئت: مماثلة المخلوقين؛ كل هذا يُنَزَّه الله عنه؛ النقص: مطلقاً؛ يعني أن كل صفة نقص لا يمكن أن يوصف الله بها أبداً . لا وصفاً دائماً، ولا خبراً؛ والنقص في كماله: فلا يمكن أن يكون في كماله نقص؛ قدرته: لا يمكن أن يعتريها عجز؛ قوته: لا يمكن أن يعتريها ضعف؛ علمه: لا يمكن أن يعتريه نسيان... وهلم جراً؛ ولهذا قال عزّ وجلّ: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38] أي تعب، وإعياء؛ فهو عزّ وجلّ كامل الصفات لا يمكن أن يعتري كماله نقص؛ ومماثلة المخلوقين: هذه إن شئنا أفردناها بالذكر؛ لأن الله تعالى أفردها بالذكر، فقال: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] . وقال تعالى: {وله المثل الأعلى} ، وقال تعالى: { فلا تضربوا لله الأمثال } [النحل: 74] ؛ وإن شئنا جعلناها داخلة في القسم الأول . النقص . لأن تمثيل الخالق بالمخلوق يعني النقص؛ بل المفاضلة بين الكامل والناقص تجعل الكامل ناقصاً، كما قال القائل:.

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا لو قلت: فلان عنده سيف أمضى من العصا تبين أن السيف هذا رديء، وليس بشيء؛ فربما نفرد هذا القسم الثالث، وربما ندخله في القسم الأول؛ على كل حال التسبيح ينبغي لنا . عندما نقول: "سبحان الله"، أو: "أسبح الله"، أو ما أشبه ذلك . أن نستحضر هذه المعاني..

قوله تعالى: و{ بحمدك }: قال العلماء: الباء هنا للمصاحبة . أي تسبيحاً مصحوباً بالحمد مقروناً به؛ فتكون الجملة متضمنة لتنزيه الله عن النقص، وإثبات الكمال لله بالحمد؛ لأن الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة، وتعظيماً؛ فإن وصفتَ مرة أخرى بكمال فسَمِّه ثناءً؛ والدليل على هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: "قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذ قال: {الحمد لله رب العالمين} قال تعالى: حمدني عبدي؛ وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال تعالى: أثنى عليّ عبدي" ؛ لأن نفي النقص يكون قبل إثبات الكمال من أجل أن يَرِد الكمال على محل خالٍ من النقص..

قوله تعالى: { ونقدس }: "التقديس" معناه التطهير؛ وهو أمر زائد على "التنْزيه"؛ لأن "التنزيه" تبرئة، وتخلية؛ و"التطهير" أمر زائد؛ ولهذا نقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب؛ اللهم نقني من خطاياي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس؛ اللهم اغسلني من خطاياي بالماء، والثلج، والبَرد" : فالأول: طلبُ المباعدة؛ والثاني: طلب التنقية . يعني: التخلية بعد المباعدة؛ والثالث: طلب الغسل بعد التنقية حتى يزول الأثر بالكلية؛ فيجمع الإنسان بين تنْزيه الله عزّ وجلّ عن كل عيب ونقص، وتطهيره . أنه لا أثر إطلاقاً لما يمكن أن يعلق بالذهن من نقص..

قوله تعالى: { لك } اللام هنا للاختصاص؛ فتفيد الإخلاص؛ وهي أيضاً للاستحقاق؛ لأن الله . جلّ وعلا . أهل لأن يقدس..

أجابهم الله تعالى: { قال إني أعلم ما لا تعلمون } أي من أمر هذه الخليفة التي سيكون منها النبيون، والصدِّيقون، والشهداء، والصالحون..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ، وأنه بحرف، وصوت؛ وهذا مذهب السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأئمة الهدى من بعدهم؛ يؤخذ كونه بحرف من قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة }؛ لأن هذه حروف؛ ويؤخذ كونه بصوت من أنه خاطب الملائكة بما يسمعونه؛ وإثبات القول لله على هذا الوجه من كماله سبحانه وتعالى؛ بل هو من أعظم صفات الكمال: أن يكون عزّ وجلّ متكلماً بما شاء كوناً، وشرعاً؛ متى شاء؛ وكيف شاء؛ فكل ما يحدث في الكون فهو كائن بكلمة { كن }؛ لقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ؛ وكل الكون مراد له قدراً؛ وأما قوله الشرعي: فهو وحيه الذي أوحاه إلى رسله، وأنبيائه..

.2 ومن فوائد الآية: أن الملائكة ذوو عقول؛ وجهه أن الله تعالى وجه إليهم الخطاب، وأجابوا؛ ولا يمكن أن يوجه الخطاب إلا إلى من يعقله؛ ولا يمكن أن يجيبه إلا من يعقل الكلامَ، والجوابَ عليه؛ وإنما نبَّهْنا على ذلك؛ لأن بعض أهل الزيغ قالوا: إن الملائكة ليسوا عقلاء..

.3 ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ أي أنه تعالى يفعل ما شاء متى شاء كيف شاء؛ ومن أهل البدع من ينكر ذلك زعماً منه أن الأفعال حوادث؛ والحوادث لا تقوم إلا بحادث فلا يجيء، ولا يستوي على العرش، ولا ينْزل، ولا يتكلم، ولا يضحك، ولا يفرح، ولا يعجب؛ وهذه دعوى فاسدة من وجوه:.

الأول: أنها في مقابلة نص؛ وما كان في مقابلة نص فهو مردود على صاحبه..

الثاني: أنها دعوى غير مسلَّمة؛ فإن الحوادث قد تقوم بالأول الذي ليس قبله شيء..

الثالث: أن كونه تعالى فعالاً لما يريد من كماله، وتمام صفاته؛ لأن من لا يفعل إما أن يكون غير عالم، ولا مريد؛ وإما أن يكون عاجزاً؛ وكلاهما وصفان ممتنعان عن الله سبحانه وتعالى..

فتَعَجَّبْ كيف أُتي هؤلاء من حيث ظنوا أنه تنزيه لله عن النقص؛ وهو في الحقيقة غاية النقص!!! فاحمد ربك على العافية، واسأله أن يعافي هؤلاء مما ابتلاهم به من سفه في العقول، وتحريف للمنقول..

.4 ومن فوائد الآية: أن بني آدم يخلف بعضهم بعضاً . على أحد الأقوال في معنى { خليفة }؛ وهذا هو الواقع؛ فتجد من له مائة مع من له سنة واحدة، وما بينهما؛ وهذا من حكمة الله عزّ وجلّ؛ لأن الناس لو من وُلِد بقي لضاقت الأرض بما رحبت، ولما استقامت الأحوال، ولا حصلت الرحمة للصغار، ولا الولاية عليهم إلى غير ذلك من المصالح العظيمة..

.5 ومنها: قيام الملائكة بعبادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك )

.6 ومنها: كراهة الملائكة للإفساد في الأرض؛ لقولهم: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )

.7 ومنها: أن وصف الإنسان نفسه بما فيه من الخير لا بأس به إذا كان المقصود مجرد الخبر دون الفخر؛ لقولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }؛ ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(1) ؛ وأما إذا كان المقصود الفخر، وتزكية النفس بهذا فلا يجوز؛ لقوله تعالى: { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } [النجم: 32] ..

.8 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث قالوا: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)



القـرآن

)وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:31)

)قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32)

التفسير:

.{ 31 } قوله تعالى: { وعلم آدم }: الفاعل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ و{ الأسماء } جمع "اسم"؛ و "أل" فيها للعموم بدليل قوله تعالى: { كلها }؛ وهل هذه الأسماء أسماء لمسميات حاضرة؛ أو لكل الأسماء؟ للعلماء في ذلك قولان؛ والأظهر أنها أسماء لمسميات حاضرة بدليل قوله تعالى: { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء }؛ وهذه الأسماء . والله أعلم . ما يحتاج إليها آدم، وبنوه في ذلك الوقت..

قوله تعالى: { ثم عرضهم } أي عرض المسميات؛ بدليل قوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء }، ولأن الميم علامة جمع العاقل؛ فلم تعلم الملائكة أسماء تلك المسميات؛ بل كان جوابهم: { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا }، ثم قال تعالى: { يا آدم أنبئهم بأسمائهم }: وأراد عزّ وجلّ بذلك أن يعرف الملائكة أنهم ليسوا محيطين بكل شيء علماً، وأنهم يفوتهم أشياء يفضلهم آدم فيها..

قوله تعالى: { أنبئوني }: هل هو فعل أمر يراد به قيام المأمور بما وُجّه إليه، أو هو تحَدٍّ؟

الجواب: الظاهر الثاني: أنه تحدٍّ؛ بدليل قوله تعالى: { إن كنتم صادقين } أن لديكم علماً بالأشياء فأنبئوني بأسماء هؤلاء؛ لأن الملائكة قالت فيما سبق: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30] ، فقال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون }، ثم امتحنهم الله بهذا..

.{ 32 } قوله تعالى: { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما لا يليق بجلالك؛ فأنت يا ربنا لم تفعل هذا إلا لحكمة بالغة..

قوله تعالى: { لا علم لنا إلا ما علمتنا }: اعتراف من الملائكة أنهم ليسوا يعلمون إلا ما علمهم الله، هذا مع أنهم ملائكة مقرَّبون إلى الله عزّ وجلّ..

قوله تعالى: { إنك أنت العليم الحكيم }: هذه الجملة مؤكدة بـ "إن" ، وضمير الفصل: { أنت }؛ والمعنى: إنك ذو العلم الواسع الشامل المحيط بالماضي والحاضر، والمستقبل؛ و{ الحكيم } يعني ذا الحكمة، والحكم؛ لأن الحكيم مشتقة من الحكم، والحكمة؛ فهذان اسمان من أسماء الله عزّ وجلّ: { العليم }، و(الحكيم)

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: بيان أن الله تعالى قد يمنّ على بعض عباده بعلم لا يعلمه الآخرون؛ وجهه: أن الله علم آدم أسماء مسميات كانت حاضرة، والملائكة تجهل ذلك..

.2 ومنها: أن اللغات توقيفية . وليست تجريبية؛ "توقيفية" بمعنى أن الله هو الذي علم الناس إياها؛ ولولا تعليم الله الناسَ إياها ما فهموها؛ وقيل: إنها "تجريبية" بمعنى أن الناس كوَّنوا هذه الحروف والأصوات من التجارب، فصار الإنسان أولاً أبكم لا يدري ماذا يتكلم، لكن يسمع صوت الرعد، يسمع حفيف الأشجار، يسمع صوت الماء وهو يسيح على الأرض، وما أشبه ذلك؛ فاتخذ مما يسمع أصواتاً تدل على مراده؛ ولكن هذا غير صحيح؛ والصواب أن اللغات مبدؤها توقيفي؛ وكثير منها كسبي تجريبي يعرفه الناس من مجريات الأحداث؛ ولذلك تجد أن أشياء تحدث ليس لها أسماء من قبل، ثم يحدث الناس لها أسماء؛ إما من التجارب، أو غير ذلك من الأشياء..

.3 ومن فوائد الآيتين: جواز امتحان الإنسان بما يدعي أنه مُجيد فيه..

.4 ومنها: جواز التحدي بالعبارات التي يكون فيها شيء من الشدة؛ لقوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين..

.5 ومنها: أن الملائكة تتكلم؛ لقوله تعالى: ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )..

.6 ومنها: اعتراف الملائكة . عليهم الصلاة والسلام . بأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله عزّ وجلّ..

ويتفرع على ذلك أنه ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه، فلا يدَّعي علم ما لم يعلم..

.7 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث اعترفوا بكماله، وتنزيهه عن الجهل بقولهم: {سبحانك}؛ واعترفوا لأنفسهم بأنهم لا علم عندهم؛ واعترفوا لله بالفضل في قولهم: { إلا ما علمتنا }..

.8 ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { العليم }، و{ الحكيم }؛ فـ { العليم }: ذو العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً لما كان، وما يكون من أفعاله، وأفعال خلقه..

و{ الحكيم }: ذو الحكمة البالغة التي تعجز عن إدراكها عقول العقلاء وإن كانت قد تدرك شيئاً منها؛ و "الحكمة" هي وضع الشيء في موضعه اللائق به؛ وتكون في شرع الله، وفي قدر الله؛ أما الحكمة في شرعه فإن جميع الشرائع مطابقة للحكمة في زمانها، ومكانها، وأحوال أممها؛ فما أمر الله بشيء، فقال العقل الصريح: "ليته لم يأمر به"؛ وما نهى عن شيء، فقال: "ليته لم ينهَ عنه"؛ وأما الحكمة في قدره فما من شيء يقدره الله إلا وهو مشتمل على الحكمة إما عامة؛ وإما خاصة..

واعلم أن الحكمة تكون في نفس الشيء: فوقوعه على الوجه الذي حكم الله تعالى به في غاية الحكمة؛ وتكون في الغاية المقصودة منه: فأحكام الله الكونية، والشرعية كلها لغايات محمودة قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة؛ والأمثلة على هذا كثيرة واضحة..

ولـ { الحكيم } معنًى آخر؛ وهو ذو الحكم، والسلطان التام؛ فلا معقب لحكمه؛ وحكمه تعالى نوعان: شرعي، وقدري؛ فأما الشرعي فوحيه الذي جاءت به رسله؛ ومنه قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } [المائدة: 50] ، وقوله تعالى في سورة الممتحنة: { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } [الممتحنة: 10] ؛ وأما حكمه القدري فهو ما قضى به قدراً على عباده من شدة، ورخاء، وحزن، وسرور، وغير ذلك؛ ومنه قوله تعالى عن أحد إخوة يوسف: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } (يوسف: 80)

والفرق بين الحكم الشرعي، والكوني: أن الشرعي لا يلزم وقوعه ممن حُكِم عليه به؛ ولهذا يكون العصاة من بني آدم، وغيرهم المخالفون لحكم الله الشرعي؛ وأما الحكم القدري فلا معارض له، ولا يخرج أحد عنه؛ بل هو نافذ في عباده على كل حال..

القـرآن

)قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:33)

التفسير:

.{ 33 } قوله تعالى: { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم }؛ القائل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ والظاهر أن هذا اسم له، وليس وصفاً؛ وهو مشتق لغة من الأُدْمة؛ وهي لون بين البياض الخالص والسواد

قوله تعالى: { فلما أنبأهم بأسمائهم } أي أنبأ الملائكة؛ { قال } أي قال الله؛ { ألم أقل لكم }: الاستفهام هنا للتقرير؛ والمعنى: قلت لكم، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] : والمعنى: قد شرحنا لك صدرك؛ { إني أعلم غيب السموات والأرض } أي ما غاب فيهما . وهو نوعان: نسبي؛ وعام؛ فأما النسبي فهو ما غاب عن بعض الخلق دون بعض؛ وأما العام فهو ما غاب عن الخلق عموماً..

قوله تعالى: { وأعلم ما تبدون } أي ما تظهرون؛ { وما كنتم تكتمون } أي تخفون..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ لقوله تعالى: { يا آدم }؛ وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأن آدم سمعه، وفهمه، فأنبأ الملائكة به؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، والسلف الصالح . أن الله يتكلم بكلام مسموع مترتب بعضه سابق لبعض..

.2 ومنها: أن آدم . عليه الصلاة والسلام . امتثل، وأطاع، ولم يتوقف؛ لقوله تعالى: { فلما أنبأهم }؛ ولهذا طوى ذكر قوله: "فأنبأهم" إشارة إلى أنه بادر، وأنبأ الملائكة..

.3 ومنها: جواز تقرير المخاطب بما لا يمكنه دفعه؛ والتقرير لا يكون إلا هكذا . أي بأمر لا يمكن دفعه؛ وذلك لقوله تعالى: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض }..

.4 ومنها: بيان عموم علم الله عزّ وجلّ، وأنه يتعلق بالمشاهد، والغائب؛ لقوله تعالى:

( أعلم غيب السموات والأرض )..

.5 ومنها: أن السموات ذات عدد؛ لقوله تعالى: { السموات }؛ و "الأرض" جاءت مفردة، والمراد بها الجنس؛ لأن الله تعالى قال: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] أي في العدد..

.6 ومنها: أن الملائكة لها إرادات تُبدى، وتكتم؛ لقوله تعالى: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون }..

.7 ومنها: أن الله تعالى عالم بما في القلوب سواء أُبدي أم أُخفي؛ لقوله تعالى: ( ما تبدون وما كنتم تكتمون)

فإن قال قائل: ما الدليل على أن الملائكة لها قلوب؟..

فالجواب: قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} [سبأ: 23

القـرآن

)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34)

التفسير:

.{ 34 } قوله تعالى: { وإذ قلنا } يعني اذكر إذ قلنا؛ ومثل هذا التعبير يتكرر كثيراً في القرآن، والعلماء يقدرون لفظ: "اذكر"، وهم بحاجة إلى هذا التقدير؛ لأن "إذ" ظرفية؛ والظرف لا بد له من شيء يتعلق به إما مذكوراً؛ وإما محذوفاً؛ وفي نظم الجُمل:.

لا بد للجار من التعلق بفعل أو معناه نحو مرتقي ومثله الظرف؛ وجاء الضمير في { قلنا } بضمير الجمع من باب التعظيم . لا التعدد . كما هو معلوم..

قوله تعالى: { للملائكة }: سبق الكلام على ذكر الملائكة، ومن أين اشتق هذا اللفظ..

قوله تعالى: { اسجدوا لآدم }: "السجود" هو السجود على الأرض بأن يضع الساجد جبهته على الأرض خضوعاً، وخشوعاً؛ وليس المراد به هنا الركوع؛ لأن الله تعالى فرَّق بين الركوع والسجود، كما في قوله تعالى: {تراهم ركعاً سجداً} [الفتح: 29] ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] ..

قوله تعالى: { فسجدوا } أي من غير تأخير؛ فالفاء هنا للترتيب، والتعقيب؛ { إلا إبليس } هو الشيطان؛ وسمي إبليساً لأنه أَبلَسَ من رحمة الله . أي أَيِسَ منها يأساً لا رجاء بعده . { أبى } أي امتنع؛ { واستكبر } أي صار ذا كبر؛ { وكان من الكافرين }: زعم بعض العلماء أن المراد: كان من الكافرين في علم الله بناءً على أن

{ كان } فعل ماضٍ؛ والمضي يدل على شيء سابق؛ لكن هناك تخريجاً أحسن من هذا: أن نقول: إن "كان" تأتي أحياناً مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقق اتصاف الموصوف بهذه الصفة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} [النساء: 96] ، وقوله تعالى: {وكان الله عزيزاً حكيماً} [النساء: 158] ، وقوله تعالى: {وكان الله سميعاً بصيراً} [النساء: 134] ، وما أشبهها؛ هذه ليس المعنى أنه كان فيما مضى؛ بل لا يزال؛ فتكون { كان } هنا مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقيق اتصاف الموصوف بما دلت عليه الجملة؛ وهذا هو الأقرب، وليس فيه تأويل؛ ويُجرى الكلام على ظاهره..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: بيان فضل آدم على الملائكة؛ وجهه أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيماً له..

.2 ومنها: أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو عبادة؛ لأن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ ولذلك لما امتنع إبليس عن هذا كان من الكافرين؛ وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على كفر تارك الصلاة؛ قال: لأنه إذا كان إبليس كفر بترك سجدة واحدة أُمر بها، فكيف عن ترك الصلاة كاملة؟! وهذا الاستدلال إن استقام فهو هو؛ وإن لم يستقم فقد دلت نصوص أخرى من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة على كفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً عن الملة..

ويدل على أن المحرَّم إذا أمر الله تعالى به كان عبادة قصة إبراهيم عليه السلام، حين أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فامتثل أمر الله؛ ولكن الله رحمه، ورحم ابنه برفع ذلك عنهما، حيث قال تعالى: {فلما أسلما وتلَّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} [الصافات: 103 . 105] ؛ ومن المعلوم أن قتل الابن من كبائر الذنوب، لكن لما أمر الله عزّ وجلّ به كان امتثاله عبادة..

.3 ومن فوائد الآية: أن إبليس . والعياذ بالله . جمع صفات الذم كلها: الإباء عن الأمر؛ والاستكبار عن الحق، وعلى الخلق؛ والكفر؛ إبليس استكبر عن الحق؛ لأنه لم يمتثل أمر الله؛ واستكبر على الخلق؛ لأنه قال: {أنا خير منه} [الأعراف: 12] ؛ فاستكبر في نفسه، وحقر غيره؛ و"الكبر" بطر الحق، وغمط الناس..

تنبــــــــيه:

إن قال قائل: في الآية إشكال . وهو أن الله تعالى لما ذكر أمر الملائكة بالسجود، وذكر أنهم سجدوا إلا إبليس؛ كان ظاهرها أن إبليس منهم؛ والأمر ليس كذلك؟..

والجواب: أن إبليس كان مشاركاً لهم في أعمالهم ظاهراً، فكان توجيه الأمر شاملاً له بحسب الظاهر؛ وقد يقال: إن الاستثناء منقطع؛ والاستثناء المنقطع لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه..


)وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:35)

التفسير:

.{ 35 } قوله تعالى: { قلنا } فاعل القول هو الله عزّ وجلّ؛ { اسكن أنت وزوجك }: "زوج" معطوف على الفاعل في { اسكن }؛ لأن { أنت } توكيد للفاعل؛ وليست هي الفاعل؛ لأن { اسكن } فعل أمر؛ وفعل الأمر لا يمكن أن يظهر فيه الفاعل؛ لأنه مستتر وجوباً؛ وعلى هذا فـ { أنت } الضمير المنفصل توكيد للضمير المستتر؛ و{ زوجك } هي حواء، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، وغيره..

قوله تعالى:{ الجنة } هي البستان الكثير الأشجار، وسمي بذلك لأنه مستتر بأشجاره؛ وهل المراد بـ { الجنة جنة الخلد؛ أم هي جنة سوى جنة الخلد؟..

الجواب: ظاهر الكتاب، والسنة أنها جنة الخلد، وليست سواها؛ لأن "أل" هنا للعهد الذهني..

فإن قيل: كيف يكون القول الصحيح أنها جنة الخلد مع أن من دخلها لا يخرج منها . وهذه أُخرج منها آدم؟

فالجواب: أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها: بعد البعث؛ وفي هذا يقول ابن القيم في الميمية المشهورة.

فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم قال: "منازلك الأولى"؛ لأن أبانا آدم نزلها..

قوله تعالى: { وكُلا }: أمر بمعنى الإباحة، والإكرام؛ { منها } أي من هذه الجنة؛ { رغداً } أي أكلاً هنياً ليس فيه تنغيص؛ { حيث شئتما } أي في أيّ مكان من هذه الجنة، ونقول أيضاً: وفي أيّ زمان؛ لأن قوله تعالى: { كُلا } فعل مطلق لم يقيد بزمن..

قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة } أشار الله تعالى إلى الشجرة بعينها، و "أل" فيها للعهد الحضوري؛ لأن كل ما جاء بـ "أل" بعد اسم الإشارة فهو للعهد الحضوري؛ إذ إن اسم الإشارة يعني الإشارة إلى شيء قريب؛ وهذه الشجرة غير معلومة النوع، فتبقى على إبهامها..

قوله تعالى: { فتكونا }: وقعت جواباً للطلب . وهو قوله تعالى: { لا تقربا }؛ فالفاء هنا للسببية؛ والفعل بعدها منصوب بـ "أن" مضمرة بعد فاء السببية؛ وقيل: إن الفعل منصوب بنفس الفاء؛ القول الأول للبصريين، والثاني للكوفيين؛ والثاني هو المختار عندنا بناءً على القاعدة أنه متى اختلف علماء النحو في إعراب كلمة أو جملة فإننا: نأخذ بالأسهل ما دام المعنى يحتمله..

قوله تعالى: { من الظالمين } أي من المعتدين لمخالفة الأمر..

الفوائد:

.1من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( وقلنا يا آدم )..

.2 ومنها: أن قول الله يكون بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن... } إلخ؛ ولولا أن آدم يسمعه لم يكن في ذلك فائدة؛ وأيضاً هو مرتب؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك }: وهذه حروف مرتبة، كما هو ظاهر؛ وإنما قلنا ذلك لأن بعض أهل البدع يقول: إن كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بصوت، ولا حروف مرتبة؛ ولهم في ذلك آراء مبتدعة أوصلها بعضهم إلى ثمانية أقوال

.3 ومن فوائد الآية: منّة الله عزّ وجلّ على آدم، وحواء حيث أسكنهما الجنة..

.4 ومنها: أن النكاح سنة قديمة منذ خلق الله آدم، وبقيت في بنيه من الرسل، والأنبياء، ومن دونهم، كما قوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} (الرعد: 38)

فإن قال قائل: زوجته بنت من؟..

فالجواب: أنها خلقت من ضلعه..

فإن قال: إذاً تكون بنتاً له، فكيف يتزوج ابنته؟..

فالجواب: أن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ فكما أباح أن يتزوج الأخ أخته من بني آدم الأولين؛ فكذلك أباح أن يتزوج آدم من خلقها الله من ضلعه..

.5 ومن فوائد الآية: أن الأمر يأتي للإباحة؛ لقوله تعالى: { وكُلا منها }؛ فإن هذه للإباحة بدليل قوله تعالى: { حيث شئتما }: خيَّرهما أن يأكلا من أيّ مكان؛ ولا شك أن الأمر يأتي للإباحة؛ ولكن الأصل فيه أنه للطلب حتى يقوم دليل أنه للإباحة..

.6 ومنها: أن ظاهر النص أن ثمار الجنة ليس له وقت محدود؛ بل هو موجود في كل وقت؛ لقوله تعالى: { حيث شئتما }؛ فالتعميم في المكان يقتضي التعميم في الزمان؛ وقد قال الله تعالى في فاكهة الجنة: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} (الواقعة: 32، 33)

.7 ومنها: أن الله تعالى قد يمتحن العبد، فينهاه عن شيء قد تتعلق به نفسه؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }؛ ووجه ذلك أنه لولا أن النفس تتعلق بها ما احتيج إلى النهي عن قربانها..

.8 ومنها: أنه قد يُنهى عن قربان الشيء والمراد النهي عن فعله؛ للمبالغة في التحذير منه؛ فإن قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }: المراد: لا تأكلا منها، لكن لما كان القرب منها قد يؤدي إلى الأكل نُهي عن قربها..

.9 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين..

.10 ومنها: أن معصية الله تعالى ظلم للنفس، وعدوان عليها؛ لقوله تعالى: ( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين..)

القـرآن

)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36)

التفسير:

.{ 36 } قوله تعالى: { فازلهما الشيطان }؛ وفي قراءة: { فأزالهما }؛ والفرق بينهما أن { أزلهما } بمعنى أوقعهما في الزلل؛ و{ أزالهما } بمعنى نحَّاهما؛ فعلى القراءة الأولى يكون الشيطان أوقعهما في الزلل، فزالا عنها، وأُخرجا منها؛ وعلى الثانية يكون الشيطان سبباً في تنحيتهما؛ و{ الشيطان } الظاهر أنه الشيطان الذي أبى أن يسجد لآدم: وسوس لهما ليقوما بمعصية الله كما فعل هو حين أبى أن يسجد لآدم..

قوله تعالى: { عنها } أي عن الجنة؛ ولهذا قال تعالى: { فأخرجهما مما كانا فيه } من النعيم؛ لأنهما كانا في أحسن ما يكون من الأماكن..

قوله تعالى: { وقلنا } أي قال الله لهما؛ { اهبطوا }: الضمير للجمع، والمراد آدم، وحواء، وإبليس؛ ولهذا قال تعالى: { بعضكم لبعض عدو }: الشيطان عدو لآدم، وحواء..

قوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } يعني أنكم سوف تستقرون في الأرض، وسوف تتمتعون بها بما أعطاكم الله من النعم، ولكن لا على وجه الدوام؛ بل إلى حين . وهو قيام الساعة..

الفوائد:

.1من فوائد الآية: الحذر من وقوع الزلل الذي يمليه الشيطان؛ لقوله تعالى: ( فأزلهما الشيطان عنها ).

.2 ومنها: أن الشيطان يغرّ بني آدم كما غرّ أباهم حين وسوس لآدم، وحواء، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؛ فالشيطان قد يأتي الإنسان، فيوسوس له، فيصغر المعصية في عينه؛ ثم إن كانت كبيرة لم يتمكن من تصغيرها؛ منّاه أن يتوب منها، فيسهل عليه الإقدام؛ ولذلك احذر عدوك أن يغرك..

.3ومنها: إضافة الفعل إلى المتسبب له؛ لقوله تعالى: { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه }؛ وقد ذكر الفقهاء . رحمهم الله . أن المتسبب كالمباشر في الضمان، لكن إذا اجتمع متسبب ومباشر تمكن إحالة الضمان عليه فالضمان على المباشر؛ وإن لم تمكن فالضمان على المتسبب؛ مثال الأول؛ أن يحفر بئراً، فيأتي شخص، فيدفع فيها إنساناً، فيهلك: فالضمان على الدافع؛ ومثال الثاني: أن يلقي شخصاً بين يدي أسد، فيأكله: فالضمان على الملقي . لا على الأسد..

.4 ومن فوائد الآية: أن الشيطان عدو للإنسان؛ لقوله تعالى: { بعضكم لبعض عدو }؛ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } (فاطر: 6)

.5 ومنها: أن قول الله تعالى يكون شرعياً، ويكون قدرياً؛ فقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها }: هذا شرعي؛ وقوله تعالى: { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو }: الظاهر أنه كوني؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنه لو عاد الأمر إليهما لما هبطا؛ ويحتمل أن يكون قولاً شرعياً؛ لكن الأقرب عندي أنه قول كوني . والله أعلم..

.6 ومنها: أن الجنة في مكان عالٍ؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل..

.7 ومنها: أنه لا يمكن العيش إلا في الأرض لبني آدم؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف: 25] ؛ وبناءً على ذلك نعلم أن محاولة الكفار أن يعيشوا في غير الأرض إما في بعض الكواكب، أو في بعض المراكب محاولة يائسة؛ لأنه لابد أن يكون مستقرهم الأرض..

.8 ومنها: أنه لا دوام لبني آدم في الدنيا؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }..



القرآن

)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37)

التفسير:

.{ 37 } قوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه } يعني أخذ، وقَبِل، ورضي من الله كلمات حينما ألقى الله إليه هذه الكلمات؛ وهذه الكلمات هي قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23] ؛ فالكلمات اعتراف آدم وحواء بأنهما أذنبا، وظلما أنفسهما، وتضرعهما إلى الله سبحانه وتعالى بأنه إن لم يغفر لهما ويرحمهما لكانا من الخاسرين؛ و{ من ربه } فيه إضافة الربوبية إلى آدم؛ وهي الربوبية الخاصة..

قوله تعالى: { فتاب عليه }: الفاعل هو الله . يعني فتاب ربه عليه؛ و"التوبة" هي رفع المؤاخذة، والعفو عن المذنب إذا رجع إلى ربه عزّ وجلّ..

قوله تعالى: { إنه هو التواب الرحيم }: هذه الجملة تعليل لقوله تعالى: { فتاب عليه }؛ لأن التوبة مقتضى هذين الاسمين العظيمين: { التواب الرحيم }؛ و{ هو } ضمير فصل يفيد هنا الحصر، والتوكيد؛ و{ التواب } صيغة مبالغة من "تاب"؛ وذلك لكثرة التائبين، وكثرة توبة الله؛ ولذلك سمى الله نفسه "التواب" ؛ و{ الرحيم } أي ذو الرحمة الواسعة الواصلة إلى من شاء من عباده..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: منة الله سبحانه وتعالى على أبينا آدم حين وفقه لهذه الكلمات التي كانت بها التوبة؛ لقوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات }..

.2 ومنها: أن منة الله على أبينا هي منة علينا في الحقيقة؛ لأن كل إنسان يشعر بأن الله إذا منَّ على أحد أجداده كان مانّاً عليه..

.3 ومنها: أن قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" سبب لقبول توبة الله على عبده؛ لأنها اعتراف بالذنب؛ وفي قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" أربعة أنواع من التوسل؛ الأول: التوسل بالربوبية؛ الثاني: التوسل بحال العبد: {ظلمنا أنفسنا} ؛ الثالث: تفويض الأمر إلى الله؛ لقوله: {وإن لم تغفر لنا...} إلخ؛ الرابع: ذكر حال العبد إذا لم تحصل له مغفرة الله ورحمته؛ لقوله تعالى: {لنكونن من الخاسرين} ، وهي تشبه التوسل بحال العبد؛ بل هي توسل بحال العبد؛ وعليه فيكون توسل العبد بحاله توسلاً بحاله قبل الدعاء، وبحاله بعد الدعاء إذا لم يحصل مقصوده..

.4 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يتكلم بصوت مسموع؛ وجه ذلك أن آدم تلقى منه كلمات؛ وتلقي الكلمات لا يكون إلا بسماع الصوت؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بكلام بصوت مسموع، وحروف مرتبة..

.5 ومنها: منة الله عزّ وجلّ على آدم بقبول التوبة؛ فيكون في ذلك منَّتان؛ الأولى: التوفيق للتوبة، حيث تلقَّى الكلمات من الله؛ و الثانية: قبول التوبة، حيث قال تعالى: { فتاب عليه }..

واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله . تبارك وتعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118] : فقوله تعالى: {ثم تاب عليهم} أي وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: {ليتوبوا} أي يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} (الشورى: 25)

.6 ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا صدق في تفويض الأمر إلى الله، ورجوعه إلى طاعة الله فإن الله تعالى يتوب عليه؛ وهذا له شواهد كثيرة أن الله أكرم من عبده؛ من تقرب إليه ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه الله هرولة؛ فكرم الله عزّ وجلّ أعلى، وأبلغ من كرم الإنسان..

.7 ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: { التواب }، و{ الرحيم }؛ وما تضمناه من صفة، وفعل..

.8 ومنها: اختصاص الله بالتوبة، والرحمة؛ بدليل ضمير الفصل؛ ولكن المراد اختصاصه بالتوبة التي لا يقدر عليها غيره؛ لأن الإنسان قد يتوب على ابنه، وأخيه، وصاحبه، وما أشبه ذلك؛ لكن التوبة التي لا يقدر عليها إلا الله . وهي المذكورة في قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135] . هذه خاصة بالله..

كذلك الرحمة المراد بها الرحمة التي لا تكون إلا لله؛ أما رحمة الخلق بعضهم لبعض فهذا ثابت . لا يختص بالله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن"(1) ..

القـرآن

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38)

التفسير:

.{ 38 } قوله تعالى: { قلنا اهبطوا منها جميعاً }: الواو ضمير جمع، وعبر به عن اثنين لأن آدم، وحواء هما أبَوَا بني آدم؛ فوجه الخطاب إليهما بصيغة الجمع باعتبارهما مع الذرية؛ هذا هو الظاهر؛ وأما حمله على أن أقل الجمع اثنين، وأن ضمير الجمع هنا بمعنى ضمير التثنية فبعيد؛ لأن كون أقل الجمع اثنين شاذ في اللغة العربية؛ وأما قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] فإن الأفصح في المتعدد إذا أضيف إلى متعدد أن يكون بلفظ الجمع . وإن كان المراد به اثنين؛ و{ جميعاً } منصوبة على الحال من الواو في قوله تعالى: ( اهبطوا )

قوله تعالى: { فإما } أصلها: "فإنْ ما" : أدغمت النون في "ما" ؛ و "إن" شرطية، و "ما" زائدة للتوكيد؛ و

{ يأتينكم } فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد؛ ولذلك لم يكن مجزوماً؛ بل كان مبنياً على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد لفظاً، وتقديراً..

قوله تعالى: { مني هدًى } أي علماً: وذلك بالوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه، ورسله..

قوله تعالى: { فمن تبع }: الفاء هنا رابطة لجواب الشرط؛ لأن الجملة بعد الفاء هي جواب الشرط؛ والجملة هنا اسمية؛ و "مَنْ" شرطية؛ و "تبع" فعل الشرط؛ والفاء في قوله تعالى: { فلا خوف } رابطة للجواب أيضاً، و "لا" نافية، و "خوف" مبتدأ؛ وجملة: { فمن تبع هداي فلا خوف} جواب "إنْ" في قوله تعالى: {فإما يأتينكم }؛ وجملة: { فلا خوف } جواب { فمن تبع }..

وقوله تعالى: { فمن تبع هداي } أي أخذ به تصديقاً بأخباره، وامتثالاً لأحكامه؛ وأضافه الله لنفسه لأنه الذي شرعه لعباده، ولأنه موصل إليه..

قوله تعالى: { فلا خوف عليهم } أي فيما ي
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:07 am من طرف ahmadhamad

)وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:42)

التفسير:

.{ 42 } قوله تعالى: { ولا تلبسوا الحق بالباطل } أي لا تمزجوا بينهما حتى يشتبه الحق بالباطل؛ فهم كانوا يأتون بشبهات تُشَبِّه على الناس؛ فيقولون مثلاً: محمد حق، لكنه رسول الأميين لا جميع الناس..

قوله تعالى: { وتكتموا الحق }: هنا الواو تحتمل أنها عاطفة، وتحتمل أنها واو المعية؛ والمعنى على الأول: لا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق؛ فتكون الجملتان منفرداً بعضهما عن بعض؛ ويحتمل أن تكون الواو للمعية، فيكون النهي عن الجمع بينهما؛ والمعنى: ولا تلبسوا الحق بالباطل مع كتمان الحق؛ لكن على هذا التقدير يبقى إشكال: وهو أن قوله تعالى: { لا تلبسوا الحق بالباطل } يقتضي أنهم يذكرون الحق، والباطل؛ فيقال: نعم، هم وإن ذكروا الحق والباطل فقد كتموا الحق في الحقيقة؛ لأنهم لبسوه بالباطل، فيبقى خفياً..

قوله تعالى: { وأنتم تعلمون }: الجملة في موضع نصب على الحال . أي والحال أنكم تعلمون صنيعكم ...

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: وجوب بيان الحق، وتمييزه عن الباطل؛ فيقال: هذا حق، وهذا باطل؛ لقوله تعالى:

{ ولا تلبسوا الحق بالباطل }؛ ومن لبْس الحق بالباطل: أولئك القوم الذين يوردون الشبهات إما على القرآن، أو على أحكام القرآن، ثم يزيلون الإشكال . مع أن إيراد الشبه إذا لم تكن قريبة لا ينبغي . ولو أزيلت هذه الشبهة؛ فإن الشيطان إذا أوقع الشبهة في القلب فقد تستقر فيه . وإن ذكِر ما يزيلها ...

.2 ومن فوائد الآية: أنه ليس هناك إلا حق، وباطل؛ وإذا تأملت القرآن والسنة وجدت الأمر كذلك؛ قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] ، وقال تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدًى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] ، وقال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32] ، وقال تعالى: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [الكهف: 29] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "القرآن حجة لك أو عليك"(1) ..

فإن قال قائل: أليس هناك مرتبة بين الواجب، والمحرم؛ وبين المكروه، والمندوب . وهو المباح .؟ قلنا: بلى، لا شك في هذا؛ لكن المباح نفسه لا بد أن يكون وسيلة إلى شيء؛ فإن لم يكن وسيلة إلى شيء صار من قسم الباطل كما جاء في الحديث: "كل لهو يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا لعبه في رمحه، ومع أهله، وفي فرسه"(2) ؛ وهذه الأشياء الثلاثة إنما استثنيت؛ لأنها مصلحة . كلها تعود إلى مصلحة ...

.3 ومن فوائد الآية: تحريم كتمان الحق؛ لقوله تعالى: { وتكتموا }؛ ولكن هل يقال: إن الكتمان لا يكون إلا بعد طلب؟

الجواب: نعم، لكن الطلب نوعان: طلب بلسان المقال؛ وطلب بلسان الحال؛ فإذا جاءك شخص يقول: ما تقول في كذا، وكذا: فهذا طلب بلسان المقال؛ وإذا رأيت الناس قد انغمسوا في محرم: فبيانه مطلوب بلسان الحال؛ وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يبين المنكر، ولا ينتظر حتى يُسأل؛ وإذا سئل ولم يُجب لكونه لا يعلم فلا إثم عليه؛ بل هذا هو الواجب؛ لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 23] . هذه واحدة ..

ثانياً: إذا رأى من المصلحة ألا يبين فلا بأس أن يكتم كما جاء في حديث علي بن أبي طالب: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!"(3) ؛ وقال ابن مسعود: "إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(4) ؛ فإذا رأيت من المصلحة ألا تبين فلا تبين ولا لوم عليك..

ثالثاً: إذا كان قصد السائل الامتحان، أو قصده تتبع الرخص، أو ضرب أقوال العلماء بعضها ببعض . وأنت تعلم هذا .: فلك أن تمتنع؛ الامتحان أن يأتي إليك، وتعرف أن الرجل يعرف المسألة، لكن سألك لأجل أن يمتحنك: هل أنت تعرفها، أو لا؛ أو يريد أن يأخذ منك كلاماً ليشي به إلى أحد، وينقله إلى أحد: فلك أن تمتنع؛ كذلك إذا علمت أن الرجل يتتبع الرخص ، فيأتي يسألك يقول: سألت فلاناً، وقال: هذا حرام . وأنت تعرف أن المسؤول رجل عالم ليس جاهلاً: فحينئذٍ لك أن تمتنع عن إفتائه؛ أما إذا كان المسؤول رجلاً تعرف أنه ليس عنده علم . إما من عامة الناس، أو من طلبة العلم الذين لم يبلغوا أن يكونوا من أهل الفتوى: فحينئذ يجب عليك أن تفتيه؛ لأنه لا حرمة لفتوى من أفتاه؛ أما لو قال لك: أنا سألت فلاناً، ولكني كنت أطلبك، ولم أجدك، وللضرورة سألت فلاناً؛ لكن لما جاء الله بك الآن أفتني: فحينئذ يجب عليك أن تفتيه؛ لأن حال هذا الرجل كأنه يقول: أنا لا أطمئن إلا لفتواك؛ وخلاصة القول أنه لا يجب عليك الإفتاء إلا إذا كان المستفتي مسترشداً؛ لأن كتمان الحق لا يتحقق إلا بعد الطلب بلسان الحال، أو بلسان المقال..



القرآن

)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43)

التفسير:

.{ 43 } قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة } أي ائتوا بها مستقيمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها؛ وهذا كما أمر الله تعالى به بني إسرائيل أمر به هذه الأمة؛ و{ الصلاة } هنا تشمل الفريضة، والنافلة..

قوله تعالى: { وآتوا الزكاة } أي أعطوا الزكاة؛ و "آت" التي بمعنى "أعطِ" تنصب مفعولين؛ المفعول الأول هنا الزكاة؛ والمفعول الثاني محذوف؛ والتقدير: أهلَها؛ و{ الزكاة } هي المال المدفوع امتثالاً لأمر الله إلى أهله من أموال مخصوصة معروفة؛ وسمي بذل المال زكاة؛ لأنه يزكي النفس، ويطهرها، كما قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103] ..

قوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين } أي صلوا مع المصلين؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لا يُتعبد لله بركوع مجرد

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن الصلاة واجبة على الأمم السابقة، وأن فيها ركوعاً كما أن في الصلاة التي في شريعتنا ركوعاً؛ وقد دلّ على ذلك أيضاً قول الله تعالى لمريم: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43] ؛ فعلى الأمم السابقة صلاة فيها ركوع، وسجود..

.2 ومنها: أن الأمم السابقة عليهم زكاة؛ لأنه لابد من الامتحان بالزكاة؛ فإن من الناس من يكون بخيلاً . بذل الدرهم عليه أشد من شيء كثير .؛ فيُمتحَن العباد بإيتاء الزكاة، وبذلِ شيء من أموالهم حتى يُعلم بذلك حقيقة إيمانهم؛ ولهذا سميت الزكاة صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها..



.3 ومنها: الإجمال في موضع، وتبيينه في موضع آخر؛ لقوله تعالى: ( وآتوا الزكاة) ولم يبين مقدار الواجب، ولا من يدفع إليه، ولا الأموال التي فيها الزكاة؛ لكن هذه الأشياء مبينة في موضع آخر؛ إذ لا يتم الامتثال إلا ببيانها..

.4 ومنها: جواز التعبير عن الكل بالبعض إذا كان هذا البعض من مباني الكل التي لا يتم إلا بها؛ لقوله تعالى: ( واركعوا مع الراكعين)

.5 ومنها: وجوب صلاة الجماعة؛ لقوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين }؛ هكذا استدل بها بعض العلماء؛ ولكن في هذا الاستدلال شيء؛ لأنه لا يلزم من المعية المصاحبة في الفعل؛ ولهذا قيل لمريم: {اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} : والنساء ليس عليهن جماعة؛ إذاً لا نسلم أن هذه الآية تدل على وجوب صلاة الجماعة؛ ولكن . الحمد لله . وجوب صلاة الجماعة ثابت بأدلة أخرى ظاهرة من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم..

القـرآن

)أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44)

التفسير:

.{ 44 } قوله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر... }: الاستفهام هنا للإنكار؛ والمراد إنكار أمر الناس بالبر مع نسيان النفس؛ إذ النفس أولى أن يبدأ بها؛ و "البر" هو الخير؛ قال أهل التفسير: إن الواحد منهم يأمر أقاربه باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنه حق؛ لكن تمنعه رئاسته، وجاهه أن يؤمن به؛ ومن أمثلة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد غلاماً من اليهود كان مريضاً، فحضر أجله والنبي صلى الله عليه وسلم عنده؛ فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرشد، فنظر إلى أبيه كأنه يستشيره، فقال له أبوه: "أطع أبا القاسم" . وأبوه يهودي .، فتشهد الغلام شهادة الحق، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"(1) أي بدعوتي؛ إذاً هؤلاء اليهود من أحبارهم من يأمر الناس بالبر . وهو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكنه ينسى نفسه، ولا يؤمن؛ فقال الله تعالى: { وأنتم تتلون الكتاب } أي تقرؤون التوراة؛ والجملة هنا حالية . أي والحال أنكم تتلون الكتاب .؛ فلم تأمروا بالبر إلا عن علم؛ ولكن مع ذلك { تنسون أنفسكم } أي تتركونها، فلا تأمرونها بالبر..

قوله تعالى: { أفلا تعقلون }: الاستفهام هنا للتوبيخ . يعني أفلا يكون لكم عقول تدركون بها خطأكم، وضلالكم .؟! و "العقل" هنا عقل الرشد، وليس عقل الإدراك الذي يناط به التكليف؛ لأن العقل نوعان: عقل هو مناط التكليف . وهو إدراك الأشياء، وفهمها .؛ وهو الذي يتكلم عليه الفقهاء في العبادات، والمعاملات، وغيرها؛ وعقل الرشد . وهو أن يحسن الإنسان التصرف .؛ وسمي إحسان التصرف عقلاً؛ لأن الإنسان عَقَل تصرفه فيما ينفعه..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: توبيخ هؤلاء الذين يأمرون بالبر، وينسون أنفسهم؛ لأن ذلك منافٍ للعقل؛ وقد ورد الوعيد الشديد على من كان هذا دأبه؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتابه" . و"الأقتاب" هي الأمعاء . "فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه"(2) ؛ فهو من أشد الناس عذاباً . والعياذ بالله ...

فإن قال قائل: بناءً على أنه مخالف للعقل، وبناءً على شدة عقوبته أنقول لمن لا يفعل ما أَمَر به، ومن لا يترك ما نهى عنه: "لا تأمر، ولا تنهَ"؟

فالجواب: نقول: لا، بل مُرْ، وافعل ما تأمر به؛ لأنه لو ترك الأمر مع تركه فِعلَه ارتكب جنايتين: الأولى: ترك الأمر بالمعروف؛ والثانية: عدم قيامه بما أمر به؛ وكذلك لو أنه ارتكب ما ينهى عنه، ولم يَنْهَ عنه فقد ارتكب مفسدتين: الأولى: ترك النهي عن المنكر؛ والثانية: ارتكابه للمنكر..

ثم نقول: أينا الذي لم يسلم من المنكر! لو قلنا: لا ينهى عن المنكر إلا من لم يأت منكراً لم يَنهَ أحد عن منكر؛ ولو قلنا: لا يأمر أحد بمعروف إلا من أتى المعروف لم يأمر أحد بمعروف؛ ولهذا نقول: مُرْ بالمعروف، وجاهد نفسك على فعله، وانْهَ عن المنكر، وجاهد نفسك على تركه..

.2 ومن فوائد الآية: توبيخ العالم المخالف لما يأمر به، أو لما ينهى عنه؛ وأن العالم إذا خالف فهو أسوأ حالاً من الجاهل؛ لقوله تعالى: { وأنتم تتلون الكتاب }؛ وهذا أمر فُطر الناس عليه . أن العالم إذا خالف صار أشد لوماً من الجاهل .؛ حتى العامة تجدهم إذا فعل العالم منكراً قالوا: كيف تفعل هذا وأنت رجل عالم؟! أو إذا ترك واجباً قالوا: كيف تترك هذا وأنت عالم؟!.

.3 ومن فوائد الآية: توبيخ بني إسرائيل، وأنهم أمة جهلة حمقى ذوو غيٍّ؛ لقوله تعالى: { أفلا تعقلون }..

.4 ومنها: أن من أمر بمعروف، ولم يفعله؛ أو نهى عن منكر وفعله من هذه الأمة، ففيه شبه باليهود؛ لأن هذا دأبهم . والعياذ بالله ...

القـرآن

)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45)

التفسير:

.{ 45 } قوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة } أي استعينوا على أموركم بالصبر، والصلاة؛ و "الاستعانة" هي طلب العون؛ و "الاستعانة بالصبر" أن يصبر الإنسان على ما أصابه من البلاء، أو حُمِّل إياه من الشريعة؛ و{ الصلاة } هي العبادة المعروفة؛ وتعم الفرض، والنفل..

قوله تعالى: { وإنها }: قيل: إن الضمير يعود على { الصلاة }؛ لأنها أقرب مذكور؛ والقاعدة في اللغة العربية أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ما لم يمنع منه مانع؛ وقيل إن الضمير يعود على الاستعانة المفهومة من قوله تعالى: { واستعينوا }؛ لأن الفعل { استعينوا } يدل على زمن، ومصدر؛ فيجوز أن يعود الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، كما في قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8] ، أي العدل المفهوم من قوله تعالى: { اعدلوا } أقرب للتقوى؛ لكن المعنى الأول أوضح..

قوله تعالى: { لكبيرة } أي لشاقة { إلا على الخاشعين } أي الذليلين لأمر الله..

الفوائد:

.1من فوائد الآية: إرشاد الله - تبارك وتعالى - عباده إلى الاستعانة بهذين الأمرين: الصبر، والصلاة..

.2 ومنها: جواز الاستعانة بغير الله؛ لكن فيما يثبت أن به العون؛ فمثلاً إذا استعنت إنساناً يحمل معك المتاع إلى البيت كان جائزاً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم "وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة(1)" ..

أما الاستعانة بما لا عون فيه فهي سفه في العقل، وضلال في الدين، وقد تكون شركاً: كأن يستعين بميت، أو بغائب لا يستطيع أن يعينه لبعده عنه، وعدم تمكنه من الوصول إليه..

.3 ومن فوائد الآية: فضيلة الصبر، وأن به العون على مكابدة الأمور؛ قال أهل العلم: والصبر ثلاثة أنواع؛ وأخذوا هذا التقسيم من الاستقراء؛ الأول: الصبر على طاعة الله؛ والثاني: الصبر عن معصية الله؛ والثالث: الصبر على أقدار الله ؛ فالصبر على الطاعة هو أشقها، وأفضلها؛ لأن الصبر على الطاعة يتضمن فعلاً وكفاً اختيارياً: فعل الطاعة؛ وكفّ النفس عن التهاون بها، وعدم إقامته؛ فهو إيجادي إيجابي؛ والصبر عن المعصية ليس فيه إلا كف فقط؛ لكنه أحياناً يكون شديداً على النفس؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشاب الذي دعته امرأة ذات منصب، وجمال، فقال: "إني أخاف الله"(2) في رتبة الإمام العادل من حيث إن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله . وإن كان الإمام العادل أفضل .؛ لأن قوة الداعي في الشباب، وكون المرأة ذات منصب وجمال، وانتفاء المانع فيما إذا كان خالياً بها يوجب الوقوع في المحذور؛ لكن قال: "إني أخاف الله"؛ ربما يكون هذا الصبر أشق من كثير من الطاعات؛ لكن نحن لا نتكلم عن العوارض التي تعرض لبعض الناس؛ إنما نتكلم عن الشيء من حيث هو؛ فالصبر على الطاعة أفضل من الصبر عن المعصية؛ والصبر عن المعصية أفضل من الصبر على أقدار الله؛ لأنه لا اختيار للإنسان في دفع أقدار الله؛ لكن مع ذلك قد يجد الإنسان فيه مشقة عظيمة؛ ولكننا نتكلم ليس عن صبر معين في شخص معين؛ قد يكون بعض الناس يفقد حبيبه، أو ابنه، أو زوجته، أو ما أشبه ذلك، ويكون هذا أشق عليه من كثير من الطاعات من حيث الانفعال النفسي؛ والصبر على أقدار الله ليس من المكلف فيه عمل؛ لأن ما وقع لابد أن يقع . صبرت، أم لم تصبر .: هل إذا جزعت، وندمت، واشتد حزنك يرتفع المقدور؟!.

الجواب: لا؛ إذاً كما قال بعض السلف: إما أن تصبر صبر الكرام؛ وإما أن تسلو سُلوّ البهائم..

.4 ومن فوائد الآية: الحث على الصبر بأن يحبس الإنسان نفسه، ويُحمِّلها المشقة حتى يحصل المطلوب؛ وهذا مجرب . أن الإنسان إذا صبر أدرك مناله؛ وإذا ملّ كسل، وفاته خير كثير .؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز"(3) ؛ وكثير من الناس يرى أن بداءته بهذا العمل مفيدة له، فيبدأ، ثم لا يحصل له مقصوده بسرعة، فيعجز، ويكِلّ، ويترك؛ إذاً ضاع عليه وقته الأول، وربما يكون زمناً كثيراً؛ ولا يأمن أنه إذا عدل عن الأول، ثم شرع في ثانٍ أن يصيبه مثل ما أصابه أولاً، ويتركه؛ ثم تمضي عليه حياته بلا فائدة؛ لكن إذا صبر مع كونه يعرف أنه ليس بينه وبين مراده إلا امتداد الأيام فقط، وليس هناك موجب لقطعه؛ فليصبر: لنفرض أن إنساناً من طلبة العلم همّ أن يحفظ: "بلوغ المرام"، وشرع فيه، واستمر حتى حفظ نصفه؛ لكن لحقه الملل، فعجز، وترك: فالمدة التي مضت خسارة عليه إلا ما يبقى في ذاكرته مما حفظ فقط؛ لكن لو استمر، وأكمل حصل المقصود؛ وعلى هذا فقس..

.5 ومن فوائد الآية: فضيلة الصلاة، حيث إنها مما يستعان بها على الأمور، وشؤون الحياة؛ لقوله تعالى: {والصلاة }؛ ونحن نعلم علم اليقين أن هذا خبر صدق لا مرية فيه؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر صلى(1) ؛ ويؤيد ذلك اشتغاله لله فـي العريش يوم بدر بالصلاة، ومناشدة ربه بالنصر(2).

فإن قال قائل: كيف تكون الصلاة عوناً للإنسان؟

فالجواب: تكون عوناً إذا أتى بها على وجه كامل . وهي التي يكون فيها حضور القلب، والقيام بما يجب فيها أما صلاة غالب الناس اليوم فهي صلاة جوارح لا صلاة قلب؛ ولهذا تجد الإنسان من حين أن يكبِّر ينفتح عليه أبواب واسعة عظيمة من الهواجيس التي لا فائدة منها؛ ولذلك من حين أن يسلِّم تنجلي عنه، وتذهب؛ لكن الصلاة الحقيقية التي يشعر الإنسان فيها أنه قائم بين يدي الله، وأنها روضة فيها من كل ثمرات العبادة لا بد أن يَسلوَ بها عن كل همّ؛ لأنه اتصل بالله عزّ وجلّ الذي هو محبوبه، وأحب شيء إليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "جعلت قرة عيني في الصلاة"(3) ؛ أما الإنسان الذي يصلي ليتسلى بها، لكن قلبه مشغول بغيرها فهذا لا تكون الصلاة عوناً له؛ لأنها صلاة ناقصة؛ فيفوت من آثارها بقدر ما نقص فيها، كما قال الله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] ؛ وكثير من الناس يدخل في الصلاة، ويخرج منها لا يجد أن قلبه تغير من حيث الفحشاء والمنكر . هو على ما هو عليه .؛ لا لانَ قلبه لذكر، ولا تحول إلى محبة العبادة..

.6 ومن فوائد الآية: أنه إذا طالت أحزانك فعليك بالصبر، والصلاة..

.7 ومنها: أن الأعمال الصالحة شاقة على غير الخاشعين . ولا سيما الصلاة ...

.8 ومنها: أن تحقيق العبادة لله سبحانه وتعالى بالخشوع له مما يسهل العبادة على العبد؛ فكل من كان لله أخشع كان لله أطوع؛ لأن الخشوع خشوع القلب؛ والإخبات إلى الله تعالى، والإنابة إليه تدعو إلى طاعته..

القـرآن

)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:46)

التفسير:

.{ 46 } قوله تعالى: { الذين يظنون } أي يتيقنون؛ و "الظن" يستعمل في اللغة العربية بمعنى اليقين، وله أمثلة كثيرة؛ منها قول الله . تبارك وتعالى .: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة: 118] ، وقوله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً} [الكهف: 53] ..

قوله تعالى: { أنهم ملاقو ربهم } أي أنهم سيلاقون الله عزّ وجلّ؛ وذلك يوم القيامة..

قوله تعالى: {وأنهم إليه راجعون} أي في جميع أمورهم، كما قال تعالى: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123] ، وقال تعالى: {وإلى الله ترجع الأمور}(البقرة: 210)

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: إثبات ملاقاة الله عزّ وجلّ؛ لأن الله مدح الذين يتيقنون بهذا اللقاء..

.2 ومنها: إثبات رؤية الله عزّ وجلّ، كما ذهب إليه كثير من العلماء؛ لأن اللقاء لا يكون إلا مع المقابلة، وهذا يعني ثبوت الرؤية؛ فإن استقام الاستدلال بهذه الآية على رؤية الله فهذا مطلوب؛ وإن لم يستقم الاستدلال فَثَمّ أدلة أخرى كثيرة تدل على ثبوت رؤية الله عزّ وجلّ يوم القيامة..

.3 ومنها: أن هؤلاء المؤمنين يوقنون أنهم راجعون إلى الله في جميع أمورهم؛ وهذا يستلزم أموراً:.

أولاً: الخوف من الله؛ لأنك ما دمت تعلم أنك راجع إلى الله، فسوف تخاف منه..

ثانياً: مراقبة الله عزّ وجلّ . المراقبة في الجوارح .؛ والخوف في القلب؛ يعني أنهم إذا علموا أنهم سيرجعون إلى الله، فسوف يخشونه في السرّ، والعلانية..

ثالثاً: الحياء منه؛ فلا يفقدك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك..

القـرآن

)يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:47)

التفسير:

.{ 47 } قوله تعالى: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } أي بألسنتكم، وقلوبكم؛ والمراد بـ "النعمة" . وإن كانت مفردة . جميع النعم، كما قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم: 34)

قوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }: وهي نعم كثيرة؛ منها ما ذكَّرَهم بها نبيهم موسى . عليه الصلاة والسلام .، حيث قال: {اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} [المائدة: 20] : وهي نعم عظيمة دينية، ودنيوية؛ فالدينية في قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء} ؛ والدنيوية في قوله: {وجعلكم ملوكاً} ؛ و {آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} : من النعمتين..

قوله تعالى: { وفضلتكم على العالمين } أي جعلتكم أفضل من غيركم؛ والمراد عالَم زمانهم؛ وأصل "عالمين" كل من سوى الله، كما قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة] ؛ فليس ثم إلا رب، ومربوب؛ العالَم: مربوب؛ والله: رب؛ فالعالَم من سوى الله؛ وسمي عالماً؛ لأنه عَلَم على خالقه؛ فإن العالم من آيات الله سبحانه وتعالى الدالة على كمال علمه، وقدرته، وسلطانه، وحكمته، وغير ذلك من معاني ربوبيته..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يذكروا نعمة الله عليهم، فيقوموا بشكرها؛ ومن شكرها أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم

.2 ومنها: إظهار أن هذه النعمة لم تأت بكسبهم، ولا بكدِّهم، ولا بإرث عن آبائهم؛ وإنما هي بنعمة الله عليهم؛ لقوله تعالى: ( أنعمت عليكم )

.3 ومنها: أن بني إسرائيل أفضل العالم في زمانهم؛ لقوله تعالى: { وأني فضلتكم على العالمين }؛ لأنهم في ذلك الوقت هم أهل الإيمان؛ ولذلك كُتب لهم النصر على أعدائهم العمالقة، فقيل لهم: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة: 21] ؛ و "الأرض المقدسة" هي فلسطين؛ وإنما كتب الله أرض فلسطين لبني إسرائيل في عهد موسى؛ لأنهم هم عباد الله الصالحون؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] ، وقال موسى لقومه: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده} [الأعراف: 128] ، ثم قال: {والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128] ؛ إذاً المتقون هم الوارثون للأرض؛ لكن بني إسرائيل اليوم لا يستحقون هذه الأرض المقدسة؛ لأنهم ليسوا من عباد الله الصالحين؛ أما في وقت موسى فكانوا أولى بها من أهلها؛ وكانت مكتوبة لهم، وكانوا أحق بها؛ لكن لما جاء الإسلام الذي بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم صار أحق الناس بهذه الأرض المسلمون . لا العرب .؛ ففلسطين ليس العرب بوصفهم عرباً هم أهلها؛ بل إن أهلها المسلمون بوصفهم مسلمين . لا غير وبوصفهم عباداً لله عزّ وجلّ صالحين؛ ولذلك لن ينجح العرب فيما أعتقد . والعلم عند الله . في استرداد أرض فلسطين باسم العروبة أبداً؛ ولا يمكن أن يستردوها إلا باسم الإسلام على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، كما قال تعالى: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128] ؛ ومهما حاول العرب، ومهما ملؤوا الدنيا من الأقوال والاحتجاجات، فإنهم لن يفلحوا أبداً حتى ينادوا بإخراج اليهود منها باسم دين الإسلام . بعد أن يطبقوه في أنفسهم .؛ فإن هم فعلوا ذلك فسوف يتحقق لهم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ، وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ، أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ"(1) ؛ فالشجر، والحجر يدل المسلمين على اليهود يقول: "يا عبد الله" . باسم العبودية لله .، ويقول: "يا مسلم" . باسم الإسلام .؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "يقاتل المسلمون اليهود" ، ولم يقل: "العرب"..

ولهذا أقول: إننا لن نقضي على اليهود باسم العروبة أبداً؛ لن نقضي عليهم إلا باسم الإسلام؛ ومن شاء فليقرأ قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] : فجعل الميراث لعباده الصالحين؛ وما عُلِّق بوصف فإنه يوجد بوجوده، وينتفي بانتفائه؛ فإذا كنا عبادَ الله الصالحين ورثناها بكل يسر وسهولة، وبدون هذه المشقات، والمتاعب، والمصاعب، والكلامِ الطويل العريض الذي لا ينتهي أبداً!! نستحلها بنصر الله عزّ وجلّ، وبكتابة الله لنا ذلك . وما أيسره على الله .! ونحن نعلم أن المسلمين ما ملكوا فلسطين في عهد الإسلام الزاهر إلا بإسلامهم؛ ولا استولوا على المدائن عاصمة الفرس، ولا على عاصمة الروم، ولا على عاصمة القبط إلا بالإسلام؛ ولذلك ليت شبابنا يعون وعياً صحيحاً بأنه لا يمكن الانتصار المطلق إلا بالإسلام الحقيقي . لا إسلام الهوية بالبطاقة الشخصية .! ولعل بعضنا سمع قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما كسرت الفُرس الجسور على نهر دجلة، وأغرقت السفن لئلا يعبر المسلمون إليهم؛ فسخَّر الله لهم البحر؛ فصاروا يمشون على ظهر الماء بخيلهم، ورجلهم، وإبلهم؛ يمشون على الماء كما يمشون على الأرض لا يغطي الماء خفاف الإبل؛ وإذا تعب فرس أحدهم قيض الله له صخرة تربو حتى يستريح عليها؛ وهذا من آيات الله . ولا شك .؛ والله تعالى على كل شيء قدير؛ فالذي فلق البحر لموسى . عليه الصلاة والسلام . ولقومه، وصار يبساً في لحظة، ومشوا عليه آمنين؛ قادر على ما هو أعظم من ذلك..

فالحاصل أن بني إسرائيل لا شك أفضل العالمين حينما كانوا عباد الله الصالحين؛ أما حين ضربت عليهم الذلة، واللعنة، والصَّغار فإنهم ليسوا أفضل العالمين؛ بل منهم القردة، والخنازير؛ وهم أذل عباد الله لقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله} [آل عمران: 112] ، وقوله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} [الحشر: 14] ..

ويدل لذلك . أي أن المراد بقوله تعالى .: { فضلتكم على العالمين } أي في وقتكم، أو فيمن سبقكم: قوله تعالى في هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم} [آل عمران: 110] ؛ فقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} صريح في تفضيلهم على الناس؛ ولهذا قال تعالى: { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم }؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أننا نوفي سبعين أمة نحن أكرمها، وأفضلها عند الله عزّ وجل(2)ّ . وهذا أمر لا شك فيه .، ولله الحمد..

.4 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى إذا فضل أحداً بعلم، أو مال، أو جاه فإن ذلك من النعم العظيمة؛ لقوله تعالى: { وأني فضلتكم على العالمين }: خصها بالذكر لأهميتها..

.5 ومنها: تفاضل الناس، وأن الناس درجات؛ وهذا أمر معلوم . حتى الرسل يفضل بعضهم بعضاً .، كما قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] ، وقال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 55] ..



القـرآن

)وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:48)

التفسير:

.{ 48 } قوله تعالى: { واتقوا يوماً } أي اتخذوا وقاية من هذا اليوم بالاستعداد له بطاعة الله..

قوله تعالى: { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } أي لا تغني؛ و{ نفس } نكرة في سياق النفي، فيكون عاماً؛ فلا تجزي، ولا تغني نفس عن نفس أبداً . حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني شيئاً عن أبيه، ولا أمه .؛ وقد نادى صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين؛ فجعل ينادي كل واحد باسمه، ويقول: "يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً؛ يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك شيئاً..."(1) . مع أن العادة أن الإنسان يدافع عن حريمه، وعن نسائه .؛ لكن في يوم القيامة ليست هناك مدافعة؛ بل قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101] : تزول الأنساب، وينسى الإنسان كل شيء، ولا يسأل أين ولدي، ولا أين ذهب أبي، ولا أين ذهب أخي، ولا أين ذهبت أمي: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37] ..

قوله تعالى: { ولا يقبل منها شفاعة } أي لا يقبل من نفس عن نفس شفاعة؛ و "الشفاعة" هي التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة(2) : من جلب المنفعة؛ وشفاعته فيمن استحق النار ألا يدخلها(3) ، وفيمن دخلها أن يخرج منها(4) : من دفع المضرة؛ فيومَ القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل من نفس عن نفس شفاعة أبداً..

قوله تعالى: { ولا يؤخذ منها } أي من النفس؛ { عدل } أي بديل يعدل به عن الجزاء؛ و "العدل" بمعنى المعادِل المكافئ؛ ففي الدنيا قد تجب العقوبة على شخص، ويفتدي نفسه ببدل؛ لكن في الآخرة لا يمكن..

قوله تعالى: { ولا هم ينصرون } أي لا أحد ينصرهم . أي يمنعهم من عذاب الله .؛ لأن الذي يخفف العذاب واحد من هذه الأمور الثلاثة: إما شفاعة؛ وإما معادلة؛ وإما نصر..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: التحذير من يوم القيامة؛ وهذا يقع في القرآن كثيراً؛ لقوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله }، وقوله تعالى: {يوماً يجعل الولدان شيباً} [المزمل: 17] ..

.2 ومنها: أنه في يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً . بخلاف الدنيا .: فإنه قد يجزي أحد عن أحد؛ لكن يوم القيامة: لا..

.3 ومنها: أن الشفاعة لا تنفع يوم القيامة؛ والمراد لا تنفع من لا يستحق أن يشفع له؛ وأما من يستحق فقد دلت النصوص المتواترة على ثبوت الشفاعة . وهي معروفة في مظانها من كتب الحديث، والعقائد ...

.4 ومنها: أن يوم القيامة ليس فيه فداء؛ لا يمكن أن يقدم الإنسان فداءً يعدل به؛ لقوله تعالى: ( ولا عدل)

.5 ومنها: أنه لا أحد يُنصر يوم القيامة إذا كان من العصاة؛ ولهذا قال الله تعالى: {ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات: 25، 26] ؛ فلا أحد ينصر أحداً يوم القيامة . لا الآلهة، ولا الأسياد، ولا الأشراف، ولا غيرهم ...

)وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البقرة:49)

التفسير:

.{ 49 } قوله تعالى: { وإذ نجيناكم من آل فرعون } أي واذكروا إذ أنقذناكم من آل فرعون؛ والمراد بـ{ آل فرعون } جماعة فرعون، ويدخل فيهم فرعون بالأولوية؛ لأنه هو المسلِّط لهم على بني إسرائيل..

وكان بنو إسرائيل مستضعفين في مصر، وسُلِّط عليهم الفراعنة حتى كانوا كما قال الله تعالى: { يسومونكم سوء العذاب }؛ ومعنى "السوم" في الأصل: الرعي؛ ومنه السائمة . أي الراعية . والمعنى: أنهم لا يرعونكم إلا بهذا البلاء العظيم و{ سوء العذاب } أي سيئه وقبيحه..

قوله تعالى: { يذبحون أبنائكم }: الفعل مضَعَّف . أي مشدد . للمبالغة؛ لكثرة من يذْبحون، وعظم ذبحهم؛ هذا وقد جاء في سورة الأعراف: { يقتلون } وهو بمعنى { يذبحون }؛ ويحتمل أن يكون مغايراً له؛ فيُحمل على أنهم يقتلون بعضاً بغير الذبح، ويذبحون بعضاً؛ وعلى كلِّ فالجملة بيان لقوله تعالى: { يسومونكم سوء العذاب}؛ هذا وجاء في سورة إبراهيم: { يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم } بالواو عطفاً على قوله تعالى: { يسومونكم }؛ والعطف يقتضي المغايرة؛ فيكون المعنى أنهم جمعوا بين سوم العذاب . وهو التنكيل، والتعذيب . وبين الذبح..

قوله تعالى: { ويستحيون نساءكم } أي يستبقون نساءكم؛ لأنه إذا ذهب الرجال، وبقيت النساء ذلّ الشعب، وانكسرت شوكته؛ لأن النساء ليس عندهن من يدافع، ويبقين خدماً لآل فرعون؛ وهذا . والعياذ بالله. من أعظم ما يكون من الإذلال؛ ومع هذا أنجاهم الله تعالى من آل فرعون، وأورثهم ديار آل فرعون، كما قال تعالى: {فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل} [الشعراء: 57. 59] وقال تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوماً آخرين} [الدخان: 25 . 28] . وهم بنو إسرائيل ...

قوله تعالى: { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } أي وفي إنجائكم من آل فرعون ابتلاء من الله عزّ وجل عظيم. أي اختبار عظيم .؛ ليعلم من يشكر منكم، ومن لا يشكر..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: تذكير الله تعالى لبني إسرائيل نعمته عليهم بإنجائهم من آل فرعون..

.2 ومنها: أن الإنجاء من العدو نعمة كبيرة ينعم الله بها على العبد؛ ولهذا ذكرهم الله بها في قوله تعالى:

( نجيناكم )

.3 ومنها: بيان حنق آل فرعون على بني إسرائيل؛ وقيل: إن هذا التقتيل كان بعد بعثة موسى؛ لأن فرعون لما جاءه موسى بالبينات قال: {اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم} [غافر: 25] ، وقال في سورة الأعراف: {سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} (الأعراف: 127)

وذكر بعض المؤرخين أن هذا التقتيل كان قبل بعثة موسى، أو قبل ولادته؛ لأن الكهنة ذكروا لفرعون أنه سيولد لبني إسرائيل ولد يكون هلاكك على يده؛ فجعل يقتلهم؛ وعضدوا هذا القول بما أوحى الله تعالى إلى أم موسى: {أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني} [القصص: 7] ؛ لكن هذه الآية ليست صريحة فيما ذكروا؛ لأنها قد تخاف عليه إما من هذا الفعل العام الذي يقتَّل به الأبناء، أو بسبب آخر، وآية الأعراف: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} [الأعراف: 129] لا دليل فيها صراحة على أن التقتيل كان قبل ولادة موسى عليه السلام؛ لأن الإيذاء لا يدل على القتل، ولأن فرعون لم يقل: سنقتل أبناءهم، ونستحيي نساءهم إلا بعد أن أُرسل إليه موسى عليه السلام، ولهذا قال موسى عليه السلام لقومه بعد ذلك: {استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده} (الأعراف: 128)

.4 ومنها: أن الرب سبحانه وتعالى له مطلق التصرف في عباده بما يسوؤهم، أو يسرهم؛ لقوله تعالى:

{ من ربكم } يعني هذا العذاب الذي سامكم إياه آل فرعون، والإنقاذ منه؛ كله من الله عزّ وجلّ؛ فهو الذي بيده الخير، ومنه كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء..

القـرآن

)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:50)

التفسير:

.{ 50 } قوله تعالى: { وإذ }: متعلقة بمحذوف؛ والتقدير: واذكروا . يعني بني إسرائيل . إذ؛ { فرقنا بكم البحر } أي فلقناه لكم، وفصلنا بعضه عن بعض حتى عبرتم إلى الشاطئ..

قوله تعالى { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون }: وذلك أن موسى، وقومه لما تكاملوا خارجين من هذا الذي فلقه الله عزّ وجلّ من البحر دخل فرعون، وقومه؛ فلما تكاملوا داخلين أمر الله تعالى البحر، فانطبق عليهم، فغرقوا جميعاً..

قوله تعالى: { وأنتم تنظرون }: الجملة هذه حالية . أي أن هذا وقع والحال أنكم تنظرون؛ ولهذا قال الله . تبارك وتعالى . لفرعون: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} [يونس: 92] ينظرون إليك أنك قد هلكت..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: مناسبة قوله تعالى: { وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون } لما قبله ظاهرة جداً، وذلك أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى تسلُّطَ آل فرعون عليهم ذكر مآل هؤلاء المتسلطين؛ وأن الله أغرقهم، وأنجى هؤلاء، وأورثهم أرضهم، كما قال الله تعالى: {وأورثناها بني إسرائيل} (الشعراء: 59).

.2 ومنها: تذكير الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بنعمه؛ وقد تضمن هذا التذكير حصول المطلوب، وزوال المكروه؛ حصول المطلوب: بنجاتهم؛ وزوال المكروه: بإهلاك عدوهم..

.3 ومنها: بيان قدرة الله تعالى على كل شيء؛ فهذا الماء السيال أمره الله . تبارك وتعالى . أن يتمايز، وينفصل بعضه عن بعض؛ فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم . أي كالجبل العظيم؛ وثم وجه آخر من هذه القدرة: أن هذه الطرق صارت يبساً في الحال مع أنه قد مضى عليها سنون كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ والماء من فوقها، ولكنها صارت في لحظة واحدة يبساً، كما قال تعالى: {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى} [طه: 77] ؛ وقد ذكر بعض المفسرين أنه كانت في هذه الفرق فتحات ينظر بعضهم إلى بعض . حتى لا ينْزعجوا، ويقولوا: أين أصحابنا؟! وهذا ليس ببعيد على الله سبحانه وتعالى..

وقد وقع مثل ذلك لهذه الأمة؛ فقد ذكر ابن كثير . رحمه الله في "البداية والنهاية" أنه ما من آية سبقت لرسول إلا لرسولنا صلى الله عليه وسلم مثلها: إما له صلى الله عليه وسلم هو بنفسه، أو لأمته؛ ومعلوم أن الكرامات التي تقع لمتبع الرسول هي في الحقيقة آيات له؛ لأنها تصديق لطريق هذا الولي المتبع للرسول؛ فتكون آية على صدق الرسول، وصحة الشريعة؛ ولهذا من القواعد المعروفة أن كل كرامة لولي فهي آية لذلك النبي المتبع؛ وذكر ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" على ذلك أمثلة؛ ومنها أن من الصحابة من مشَوا على الماء؛ وهو أبلغ من فلق البحر لبني إسرائيل، ومشيهم على الأرض اليابسة..

.4من فوائد الآية: أن الآل يدخل فيهم من ينتسبون إليهم؛ فقد قال تعالى: { وأغرقنا آل فرعون }؛ وفرعون قد غرق بلا شك، كما قال تعالى: {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس: 90] الآيتين..

.5 ومنها: أن إغراق عدو الإنسان وهو ينظر من نعمة الله عليه؛ فإغراقه، أو إهلاكه نعمة؛ وكون عدوه ينظر إليه نعمة أخرى؛ لأنه يشفي صدره؛ وإهلاك العدو بيد عدوه أشفى، كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم} [التوبة: 14، 15] ؛ نعم، عند عجز الناس لا يبقى إلا فعل الله عزّ وجلّ؛ ولهذا في غزوة الأحزاب نُصروا بالريح التي أرسلها الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} [الأحزاب: 9] ..

.6 ومن فوائد الآية: عتوّ بني إسرائيل؛ فإن بني إسرائيل مع هذه النعم العظيمة كانوا من أشد الناس طغياناً، وتكذيباً للرسل، واستكباراً عن عبادة الله عزّ وجلّ..

.7 ومنها: أن الله تعالى سخِر من فرعون، حيث أهلكه بجنس ما كان يفتخر به، وأورث أرضه موسى . عليه الصلاة والسلام؛ وقد كان فرعون يقول: {يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف: 51 . 52] ؛ فأغرقه الله تعالى بالماء الذي كان يفتخر بجنسه، وأورث موسى أرضه الذي وصفه بأنه مهين، ولا يكاد يبين..

القرآن

)وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) (البقرة:51)) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:52)

التفسير:

.{ 51 } قوله تعالى: { وإذ واعدنا موسى } أي واذكروا إذ واعدنا موسى؛ { أربعين ليلة }: وعده الله تعالى لميقاته ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فصارت أربعين ليلة؛ وفي قوله تعالى: { واعدنا } قراءتان سبعيتان: بألف بعد الواو؛ وبدونها..

قوله تعالى: { ثم اتخذتم العجل } أي صيرتم العجل؛ و{ العجل } مفعول أول؛ والثاني: محذوف؛ والتقدير: اتخذتم العجل إلهاً؛ و "العجل" تمثال من ذهب صنعه السامري، وقال لبني إسرائيل: هذا إلهكم، وإله موسى فنسي..

قوله تعالى: { من بعده } أي من بعد موسى حين ذهب لميقات الله..

قوله تعالى: { وأنتم ظالمون }: هذه الجملة حال من التاء في قوله تعالى: { اتخذتم }؛ والفائدة من ذكر هذه الحال زيادة التوبيخ، وأنهم غير معذورين..

.{ 52 } قوله تعالى: { ثم عفونا عنكم } أي تجاوزنا عن عقوبتكم؛ { من بعد ذلك }: أتى بها؛ لأن العفو إنما حصل حين تابوا إلى الله، وقتلوا أنفسهم..

قوله تعالى: { لعلكم تشكرون }، "لعل" هنا للتعليل؛ و{ تشكرون } أي تشكرون الله على نعمه؛ والشكر يكون بالقلب: وهو إيمان القلب بأن النعمة من الله عزّ وجلّ، وأن له المنة في ذلك؛ ويكون باللسان: وهو التحدث بنعمة الله اعترافاً . لا افتخاراً؛ ويكون بالجوارح: وهو القيام بطاعة المنعِم؛ وفي ذلك يقول الشاعر:.

أفادتكم النعماء مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجبا

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: حكمة الله . تبارك وتعالى . في تقديره، حيث واعد موسى أربعين ليلة لينَزِّل عليه فيها التوراة . مع أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يَنزِّلها في ليلة مرة واحدة؛ ولكن لحكمة . لا نعلم ما هي . وعده الله تعالى ثلاثين ليلة أولاً، ثم أتمها بعشر؛ فتم ميقات ربه أربعين ليلة..

.2 ومنها: بيان جهل بني إسرائيل الجهل التام؛ وجه ذلك أن هذا الحلي الذي جعلوه إلهاً هم الذين صنعوه بأنفسهم؛ فقد استعاروا حلياً من آل فرعون، وصنعوه على صورة الثور عجلاً جسداً . لا روح فيه؛ ثم قال السامري: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} [طه: 88] ؛ وزعموا أن موسى ضلّ، ولم يهتد إلى ربه، وهذا ربه! والعياذ بالله؛ فكيف يكون المصنوع رباً لكم، ولموسى وأنتم الذين صنعتموه! وهذا دليل على جهلهم، وغباوتهم إلى أبعد الحدود؛ وقد قالوا لموسى . عليه الصلاة والسلام . حينما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] قال لهم نبيهم موسى: {إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] ، وصدق عليه الصلاة والسلام..

.3 ومن فوائد الآيتين: أن اتخاذهم العجل كان عن ظلم؛ لقوله تعالى: { وأنتم ظالمون } . وهذا أبلغ، وأشنع في توبيخهم، والإنكار عليهم..

.4 ومنها: سعة حلم الله عزّ وجلّ، وأنه مهما بارز الإنسان ربه بالذنوب فإن حلم الله تعالى قد يشمله، فيوفق للتوبة؛ وهؤلاء وفِّقوا لها..

.5 ومنها: أن العفو موجب للشكر؛ لقوله تعالى: { لعلكم تشكرون }؛ وإذا كان العفو . وهو زوال النقم . موجباً للشكر فحدوث النعم أيضاً موجب للشكر من باب أولى..



القـرآن

)وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة:53)

التفسير:

.{ 53 } قوله تعالى: { وإذ آتينا موسى الكتاب } أي واذكروا إذ أعطينا موسى؛ { الكتاب } أي التوراة..

قوله تعالى: { والفرقان } إما صفة مشبهة، أو مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ لأن المراد بـ{ الفرقان } الفارق؛ والمراد به هنا الفارق بين الحق والباطل؛ وعطفه هنا من باب عطف الصفة على الموصوف؛ والعطف يقتضي المغايرة؛ والمغايرة يكتفى فيها بأدنى شيء؛ قد تكون المغايرة بين ذاتين؛ وقد تكون المغايرة بين صفتين؛ وقد تكون بين ذات وصفة؛ فمثلاً: قوله تعالى: {خلق السماوات والأرض} [الأنعام: 1] : المغايرة بين ذاتين؛ وقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 . 4] : المغايرة بين صفتين؛ وقوله تعالى هنا: { الكتاب والفرقان }: المغايرة بين ذات وصفة؛ فـ{ الكتاب } نفس التوراة؛ و{ الفرقان } صفته؛ فالعطف هنا من باب عطف الصفة على الموصوف..

قوله تعالى: { لعلكم تهتدون }: "لعل" للتعليل؛ أي لعلكم تهتدون بهذا الكتاب الذي هو الفرقان؛ لأن الفرقان هدى يهتدي به المرء من الضلالة؛ و{ تهتدون } أي هداية العلم، والتوفيق؛ فهو نازل للهداية؛ ولكن من الناس من يهتدي، ومنهم من لا يهتدي..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن إنزال الله تعالى الكتب للناس من نعمه، وآلائه؛ بل هو من أكبر النعم؛ لأن الناس لا يمكن أن يستقلوا بمعرفة حق الخالق؛ بل ولا حق المخلوق؛ ولذلك نزلت الكتب تبياناً للناس..

.2 ومنها: أن موسى صلى الله عليه وسلم نبي رسول، لأن الله تعالى آتاه الكتاب..

.3 ومنها: فضيلة التوراة؛ لأنه أُطلق عليها اسم { الكتاب }؛ و "أل" هذه للعهد الذهني؛ فدل هذا على أنها معروفة لدى بني إسرائيل، وأنه إذا أُطلق الكتاب عندهم فهو التوراة؛ أيضاً سماها الله تعالى الفرقان، كما سمى القرآن الفرقان؛ لأن كلا الكتابين أعظم الكتب، وأهداهما؛ لقوله تعالى: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} [القصص: 49] . يعني التوراة، والإنجيل . {أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49] ؛ ودل هذا على أن التوراة مشاركة للقرآن في كونها فرقاناً؛ ولهذا كانت عمدة الأنبياء من بني إسرائيل، كما قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} [المائدة: 44] ..

.4 ومن فوائد الآية: بيان عتوّ بني إسرائيل، وطغيانهم؛ لأنه إذا كانت التوراة التي نزلت عليهم فرقاناً، ثم هم يكفرون هذا الكفر دلّ على زيادة عتوهم، وطغيانهم؛ إذ من نُزِّل عليه كتاب يكون فرقاناً كان يجب عليه بمقتضى ذلك أن يكون مؤمناً مذعناً..

.5 ومنها: أن الله . تبارك وتعالى . يُنزل الكتب، ويجعلها فرقاناً لغاية حميدة حقاً . وهي الهداية؛ لقوله تعالى: ( لعلكم تهتدون )

.6 ومنها: أن من أراد الهداية فليطلبها من الكتب المنزلة من السماء . لا يطلبها من الأساطير، وقصص الرهبان، وقصص الزهاد، والعباد، وجعجعة المتكلمين، والفلاسفة، وما أشبه ذلك؛ بل من الكتب المنَزلة من السماء..

فعلى هذا ما يوجد في كتب الوعظ من القصص عن بعض الزهاد، والعباد، ونحوهم نقول لكاتبيها، وقارئيها: خير لكم أن تبدو للناس كتاب الله عزّ وجلّ، وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم وتبسطوا ذلك، وتشرحوه، وتفسروه بما ينبغي أن يفهم حتى يكون ذلك نافعاً للخلق؛ لأنه لا طريق للهداية إلى الله إلا ما جاء من عند الله عزّ وجلّ..

.7 ومن فوا
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:09 am من طرف ahmadhamad
الاية 56 الي الاية 69

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:55) (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:56)

التفسير:

.{ 55 } قوله تعالى: { وإذ قلتم يا موسى } أي: واذكروا أيضاً يا بني إسرائيل إذ قلتم...؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إنعامه على أول الأمة إنعام على آخرها؛ فصح توجيه الخطاب إلى المتأخرين مع أن هذه النعمة على من سبقهم..

قوله تعالى: { لن نؤمن لك } أي لن ننقاد، ولن نصدق، ولن نعترف لك بما جئت به..

قوله تعالى: { حتى نرى الله جهرة }: { نرى } بمعنى نبصر؛ ولهذا لم تنصب إلا مفعولاً واحداً؛ لأنها رؤية بصرية؛ واختلف العلماء متى كان هذا، على قولين:.

القول الأول: أن موسى صلى الله عليه وسلم اختار من قومه سبعين رجلاً لميقات الله، وذهب بهم؛ ولما صار يكلم الله، ويكلمه الله قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }؛ فعلى هذا القول يكون صعقهم حينما كان موسى خارجاً لميقات الله..

القول الثاني: أنه لما رجع موسى من ميقات الله، وأنزل الله عليه التوراة، وجاء بها قالوا: "ليست من الله؛ { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }"..

والسياق يؤيد الثاني؛ لأنه تعالى قال: { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان }، ثم ذكر قصة العجل، وهذه كانت بعد مجيء موسى بالتوراة، ثم بعد ذلك ذكر: { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }..

وأما قوله تعالى: {فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} [الأعراف: 155] فقد أيد بعضهم القول الأول بهذه الآية؛ ولكن الحقيقة ليس فيه تأييد لهم؛ لأنه تعالى قال: {فلما أخذتهم الرجفة} [الأعراف: 155] . رُجِفَ بهم؛ والأخرى: أخذتهم الصاعقة . صعقوا، وماتوا..

فالظاهر لي أن القول الأول لا يترجح بهذه الآية لاختلاف العقوبتين؛ هذه الآية كانت العقوبة بالصاعقة؛ وتلك كانت بالرجفة . والله أعلم..

قوله تعالى: { فأخذتكم الصاعقة } يعني الموت الذي صعقوا به؛ { وأنتم تنظرون } أي ينظر بعضكم إلى بعض حين تتساقطون؛ والجملة في قوله تعالى: { وأنتم تنظرون } حال من الكاف في قوله تعالى: { فأخذتكم الصاعقة } يعني: والحال أنكم تنظرون..

.{ 56 } قوله تعالى: { ثم بعثناكم بعد موتكم }: أصل "البعث" في اللغة الإخراج؛ ويطلق على الإحياء، كما هذه الآية؛ ويدل على أن المراد به الإحياء هنا قوله تعالى: { من بعد موتكم }؛ وهو موت حقيقي، وليس نوماً، لأن النوم يسمى وفاة؛ ولا يسمى موتاً، كما في قوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} [الأنعام: 60] ، وقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]

وقوله تعالى: { بعثناكم من بعد موتكم }: هذه نعمة كبيرة عليهم أن الله تعالى أخذهم بهذه العقوبة، ثم بعثهم ليرتدعوا؛ ويكون كفارة لهم؛ ولهذا قال تعالى: { لعلكم تشكرون } أي تشكرون الله سبحانه وتعالى؛ و "لعل" هنا للتعليل..

وهذه إحدى الآية الخمس التي في سورة البقرة التي فيها إحياء الله تعالى الموتى؛ والثانية: في قصة صاحب البقرة؛ والثالثة: في الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال الله لهم: {موتوا ثم أحياهم} [البقرة: 243] ؛ والرابعة: في قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه} [البقرة: 259] ؛ والخامسة في قصة إبراهيم: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي...} [البقرة: 260] الآية؛ والله تعالى على كل شيء قدير، ولا ينافي هذا ما ذكر الله في قوله تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [المؤمنون: 15، 16] ؛ لأن هذه القصص الخمس، وغيرها . كإخراج عيسى الموتى من قبورهم . تعتبر أمراً عارضاً يؤتى به لآية من آيات الله سبحانه وتعالى؛ أما البعث العام فإنه لا يكون إلا يوم القيامة؛ ولهذا نقول في شبهة الذين أنكروا البعث من المشركين، ويقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الأنبياء: 38] ، ويقولون: {فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} [الدخان: 36] نقول: إن هؤلاء مموهون؛ فالرسل لم تقل لهم: إنكم تبعثون الآن؛ بل يوم القيامة؛ ولينتظروا، فسيكون هذا بلا ريب..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: تذكير الله تعالى بني إسرائيل بنعمته عليهم، حيث بعثهم من بعد موتهم.

2 . ومنها: سفاهة بني إسرائيل؛ وما أكثر ما يدل على سفاهتهم؛ فهم يؤمنون بموسى، ومع ذلك قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }.

3 . ومنها: أن من سأل ما لا يمكن فهو حري بالعقوبة؛ لقوله تعالى: { فأخذتكم الصاعقة }؛ لأن الفاء تدل على السببية . ولا سيما في مثل حال هؤلاء الذين قالوا هذا عن تشكك؛ وفرْق بين قول موسى عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] ، وبين قول هؤلاء: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }؛ فموسى قال ذلك شوقاً إلى الله عزّ وجلّ، وليتلذذ بالرؤية إليه؛ أما هؤلاء فقالوه تشككاً . يعني: لسنا بمؤمنين إلا إذا رأيناه جهرة؛ ففرق بين الطلبين.

4 . ومن فوائد الآيتين: أن ألم العقوبة، ووقعها إذا كان الإنسان ينظر إليها أشد؛ لقوله تعالى: { وأنتم تنظرون }؛ فإن الإنسان إذا رأى الناس يتساقطون في العقوبة يكون ذلك أشد وقعاً عليه.

5 . ومنها: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث أحياهم بعد الموت؛ لقوله تعالى: ثم بعثناكم من بعد موتكم }.

6 . ومنها: وجوب الشكر على من أنعم الله عليه بنعمة؛ لقوله تعالى: { لعلكم تشكرون }؛ والشكر هو القيام بطاعة المنعم إقراراً بالقلب، واعترافاً باللسان، وعملاً بالأركان؛ فيعترف بقلبه أنها من الله، ولا يقول: إنما أوتيته على علم عندي؛ كذلك أيضاً يتحدث بها بلسانه اعترافاً . لا افتخاراً؛ وكذلك أيضاً يقوم بطاعة الله سبحانه وتعالى بجوارحه؛ وبهذه الأركان الثلاثة يكون الشكر؛ وعليه قول الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجبا 7 . ومن فوائد الآيتين: إثبات الحكمة لله تعالى: لقوله: { لعلكم تشكرون }؛ فإن "لعل" هنا للتعليل المفيد للحكمة..


القـرآن

)وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (البقرة:57)

التفسير:

.{ 57 } قوله تعالى: { وظللنا عليكم الغمام } أي جعلناه ظلاً عليكم؛ وكان ذلك في التيه حين تاهوا؛ وقد بقوا في التيه بين مصر والشام أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ وما كان عندهم ماء، ولا مأوى؛ ولكن الله تعالى رحمهم، فظلل عليه الغمام؛ و{ الغمام } هو السحاب الرقيق الأبيض؛ وقيل: السحاب مطلقاً؛ وقيل: السحاب البارد الذي يكون به الجو بارداً، ويتولد منه رطوبة، فيبرد الجو . وهذا هو الظاهر..

قوله تعالى: { وأنزلنا عليكم المن }: يقولون: { المن } شيء يشبه العسل؛ ينْزل عليهم بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس؛ فإذا قاموا أكلوا منه؛ { والسلوى }: طائر ناعم يسمى "السُّمَانَى"، أو هو شبيه به؛ وهو من أحسن ما يكون من الطيور، وألذه لحماً..

قوله تعالى: { كلوا } الأمر هنا للإباحة؛ يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن، والسلوى؛ { من طيبات ما رزقناكم }: { مِنْ } هنا لبيان الجنس؛ وليست للتبعيض؛ لأنهم أبيح لهم أن يأكلوا جميع الطيبات..

قوله تعالى: { وما ظلمونا } أي ما نقصونا شيئاً؛ لأن الله لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين..

قوله تعالى: { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }: { أنفسهم } مفعول مقدم لـ{ يظلمون }؛ وقُدِّم لإفادة الحصر . أي لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم؛ أما الله . تبارك وتعالى . فإنهم لا يظلمونه؛ لأنه سبحانه وبحمده لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع بطاعتهم..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: نعمة الله تبارك وتعالى بما هيأه لعباده من الظلِّ؛ فإن الظلّ عن الحرّ من نعم الله على العباد؛ ولهذا ذكره الله عزّ وجلّ هنا ممتناً به على بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: { وظللنا عليكم الغمام }، وقوله تعالى: {والله جعل لكم مما خلق ظلالًا} [النحل: 81] ..

.2 ومنها: أن الغمام يسير بأمر الله عزّ وجلّ، حيث جعل الغمام ظلاً على هؤلاء..

.3 . ومنها: بيان نعمة الله على بني إسرائيل بما إنزل عليهم من المن، والسلوى . يأتيهم بدون تعب، ولا مشقة؛ ولهذا وصف بـ "المن" ..

.4 ومنها: أن لحم الطيور من أفضل اللحوم؛ لأن الله تعالى هيأ لهم لحوم الطير . وهو أيضاً لحوم أهل الجنة، كما قال تعالى: {ولحم طير مما يشتهون} (الواقعة: 21)

.5 ومنها: أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمة فينبغي أن يتبسط بها، ولا يحرم نفسه منها؛ لقوله تعالى:

{ كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة: 57] ؛ فإن الإنسان لا ينبغي أن يتعفف عن الشيء المباح؛ ولهذا قال شيخ الإسلام . رحمه الله: "من امتنع من أكل الطيبات لغير سبب شرعي فهو مذموم"؛ وهذا صحيح؛ لأنه ترك ما أباح الله له وكأنه يقول: إنه لا يريد أن يكون لله عليه منة؛ فالإنسان لا ينبغي أن يمتنع عن الطيبات إلا لسبب شرعي؛ والسبب الشرعي قد يكون لسبب يتعلق ببدنه؛ وقد يكون لسبب يتعلق بدينه؛ وقد يكون لسبب يتعلق بغيره؛ فقد يمتنع الإنسان عن اللحم؛ لأن بدنه لا يقبله، فيكون تركه له من باب الحمية؛ وقد يترك الإنسان اللحم، لأنه يخشى أن تتسلى به نفسه حتى يكون همه أن يُذهب طيباته في حياته الدنيا؛ وقد يترك الإنسان الطيب من الرزق مراعاة لغيره، مثل ما يذكر عن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة . عام الجدب المشهور . أنه كان لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى اسود جلده، ويقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع(1) ؛ فيكون تركه لذلك مراعاة لغيره؛ إذاً من امتنع من الطيبات لسبب شرعي فليس بمذموم..

.6 ومنها: أن المباح من الزرق هو الطيب؛ لقوله تعالى: ( كلوا من طيبات ).

.7 ومنها: تحريم أكل الخبيث، والخبيث نوعان: خبيث لذاته؛ وخبيث لكسبه؛ فالخبيث لذاته كالميتة، والخنْزير، والخمر، وما أشبهها، كما قال الله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنْزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] أي نجس خبيث؛ وهذا محرم لذاته؛ محرم على جميع الناس؛ وأما الخبيث لكسبه فمثل المأخوذ عن طريق الغش، أو عن طريق الربا، أو عن طريق الكذب، وما أشبه ذلك؛ وهذا محرم على مكتسبه، وليس محرماً على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح؛ ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود مع أنهم كانوا يأكلون السحت، ويأخذون الربا، فدلّ ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب..

.8 ومن فوائد الآية: أن بني إسرائيل كفروا هذه النعمة؛ لقوله تعالى: ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )

.9 ومنها: أن العاصي لا يضر الله شيئاً؛ وإنما يظلم نفسه..

القـرآن

)وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:58) )فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (البقرة:59)

التفسير:

.{ 58 } قوله تعالى: { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قلنا ادخلوا هذه القرية؛ و{ ادخلوا } أمر كوني، وشرعي؛ لأنهم أُمروا بأن يدخلوها سجداً وهذا أمر شرعي؛ ثم فُتحت، فدخلوها بالأمر الكوني..

واختلف المفسرون في تعيين هذه القرية ؛ والصواب أن المراد بها: بيت المقدس؛ لأن موسى قال لهم: { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة: 21] ؛ و{ القرية } هي البلد المسكون؛ مأخوذة من القرْي. وهو التجمع؛ وسميت البلاد المسكونة قرية لتجمع الناس بها؛ ومفهوم القرية في اللغة العربية غير مفهومها في العرف؛ لأن مفهوم القرية في العرف: البلد الصغير؛ وأما الكبير فيسمى مدينة؛ ولكنه في اللغة العربية . وهي لغة القرآن . لا فرق بين الصغير، والكبير؛ فقد سمى الله عزّ وجلّ مكة قرية، كما في قوله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم} [محمد: 13] : المراد بقريته التي أخرجته: مكة، وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها} [الشورى: 7] : فسمى مكة أم القرى وهو شامل للبلاد الصغيرة، والكبيرة..

قوله تعالى: { فكلوا منها }: الأمر للإباحة أي فأبحنا لكم أن تأكلوا منها؛ { حيث شئتم } أي في أي مكان كنتم من البلد في وسطها، أو أطرافها تأكلون ما تشاءون؛ { رغداً } أي طمأنينة، وهنيئاً لا أحد يعارضكم في ذلك، ولا يمانعكم..

قوله تعالى: { وادخلوا الباب } أي باب القرية؛ لأن القرى يجعل لها أبواب تحميها من الداخل، والخارج؛ { سجداً } منصوب على أنه حال من الواو في قوله تعالى: { ادخلوا } أي ساجدين؛ والمعنى: إذا دخلتم فاسجدوا شكراً لله؛ وعلى هذا فالحال ليست مقارنة لعاملها؛ بل هي متأخرة عنه..

قوله تعالى: { وقولوا حطة } أي قولوا هذه الكلمة: { حطة } أي احطط عنا ذنوبنا، وأوزارنا؛ فهي بمعنى قولوا: ربنا اغفر لنا؛ والمراد: اطلبوا المغفرة من الله سبحانه وتعالى إذا دخلتم، وسجدتم؛ و{ حطة } خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: سؤالنا حطة، أو حاجتنا حطة . أي أن تحط عنا ذنوبنا؛ والجملة من المبتدأ، والخبر في محل نصب مقول القول..

قوله تعالى: { نغفر لكم } بنون مفتوحة، وفاء مكسورة؛ وفي قراءة: { تُغفَر لكم } بتاء مضمومة، وفاء مفتوحة؛ وفي قراءة ثالثة: { يُغفَر } بياء مضمومة وفاء مفتوحة؛ وكلها قراءات صحيحة؛ بأيها قرأت أجزأك..

وقوله تعالى: { نغفر لكم خطاياكم }: "المغفرة" هي ستر الذنب، والتجاوز عنه؛ ومعناه أن الله ستر ذنبك، ويتجاوز عنك، فلا يعاقبك؛ لأن "المغفرة" مأخوذة من المغفر . وهو ما يوقى به الرأس في الحرب؛ لأنه يستر، ويقي؛ ومن فسر "المغفرة" بمجرد الستر فقد قصَّر؛ لأن الله تعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة، وقرره بذنوبه قال: "قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"(1) أي اليوم أسترها أيضاً، ثم أتجاوز عنها؛ و{ خطاياكم } جمع خَطِيَّة، كـ"مطايا" جمع مطية؛ و "الخطية" ما يرتكبه الإنسان من المعاصي عن عمد؛ وأما ما يرتكبه عن غير عمد فيسمى "أخطاء"؛ ولهذا يفرق بين "مخطئ"، و"خاطئ"؛ الخاطئ ملوم؛ والمخطئ معذور، كما قال الله تعالى: { لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة } [العلق: 15، 16] ، وقال تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } (البقرة: 286)

قوله تعالى: { وسنزيد } أي سنعطي زيادة على مغفرة الذنوب { المحسنين } أي الذين يقومون بالإحسان، و "الإحسان" نوعان:.

الأول: إحسان في عبادة الله؛ وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك(2)" ..

والنوع الثاني: إحسان في معاملة الخلق وهو بذل المعروف، وكفُّ الأذى..

.{ 59 } قوله تعالى: { فبدل الذين ظلموا } أي فاختار الذين ظلموا منهم على وجه التبديل، والمخالفة { قولاً غير الذي قيل لهم }: وذلك أنهم قالوا: "حنطة في شعيرة" بدلاً عن قولهم: "حطة" ..

وفي قوله تعالى: { فبدَّل الذين ظلموا } إظهار في موضع الإضمار؛ ومقتضى السياق أن يكون بلفظ: فبدلوا قولاً.. إلخ، وللإظهار في موضع الإضمار فوائد من أهمها:.

أولاً: تحقيق اتصاف محل المضمر بهذا الوصف؛ معنى ذلك: الحكم على هؤلاء بالظلم..

ثانياً: أن هذا مقياس لغيرهم أيضاً؛ فكل من بدل القول الذي قيل له فهو ظالم؛ فيؤخذ منه تعميم الحكم بعموم علة الوصف..

ثالثاً: التنبيه أعني تنبيه المخاطب؛ لأنه إذا جاء الكلام على خلاف السياق انتبه المخاطب..

قوله تعالى: { فأنزلنا } الفاء للسببية؛ والمعنى: فبسبب ما حصل منهم من التبديل أنزلنا { على الذين ظلموا } أي عليهم؛ { رجزاً } أي عذاباً؛ لقوله تعالى: {لئن كشفت عنا الرجز} [الأعراف: 134] . أي العذاب . {لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل} [الأعراف: 134] ، والعذاب غير الرجس؛ لأن الرجس النجس القذر؛ والرجز: العذاب، { من السماء } أي من فوقهم، كالحجارة، والصواعق، والبَرَد، والريح، وغيرها؛ والمراد بـ{ السماء } هنا العلوّ، ولا يلزم أن يكون المراد بها السماء المحفوظة؛ لأن كل ما علا فهو سماء ما لم يوجد قرينة كما في قوله تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون} [الأنبياء: 3]

قوله تعالى: { بما كانوا يفسقون }: الباء هنا للسببية . أي بسبب؛ و "ما" مصدرية . أي بكونهم فسقوا؛ وإذا كانت مصدرية فإنه يحول ما بعدها من الفعل، أو الجملة إلى مصدر؛ و{ كانوا }: هل المراد فيما مضى؛ أم المراد تحقيق اتصافهم بذلك؟ الجواب: الثاني؛ وهذا يأتي في القرآن كثيراً؛ و{ يفسقون } أي يخرجون عن طاعة الله عزّ وجلّ..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإذ قلنا ادخلوا }؛ وهو قول حقيقي بصوت، وبحرف؛ لكن صوته سبحانه وتعالى لا يشبهه صوت من أصوات المخلوقين؛ ولا يمكن للإنسان أن يدرك هذا الصوت؛ لقوله تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] ؛ وهكذا جميع صفات الله عزّ وجلّ لا يمكن إدراك حقائقها..

.2 ومنها: وعد الله لهم بدخولها؛ ويؤخذ هذا الوعد من الأمر بالدخول؛ فكأنه يقول: فتحنا لكم الأبواب فادخلوا..

.3 ومنها: جواز أكل بني إسرائيل من هذه القرية التي فتحوها؛ فإن قال قائل: أليس حِلّ الغنائم من خصائص هذه الأمة . أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: بلى، والإذن لبني إسرائيل أن يأكلوا من القرية التي دخلوها ليس على سبيل التمليك؛ بل هو على سبيل الإباحة؛ وأما حِلّ الغنائم لهذه الأمة فهو على سبيل التمليك..

.4 ومنها: أنه يجب على من نصره الله، وفتح له البلاد أن يدخلها على وجه الخضوع، والشكر لله؛ لقوله تعالى: { وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة }؛ ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخلها مطأطئاً رأسه(1) يقرأ قول الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح: 1] ..

.5ومنها: لؤم بني إسرائيل، ومضادَتُهم لله، ورسله؛ لأنهم لم يدخلوا الباب سجداً؛ بل دخلوا يزحفون على أستاههم على الوراء استكباراً واستهزاءً..

.6 ومنها: بيان قبح التحريف سواء كان لفظياً، أو معنوياً؛ لأنه يغير المعنى المراد بالنصوص..

.7 ومنها: أن الجهاد مع الخضوع لله عزّ وجلّ، والاستغفار سبب للمغفرة؛ لقوله تعالى: { نغفر لكم خطاياكم }، وسبب للاستزادة أيضاً من الفضل؛ لقوله تعالى: { وسنزيد المحسنين }..

.8 ومنها: أن الإحسان سبب للزيادة سواء كان إحساناً في عبادة الله، أو إحساناً إلى عباد الله؛ فإن الإحسان سبب للزيادة؛ وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(2) ؛ وقال: "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته(3)" ..

.9 ومنها: تحريم التبديل لكلمات الله وهو تحريفها؛ وأنه من الظلم، لقوله تعالىSad فبدل الذين ظلموا قولًا )

.10 ومنها: بيان عقوبة هؤلاء الظالمين، وأن الله أنزل عليهم الرجز من السماء..

.11 ومنها: الإشارة إلى عدل الله عزّ وجلّ، وأنه لا يظلم أحداً، وأن الإنسان هو الظالم لنفسه..

.12 ومنها: إثبات فسوق هؤلاء بخروجهم عن طاعة الله؛ والفسق نوعان: فسق أكبر مخرج عن الملة، وضده "الإيمان" ، كما في قوله تعالى: {وأمَّا الذين فسقوا فمأواهم النار} [السجدة: 20] ؛ و فسق أصغر لا يخرج عن الملة، وضده "العدالة" ، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6)

.13 ومنها: إثبات الأسباب، وتأثيرها في مسبَّباتها؛ لقوله تعالى: { بما كانوا يفسقون }..

.14 ومنها: الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الله سبحانه وتعالى مجبر العبد على عمله؛ ووجه الرد أن الله سبحانه وتعالى أضاف الفسق إليهم؛ والفسق هو الخروج عن الطاعة؛ والوجه الثاني: أنهم لو كانوا مجبرين على أعمالهم لكان تعذيبهم ظلماً، والله . تبارك وتعالى . يقول: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49].

.15 ومنها: أن الفسوق سبب لنُزول العذاب..

القـرآن

)وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة:60)

التفسير:

.{ 60 } قوله تعالى: { وإذا استسقى موسى لقومه } أي: واذكر إذ استسقى موسى لقومه . أي طلب السقيا لهم؛ وهذا يعم كونهم في التيه، وغيره..

قوله تعالى: { فقلنا اضرب بعصاك الحجر }: "العصا" معروفة؛ و{ الحجر }: المراد به الجنس؛ فيشمل أيّ حجر يكون؛ وهذا أبلغ من القول بأنه حجر معين؛ وهذه "العصا" كان فيها أربع آيات عظيمة:.

أولاً: أنه يلقيها، فتكون حية تسعى، ثم يأخذها، فتعود عصا..

ثانياً: أنه يضرب بها الحجر، فينفجر عيوناً..

ثالثاً: أنه ضرب بها البحر، فانفلق؛ فكان كل فرق كالطود العظيم..

رابعاً: أنه ألقاها حين اجتمع إليه السحرة، وألقوا حبالهم، وعصيهم، فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون..

قوله تعالى: { فانفجرت منه }؛ "الانفجار": الانفتاح، والانشقاق؛ ومنه سمي "الفجر"؛ لأنه ينشق به الأفق؛ فمعنى { انفجرت } أي تشققت منه هذه العيون..

قوله تعالى: { اثنتا عشرة عيناً }؛ { عيناً }: تمييز؛ وكانت العيون اثنتي عشرة؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثنتي عشرة أسباطاً؛ لكل سبط واحدة..

قوله تعالى: { قد علم كل أناس } أي من الأسباط { مشربهم } أي مكان شربهم، وزمانه حتى لا يختلط بعضهم ببعض، ويضايق بعضهم بعضاً..

وهذه من نعمة الله على بني إسرائيل؛ وهي من نعمة الله على موسى؛ أما كونها نعمة على موسى فلأنها آية دالة على رسالته؛ وأما كونها نعمة على بني إسرائيل فلأنها مزيلة لعطشهم، ولظمئهم..

قوله تعالى: { كلوا واشربوا } الأمر هنا للإباحة فيما يظهر؛ { من رزق الله } أي من عطائه، حيث أخرج لكم من الثمار، ورزقكم من المياه..

قوله تعالى: { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي لا تسيروا مفسدين؛ فنهاهم عن الإفساد في الأرض؛ فـ"العُثو"، و"العِثي" معناه الإسراع في الإفساد؛ والإفساد في الأرض يكون بالمعاصي، كما قال الله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41].

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: مشروعية الاستسقاء عند الحاجة إلى الماء؛ لأن موسى استسقى لقومه؛ وشرع من قبلنا شرع لنا إن لم يرد شرعنا بخلافه؛ فكيف وقد أتى بوفاقه؟! فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي في خطبة الجمعة(1) ، ويستسقي في الصحراء على وجه معلوم(2) ..

.2 ومنها: أن السقيا كما تكون بالمطر النازل من السماء تكون في النابع من الأرض..

.3ومنها: أن الله سبحانه وتعالى هو الملجأ للخلق؛ فهم إذا مسهم الضر يلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى..

.4 ومنها: أن الرسل . عليهم الصلاة والسلام . كغيرهم في الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى؛ فلا يقال: إن الرسل قادرون على كل شيء، وأنهم لا يصيبهم السوء..

.5ومنها: رأفة موسى بقومه؛ لقوله تعالى: { وإذا استسقى موسى لقومه }..

.6 ومنها: أن الله سبحانه وتعالى قادر جواد؛ ولهذا أجاب الله تعالى دعاء موسى؛ لأن العاجز لا يسقي؛ والبخيل لا يعطي..

.7 ومنها: إثبات سمع الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: { فقلنا }؛ لأن الفاء هنا للسببية؛ يعني: فلما استسقى موسى قلنا؛ فدل على أن الله سمع استسقاء موسى، فأجابه..

.8 . ومنها: كمال قدرة الله عزّ وجلّ، حيث إن موسى صلى الله عليه وسلم يضرب الحجر اليابس بالعصا، فيتفجر عيوناً؛ وهذا شيء لم تجر العادة بمثله؛ فهو دليل على قدرة الله عزّ وجلّ، وأنه ليس كما يزعم الطبائعيون بأنه طبيعة؛ إذ لو كانت الأمور بالطبيعة ما تغيرت، وبقيت على ما هي عليه..

.9 ومنها: الآية العظيمة في عصا موسى، حيث يضرب به الحجر، فيتفجر عيوناً مع أن الحجر صلب، ويابس؛ وقد وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم، حيث أُتي إليه بإناء فيه ماء، فوضع يده فيه، فصار يفور من بين أصابعه كالعيون(3) ؛ ووجه كونه أعظم: أنه ليس من عادة الإناء أن يتفجر عيوناً بخلاف الحجارة؛ فقد قال الله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} [البقرة: 74] ؛ ووجه آخر: أن الإناء منفصل عن الأرض لا صلة له بها بخلاف الحجارة..

.10 ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى بجعل هذا الماء المتفجر اثنتي عشرة عيناً؛ لفائدتين:.

الفائدة الأولى: السعة على بني إسرائيل؛ لأنه لو كان عيناً واحدة لحصلت مشقة الزحام..

الفائدة الثانية: الابتعاد عن العداوة، والبغضاء بينهم؛ لأنهم كانوا اثنتي عشرة أسباطاً؛ فلو كانوا جُمعوا في مكان واحد مع الضيق، والحاجة إلى الماء لحصل بينهم نزاع شديد؛ وربما يؤدي إلى القتال؛ فهذا من رحمة الله . تبارك وتعالى . ببني إسرائيل، حيث فجره اثنتي عشرة عيناً، ولهذا أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه النعمة بقوله: { قد علم كل أناس مشربهم }: كل أناس من بني إسرائيل..

.11 من فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى يذكِّر بني إسرائيل بهذه النعم العظيمة لأجل أن يقوموا بالشكر؛ ولهذا قال تعالى: ( كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين )

.12 ومنها: أن ما خلق الله تعالى من المأكول، والمشروب للإنسان فالأصل فيه الإباحة، والحل؛ لأن الأمر للإباحة؛ فما أخرج الله تعالى لنا من الأرض، أو أنزل من السماء فالأصل فيه الحل؛ فمن نازع في حل شيء منه فعليه الدليل؛ فالعبادات الأصل فيها الحظر؛ وأما المعاملات، والانتفاعات بما خلق الله فالأصل فيها الحل، والإباحة..

.13 ومنها: تحريم الإفساد في الأرض؛ لقوله تعالى: { ولا تعثوا في الأرض مفسدين }؛ والأصل في النهي التحريم..

القـرآن

)وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة:61)

التفسير:

.{ 61 } قوله تعالى: { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد }؛ المن، والسلوى من أحسن الأطعمة، وأنفعها للبدن، وألذّها مذاقاً، ومن أحسن ما يكون؛ لكن بني إسرائيل لدناءتهم لم يصبروا على هذا؛ قالوا: { لن نصبر على طعام واحد }: لا نريد المن، والسلوى فقط؛ نريد أطعمة متعددة؛ ولكنها أطعمة بالنسبة للتي رُزِقوها أدنى . يعني ليست مثلها؛ بل إنها تعتبر رديئة جداً بالنسبة لهذا..

فإن قال قائل: كيف يقولون: طعام واحد وهما طعامان: المن، والسلوى؟

فالجواب: أن المن في الغالب يستعمل في الشرب؛ فهو ينبذ في الماء، ويشرب؛ أو يقال: المراد بالطعام هنا الجنس؛ يعني: لا نصبر على هذا الجنس فقط . ليس عندنا إلا منّ وسلوى..

قوله تعالى: { فادع لنا ربك }: هذا توسل منهم بموسى ليدعو الله عزّ وجلّ لهم؛ وكلمة: { فادع لنا ربك } تدل على جفاء عظيم منهم؛ فهم لم يقولوا: "ادع لنا ربنا"، أو "ادع الله"؛ بل قالوا: "ادع لنا ربك" ، كأنهم بريئون منه . والعياذ بالله؛ وهذا من سفههم، وغطرستهم، وكبريائهم..

قوله تعالى: { يخرج لنا }؛ { يخرج } فعل مضارع مجزوم على أنه جواب الطلب: "ادع" ؛ أو جواب لشرط محذوف؛ والتقدير: إن تدعه يخرج لنا..

قوله تعالى: { مما تنبت الأرض } أي مما تخرجه..

قوله تعالى: { من بقلها }؛ { من } بيانية؛ بينت الاسم الموصول: { ما }؛ لأن الاسم الموصول مبهم يحتاج إلى بيان؛ و{ بقلها }: هو النبات الذي ليس له ساق، مثل الكراث؛ { وقثائها }: هي صغار البطيخ؛ { وفومها } هو الثُّوم؛ يقال: "ثوم" بالمثلثة؛ ويقال: "فوم" بالفاء الموحدة، { وعدسها }؛ "العدس" معروف؛ { وبصلها }: أيضاً معروف..

وكل هذه بالنسبة للمن، والسلوى ليست بشيء؛ ولهذا أنكر عليهم موسى صلى الله عليه وسلم، فقال: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }، أي أتأخذون الذي هو أدنى بدلاً عن الذي هو خير..

قوله تعالى: { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } يعني أن هذا ليس بصعب يحتاج إلى دعاء الله؛ لأن الله تعالى أوجده في كل مصر؛ وكأن موسى صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم هذا؛ وبين لهم أنه لا يليق به أن يسأل الله سبحانه وتعالى لهم ما هو أدنى وموجود في كل مصر؛ وأما قول من قال من المفسرين: "إنه دعا، وقيل له: قل لهم: يهبطون مصراً فإن لهم ما سألوا" فهذا ليس بصحيح؛ لأنه كيف ينكر عليهم أن يطلبوا ذلك منه، ثم هو يذهب، ويدعو الله به!!! فالصواب أن موسى وبَّخهم على ما سألوا، وأنكر عليهم، وقال لهم: إن هذا الأمر الذي طلبتم موجود في كل مصر؛ ولهذا قال: { اهبطوا مصراً }؛ و{ مصراً } ليست البلد المعروف الآن، ولكن المقصود أيّ مصر كانت؛ ولهذا نُكِّرت؛ و"مصر" البلد لا تنكَّر، ولا تنصرف؛ واقرأ قوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً} [يونس: 87] ؛ فالمعنى: اهبطوا أيّ مصر من الأمصار تجدون ما سألتم..

قوله تعالى: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة }؛ وفي قوله تعالى: { عليهم } ثلاث قراءات: كسر الهاء وضم الميم؛ وكسرها جميعاً؛ وضمهما جميعاً..

قوله تعالى: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة }: جملة مستأنفة إخبار من الله عزّ وجلّ بما حصل عليهم؛ و{ الذلة }: الهوان؛ فهم أذلة لا يقابلون عدواً، وقد قال الله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر} [الحشر: 14] و{ المسكنة }: الفقر؛ فليس عندهم شجاعة، ولا غنًى؛ لا كرم بالمال، ولا كرم بالنفس؛ فـ"الشجاعة" كرم بالنفس: بأن يجود الإنسان بنفسه لإدراك مقصوده؛ و"الكرم" جود بالمال؛ فلم يحصل لهم هذا، ولا هذا؛ فلا توجد أمة أفقر قلوباً، ولا أبخل من اليهود، فالأموال كثيرة، لكن قلوبهم فقيرة، وأيديهم مغلولة..

قوله تعالى: { وباءوا بغضب من الله } أي رجعوا؛ والباء للمصاحبة؛ و{ من } للابتداء؛ يعني الغضب من الله . أي أن الله غضب عليهم، كما قال تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} [المائدة: 60] ..

قوله تعالى: { ذلك }: الظاهر أن المشار إليه كل ما سبق، وليس فقط قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة...}؛ فكل ما سبق مشار إليه حتى سؤالهم الذي هو أدنى عن الذي هو خير؛ {بأنهم}: الباء للسببية؛ {كانوا يكفرون بآيات الله } أي يكذبون بها؛ والمراد الآية الكونية، والشرعية؛ فالشرعية تتعلق بالعبادة؛ والكونية تتعلق بالربوبية، فهم يكفرون بهذا، وبهذا..

قوله تعالى: { ويقتلون النبيين } أي يعتدون عليهم بالقتل؛ وفي قوله تعالى: { النبيين } قراءتان؛ الأولى: بتشديد الياء بدون همز: { النبيِّين }؛ والثانية: بتخفيف الياء، والهمز: { النبيئين } ؛ فعلى القراءة الأولى قيل: إنه مشتق من النَّبْوَة . وهو الارتفاع؛ لارتفاع منْزلة الأنبياء؛ وقيل: من النبأ، وأبدلت الهمزة ياءً تخفيفاً؛ وعلى القراءة الثانية فإنه مشتق من النبأ، لأن الأنبياء مخبرون عن الله عزّ وجلّ..

قوله تعالى { بغير الحق } أي بالباطل المحض؛ وهذا القيد لبيان الواقع، وللتشنيع عليهم بفعلهم؛ لأنه لا يمكن قتل نبي بحق أبداً..

قوله تعالى: { ذلك }: المشار إليه ما سبق من كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق؛ { بما عصوا }: الباء للسببية؛ و "المعصية" الخروج عن الطاعة إما بترك المأمور؛ وإما بفعل المحظور؛ { وكانوا يعتدون } معطوف على قوله تعالى: { بما عصوا }؛ و "الاعتداء" مجاوزة الحد إما بالامتناع عما يجب للغير؛ أو بالتعدي عليه..

والفرق بين "المعصية" ، و "العدوان" إذا ذكرا جميعاً: أن "المعصية" فعل ما نهي عنه؛ و "الاعتداء" تجاوز ما أُمِر به، مثل أن يصلي الإنسان الظهر مثلاً خمس ركعات؛ وقيل: إن "المعصية" ترك المأمور؛ و "العدوان" فعل المحظور..

وسواء أكان هذا أم هذا فالمهم أن هؤلاء اعتدوا، وعصوا؛ فلم يقوموا بالواجب، ولا تركوا المحرم؛ ولذلك تدرجت بهم الأمور حتى كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه؛ وفي ذلك دليل لما ذهب إليه بعض أهل العلم أن المعاصي بريد الكفر؛ فالإنسان إذا فعل معصية استهان بها، ثم يستهين بالثانية، والثالثة... وهكذا حتى يصل إلى الكفر؛ فإذا تراكمت الذنوب على القلوب حالت بينها، وبين الهدى، والنور، كما قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: 14])

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: لؤم بني إسرائيل، وسفههم؛ حيث إنهم طلبوا أن يغير لهم الله هذا الرزق الذي لا يوجد له نظير بقولهم: ( لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يُخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثَّائها وفومها وعدسها وبصلها )

.2 ومنها: غطرسة بني إسرائيل، وجفاؤهم؛ لقولهم: { ادع لنا ربك }؛ ولم يقولوا: "ادع لن ربنا"، أو: "ادع لنا الله"؛ كأن عندهم . والعياذ بالله . أنفة؛ مع أنهم كانوا مؤمنين بموسى ومع ذلك يقولون: { ادع لنا ربك } . كما قالوا: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] ..

.3 ومنها: أن من اختار الأدنى على الأعلى ففيه شبه من اليهود؛ ومن ذلك هؤلاء الذين يختارون الشيء المحرم على الشيء الحلال..

.4 ومنها: أن من علوّ همة المرء أن ينظر للأكمل، والأفضل في كل الأمور..

.5 ومنها: أن التوسع في المآكل، والمشارب، واختيار الأفضل منها إذا لم يصل إلى حد الإسراف فلا ذم فيه؛ ولذلك لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه حين أتوه بتمر جيد بدلاً عن الرديء(1) ؛ لكن لو ترك التوسع في ذلك لغرض شرعي فلا بأس كما فعله عمر رضي الله عنه عام الرمادة؛ وأما إذا تركها لغير غرض شرعي فهو مذموم؛ لأن الله تعالى يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يرى أثر نعمته عليه(2).

.6 ومن فوائد الآية: حِلّ البقول، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل؛ لقولهم: { ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض... } إلى قوله: { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } أي من الأصناف المذكورة..

وهذه الأصناف مباحة في شريعة موسى؛ وكذلك في شريعتنا؛ فإنه لما قُدِّم للرسول صلى الله عليه وسلم قدر فيه بقول فكره أكلها؛ فلما رآه بعض أصحابه كره أكلها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم "كل؛ فإني أناجي من لا تناجي"(3) ؛ فأباحها لهم؛ وكذلك في خيبر لما وقع الناس في البصل، وعلموا كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لها قالوا: حُرّمت؛ قال صلى الله عليه وسلم "إنه ليس بي تحريم ما أحل الله"(4) ؛ فبين أنه حلال..

.7ومن فوائد الآية: جواز إسناد الشيء إلى مكانه لا إلى الفاعل الأول؛ لقولهم { مما تنبت الأرض }؛ والذي ينبت حقيقة هو الله سبحانه وتعالى..

.8 ومنها: جواز إسناد الشيء إلى سببه الحقيقي الذي ثبت أنه سبب شرعاً، أو حساً؛ مثال ذلك: لو أطعمت جائعاً يكاد يموت من الجوع فإنه يجوز أن تقول: "لولا أني أطعمته لهلك"؛ لأن الإطعام سبب لزوال الجوع؛ والهلاك معلوم بالحس؛ ومثال الشرعي: القراءة على المريض، فيبرأ، فتقول: "لولا القراءة عليه لم يبرأ"؛ أما المحظور فهو أن تثبت سبباً غير ثابت شرعاً، ولا حساً، أو تقرن مشيئة الله بالسبب بحرف يقتضي التسوية مع الله عزّ وجلّ؛ مثال الأول: أولئك الذين يعلقون التمائم البدعية، أو يلبسون حلقاً، أو خيوطاً لدفع البلاء، أو رفعه . كما زعموا؛ و مثال الثاني: ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: "ما شاء الله وشئت"، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم "أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده"(5) ، لأنك إذا قلت: "ما شاء الله وشئت" جعلت المخاطَب ندًّا لله في المشيئة..

فإذا قال قائل: أليس الله قد ذم قارون حينما قال: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78] ؛ فنسب حصول هذا المال إلى العلم؛ وهذا قد يكون صحيحاً؟

فالجواب أن هذا الرجل أنكر أن يكون من الله ابتداءً؛ ومعلوم أن الإنسان إذا أضاف الشيء إلى سببه دون أن يعتقد أن الله هو المسبِّب فهو مشرك؛ وأيضاً فإن قارون أراد بقوله هذا أن يدفع وجوب الإنفاق عليه مبتغياً بذلك الدار الآخرة..

والخلاصة: أن الحادث بسبب معلوم له صور:.

الصورة الأولى: أن يضيفه إلى الله وحده..

الثانية: أن يضيفه إلى الله تعالى مقروناً بسببه المعلوم؛ مثل أن يقول: "لولا أن الله أنجاني بفلان لغرقت"..

الثالثة: أن يضيفه إلى السبب المعلوم وحده مع اعتقاد أن الله هو المسبِّب؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب لما ذكر عذابه: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار(1)" ..

الرابعة : أن يضيفه إلى الله مقروناً بالسبب المعلوم بـ"ثم"، كقوله: "لولا الله ثم فلان"؛ "وهذه الأربع كلها جائزة" ..

الصورة الخامسة: أن يضيفه إلى الله، وإلى السبب المعلوم مقروناً بالواو؛ فهذا شرك، كقوله: "لولا الله وفلان

الصورة السادسة: أن يضيفه إلى الله ، وإلى السبب المعلوم مقروناً بالفاء، مثل: "لولا الله ففلان"؛ فهذا محل نظر: يحتمل الجواز، ويحتمل المنع..

الصورة السابعة: أن يضيفه إلى سبب موهوم ليس بثابت شرعاً، ولا حساً، فهذا شرك . كما سبق ..

.9 ومن فوائد الآية: توبيخ موسى عليه السلام لبني إسرائيل، وأن الذي يستبدل الأدنى بالذي هو خير يستحق التوبيخ؛ لأن موسى وبخهم، حيث قال: ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير )

.10 ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يعتذر عن الوساطة إذا لم يكن لها داعٍ؛ لأنه قال: { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم }؛ وكأنه قال: لا حاجة أن أدعو الله أن يخرج لكم مما تنبت الأرض..

.11 ومنها: ضرب الذلة على بني إسرائيل؛ وقد ذكر الله تعالى أنهم ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله . وهو الإسلام؛ أو بحبل من الناس وهو المساعدات الخارجية؛ والمشاهد الآن أن اليهود أعزاء بما يساعدهم إخوانهم من النصارى..

.12 ومنها: أن اليهود قد ضربت عليهم المسكنة وهي الفقر؛ ويشمل فقر القلوب الذي هو شدة الطمع بحيث أن اليهودي لا يشبع، ولا يتوقف عن طلب المال ولو كان من أكثر الناس مالاً؛ ويشمل أيضاً فقر المال وهو قلته..

.13 ومنها: أن بني إسرائيل لا يقومون للمسلمين لو حاربوهم من قبل الإسلام؛ لأن ضرب الذلة بسبب المعصية؛ فإذا حوربوا بالطاعة والإسلام فلا شك أنه سيكون الوبال عليهم؛ وقد قال الله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر} [الحشر: 14] ؛ وما يشاهد اليوم من مقاتلة اليهود للعرب فإنما ذلك لسببين:.

الأول: قلة الإخلاص لله تعالى؛ فإن كثيراً من الذين يقاتلون اليهود . أو أكثرهم . لا يقاتلونهم باسم الإسلام، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ وإنما يقاتلونهم باسم العروبة؛ فهو قتال عصبي قَبَليّ؛ ولذلك لم يفلح العرب في مواجهة اليهود..

والسبب الثاني: كثرة المعاصي من كبيرة، وصغيرة؛ حتى إن بعضها ليؤدي إلى الكفر؛ وقد حصل للمسلمين في أُحُد ما حصل بمعصية واحدة مع ما انضم إليها من التنازع، والفشل، كما قال الله تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} (آل عمران: 152)

.14 ومن فوائد الآية: إثبات صفة الغضب لله تعالى؛ وغضب الله سبحانه وتعالى صفة من صفاته؛ لكنها لا تماثل صفات المخلوقين؛ فنحن عندما نغضب تنتفخ الأوداج منا، ويحمر الوجه، ويقفُّ الشعر، ويفقد الإنسان صوابه؛ وهذه العوارض لا تكون في غضب الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء؛ بل هو غضب يليق بالله عزّ وجلّ دال على كمال عظمته، وسلطانه؛ وإذا قلنا بهذا، وسلَّمنا أن الغضب صفة حقيقية برئت بذلك ذمتنا، وصرنا حسب ما أمر الله به، ورسوله..

وفسر أهل التحريف "غضب الله" بانتقامه، ولا يثبتونه صفة لله عزّ وجلّ؛ وفسره آخرون بأنه إرادة الانتقام؛ فمعنى { غضب الله عليهم } عندهم: أراد أن ينتقم منهم؛ وتفصيل ذلك مذكور في كتب العقائد..

.15 ومن فوائد الآية: أن بني إسرائيل جمعوا بين المعاصي، والعدوان..

.16 ومنها: بيان حكمة الله عزّ وجلّ حيث ربط الأشياء بأسبابها؛ لقوله تعالى: { ذلك بأنهم }، وقوله تعالى: { ذلك بما عصوا }؛ وهذا من الحكمة أن يكون للأسباب تأثيراً في مسبَّباتها بما جعله الله رابطاً بين الأسباب والمسبَّبات، ولكن الأسباب قد يكون لها موانع؛ فقد توجد الأسباب، ولكن توجد موانع أقوى منها؛ فالنار لم تحرق إبراهيم صلى الله عليه وسلم. مع أنها سبب للإحراق . لوجود مانع؛ وهو قول الله تعالى لها: {كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} [الأنبياء: 69] ..

القـرآن

)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:62)

التفسير:

لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما عاقب به بني إسرائيل من ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب بَيَّن أن المؤمنين من بني إسرائيل، وغيرهم كلهم لهم أجرهم عند الله..

ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال: { وباءوا بغضب من الله } بيَّن أن من آمن منهم، وعمل صالحاً فإن الله لا يضيع أجره؛ فقال تعالى: ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم )

.{ 62 } قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين يستحقون الوصف بالإيمان المطلق، حيث آمنوا بجميع الكتب، والرسل..

قوله تعالى: { والذين هادوا } أي الذين انتسبوا إلى دين اليهود . وهي شريعة موسى، { والنصارى } أي الذين انتسبوا إلى دين عيسى..

قوله تعالى: { والصابئين }: اختلف فيهم على عدة أقوال؛ فمن العلماء من يقول: إن الصابئين فرقة من النصارى؛ ومنهم من يقول: إنهم فرقة من اليهود؛ ومنهم من يقول إنهم فرقة من المجوس؛ ومنهم من يقول: إنهم أمة مستقلة تدين بدين خاص بها؛ ومنهم من يقول: إنهم من لا دين لهم: من كانوا على الفطرة؛ ولا يتدينون بدين . وهذا هو الأقرب؛ فإذا أرسل إليهم الرسل فآمنوا بالله واليوم الآخر ثبت لهم انتفاء الخوف، والحزن، كغيرهم من الطوائف الذين ذُكروا معهم..

قوله تعالى: { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } هذا بدل ممن قبله عائد إلى الذين هادوا، والنصارى، والصابئين..

قوله تعالى: { فلهم أجرهم } أي ثوابهم؛ وسمى الله تعالى "الثواب" أجراً؛ لأنه سبحانه وتعالى التزم على نفسه أن يجزي به كالتزام المستأجر بدفع الأجرة للأجير؛ { عند ربهم }: أضاف ربوبيته إليهم على سبيل الخصوص تشريفاً، وتكريماً، وإظهاراً للعناية بهم؛ فهذه كفالة من الله عزّ وجلّ، وضمان، والتزام بهذا الأجر؛ فهو أجر غير ضائع..

قوله تعالى: { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ "الخوف" هو الهمّ مما يستقبل؛ و "الحزن" : هو الغم على ما فات من محبوب، أو ما حصل من مكروه؛ ولهذا يقال لمن أصيب بمصيبة: "إنه محزون"؛ ويقال لمن يتوقع أمراً مرعباً، أو مروعاً: "إنه خائف"؛ وقد يطلق "الحزن" على الخوف مما يستقبل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار: "لا تحزن إن الله معنا"(1) ، فالمراد . والله أعلم . لا تخف؛ فقوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي من كل مما يخاف في المستقبل: من عذاب القبر، وعذاب النار، وغير ذلك؛ وقوله تعالى: { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى من الدنيا؛ لأنهم انتقلوا إلى خير منها؛ أما الكافر فيحزن على ما فرط في الحياة الدنيا، ويتحسر، كما قال تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 54 . 56] : هذا تحزُّن، وتحسُّر..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، فكل من آمن بالله واليوم الآخر، فإن له أجره من أيّ صنف كان..

.2 ومنها: ثمرة الإيمان بالله، واليوم الآخر . وهو حصول الأجر، وانتفاء الخوف مما يستقبل، والحزن على ما مضى..

.3 ومنها: أنه لا فرق في ذلك بين جنس وآخر؛ فالذين هادوا، والنصارى، والصابئون مثل المؤمنين إذا آمنوا بالله، واليوم الآخر . وإن كان المؤمنون من هذه الأمة يمتازون على غيرهم بأنهم أكثر أجراً..

.4 ومنها: عظم أجر الذين آمنوا، وعملوا الصالحات؛ وذلك في قوله تعالى: { عند ربهم }..

.5 ومنها: أنه إذا ذكر الثناء بالشر على طائفة، وكان منهم أهل خير فإنه ينبغي ذكر أولئك الذين اتصفوا بالخير حتى لا يكون قدحاً عاماً؛ لأنه تعالى بعدما قال: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} [البقرة: 61] بيَّن أن منهم من آمن بالله، واليوم الآخر، وأن من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون..

)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:63) )ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (البقرة:
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:11 am من طرف ahmadhamad
الاية 70 الي الاية 83
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة:67) )قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) (البقرة:68) (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (البقرة:69)(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) (البقرة:70)(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) (البقرة:71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:73

التفسير:

.{ 67 } قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قال موسى لقومه، وإضافة "القوم" إليه لبيان أنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يقول لهم إلا ما فيه خير؛ لأن الإنسان سوف ينصح لقومه أكثر مما ينصح لغيرهم..

قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }: قالها في جواب ذكره الله سبحانه وتعالى في أثناء القصة:

{ وإذ قتلتم نفساً فادَّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون } [البقرة: 72] ؛ فقد قُتل منهم نفس فتخاصموا، وتدافعوا: كل يدعي أن هؤلاء قتلوه؛ حتى كادت تثور الفتنة بينهم؛ ولا حاجة بنا إلى أن نعلل لماذا قتل؛ أو لأي غرض؛ هذا ليس من الأمور التي تهمنا؛ لأن القرآن لم يتكلم بها؛ ولكن غاية ما يكون أن نأخذ عن بني إسرائيل ما لا يكون فيه قدح في القرآن، أو تكذيب له، فقالوا: لا حاجة إلى أن نتقاتل، ويُذهب بعضنا بعضاً؛ نذهب إلى نبي الله موسى، ويخبرنا من الذي قتله؛ فذهبوا إليه، فقال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } صدَّر الأمر من الله؛ لم يقل: آمركم، ولا قال: اذبحوا؛ بل قال: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }؛ ليكون أعظم وقعاً في نفوسهم، وأدعى إلى قبوله، وامتثاله..

وقوله { بقرة }: لم تعين بوصف؛ فلو ذبحوا أيّ بقرة كانت لكانوا ممتثلين؛ ولكنهم تعنتوا، وتشددوا فشدد الله عليهم . كما سيأتي..

قوله تعالى: { أتتخذنا هزواً }؛ { هزواً } مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي أتتخذنا مهزوءاً بنا؛ ويجوز أن تكون (هزواً) على بابها؛ ويكون المعنى: أتتخذنا ذوي هُزْء؛ فحُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه؛ "والهزء" السخرية؛ وإنما قالوا ذلك لاستبعادهم أن يكون ذبح البقرة سبباً لزوال ما بينهم من المدارأة؛ والتعبير بقولهم: { أتتخذنا هزواً } أبلغ من قول "أتستهزئ بنا"؛ لأن الأولى تفيد أنهم جُعلوا محل استهزاء . بخلاف الثانية فإنما تدل على حصول الاستهزاء . ولو بمرة واحدة..

فأجابهم نبي الله بقوله: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } أي أعتصم بالله أن أكون من أولي الجهل فأتخذ عباد الله هزواً؛ والمراد بـ "الجهل" هنا السفه، كما في قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} [النساء: 17] . أي بسفاهة . {ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17] ..

.{ 68 . 69 } قوله تعالى: { قالوا ادع لنا ربك }: سبق الكلام على نظيرها؛ { يبين لنا ما هي }: هذا الطلب ليس له وجه؛ لأن اللفظ بين: فالبقرة معلومة، والمطلق ليس مجملاً يحتاج إلى بيان . لوضوح معناه؛ فإذا قيل مثلاً: "أكرم رجلاً"؛ فلا يحتاج أن تقول: "ما صفة هذا الرجل"؛ إذا أكرمت أيّ رجل حصل المقصود؛ فلو أنهم ذهبوا، وذبحوا أيّ بقرة، وامتثلوا ما أمرو به لانتهى الأمر؛ ولكنهم تعنتوا..

قوله تعالى: { قال } أي موسى { إنه يقول } أي الله عزّ وجلّ { إنها بقرة لا فارض ولا بكر }: "البكر" معروف: التي لم تلد، ولا قرعها الفحل، و "الفارض" تُعرف بمقابلها، فإذا كانت "البكر" هي التي لم يقرعها الفحل، فإن "الفارض" هي المسنة الكبيرة؛ وهذا . أي تفسير الكلمة، أو معرفة معنى الكلمة بمعرفة ما يقابلها . له نظير في القرآن، مثل قوله تعالى: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً} [النساء: 71] ؛ فكلمة: {ثبات} هنا يتبين معناها بما ذكر مقابلاً لها . وهو قوله تعالى: {أو انفروا جميعاً} ؛ فيكون معناها: متفرقين أفراداً..

قوله تعالى: { عوان بين ذلك } أي وسط بين ذلك . أي بين كونها فارضاً وبكراً؛ وفيه إشكال على هذا: لأنه إذا كان المشار إليه اثنين وجب تثنية اسم الإشارة؛ واسم الإشارة هنا مفرد مذكر؟ والجواب عنه أن يقال: { بين ذلك } أي بين ذلك المذكور من الفارض والبكر . أي لا تكون هكذا، ولا هكذا، ولكن عوان بين ذلك المذكور..

قوله: { فافعلوا ما تؤمرون }؛ هذا الأمر من موسى؛ وليس من كلام الله عزّ وجلّ؛ فموسى يقول لبني إسرائيل: افعلوا ما تؤمرون به من ذبح بقرة لا فارض، ولا بكر، ولا تتعنتوا فيشدد عليكم مرة ثانية؛ ولو أنهم امتثلوا، وذبحوا بقرة عواناً بين ذلك لحصل المقصود؛ وكان عليهم أن يفعلوا . وإن لم يأمرهم نبيهم به؛ ولكنهم أهل عناد، وتعنت؛ ولهذا أمرهم أمراً ثانياً؛ ومع ذلك قالوا: { ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها }: كل هذا من باب التعنت، والتشدد؛ و{ ما لونها } يعني أيّ شيء لونها . بيضاء؛ سوداء؛ شهباء..؟

قوله تعالى: { قال } أي موسى { إنه يقول } أي الله سبحانه وتعالى { إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين }: شدد عليهم مرة أخرى في اللون: أولاً حيث قال تعالى: { إنها بقرة صفراء }، فخرج بهذا ما عدا الصفرة من الألوان . وهذا نوع تضييق؛ ثانياً بكونها: { فاقع لونها }؛ و "الفاقع" يعني الصافي؛ والمعنى: أنه ليس فيه ما يشوبه، ويخرجه عن الصفرة؛ وقيل: معنى { فاقع لونها } أي شديد الصفرة، وهو كلما كان صافياً كان أبين في كونه أصفر؛ ثالثاً بكونها: { تسر الناظرين } يعني ليست صفرتها صفرة توجب الغم؛ أو صفرتها مستكرهة؛ بل هي صفرة تجلب السرور لمن نظر إليها؛ فصار التضييق من ثلاثة أوجه: صفراء؛ والثاني: فاقع لونها؛ والثالث: تسر الناظرين..

.{ 70 } قوله تعالى: { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي }: هذا أيضاً طلب ثالث؛ يقولون: { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي من حيث العمل؛ { إن البقر تشابه علينا } أي اشتبه علينا البقرة المطلوبة؛ وفي الحقيقة أنه ليس في هذا اشتباه؛ إذ ذُكر لهم أنها بقرة، وذكر لهم سنها؛ وذكر لهم لونها؛ فأين التشابه؟! لكن هذا من عنادهم، وتعنتهم، وتباطئهم في تنفيذ أمر الله..

قولهم: { وإنا إن شاء الله لمهتدون }: أكدوا الهداية هنا بمؤكدين؛ وهما: "إن" ، واللام؛ ومؤكد ثالث؛ وهو الجملة الاسمية؛ وهي أبلغ من الجملة الفعلية، وأخذوا على أنفسهم أنهم سيهتدون؛ ولكنهم علقوا ذلك بمشيئة الله، قال بعض السلف: "لو لم يقولوا: { إن شاء الله } لم يهتدوا إليها أبداً" . وهذا فيما إذا كان قصدهم تفويض الأمر إلى الله عزّ وجلّ؛ ويحتمل أن يكون قصدهم أنهم لو لم يهتدوا لاحتجوا بالمشيئة، وقالوا: "إن الله لم يشأ أن نهتدي"! وما هذا الاحتمال ببعيد عليهم..

.{ 71 } فأجابهم على هذا: { قال }: أي موسى { إنه يقول } أي الله عزّ وجلّ { إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلَّمة لا شية فيها }: هذا أيضاً تشديد زيادة على ما سبق؛ و{ ذلول } على وزن فَعول؛ وهي المتذللة التي ذللت لصاحبها؛ و "والمذللة" هي التي تثير الأرض للزرع؛ و{ لا تسقي الحرث } أي لا يُسنَى عليها؛ فهي ليست سانية، ولا حارثة؛ و{ مسلمة } أي من العيوب؛ { لا شية فيها } أي ليس فيها لون يخالف لونها؛ مأخوذ من وشي الثوب . وهو تلوينه بألوان مختلفة، مثل عِدَة مأخوذة من الوعد؛ إذاً هي صفراء ليس فيها سواد، ولا فيها بياض، ولا فيها أي لون آخر؛ وهذا كله من زيادة التشديد عليهم..

وبهذا التقرير نعرف أنه لا حاجة بنا إلى ما ذكره كثير من المفسرين من الإسرائيليات من أن هذه البقرة كانت عند رجل بارّ بأمه، وأنهم اشتروها منه بملء مَسكها ذهباً . يعني بملء جلدها ذهباً؛ وهذا من الإسرائيليات التي لا تصدق، ولا تكذب، ولكن ظاهر القرآن هنا يدل على كذبها؛ إذ لو كان واقعاً لكان نقله من الأهمية بمكان لما فيه من الحث على برّ الوالدين حتى نعتبر؛ فالصواب أن نقول في تفسير الآية ما قال الله عزّ وجلّ، ولا نتعرض للأمور التي ذكرها المفسرون هنا من الحكايات..

قوله تعالى: { قالوا الآن جئت بالحق }؛ { الآن } اسم زمان يُشار به للوقت الحاضر؛ فمقتضى كلامهم أنه أولاً أتى بالباطل، وقد صدّروا هذه القصة بقولهم { أتتخذنا هزواً }؛ يعني الآن عرفنا أنك لست تستهزئ؛ وإنما أنت صادق؛ هذا هو المتبادر من الآية الكريمة، وليس بغريب على تعنتهم أن يقولوا مثل هذا القول؛ وقال بعض المفسرين اتقاءً لهذا المعنى البشع: إن المراد بقولهم: { بالحق } أي بالبيان التام . أي الآن بينت لنا أوصافها، فجعلوا "الحق" هنا بمعنى البيان؛ ولكن الصواب أن "الحق" هنا ضد الهزء، والباطل؛ يدل على ذلك أنهم صدروا هذه القصة بقولهم: { أتتخذنا هزواً }؛ فبعد هذه المناقشات مع موسى، والسؤالات، وطلب الله عزّ وجلّ قالوا: الآن جئت بالحق، وعرفنا أنك لست مستهزئاً بنا؛ بل إنك جادّ فيما تقول..

قوله تعالى: { فذبحوها } أي بعد العثور عليها بأوصافها السابقة؛ { وما كادوا يفعلون } أي ما قاربوا أن يفعلوا؛ وذلك بإيرادهم الطلب عن سنها، ولونها، وعملها، وهذا تباطؤ يبعدهم من الفعل؛ لكنهم فعلوا؛ لقوله تعالى: ( فذبحوها )

.{ 72 . 73 } قوله تعالى: { وإذ قتلتم نفساً } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفساً؛ ووجه الخطاب لمن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الفعل كان ممن سبقهم؛ لأن الأمة الواحدة بمنزلة الجسد الواحد؛ وفعل أولها كفعل آخرها فيما يلحقهم من ذمّ..

قوله تعالى: { فادَّارأتم فيها } أي تدافعتم؛ كل منكم يدافع عن نفسه التهمة، ويتهم الآخر، وكان قد قُتل منهم قتيل من إحدى القبيلتين؛ فادّعت كل واحدة أن الأخرى هي قاتلته؛ وكاد يكون بينهم فتنة؛ فأتوا إلى موسى، فقال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة... } إلخ..

قوله تعالى: { والله مخرج ما كنتم تكتمون } أي مظهر ما كنتم تخفونه من تعيين القاتل؛ وذلك بالآية العظيمة التي بينها في قوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها }؛ القائل هو الله عزّ وجلّ؛ ولكن عن طريق الوحي إلى نبيه موسى . عليه الصلاة والسلام؛ وأضاف قول موسى إليه تبارك وتعالى؛ لأنه هو الآمر به، كما في قوله سبحانه وتعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 16 . 18] : فالمراد بقوله تعالى: {قرأناه} قرأه جبريل . عليه الصلاة والسلام .؛ فهنا قوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها } يعني أن الله تعالى أمر نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، فقال لهم بأمر الله: { اضربوه ببعضها } أي اضربوا هذا القتيل ببعض هذه البقرة؛ ولم يعين الله تعالى البعض: أهو الساق؛ أو الفخذ؛ أو الرقبة؛ أو الرأس، أو أيّ جزء من أجزائها، فليس لنا أن نعينه بجزء منها..

قوله تعالى: { كذلك يحيي الله الموتى } أي مثل إحياء هذا القتيل يحيي الله عزّ وجلّ الموتى بكلمة واحدة، كما قال تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} (يس: 53)

قوله تعالى: { ويريكم آياته } أي يظهرها لكم حتى تروها؛ والمراد بـ "الآية" هنا الآية الكونية؛ لأنها إحياء ميت بضربه بجزء من أجزاء هذه البقرة؛ ويحتمل أن يكون المراد آياته الشرعية أيضاً؛ لأن موسى . عليه الصلاة والسلام . أمرهم بذلك؛ فضربوا الميت ببعض هذه البقرة؛ فصار ذلك مصداقاً لقول موسى . عليه الصلاة والسلام ...

قوله تعالى: { لعلكم تعقلون }؛ "لعل" للتعليل؛ أي لأجل أن تعقلوا عن الله . تبارك وتعالى . آياته، وتفهموها؛ والعقل هو ما يحجز الإنسان عن فعل ما لا ينبغي؛ وهو خلاف الذكاء؛ فالذكاء هو سرعة البديهة، والفهم؛ وقد يكون الإنسان ذكياً، ولكنه ليس بعاقل..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: تعظيم الله عزّ وجلّ، حيث أسند الأمر إليه بصيغة الغائب، كقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] ..

.2 ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يسلك الأسباب التي تؤدي إلى قبول الأمر، أو الخبر؛ لقوله: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }..

.3 ومنها: استهتار بني إسرائيل، حيث قالوا لنبيهم عليه الصلاة والسلام: { أتتخذنا هزواً } وقد أخبرهم أن الله تعالى أمرهم أن يذبحوا بقرة؛ فلم يحملوا هذا محمل الجدّ مع أن الواجب أن يحملوا هذا محمل الجدّ؛ لأنه أمر من الله عزّ وجلّ..

.4 ومنها: أن الاستهزاء بالناس من الجهل وهو الحمق، والسفه؛ لقول موسى عليه الصلاة والسلام: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )

.5 ومنها: أن جميع الخلق محتاجون إلى الله تعالى، وإلى الاعتصام به عزّ وجلّ؛ فإن موسى صلى الله عليه وسلم كان من أولي العزم من الرسل؛ ومع ذلك فهو محتاج إلى ربه تبارك وتعالى؛ لقوله تعالى: { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }؛ والاستعاذة لا تكون إلا بالله عزّ وجلّ؛ وقد تكون بالمخلوق فيما يقدر عليه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن وجد معاذاً فليعذ به"(1) ..

.6 ومنها: استكبار بني إسرائيل، حيث قالوا لموسى . عليه الصلاة والسلام: { ادع لنا ربك }؛ فأمروه أمراً، ثم أضافوا ربوبية الله عزّ وجلّ إلى موسى، كأنهم متبرئون من ذلك؛ فلم يقولوا: "ادع ربنا"، أو "ادع الله"؛ ومما يدل على استكبارهم كونهم طلبوا من موسى . عليه الصلاة والسلام . أن يبين لهم ما هذه البقرة مع أن البقرة معروفة؛ وهي عند الإطلاق تشمل أيّ واحدة..

.7 ومنها: تأكيد الأمر على بني إسرائيل أن يفعلوه؛ لقوله: { فافعلوا ما تؤمرون }؛ ومع ذلك لم يمتثلوا؛ بل تعنتوا، وطلبوا شيئاً آخر: { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها }؛ فسألوه عن اللون مع أن أيّ لون يمكن أن يكون في البقرة لا يمنع من إجزائها..

.8 ومنها: بيان ما يدل أيضاً على تعنتهم؛ وذلك أنهم طلبوا بيان هل البقرة عاملة، أو غير عاملة..

.9 ومنها: أن استعمال البقر في الحرث والسقي كان قديماً معروفاً بين الأمم، ولا يزال إلى وقتنا هذا قبل أن تظهر الآلات الحديدية..

.10 ومنها: تشديد الله عليهم، حيث أمرهم بذبح بقرة موصوفة بهذه الصفات التي يعز وجودها في بقرة واحدة؛ وذلك بأن تكون متوسطة في السن لا فارضاً ولا بكراً؛ وأن تكون صفراء فاقعاً لونها تسر الناظرين؛ وألا تكون ذلولاً تثير الأرض وتسقي الحرث؛ وأن تكون مسلَّمة ليس فيها شيء من العيوب..

وألا يخالط لونها لون آخر؛ لقوله: ( لا شية فيها ).

.11ومنها: أن من شدد على نفسه شدد الله عليه . كما حصل لهؤلاء؛ فإنهم لو امتثلوا أول ما أُمِروا، فذبحوا أيّ بقرة لكفاهم؛ ولكنهم شددوا، وتعنتوا، فشدد الله عليهم؛ على أنه يمكن أن يكون تعنتهم هذا للتباطؤ في تنفيذ الأمر..

.12 ومنها: أن بني إسرائيل أرادوا أن يتقهقروا عن تنفيذ أمر الله عزّ وجلّ على درجات؛ الدرجة الأولى: ما سبق من قولهم: { أتتخذنا هزواً }؛ الدرجة الثانية: قولهم: { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي }، الدرجة الثالثة: قولهم: { ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها }؛ الدرجة الرابعة: قولهم: { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } مرة أخرى

.13 . ومنها: استهتار بني إسرائيل، حيث قالوا: { الآن جئت بالحق }؛ فكأنهم يقولون: الآن رضينا بوصف هذه البقرة، ثم قاموا بذبحها على مضـض؛ وكل هذا يدل على استهتارهم بأوامر الله عزّ وجلّ..

.14 ومنها: أن الإنسان إذا لم يقبل هدى الله عزّ وجلّ من أول مرة فإنه يوشك أن يشدد الله عليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الدين يسر؛ ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه(2)" ..

.15 ومنها: تذكير بني إسرائيل بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم ببيان الأمر الواقع حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم..

.16 ومنها: تأخير ذكر السبب بعد القصة، والمبادرة بذكر النعمة قبل بيان سببها..

.17 ومنها: أن قول الرسول قول لمرسله إذا كان بأمره؛ لقوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها }..

.18 منها: أن البعض الذي ضرب به هذا القتيل من البقرة غير معلوم؛ لقوله تعالى: { ببعضها }؛ فقد أبهمه الله؛ ومحاولة بعض المفسرين أن يعينوه محاولة ليس لها داع؛ لأن المقصود الآية..

.19 ومنها: أنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعنى القصة، وغرضها دون من وقعت عليه؛ لقوله تعالى:

{ ببعضها }؛ ولم يعين لهم ذلك توسعة عليهم؛ ليحصل المقصود بأيّ جزء منها؛ ولهذا نرى أنه من التكلف ما يفعله بعض الناس إذا سمع حديثاً أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله..." كذا وكذا؛ تجد بعض الناس يتعب، ويتكلف في تعيين هذا الرجل؛ وهذا ليس بلازم؛ المهم معنى القصة، وموضوعها؛ أما أن تعرف من هذا الرجل؟ من هذا الأعرابي؟ ما هذه الناقة مثلاً؟ ما هذا البعير؟ فليس بلازم؛ إذ إن المقصود في الأمور معانيها، وأغراضها، وما توصل إليه؛ فلا يضر الإبهام . اللهم إلا أن يتوقف فهم المعنى على التعيين..

.20ومن فوائد الآية: أن المبهم في أمور متعددة أيسر على المكلف من المعين؛ وذلك إذا كانوا قد أمروا أن يضربوه ببعضها فقط؛ فإذا قيل لك: "افعل بعض هذه الأشياء" يكون أسهل مما إذا قيل لك: "افعل هذا الشيء بعينه"؛ فيكون في هذا توسعة على العباد إذا خيروا في أمور متعددة . والله أعلم..

.21 ومنها: أن هذه الآية من آيات الله عزّ وجلّ . وهي أن تكون البقرة سبباً لحياة هذا القتيل؛ إذ لا رابطة في المعقول بين أن تُذبح البقرة، ويضرب القتيل ببعضها، فيحيى..

.22 ومنها: أن بيان الأمور الخفية التي يحصل فيها الاختلاف، والنِّزاع، من نعمة الله عزّ وجلّ؛ يعني مثلاً إذا اختلفنا في أمور، وكاد الأمر يتفاقم، ويصل إلى الفتنة، ثم أظهر الله ما يبينه فإن هذا من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا؛ لأنه يزيل بذلك هذا الخلاف، وهذا النِّزاع..

.23 ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يخرج ما كان يكتمه أهل الباطل، ويبينه للناس؛ لقوله تعالى: { والله مخرج ما كنتم تكتمون }؛ واذكروا قول الله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً} (النساء: 108)

.24ومنها: التحذير من أن يكتم الإنسان شيئاً لا يرضاه الله عزّ وجلّ؛ فإنه مهما يكتم الإنسان شيئاً مما لا يُرضي الله عزّ وجلّ فإن الله سوف يطلع خلقه عليه . إلا أن يعفو الله عنه ...

القـرآن

)ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:74)

التفسير:

.{ 74 } قوله تعالى: { ثم قست قلوبكم } أي صلبت، وتحجرت؛ { من بعد ذلك } أي من بعد أن منَّ الله عليكم بما حصل من المدارأة في القتيل حتى تبين..

قوله تعالى: { فهي } أي قلوبكم { كالحجارة } أي مثلها؛ { أو أشد قسوة } أي من الحجارة؛ لأن الحجارة أقسى شيء . حتى إنّها أقسى من الحديد؛ إذ إن الحديد يلين عند النار، والحجارة تتفتت، ولا تلين؛ و{ أو } هنا ليست للشك؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بحالها؛ لكن اختلف العلماء . رحمهم الله . هل هي بمعنى "بل"، فتكون للإضراب؛ أو إنها لتحقيق ما سبق . أي أنها إن لم تكن أشد من الحجارة فهي مثلها؟ في هذا قولان لأهل العلم . رحمهم الله؛ وهي كقوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147] : فمن العلماء من قال: إن {أو} بمعنى "بل" . أي بل يزيدون على مائة ألف؛ ومنهم من قال: إنها لتحقيق ما سبق . أي إن لم يزيدوا على مائة ألف فإنهم لن ينقصوا؛ والله أعلم بما أراد في كتابه..

ثم بين الله عزّ وجلّ أن الحجارة فيها خير بخلاف قلوب هؤلاء فإنه لا خير فيها؛ فقال تبارك وتعالى: { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } يعني إن بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار . أي أنهار الماء التي يشرب الناس منها، ويسقون بها زروعهم، ومواشيهم..

وقوله تعالى: { لما يتفجر }: { ما } اسم موصول في محل نصب اسم { إن }؛ واللام للتوكيد؛ أي: لَلذِي يتفجر منه الأنهار..

قوله تعالى: { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء }: وهي دون الأول؛ الأول يتفجر منها الأنهار؛ أما هذه فإنها تتشقق، ويخرج منها الماء كالذي يحصل في أحجار الآبار، وما أشبهها..

قوله تعالى: { وإن منها لما يهبط من خشية الله }، كما قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} [الحشر: 21] ، ولما قال موسى عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] ، قال الله سبحانه وتعالى له: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخرَّ موسى صعقاً} [الأعراف: 143] ..

وقوله تعالى: { من خشية الله }، { من } هنا سببية؛ و{ خشية الله } أي خوفهم مع العلم بعظمته..

قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }: فنفى سبحانه وتعالى أن يكون غافلاً عما يعملون؛ وذلك لكمال علمه، وإحاطته تبارك وتعالى..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: لؤم بني إسرائيل الذين جاءتهم هذه النعم ومع ذلك فهم لم يلينوا للحق؛ بل قست قلوبهم على ظهور هذه النعم..

.2 ومنها: تشبيه المعقول بالمحسوس في قوله تعالى: { فهي كالحجارة }؛ لأن الحجارة أمر محسوس؛ والقلب قسوته أمر معقول؛ إذ إنه ليس المعنى أن القلب الذي هو المضغة يقسو؛ القلب هو هو؛ لكن المراد: أنه يقسو قسوة معنوية بإعراضه عن الحق، واستكباره عليه؛ فهو أمر معنوي شبه بالأمر الحسي؛ وهذا من بلاغة القرآن تشبيه المعقول بالمحسوس حتى يتبين..

.3 ومنها: أن الحجارة أقسى شيء يضرب به المثل..

.4 ومنها: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث جعل هذه الحجارة الصماء تتفجر منها الأنهار؛ وقد كان موسى . عليه الصلاة والسلام . يضرب بعصاه الحجر، فينبجس، ويتفجر عيوناً بقدرة الله . تبارك وتعالى

.5 ومنها: أن الحجارة خير من قلوب هؤلاء بأن فيها خيراً؛ فإن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار؛ ومنها ما يشقق، فيخرج منه الماء؛ ومنها ما يهبط من خشية الله؛ وهذه كلها خير، وليس في قلوب هؤلاء خير..

.6 ومنها: أن الجمادات تعرف الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإن منها لما يهبط من خشية الله }؛ وهذا أمر معلوم من آيات أخرى، كقوله تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض} [الجمعة: 1] ، وقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] ، وقوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] : ففهمتا الأمر، وانقادتا..

.7 ومن فوائد الآية: عظمة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { من خشية الله }؛ والخشية هي الخوف المقرون بالعلم؛ لقوله تعالى: { إنما يخشى اللّه َ من عباده العلماء } [فاطر: 28]؛ فمن علم عظمة الله سبحانه وتعالى فلا بد أن يخشاه..

.8 ومنها: سعة علم الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }؛ وهذه الصفة من صفات الله سبحانه وتعالى السلبية؛ والصفات السلبية هي التي ينفيها الله سبحانه وتعالى عن نفسه. وتتضمن أمرين هما: نفي هذه الصفة؛ وإثبات كمال ضدها..



القـرآن

)أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة:75)

التفسير:

.{ 75 } قوله تعالى: { أفتطعمون أن يؤمنوا لكم }؛ الهمزة للاستفهام؛ والمراد به الاستبعاد، والتيئيس . أي تيئيس المسلمين من أن يؤمن هؤلاء اليهود لهم؛ والفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة مناسب للمقام؛ و "الطمع" معناه الرجاء المقرون بالرغبة الأكيدة؛ يعني: أنتم ترجون مع رغبة؛ لأن الذي يرجو الشيء مع الرغبة الأكيدة فيه يقال: طمع فيه؛ و "الإيمان" هنا بمعنى التصديق؛ أي أن يُصَدِّقوا لكم؛ ويحتمل أن يكون بمعنى الانقياد، والاستسلام لكم؛ وهذا أمر بعيد؛ لقوله تعالى: { وقد كان فريق منهم... }: الواو هنا للحال؛ و{ قد } للتحقيق؛ فالجملة في محل نصب حالاً من الواو في { يؤمنوا لكم } يعني: والحال أن فريقاً منهم يسمعون كلام الله؛ و "الفريق" بمعنى الطائفة؛ و{ منهم } أي من بني إسرائيل..

قوله تعالى: { يسمعون كلام الله ثم يحرِّفونه }: ذكر المفسرون فيه قولين:.

القول الأول: أن المراد بذلك التوراة . يسمعونها ثم يحرفونها . أي يغيرونها؛ ومنه قولهم: حَرَفْت الدابة . يعني غيرت اتجاهها؛ { من بعد ما عقلوه } أي من بعد ما فهموها، وعرفوا معناها، ولم تشكل عليهم؛ ومن ذلك تحريفهم إياها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومبعثه، وقولهم: إنه الرسول المنتظر . وليس هذا الرسول..

والقول الثاني: أن المراد بذلك الذين أسمعهم الله كلامه سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام؛ وهم الذين اختارهم موسى . وهم سبعون رجلاً فأسمعهم الله تعالى كلامه لموسى، ولكنهم قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }، ثم حرفوا ما سمعوه من كلام الله سبحانه وتعالى لموسى..

وقد بحثت في كتب التفسير التي لدي فلم أجد احتمالاً ثالثاً . وهو أن المراد بـ{ كلام الله } القرآن، وأنهم يسمعونه، ثم يحرفونه؛ لأن القرآن كلام الله؛ وقد قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] أي حتى يسمع القرآن؛ فإن كان هذا الاحتمال صحيحاً فهو أقرب من القولين السابقين . والله أعلم بمراده..

قوله تعالى: { وهم يعلمون } أي يعلمون أنهم يحرفون الكلم أي كلام الله عزّ وجلّ، ويعلمون أن التحريف محرم؛ فتعدوا الحدود، وحرفوا كلام الله عزّ وجلّ، وارتكبوا الإثم عن بصيرة..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن من كان لا يؤمن بما هو أظهر فإنه يبعد أن يؤمن بما هو أخفى؛ لأن من يسمع كلام الله، ثم يحرفه، أبْعَدُ قبولاً للحق ممن لم يسمعه..

.2 ومنها: أن الله تعالى يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم بما يذهب عنه الأسى، والحزن؛ حيث بين له حال هؤلاء، وأنهم قوم عتاة لا مطمع في إيمانهم..

.3 ومنها: إثبات أن الله يتكلم، وأن كلامه بصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { يسمعون كلام الله }؛ وكلام الله . تبارك وتعالى . صفة حقيقية تتضمن اللفظ، والمعنى؛ فهو سبحانه وتعالى يتكلم بحروف، وأصوات مسموعة؛ وتفصيل ذلك والرد على من خالفه مذكور في كتب العقائد..

.4ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى من صفاته الفعلية باعتبار آحاده؛ وأما باعتبار أصل الصفة فهو صفة ذاتية؛ والفرق بين الصفات الذاتية، والفعلية أن الصفات الذاتية لازمة لذات الله أزلاً، وأبداً . ومعنى "أزلاً" أي فيما مضى؛ و"أبداً" أي فيما يستقبل . مثل الحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والعزة، والسمع، والبصر إلى غير ذلك، و الصفات الفعلية هي التي تتعلق بمشيئته، فتحْدُث إذا شاء، كالاستواء على العرش، والنُّزول إلى سماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة للفصل بين العباد، والفرح، والرضا، والغضب.. عند وجود أسبابها..

.5 ومن فوائد الآية: الرد على الأشعرية، وغيرهم ممن يرون أن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه؛ وأن الحروف، والأصوات عبارة عن كلام الله، وليست كلام الله؛ بل خلقها الله ليعبر بها عما في نفسه؛ و الرد عليهم مفصلاً في كتب العقائد..

.6 ومنها: أن هؤلاء اليهود قد حرفوا كلام الله، لقوله تعالى: ( ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه )..

.7 ومنها: بيان قبح تحريف هؤلاء اليهود، لأنهم حرفوا ما عقلوه؛ والتحريف بعد عقل المعنى أعظم؛ لأن الإنسان الجاهل قد يعذر بجهله؛ لكن الإنسان العالم الذي عقل الشيء يكون عمله أقبح؛ لأنه تجرأ على المعصية مع علمه بها . فيكون أعظم..

.8 ومنها: قبح تحريف كلام الله، وأن ذلك من صفات اليهود؛ ومن هذه الأمة من ارتكبه، لكن القرآن محفوظ؛ فلا يمكن وقوع التحريف اللفظي فيه؛ لأنه يعلمه كل أحد؛ وأما التحريف المعنوي فواقع، لكن يقيض الله عزّ وجلّ من الأئمة، وأتباعهم من يبينه، ويكشف عوار فاعله..


القـرآن

)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:76))أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (البقرة:77)

التفسير:

. 76 } قوله تعالى: { وإذا لقوا } الضمير يعود على اليهود؛ أي إذا قابلوا، واجتمعوا بـ{ الذين آمنوا } أي بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قالوا } أي بألسنتهم { آمنا } أي دخلنا في الإيمان كإيمانكم، وآمنا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا إذا لقوا المؤمنين؛ و{ إذا خلا بعضهم إلى بعض } أي إذا أوى بعضهم إلى بعض، وانفرد به قال بعضهم لبعض: { أتحدثونهم }: الاستفهام هنا للإنكار، والتعجب؛ والضمير الهاء يعود على المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم يعني يقول اليهود بعضهم لبعض إذا اجتمعوا: كيف تحدثون المؤمنين بالله ورسوله { بما فتح الله عليكم } أي من العلم بصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

{ ليحاجوكم به عند ربكم }: اللام للعاقبة . أي أن ما حدثتموهم به ستكون عاقبته أن يحاجوكم به عند ربكم..

قوله تعالى: { أفلا تعقلون }: الهمزة للاستفهام؛ والمراد به التوبيخ؛ يعني: أين عقولكم؟! أنتم إذا حدثتموهم بهذا، وقلتم: إن هذا الذي بُعث حق، وأنه نبي يحاجونكم به عند الله يوم القيامة..

قوله تعالى: { أفلا تعقلون }؛ الفاء واقعة بعد همزة الاستفهام؛ وهذا يكثر في القرآن: { أفلا تعقلون }؛ { أفلا تذكرون }؛ { أفلم يسيروا }؛ { أو لم يسيروا }؛ { أثم إذا ما وقع آمنتم به }؛ وأشباه ذلك؛ يعني أنه يأتي حرف العطف بعد همزة الاستفهام؛ وهمزة الاستفهام لها الصدارة في جملتها؛ ولا صدارة مع وجود العاطف؛ لأن الفاء عاطفة؛ فقال بعض النحويين: إن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عُطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف، وهذه الجملة تقدر بما يناسب المقام؛ وقال آخرون: بل إن الهمزة مقدمة؛ وإن حرف العطف هو الذي تأخر . يعني زُحلق حرف العطف عن مكانه، وجعلت الهمزة مكانه؛ وعلى هذا فيكون التقدير: فألا تعقلون؛ أما على الأول فيكون التقدير: أجهلتم فلا تعقلون؛ أو: أسفهتم فلا تعقلون... المهم يقدر شيء مناسب حسب السياق؛ فالقول الأول أدق؛ والثانية أسهل؛ لأن الثاني لا يحتاج عناءً وتكلفاً فيما تقدره بين الهمزة والعاطف..

قوله تعالى: { أو لا يعلمون }: الاستفهام هنا للتوبيخ، والإنكار عليهم لكونهم نزَّلوا أنفسهم منْزلة الجاهل؛ { أن الله يعلم ما يسرون }: يشمل ما يسره الإنسان في نفسه، وما يسره لقومه وأصحابه الخاصين به؛ { وما يعلنون } أي ما يظهرون لعامة الناس؛ فالله سبحانه وتعالى يعلم هذا، وهذا؛ ولا يخفى عليه شيء؛ والمعنى: كيف يؤنب بعضهم بعضاً بهذا الأمر وهم لو جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وأنكروا نبوَّته، ولم يؤمنوا فإن الله تعالى لا يخفى عليه الأمر؟! فسواء أقروا، أو لم يقروا عند الصحابة أن الرسول حق فإن الله تعالى عالم بهم..

الفوائد:

.1 ومن فوائد الآية: أن في اليهود منافقين؛ لقوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا... } إلخ..

.2 ومنها: أن من سجايا اليهود وطبائعهم الغدر؛ لقوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض... } إلخ؛ لأن هذا نوع من الغدر بالمؤمنين..

.3 منها: أن بعضهم يلوم بعضاً على بيان الحقيقة حينما يرجعون إليهم؛ لقوله تعالى: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم )..

.4 ومنها: أن العلم من الفتح؛ لقولهم: { بما فتح الله عليكم }؛ ولا شك أن العلم فتح يفتح الله به على المرء من أنواع العلوم والمعارف ما ينير به قلبه..

.5 ومنها: أن المؤمن، والكافر يتحاجَّان عند الله يوم القيامة؛ لقولهم: { ليحاجُّوكم به عند ربكم }؛ ويؤيده قوله تعالى: ( ثم إنكم بعد ذلك لميِّتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } [المؤمنون: 15) ..

.6 ومنها: سفه اليهود الذين يتخذون من صنيعهم سلاحاً عليهم؛ لقولهم: ( أفلا تعقلون ).

.7 ومنها: الثناء على العقل، والحكمة؛ لأن قولهم: { أفلا تعقلون } توبيخ لهم على هذا الفعل؛ وأنه ينبغي للإنسان أن يكون عاقلاً؛ ما يخطو خطوة إلا وقد عرف أين يضع قدمه؛ ولا يتكلم إلا وينظر ما النتيجة من الكلام؛ ولا يفعل إلا وينظر ما النتيجة من الفعل: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً، أو ليصمت"(1) ..

.8 ومنها: أن كفر اليهود بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن علم؛ ولهذا صاروا مغضوباً عليهم..

.9 ومنها: توبيخ اليهود على التحريف؛ لقوله تعالى: { أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون

.10 ومنها: إثبات عموم علم الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( يعلم ما يسرون وما يعلنون )

.11 ومنها: الوعيد على مخالفة أمر الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { أولا يعلمون أن الله يعلم.... } الآية؛ لأن المقصود بذلك تهديد هؤلاء، وتحذيرهم..

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:76))أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (البقرة:77)

التفسير:

. 76 } قوله تعالى: { وإذا لقوا } الضمير يعود على اليهود؛ أي إذا قابلوا، واجتمعوا بـ{ الذين آمنوا } أي بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قالوا } أي بألسنتهم { آمنا } أي دخلنا في الإيمان كإيمانكم، وآمنا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا إذا لقوا المؤمنين؛ و{ إذا خلا بعضهم إلى بعض } أي إذا أوى بعضهم إلى بعض، وانفرد به قال بعضهم لبعض: { أتحدثونهم }: الاستفهام هنا للإنكار، والتعجب؛ والضمير الهاء يعود على المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم يعني يقول اليهود بعضهم لبعض إذا اجتمعوا: كيف تحدثون المؤمنين بالله ورسوله { بما فتح الله عليكم } أي من العلم بصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

{ ليحاجوكم به عند ربكم }: اللام للعاقبة . أي أن ما حدثتموهم به ستكون عاقبته أن يحاجوكم به عند ربكم..

قوله تعالى: { أفلا تعقلون }: الهمزة للاستفهام؛ والمراد به التوبيخ؛ يعني: أين عقولكم؟! أنتم إذا حدثتموهم بهذا، وقلتم: إن هذا الذي بُعث حق، وأنه نبي يحاجونكم به عند الله يوم القيامة..

قوله تعالى: { أفلا تعقلون }؛ الفاء واقعة بعد همزة الاستفهام؛ وهذا يكثر في القرآن: { أفلا تعقلون }؛ { أفلا تذكرون }؛ { أفلم يسيروا }؛ { أو لم يسيروا }؛ { أثم إذا ما وقع آمنتم به }؛ وأشباه ذلك؛ يعني أنه يأتي حرف العطف بعد همزة الاستفهام؛ وهمزة الاستفهام لها الصدارة في جملتها؛ ولا صدارة مع وجود العاطف؛ لأن الفاء عاطفة؛ فقال بعض النحويين: إن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عُطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف، وهذه الجملة تقدر بما يناسب المقام؛ وقال آخرون: بل إن الهمزة مقدمة؛ وإن حرف العطف هو الذي تأخر . يعني زُحلق حرف العطف عن مكانه، وجعلت الهمزة مكانه؛ وعلى هذا فيكون التقدير: فألا تعقلون؛ أما على الأول فيكون التقدير: أجهلتم فلا تعقلون؛ أو: أسفهتم فلا تعقلون... المهم يقدر شيء مناسب حسب السياق؛ فالقول الأول أدق؛ والثانية أسهل؛ لأن الثاني لا يحتاج عناءً وتكلفاً فيما تقدره بين الهمزة والعاطف..

قوله تعالى: { أو لا يعلمون }: الاستفهام هنا للتوبيخ، والإنكار عليهم لكونهم نزَّلوا أنفسهم منْزلة الجاهل؛ { أن الله يعلم ما يسرون }: يشمل ما يسره الإنسان في نفسه، وما يسره لقومه وأصحابه الخاصين به؛ { وما يعلنون } أي ما يظهرون لعامة الناس؛ فالله سبحانه وتعالى يعلم هذا، وهذا؛ ولا يخفى عليه شيء؛ والمعنى: كيف يؤنب بعضهم بعضاً بهذا الأمر وهم لو جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وأنكروا نبوَّته، ولم يؤمنوا فإن الله تعالى لا يخفى عليه الأمر؟! فسواء أقروا، أو لم يقروا عند الصحابة أن الرسول حق فإن الله تعالى عالم بهم..



الفوائد:

.1 ومن فوائد الآية: أن في اليهود منافقين؛ لقوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا... } إلخ..

.2 ومنها: أن من سجايا اليهود وطبائعهم الغدر؛ لقوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض... } إلخ؛ لأن هذا نوع من الغدر بالمؤمنين..

.3 منها: أن بعضهم يلوم بعضاً على بيان الحقيقة حينما يرجعون إليهم؛ لقوله تعالى: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم )..

.4 ومنها: أن العلم من الفتح؛ لقولهم: { بما فتح الله عليكم }؛ ولا شك أن العلم فتح يفتح الله به على المرء من أنواع العلوم والمعارف ما ينير به قلبه..

.5 ومنها: أن المؤمن، والكافر يتحاجَّان عند الله يوم القيامة؛ لقولهم: { ليحاجُّوكم به عند ربكم }؛ ويؤيده قوله تعالى: ( ثم إنكم بعد ذلك لميِّتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } [المؤمنون: 15) ..

.6 ومنها: سفه اليهود الذين يتخذون من صنيعهم سلاحاً عليهم؛ لقولهم: ( أفلا تعقلون ).

.7 ومنها: الثناء على العقل، والحكمة؛ لأن قولهم: { أفلا تعقلون } توبيخ لهم على هذا الفعل؛ وأنه ينبغي للإنسان أن يكون عاقلاً؛ ما يخطو خطوة إلا وقد عرف أين يضع قدمه؛ ولا يتكلم إلا وينظر ما النتيجة من الكلام؛ ولا يفعل إلا وينظر ما النتيجة من الفعل: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً، أو ليصمت"(1) ..

.8 ومنها: أن كفر اليهود بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن علم؛ ولهذا صاروا مغضوباً عليهم..

.9 ومنها: توبيخ اليهود على التحريف؛ لقوله تعالى: { أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون

.10 ومنها: إثبات عموم علم الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( يعلم ما يسرون وما يعلنون )

.11 ومنها: الوعيد على مخالفة أمر الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { أولا يعلمون أن الله يعلم.... } الآية؛ لأن المقصود بذلك تهديد هؤلاء، وتحذيرهم..

القـرآن

)وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (البقرة:78)

التفسير:

.{ 78 } قوله تعالى: { ومنهم } أي من اليهود؛ { أميون } أي بمنْزلة الأميين؛ والأُمّي من لا يعرف أن يقرأ، ولا أن يكتب؛ { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } أي إلا قراءة بدون فهم للمعنى؛ ومن لم يفهم المعنى فهو في حكم من لا يعرف القراءة؛ لأنه لا يستفيد شيئاً بقراءته؛ { وإن هم إلا يظنون } أي ما هم إلا يظنون؛ لأن الإنسان الذي لا يعرف إلا اللفظ ليس عنده علم..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن الأُمّية يوصف بها من لا يقرأ، ومن يقرأ ولا يفهم؛ لقوله تعالى: { ومنم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني }..

.2 ومنها: ذم من لا يعتني بمعرفة معاني كتاب الله عزّ وجلّ..

.3 ومنها: أن من لا يفهم المعنى فإنه لا يتكلم إلا بالظن؛ لقوله تعالى: { وإن هم إلا يظنون }؛ العامي يقرأ القرآن من أوله إلى آخره، لكن لا يفهم معناه؛ فإذا تكلم في حكم من أحكام الله الشرعية التي دل عليها الكتاب فإنما كلامه عن ظن؛ لأنه في الحقيقة لا يعلم؛ ولا يمكن أن يعلم إلا إذا فهم المعنى..

.4 ومنها: ذم الحكم بالظن، وأنه من صفات اليهود؛ وهذا موجود كثيراً عند بعض الناس الذين يحبون أن يقال عنهم: "إنهم علماء"؛ تجده يفتي بدون علم، وربما أفتى بما يخالف القرآن، والسنة وهو لا يعلم..

.5 ومنها: أن المقلد ليس بعالم؛ لأنه لا يفهم المعنى؛ وقد قال ابن عبد البر: "إن العلماء أجمعوا أن المقلد لا يعد في العلماء"؛ وهو صحيح: المقلد ليس بعالم؛ غاية ما هنالك أنه نسخة من كتاب؛ بل الكتاب أضبط منه؛ لأنه قد ينسى؛ وليس معنى ذلك أننا نذم التقليد مطلقاً؛ التقليد في موضعه هو الواجب؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النمل: 43 ..



القـرآن

)فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة:79)

التفسير:

.{ 79 } قوله تعالى: { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم... }؛ "ويل" كلمة وعيد؛ يتوعد الله تعالى من اتصفوا بهذه الصفة؛ وهي مبتدأ؛ وجاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأنها تفيد الوعيد . والوعيد معنًى خاص، فزال به إجمال النكرة المطلقة؛ و{ الكتاب } بمعنى المكتوب؛ والمراد به التوراة؛ { بأيديهم }: كلمة مؤكدة لقوله تعالى: { يكتبون }؛ أو مبينة للواقع؛ لأنه لا كتابة إلا باليد غالباً؛ والمعنى: أنهم يكتبونه بأيديهم، فيتحققون أنه ليس الكتاب المنَزَّل؛ فهم يباشرون هذه الجناية العظيمة؛ { ثم يقولون } أي بعدما كتبوه بأيديهم، وعرفوا أنه من صُنْع أيديهم؛ { هذا من عند الله } أي نزل من عند الله؛ { ليشتروا به } أي ليأخذوا به؛ واللام للتعليل؛ فإذا دخلت اللام على الفعل المضارع تكون للتعليل . كما هي هنا؛ وتكون للعاقبة، مثل: {ليكون لهم عدوًّا وحزناً} [القصص: 8] ؛ وتكون زائدة، مثل: {يريدون ليطفئوا نور الله} [الصف: 8] أي يريدون أن يطفئوا؛ لأن الفعل "يريد" يتعدى بنفسه بدون حرف الجرّ؛ { ثمناً قليلاً } أي عوضاً قليلاً؛ وهذا العوض القليل هو الرئاسة، والجاه، والمال، وغير ذلك من أمور الدنيا، كما قال تعالى: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء: 77] ؛ فمهما حصل في الدنيا من رئاسة، وجاه، ومال، وولد، فهو قليل بالنسبة للآخرة؛ كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل من حديث سهل بن سعد أن النبي (صلى الله عليه وسلم قال: "لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"(1) : الدنيا من أولها إلى آخرها برئاساتها، وأموالها، وبنيها، وقصورها، وكل ما فيها، وموضع السوط متر تقريباً؛ إذاً متاع الدنيا قليل..

قوله تعالى: { فويل لهم مما كتبت أيديهم }: هذا وعيد على فعلهم؛ { وويل لهم مما يكسبون }: هذا وعيد على كسبهم..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: الوعيد على الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله وهم كاذبون..

.2 ومنها: أنهم يفعلون ذلك من أجل الرئاسة، والمال، والجاه؛ لقوله تعالى: { ليشتروا به ثمناً قليلاً }؛ وقد ورد الوعيد على من طلب علماً يبتغى به وجه الله لينال عرضاً من الدنيا..

.3 ومنها: أن الدنيا كلها مهما بلغت فهي قليل، كما قال تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: 77)

.4 ومنها: أن الجزاء بحسب العمل؛ لقوله تعالى: ( فويل لهم مما كتبت أيديهم )

.5 ومنها: إثبات العلل، والأسباب؛ لقوله تعالى: { مما كتبت أيديهم }؛ فإن هذا بيان لعلة الوعيد؛ وهذه غير الفائدة السابقة؛ لأن الفائدة السابقة جزاؤهم بقدر ما كتبوا؛ وهذه بيان السبب..

.6 ومنها: أن عقوبة القول على الله بغير علم تشمل الفعل، وما ينتج عنه من كسب محرم؛ لقوله تعالى:

{ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون }؛ فما نتج عن المحرم من الكسب فإنه يأثم به الإنسان؛ مثلاً: إنسان عمل عملاً محرماً . كالغش . فإنه آثم بالغش؛ وهذا الكسب الذي حصل به هو أيضاً آثم به..

القـرآن

)وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:81)( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:82)



التفسير:

.{ 80 } قوله تعالى: { وقالوا } أي اليهود { لن تمسنا النار } أي لن تصيبنا نار الآخرة { إلا أياماً معدودة } يعنون أنهم يبقون فيها أياماً معدودة، ثم يخلفهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون؛ فنحن نقول: إقراركم على أنفسكم بدخول النار مقبول؛ ودعواكم الخروج من النار دعوى لا بينة لها؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى متحدياً إياهم: { قل } . الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. { أتخذتم عند الله عهداً } أي أأخذتم عند الله عهداً أن لا تمسكم النار إلا أياماً معدودة، ثم يخلفكم فيها الرسول، والمؤمنون؟! والاستفهام هنا للإنكار؛ و "العهد" الميثاق، والالتزام؛ { فلن يخلف الله عهده } أي إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلفه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد..

قوله تعالى: { أم تقولون على الله ما لا تعلمون }؛ قيل: إن { أم } متصلة؛ وقيل: إنها منقطعة؛ والفرق بينهما من وجهين: الأول: أن المنقطعة تكون بمعنى "بل"؛ و الثاني: أن ما بعدها منقطع عما قبلها؛ وأما المتصلة فتكون بمعنى "أو"، وما بعدها معادل لما قبلها؛ مثال المتصلة: قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة: 6] ؛ ومثال ال
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:12 am من طرف ahmadhamad
لاية 84 الي الاية 97
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85)( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:86)

التفسير:

.{ 84 . 85 } قوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم }: يذَكِّرهم الله سبحانه وتعالى بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ وبين الله تعالى الميثاق هنا بأمرين:.

الأول: قوله تعالى: { لا تسفكون دماءكم } أي لا تريقونها؛ و"السفك"، و"السفح" بمعنى واحد؛ والمراد بسفك الدم: القتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً"(1) أي يقتل نفساً بغير حق؛ و{ دماءكم } أي دماء بعضكم؛ لكن الأمة الواحدة كالجسد الواحد؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"(2) ، وقال: "ويجير عليهم أقصاهم(3)" ..

الأمر الثاني: قوله تعالى: { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم }؛ المراد: لا يخرج بعضكم بعضاً من دياركم؛ ولا شك أن الإخراج من الوطن شاق على النفوس؛ وربما يكون أشق من القتل..

قوله تعالى: { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } أي ثم بعد هذا الميثاق بقيتم عليه، وأقررتم به، وشهدتم عليه، ولم يكن الإقرار غائباً عنكم، أو منسياً لديكم؛ بل هو باق لا زائل؛ ثم بعد هذا الميثاق، والإقرار به، والشهادة عليه { أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم }؛ و{ هؤلاء } منادى حذف منه حرف النداء . أي: يا هؤلاء؛ وليست خبر المبتدأ؛ و{ أنتم }: مبتدأ خبره جملة: { تقتلون }؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإنما وجه إليهم؛ لأنهم من الأمة التي فعلت ذلك، ورضوا به..

وقوله تعالى: { تقتلون أنفسكم } أي يقتل بعضكم بعضاً؛ { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } أي تجلونهم عن الديار؛ وهذا وقع بين طوائف اليهود قرب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم..

قوله تعالى: { تظاهرون } بتخفيف الظاء؛ وفيها قراءة أخرى: { تظّاهرون } بتشديد الظاء؛ وأصله: تتظاهرون؛ ولكن أبدلت التاء ظاءً، ثم أدغمت بالظاء الأصلية؛ و{ تظاهرون } أي تعالَون؛ لأن الظهور معناه العلوّ، كما قال الله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } [الصف: 9] يعني ليعليه؛ وسمي العلوّ ظهوراً: من الظهر؛ لأن ظهر الحيوان أعلاه؛ وقيل: { تظاهرون } أي تعينون من يعتدي على بعضكم في عدوانه..

قوله تعالى: { بالإثم } أي بالمعصية؛ { والعدوان } أي الاعتداء على الغير بغير حق؛ فكل عدوان معصية؛ وليست كل معصية عدواناً . إلا على النفس: فالرجل الذي يشرب الخمر عاصٍ، وآثم؛ والرجل الذي يقتل معصوماً هذا آثم، ومعتد؛ والذي يخرجه من بلده آثم، ومعتد؛ ولهذا قال تعالى: { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان }؛ فهؤلاء بعد ما أخذ عليهم الميثاق مع الإقرار، والشهادة لم يقوموا به؛ أخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتظاهروا عليهم بالإثم، والعدوان..

قوله تعالى: { وإن يأتوكم } أي يجيئون إليكم؛ { أسارى }: جمع أسير؛ وتجمع أيضاً على أسرى، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} [الأنفال: 70] ؛ والأسير هو الذي استولى عليه عدوه؛ ولا يلزم أن يأسره بالحبل؛ لكن الغالب أنه يؤسر به؛ لئلا يهرب؛ و{ تفادوهم } أي تفكوهم من الأسر بفداء؛ وفي قراءة( تفدوهم )

قوله تعالى: { وهو محرم عليكم إخراجهم } يعني: تفدون المأسورين وهو محرم عليكم إخراجهم من ديارهم؛ فأنتم لم تقوموا بالإيمان بالكتاب كله؛ ولهذا قال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }؛ والاستفهام هنا للإنكار، والتوبيخ؛ والفاء في قوله تعالى: { أفتؤمنون } عاطفة؛ وسبق الكلام على مثل ذلك؛ أعني وقوع العاطف بعد همزة الاستفهام(1) ؛ ووجه كونهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض: أنهم كفروا بما نهوا عنه من سفك الدماء، وإخراج أنفسهم من ديارهم؛ وآمنوا بفدائهم الأسرى؛ والذي يعبد الله على هذه الطريق لم يعبد الله حقيقة؛ وإنما عبد هواه؛ فإذا صار الحكم الشرعي يناسبه قال: آخذ به؛ وإذا كان لا يناسبه راوغ عنه بأنواع التحريف، والتماس الأعذار..

قوله تعالى: { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة }؛ "ما" نافية؛ والجزاء، والمجازاة، والمعاقبة معناها واحد؛ أو متقارب؛ ومعنى "الجزاء" : إثابة العامل على عمله؛ والمعنى: ما ثوابكم على عملكم هذا إلا خزي في الحياة الدنيا؛ و "الخزي" معناه الذلّ..

قوله تعالى: { ويوم القيامة } أي يوم البعث؛ وسمي بذلك؛ لأن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين؛ ولأنه يقوم فيه الأشهاد؛ ولأنه يقام فيه العدل؛ و{ يوم القيامة } ظرف متعلق بـ{ يردون } أي يرجعون من ذلّ الدنيا، وخزيها؛ { إلى أشد العذاب } أي أعظمه؛ و{ العذاب }: العقوبة..

قوله تعالى: { وما الله بغافل }: هذه صفة سلبية . أي نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه صفة الغفلة؛ وذلك لكمال علمه، ومراقبته؛ و{ عما تعملون }: بالتاء؛ وفيها قراءة: { يعملون }: بالياء..

.{ 86 } قوله تعالى: { أولئك }: المشار إليه هؤلاء اليهود الذين نقضوا العهد؛ { اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } أي اختاروا الدنيا على الآخرة؛ فالآخرة عندهم مزهود فيها مبيعة؛ والدنيا مرغوب فيها مشتراة؛ ووصفت هذه الحياة بالدنيا لدنوها زمناً . لأنها سابقة على الآخرة؛ ولدنوها منْزلة . لأنها دون الآخرة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها(2)" ..

وقوله تعالى: { بالآخرة }: الباء هنا للبدل؛ وهي تدخل دائماً على الثمن، كقولهم: "اشتريت الثوب بدينار": فالدينار هو الثمن؛ ويقال: "اشتريت الدينار بثوب": فالثوب هو الثمن..

قوله تعالى: { فلا يخفف عنهم العذاب } أي لا يهوَّن عنهم لا زمناً، ولا شدة، ولا قوة؛ { ولا هم ينصرون } أي ولا أحد يمنع عنهم عذاب الله؛ لقوله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب * قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 49، 50] ؛ فهم يائسون من الخروج؛ فلم يقولوا: "أخرجنا من النار"، ولم يقولوا: "يخفف عنا دائماً"؛ بل قالوا: {يخفف عنا يوماً من العذاب} : يتمنون أن العذاب يخفف عنهم يوماً واحداً من الأبدي السرمدي؛ ولكن ذلك لا يحصل لهم؛ فيقال لهم توبيخاً، وتقريعاً، وتنديماً: { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا }؛ ولا ينفعهم الدعاء، كما قال تعالى: { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }، أي ضياع..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن بني إسرائيل أُخذ عليهم تحريم قتال بعضهم بعضاً؛ لقوله تعالى: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم )

.2 ومنها: تحريم إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم..

.3 ومنها: أن الأمة كالنفس الواحدة؛ لقوله تعالى: ( لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم ).

.4 ومنها: الأسلوب البليغ في قوله تعالى: { لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم }؛ وذلك أن مثل هذا التعبير فيه الحث البليغ على اجتناب ما نُهي عنه، وكأن الذي اعتدى على غيره قد اعتدى على نفسه

.5 ومنها: أن بني إسرائيل قد أقروا على أنفسهم بهذا الميثاق، وشهد بعضهم على بعض؛ لقوله تعالى: { ثم أقررتم وأنتم تشهدون..

.6 ومنها: بيان تمرد بني إسرائيل؛ حيث إنهم نقضوا العهد الذي أخذه الله عليهم، فصار بعضهم يقتل بعضاً، ويخرج بعضهم بعضاً من ديارهم..

.7 ومنها: أن بعضهم يتعالى على بعض بالإثم، والعدوان..

.8 ومنها: تحريم التظاهر على الغير بغير حق؛ لقوله تعالى: { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان }؛ وأما إذا علا عليه بحق فإن هذا لا بأس به؛ فإن الله سبحانه وتعالى فضل العباد بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ، وقال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] ..

.9 ومنها: تناقض بني إسرائيل في دينهم، وقبولهم للشريعة؛ حيث إنه يقتل بعضهم بعضاً، ويخرج فريقاً من ديارهم؛ ثم إذ أتى بعضهم أسيراً فاداه . أي دفع فدية لفك أسره؛ لأنه واجب عليهم في شريعتهم أن يفدي بعضهم بعضاً؛ وهذا من الإيمان ببعض الكتاب، والكفر ببعضه؛ ولهذا قال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }..

.10 ومنها: أن الكفر ببعض الشريعة كفر بجميعها؛ وجه ذلك أن الله توعد هؤلاء الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض؛ ومثل ذلك إذا آمن ببعض الرسل دون بعض فإنه كفر بالجميع؛ ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: { كذبت قوم نوح المرسلين } [الشعراء: 105] . ونوح هو أول الرسل لم يسبقه رسول؛ ومع ذلك جعل الله المكذبين له مكذبين لجميع الرسل؛ ولقوله تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا * أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} [النساء: 150، 151] ..

.11 ومن فوائد الآية: مضاعفة العقوبة على بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب )

.12 ومنها: إثبات يوم القيامة؛ وهو اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين مبعوثين من قبورهم..

.13 ومنها: تهديد الذين نقضوا العهد؛ لقوله تعالى: ( وما الله بغافل عما تعملون )

.14 ومنها: كمال علم الله سبحانه وتعالى، ومراقبته لخلقه..

.15 ومنها: إثبات أن صفات الله تعالى ثبوتية، ومنفية؛ لكن يجب أن نعلم أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله تعالى؛ وإنما النفي الواقع في صفاته لبيان كمال ضد ذلك المنفي؛ ففي قوله تبارك وتعالى: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] إثبات كمال العدل مع نفي الظلم عنه؛ وفي قوله تعالى: {وما مسَّنا من لغوب} [ق: 38] إثبات كمال القوة مع نفي اللغوب عنه؛ وعلى هذا فقس؛ فالضابط في الصفات التي نفاها الله تعالى عن نفسه أنها تدل على نفي تلك الصفة، وعلى ثبوت كمال ضدها..

.16 ومن فوائد الآية: توبيخ من اختار الدنيا على الآخرة؛ وهو مع كونه ضلالاً في الدين سفه في العقل؛ إذ إن الدنيا متاع قليل، ثم يزول؛ والآخرة خير، وأبقى..

.17 ومنها: أن هؤلاء القوم خالدون في العذاب أبد الآبدين؛ لقوله تعالى: { فلا يخفف عنهم العذاب }..

.18ومنها: أن المجرم لا يجد ناصراً له يمنعه من عذاب الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ولا هم ينصرون }..

مسألة :-

هذا الذي قصه الله تعالى علينا من أخبار بني إسرائيل مضمونه التحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه ولكن مع الأسف أن بعض هذه الأمة وقعوا في جنس ما وقع فيه بنو إسرائيل؛ وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم "لتركبن سنن من كان قبلكم(1)" ..

القـرآن

)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:88)

التفسير:

.{ 87 . 88 } قوله تعالى: { ولقد }: اللام موطئة للقسم؛ و "قد" للتحقيق؛ وعليه فتكون هذه الجملة مؤكّدة بثلاثة مؤكّدات . وهي: القسم المقدَّر، واللام الموطئة للقسم، و "قد" ؛ و{ آتينا } أي أعطينا؛ و{ موسى } هو ابن عمران أفضل أنبياء بني إسرائيل؛ و{ الكتاب }: المراد به هنا التوراة..

قوله تعالى: { وقفينا من بعده بالرسل } أي أتبعنا من بعده بالرسل؛ لأن التابع يأتي في قفا المتبوع..

قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم } أي أعطيناه { البينات }: صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: الآية البينات . أي الظاهرات في الدلالة على صدقه، وصحة رسالته؛ وهذه الآية البينات تشمل الآية الشرعية، كالشريعة التي جاء بها؛ والآية القدرية الكونية، كإحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله..

قوله تعالى: { وأيدناه } أي قويناه، كقوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14] أي قويناهم عليهم؛ وهو معروف اشتقاقه؛ لأنه من "الأيد" بمعنى القوة، كما قال الله تعالى: { والسماء بنيناها بأيد } [الذاريات: 47] أي بقوة..

قوله تعالى: { بروح القدس } من باب إضافة الموصوف إلى صفته . أي بالروح المقدس؛ و"القُدُس"، و"القُدْس" بمعنى الطاهر؛ واختلف المفسرون في المراد بـ "روح القدس":.

القول الأول : أن المراد روح عيسى؛ لأنها روح قدسية طاهرة؛ فيكون معنى: {أيدناه بروح القدس } أي أيدناه بروح طيبة طاهرة تريد الخير، ولا تريد الشر..

والقول الثاني : أن المراد بـ "روح القدس" : الإنجيل؛ لأن الإنجيل وحي؛ والوحي يسمى روحاً، كما قال الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] ..

و القول الثالث: أن المراد بـ "روح القدس" جبريل . عليه الصلاة والسلام . كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102] : وهو جبريل؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت وهو يهجو المشركين: "اللهم أيده بروح القدس"(2) أي جبريل؛ وهذا أصح الأقوال . وهو أن المراد بـ "روح القدس" : جبريل . عليه الصلاة والسلام . يكون قريناً له يؤيده، ويقويه، ويلقنه الحجة على أعدائه؛ وهذا الذي رجحناه هو الذي رجحه ابن جرير، وابن كثير . أن المراد بـ "روح القدس" : جبريل عليه الصلاة والسلام..

قوله تعالى: { أفكلما }: الهمزة للاستفهام الإنكاري، والتوبيخ؛ والفاء عاطفة؛ و "كلما" أداة شرط تفيد التكرار؛ ولا بد فيها من شرط، وجواب؛ والشرط هنا: قوله تعالى: { جاءكم }؛ والجواب: { استكبرتم }..

وقوله تعالى: { أفكلما جاءكم رسول } أي من الله؛ { بما } أي بشرع؛ { لا تهوى أنفسكم } أي لا تريد؛ { استكبرتم } أي سلكتم طريق الكبرياء، والعلوّ على ما جاءت به الرسل؛ { ففريقاً } أي طائفة؛ ونصب على أنه مفعول مقدم لـ{ كذبتم }؛ { وفريقاً تقتلون } أي وطائفة أخرى تقتلونهم؛ وقدم المفعول على عامله؛ لإفادة الحصر مع مراعاة رؤوس الآي؛ والحصر هنا في أحد شيئين لا ثالث لهما: إما التكذيب؛ وإما القتل . يعني مع التكذيب..

وهنا قال تعالى: { كذبتم } . فعل ماضٍ؛ وقال تعالى: { تقتلون } . فعل مضارع؛ فأما كون الأول فعلاً ماضياً فالأمر فيه ظاهر؛ لأنه وقع منهم التكذيب؛ وأما الإتيان بفعل مضارع بالنسبة للقتل فهو أولاً مراعاة لفواصل الآية؛ لأنه لو قال: "فريقاً قتلتم" لم تتناسب مع التي قبلها، والتي بعدها؛ ثم إن بعض العلماء أبدى فيها نكتة: وهي أن هؤلاء اليهود استمر قتلهم الرسل حتى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم الذي وضعوه له في خيبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ما زال يتأثر منه حتى إنه صلى الله عليه وسلم في مرض موته قال: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا أوان انقطاع الأبهر مني"(1) ؛ قال الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً؛ لأن اليهود تسببوا في قتله؛ وهذا ليس ببعيد أن يكون هذا من أسرار التعبير بالمضارع في القتل؛ وإن كان قد يَرِدُ عليه أن التكذيب استمر حتى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يقل: "فريقاً تكذبون وفريقاً تقتلون"؟! والجواب عن هذا أن القتل أشد من التكذيب؛ فعبر عنه بالمضارع المستمر إلى آخر الرسل..

فإن قيل: كيف يصح قول الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً؛ لأن اليهود كانوا سبباً في قتله، وقد قال الله تعالى: { والله يعصمك من الناس }؟

فالجواب: المراد بقوله تعالى: { يعصمك من الناس }: حال التبليغ؛ أي بلغ وأنت في حال تبليغك معصوم، ولهذا لم يعتد عليه أحد أبداً في حال تبليغه، فقتله..

قوله تعالى: { وقالوا } أي بنو إسرائيل معتذرين عن ردهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ { قلوبنا غلف } جمع أغلف؛ و"الأغلف" هو الذي عليه غلاف يمنع من وصول الحق إليه . يعني مغلفة لا تصل إليها دعوة الرسل؛ وهذه حجة باطلة؛ ولهذا قال تعالى: { بل لعنهم الله بكفرهم }؛ و{ بل } للإضراب الإبطالي . أي أن الله تعالى أبطل حجتهم هذه، وبيَّن أنه تعالى: { لعنهم } . أي طردهم، وأبعدهم عن رحمته؛ { بكفرهم } أي بسبب كفرهم، حيث اختاروا الكفر على الإيمان؛ و "كُفْر" مصدر مضاف إلى فاعله؛ ولم يذكر مفعوله ليعم الكفرَ بكل ما يجب الإيمان به..

قوله تعالى: { فقليلاً ما يؤمنون } أي قليلاً إيمانهم؛ وعلى هذا تكون { ما } إما مصدرية؛ وإما زائدة لتوكيد القلة؛ وهل المراد بالقلة العدم، أو هي على ظاهرها؟ المعنى الأول أقرب؛ لأن الظاهر من حالهم عدم الإيمان بالكلية؛ ولا يمتنع أن يراد بالقلة العدم إذا دلت عليه القرائن الحالية، أو اللفظية..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: إثبات رسالة موسى؛ لقوله تعالى: ( ولقد آتينا موسى الكتاب )

.2 ومنها: تأكيد الخبر ذي الشأن . وإن لم ينكر المخاطب؛ لقوله تعالى: { ولقد آتينا }؛ فإنها مؤكدة بثلاث مؤكدات مع أنه لم يخاطب بها من ينكر؛ وتأكيد الكلام يكون في ثلاثة مواضع:.

أولاً: إذا خوطب به المنكِر، وقد قال علماء البلاغة: إنه في هذه الحال يؤكد وجوباً..

ثانياً: إذا خوطب به المتردد؛ وقد قال علماء البلاغة: إنه في هذه الحال يؤكد استحساناً..

ثالثاً: إذا كان الخبر ذا أهمية بالغة فإنه يحسن توكيده . وإن خوطب به من لم ينكر، أو يتردد..

3 . ومن فوائد الآيتين: أن من بعد موسى من الرسل من بني إسرائيل تبع له؛ لقوله تعالى: { وقفينا من بعده بالرسل }؛ ويشهد لهذا قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار} (المائدة: 44)

.4 ومنها: ثبوت رسالة عيسى؛ لقوله تعالى: ( وآتينا عيسى بن مريم البينات )

.5 ومنها: أن من ليس له أب فإنه ينسب إلى أمه؛ لأن عيسى عليه السلام نسب إلى أمه..

وبهذا نعرف أن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن أم من ليس له أب شرعاً هي عصبته؛ فإن عدمت فعصبتها . خلافاً لمن قال: إن أمه ليس لها تعصيب؛ ويظهر أثر ذلك بالمثال: فلو مات من ليس له أب عن أمه، وخاله: فلأمه الثلث والباقي لخاله . على قول من يقول: إن الأم لا تعصيب لها؛ أما على القول الراجح: فلأمه الثلث فرضاً، والباقي تعصيباً..

.6 ومن فوائد الآيتين: أن عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم أعطاه الله سبحانه وتعالى آيات كونية، وشرعية؛ مثال الشرعية: الإنجيل؛ ومثال الكونية: إحياء الموتى، وإخراجهم من القبور، وإبراء الأكمه، والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً يطير بإذن الله؛ وكذلك أيضاً يخبرهم بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم؛ قال العلماء: إنما أعطي هذه الآية الكونية؛ لأن الطب في عهده ارتقى إلى درجة عالية، فأتاهم بآيات لا يقدر الأطباء على مثلها؛ كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم ترقى في عهده الكلام إلى منْزلة عالية في البلاغة، والفصاحة؛ فآتاه الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم الذي عجزوا أن يأتوا بمثله..

.7 ومن فوائد الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى أيد عيسى بجبرائيل؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس.

.8 ومنها: أن الملائكة من جملة تسخيرهم للخلق أنهم يؤيدون من أمَرَهم الله بتأييده؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "اللهم أيده بروح القدس(1)" ..

.9 ومنها: بيان عتوّ بني إسرائيل، وأنهم لا يريدون الحق؛ لقوله تعالى: ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون )

.10 ومنها: أن بني إسرائيل يبادرون بالاستكبار عند مجيء الرسل إليهم، ولا يتأنون؛ لقوله تعالى: { أفكلما جاءكم }، ثم قال تعالى: { استكبرتم }؛ لأن مقتضى ترتب الجزاء على الشرط أن يكون الجزاء عقيباً للشرط: كلما وجد الشرط وجد الجزاء فوراً..

.11 ومنها: توبيخ ولوم بني إسرائيل، وبيان مناهجهم بالنسبة للشرائع، وبالنسبة لمن جاء بالشرائع؛ ففي الشرائع: لا يقبلون إلا ما وافق أهواءهم، وبالنسبة لمن جاء بالشرائع بما لا تهوى أنفسهم: انقسموا إلى قسمين: فريقاً يكذبون؛ وفريقاً يقتلون مع التكذيب..

.12 ومنها: أن من استكبر عن الحق إذا كان لا يوافق هواه من هذه الأمة فهو شبيه ببني إسرائيل؛ فإذا استكبر عن الحق . سواء تحيل على ذلك بالتحريف؛ أو أقر بأن هذا الحق، ولكنه استكبر عنه . فإنه مشابه ببني إسرائيل..

والخارجون عن الحق ينقسمون إلى قسمين: قسم يقرُّ به، ويعترف بأنه عاصٍ؛ وهذا أمره واضح، وسبيله بين، وقسم آخر يستكبر عن الحق، ويحاول أن يحرف النصوص إلى هواه؛ وهذا الأخير أشد على الإسلام من الأول؛ لأنه يتظاهر بالاتباع وهو ليس من أهله..

.13 ومن فوائد الآيتين: أن بعض الناس يستكبر عن الحق؛ لأنه مخالف لهواه..

.14 ومنها: أن بني إسرائيل انقسموا في الرسل الذين جاءوا بما لا تهوى أنفسهم إلى قسمين: قسم كذبوهم؛ وقسم آخر قتلوهم مع التكذيب..

.15ومنها: أن هؤلاء الذين لم يقبلوا الحق احتجوا بما ليس بحجة؛ فقالوا: قلوبنا غلف..

.16 ومنها: أن من صنع مثل صنيعهم فهو شبيه بهم؛ يوجد أناس نسمع عنهم أنهم إذا نُصِحوا، ودُعوا إلى الحق قالوا: "ما هدانا الله"؛ وهؤلاء مشابهون لليهود الذين قالوا: ( قلوبنا غلف )

.17 ومنها: أن القلوب بفطرتها ليست غلفاء؛ لقوله تعالى: { بل لعنهم الله }؛ وهذا الإضراب للإبطال . يعني ليست القلوب غَلفاء لا تقبل الحق، لكن هناك شيء آخر هو الذي منع من وصل الحق؛ وهو لَعْن الله إياهم بسبب كفرهم..

.18 ومنها: أن الفطرة من حيث هي فطرة تقبل الحق، ولكن يوجد لها موانع..

.19 منها: بيان أن الأسباب مهما قويت إذا غلب عليها المانع لم تؤثر شيئاً؛ فالقلوب وإن كانت مفطورة على الدين القيم لكن إذا وجد موانع لم تتمكن من الهدى؛ وقد قيل: إن الأمور لا تتم إلا بوجود أسبابها، وانتفاء موانعها..

.20 ومنها: إثبات الأسباب، وأن لها تأثيراً في مسبباتها بإذن الله؛ لقوله تعالى: ( بل لعنهم الله بكفرهم ).

.21 ومنها: أن الإيمان في هؤلاء اليهود قليل، أو معدوم؛ لقوله تعالى: ( فقليلاً ما يؤمنون )

القـرآن

)وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة:89)

)بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (البقرة:90)

التفسير:

.{89 } قوله تعالى: { ولما جاءهم كتاب }: هو القرآن؛ ونكَّره هنا للتعظيم؛ وأكد تعظيمه بقوله تعالى:

{ من عند الله }، وأضافه الله تعالى إليه؛ لأنه كلامه . كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله..

قوله تعالى: { مصدق لما معهم }: له معنيان:.

الأول: أنه حكم بصدقها، كما قال في قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285] ؛ فهو يقول عن التوراة: إنه حق، وعن الإنجيل: إنه حق؛ وعن الزبور: إنه حق؛ فهو يصدقها، كما لو أخبرك إنسان بخبر، فقلت: "صدقت" تكون مصدقاً له..

المعنى الثاني: أنه جاء مطابقاً لما أخبرت الكتب السابقة . التوراة، والإنجيل؛ فعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ( قال: {إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] ؛ فجاء هذا الكتاب مصدقاً لهذه البشارة..

وقوله تعالى: { لما معهم } أي من التوراة، والإنجيل؛ وهذا واضح أن التوراة أخبرت بالرسول صلى الله عليه وسلم إما باسمه، أو بوصفه الذي لا ينطبق على غيره..

قوله تعالى: { وكانوا من قبل } أي من قبل أن يجيئهم {يستفتحون } أي يستنصرون، ويقولون سيكون لنا الفتح، والنصر { على الذين كفروا } أي من المشركين الذين هم الأوس، والخزرج؛ لأنهم كانوا على الكفر، ولم يكونوا من أهل الكتاب . كما هو معروف؛ فكانوا يقولون: إنه سيبعث نبي، وسنتبعه، وسننتصر عليكم؛ لكن لما جاءهم الشيء الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كفروا به؛ { فلعنة الله }: اللعنة: هي الطرد، والإبعاد عن رحمة الله؛ { على الكافرين } أي حاقة عليهم؛ وهو مظهر في موضع الإضمار؛ إذ كان مقتضى السياق: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله عليهم"؛ والإظهار في موضع الإضمار له فوائد؛ منها: مراعاة الفواصل كما هنا؛ ومنها الحكم على موضع الضمير بما يقتضيه هذا الوصف؛ ومنها الإشعار بالتعليل؛ ومنها إرادة التعميم..

.{ 90 } قوله تعالى: { بئسما اشتروا به أنفسهم }: "بئس" فعل ماضٍ لإنشاء الذم؛ يقابلها "نِعْم": فهي فعل ماضٍ لإنشاء المدح؛ و"بئس"، و"نعْم" اسمان جامدان لا يتصرفان . أي لا يتحولان عن صيغة الماضي؛ و "ما" اسم موصول بمعنى الذي . أي بئس الذي اشتروا به أنفسهم؛ أو إنها نكرة موصوفة، والتقدير: "بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم"، و{ اشتروا } فسرها أكثرهم بمعنى باعوا؛ وهو خلاف المشهور؛ لأن معنى "اشترى الشيء": اختاره؛ والمختار للشيء لا يكون بائعاً له؛ والصحيح أنها على بابها؛ ووجهه أن هؤلاء الذين اختاروا الكفر كانوا راغبين فيه، فكانوا مشترين له..

قوله تعالى: { أن يكفروا }: { أن } هنا مصدرية؛ والفعل بعدها مؤول بمصدر، والتقدير: كفرُهم؛ وهو المخصوص بالذم؛ وإعرابه مبتدأ مؤخر خبره الجملة قبله؛ { بما أنزل الله }: "ما" هذه اسم موصول بمعنى الذي؛ والمراد به: القرآن؛ لأنه تعالى قال في الأول: { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم}؛ و{ بغياً } مفعول لأجله عامله: قوله تعالى: { يكفروا }؛ و "البغي" فسره كثير من العلماء بالحسد؛ والظاهر أنه أخص من الحسد؛ لأنه بمعنى العدوان؛ لأن الباغي هو العادي، كما قيل: على الباغي تدور الدوائر؛ وقيل: البغي: مرتعُ مبتغيه وخيم؛ فالبغي ليس مجرد الحسد فقط؛ نعَم، قد يكون ناتجاً عن الحسد؛ والذين فسَّروه بالحسد فسَّروه بسببه..

قوله تعالى: { أن ينزل الله من فضله }: "الفضل" في اللغة: زيادة العطاء؛ والمراد بـ "الفضل" هنا الوحي، أو القرآن، كما قاله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} (يونس: 58).

قوله تعالى: { على مَن يشاء من عباده }: { مَنْ } اسم موصول؛ والمراد: النبي صلى الله عليه وسلم لأن القرآن في الحقيقة نزل على النبي صلى الله عليه وسلم للناس، كما قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1] ؛ و{ يشاء } أي يريد بالإرادة الكونية؛ والمراد بـ{ عباده } هنا الرسل..

قوله تعالى: { فباءوا } أي رجعوا؛ { بغضب }: الباء للمصاحبة . يعني رجعوا مصطحبين لغضب من الله سبحانه وتعالى؛ ونكَّره للتعظيم؛ ولهذا قال بعض الناس: إن المراد بـ "الغضب" : غضب الله سبحانه وتعالى، وغيره . حتى المؤمنين من عباده يغضبون من فعل هؤلاء، وتصرفهم..

قوله تعالى: { على غضب } . كقوله تعالى: {ظلمات بعضها فوق بعض} [النور: 40] . يعني غضباً فوق غضب؛ فما هو الغضب الذي باءوا به؟ وما هو الغضب الذي كان قبله؟

الجواب: الغضب الذي باءوا به أنهم كفروا بما عرفوا، كما قال تعالى: { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }؛ والغضب السابق أنهم استكبروا عن الحق إذا كان لا تهواه أنفسهم، كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} [البقرة: 87] ؛ والغضب الثالث: قتلهم الأنبياء، أو تكذيبهم؛ فهذه ثلاثة أنواع من أسباب الغضب؛ وقد يكون أيضاً هناك أنواع أخرى..

قوله تعالى: { وللكافرين عذاب مهين }: هذا إظهار في موضع الإضمار فيما يظهر؛ لأن ظاهر السياق أن يكون بلفظ الضمير . أي ولهم عذاب مهين؛ والإظهار في موضع الإضمار له فوائد سبق بيانها قريباً..

وقوله تعالى: { عذاب } أي عقوبة؛ و{ مهين } أي ذو إهانة، وإذلال؛ ولو لم يكن من إذلالهم . حين يقولون: { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } [المؤمنون: 107] . إلا قول الله عزّ وجلّ لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] لكفى..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: أن القرآن من عند الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( كتاب من عند الله )

.2 ومنها: أن القرآن كلامه سبحانه وتعالى تكلم به حقيقة؛ لقوله تعالى: { كتاب من عند الله }؛ ومعلوم أن الكلام ليس جسماً يقوم بنفسه حتى نقول: إنه مخلوق..

3 . ومنها: التنويه بفضل القرآن؛ لقوله تعالى: { مصدق لما معهم }، ولقوله تعالى: ( من عند الله )

.4 ومنها: أن اليهود كانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيبعث، وتكون له الغلبة؛ لقوله تعالى:

{ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } يعني يستنصرون . أي يطلبون النصر؛ أو يَعِدون به؛ فقبل نزول القرآن، وقبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون للعرب: إنه سيبعث نبي، وينْزل عليه كتاب، وننتصر به عليكم، ولما جاءهم الرسول الذي كانوا يستفتحون به كفروا به..

.5ومنها: أن اليهود لم يخضعوا للحق؛ حتى الذي يقرون به لم يخضعوا له؛ لأنهم كفروا به؛ فيدل على عتوهم، وعنادهم..

.6 . ومنها: أن الكافر مستحق للعنة الله، وواجبة عليه؛ لقوله تعالى: ( فلعنة الله على الكافرين )

.7 . استدل بعض العلماء بهذه الآية على جواز لعن الكافر المعين؛ ولكن لا دليل فيها؛ لأن اللعن الوارد في الآية على سبيل العموم؛ ثم هو خبر من الله عزّ وجلّ، ولا يلزم منه جواز الدعاء به؛ ويدل على منع لعن المعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم العن فلاناً، وفلاناً"(1) . لأئمة الكفر، فنهاه الله عن ذلك؛ ولأن الكافر المعين قد يهديه الله للإسلام إن كان حياً؛ وإن كان ميتاً فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"(2) ..

.8 ومن فوائد الآيتين: أن كفر بني إسرائيل ما هو إلا بغي، وحسد؛ لقوله تعالى: ( بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده)

.9ومنها: أن من رد الحق من هذه الأمة لأن فلاناً الذي يرى أنه أقل منه هو الذي جاء به؛ فقد شابه اليهود

.10 ومنها: أنه يجب على الإنسان أن يعرف الحق بالحق لا بالرجال؛ فما دام أن هذا الذي قيل حق فاتْبَعْه من أيٍّ كان مصدره؛ فاقبل الحق للحق؛ لا لأنه جاء به فلان، وفلان..

.11 ومنها: أن العلم من أعظم فضل الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { أن ينَزِّل الله من فضله على من يشاء }؛ ولا شك أن العلم أفضل من المال؛ وإذا أردت أن تعرف الفرق بين فضل العلم، وفضل المال فانظر إلى العلماء في زمن الخلفاء السابقين؛ الخلفاء السابقون قَلّ ذكرهم؛ والعلماء في وقتهم بقي ذكرهم: هم يُدَرِّسون الناس وهم في قبورهم؛ وأولئك الخلفاء نُسوا؛ اللهم إلا من كان خليفة له مآثر موجودة، أو محمودة؛ فدل هذا على أن فضل العلم أعظم من فضل المال..

.12 ومن فوائد الآيتين: إثبات مشيئة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { على من يشاء }؛ وهي عامة فيما يحبه الله، وما لا يحب؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ وكل شيء عُلِّق بالمشيئة فهو مقرون بالحكمة؛ لقوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] ؛ فليست أفعال الله وأحكامه لمجرد المشيئة؛ بل هي لحكمة بالغة اقتضت المشيئة..

.13 ومن فوائد الآيتين: أن هذا الفضل الذي نزله الله لا يجعل المفضَّل به رباً يُعْبد؛ بل هو من العباد . حتى ولو تميز بالفضل؛ لقوله تعالى: (على من يشاء من عباده ).

وهذه الفائدة لها فروع نوضحها، فنقول: إن من آتاه الله فضلاً من العلم والنبوة لم يخرج به عن أن يكون عبداً؛ إذاً لا يرتقي إلى منْزلة الربوبية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عبد من عباد الله؛ فلا نقول لمن نزل عليه الوحي: إنه يرتفع حتى يكون رباً يملك النفع، والضرر، ويعلم الغيب..

ويتفرع عنها أن من آتاه الله من فضله من العلم، وغيره ينبغي أن يكون أعبد لله من غيره؛ لأن الله تعالى أعطاه من فضله؛ فكان حقه عليه أعظم من حقه على غيره؛ فكلما عظم الإحسان من الله عزّ وجلّ استوجب الشكر أكثر؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل حتى تتورم قدماه؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: "أفلا أكون عبداً شكوراً(3)" ..

ويتفرع عنها فرع ثالث: أن بعض الناس اغتر بما آتاه الله من العلم، فيتعالى في نفسه، ويتعاظم حتى إنه ربما لا يقبل الحق؛ فحُرِم فضل العلم في الحقيقة..

.14من فوائد الآيتين: أن العقوبات تتراكم بحسب الذنوب جزاءً وفاقاً؛ لقوله تعالى: ( فباءوا بغضب على غضب).

15 . ومنها: أن المستكبر يعاقب بنقيض حاله؛ لقوله تعالى: { عذاب مهين } بعد أن ترفعوا؛ فعوقبوا بما يليق بذنوبهم؛ وعلى هذا جرت سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه؛ قال الله تعالى: {فكلًّا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40] ، وقال تعالى: {جزءًا وفاقاً} (النبأ: 26 ).

.16 ومنها: أن الإظهار في موضع الإضمار من أساليب البلاغة، وفيه من الفوائد ما سبق ذكره قريباً..

.17 ومنها: إثبات الغضب من الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: { فباءوا بغضب على غضب }؛ والغضب من صفات الله الفعلية المتعلقة بمشيئته؛ وهكذا كل صفة من صفات الله تكون على سبب..

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:91)

التفسير:

.{ 91 } قوله تعالى: { وإذا قيل لهم } أي لليهود؛ وأبهم القائل ليكون شاملاً لكل من قال لهم هذا القول: إما الرسول صلى الله عليه وسلم وإما غيره؛ { آمنوا بما أنزل الله } أي صدِّقوا به مع قبوله، والإذعان له؛ لأن الإيمان شرعاً: التصديق مع القبول، والإذعان؛ وليس كل من صدق يكون مؤمناً حتى يكون قابلاً مذعناً؛ والدليل على ذلك أن أبا طالب كان مصدقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن مؤمناً؛ لأنه لم يقبل، ولم يذعن؛ و "ما" اسم موصول؛ المراد به: القرآن العظيم؛ و{ أنزل الله } أي من عنده..

قوله تعالى: { قالوا }: هذا جواب: { إذا }؛ { نؤمن بما أنزل علينا } يعنون به التوراة؛ { ويكفرون بما وراءه} يعنون به القرآن؛ و "وراء" هنا بمعنى سوى؛ { وهو الحق }: هذه الجملة حال من "ما" في قوله تعالى: { بما وراءه } يعني أن هذا الذي كفروا به هو الحق؛ وضده الباطل . وهو الضائع سدىً الذي لا يستفاد منه؛ أما الحق فهو الثابت المفيد النافع؛ وهذا الوصف بلا شك ينطبق على القرآن؛ { مصدقاً }: حال أيضاً من { هو } أي الضمير؛ وسبق معنى كونه مصدقاً لما معهم؛ وقوله تعالى هنا: { لما معهم } يعني التوراة..

ثم قال تعالى مكذباً لقولهم: { نؤمن بما أنزل علينا }: { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين }؛ الخطاب في { قل } إما للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإما لكل من يتأتى خطابه؛ { فلم }: اللام حرف جر؛ و "ما" اسم استفهام دخل عليه حرف جر، فوجب حذف ألفها للتخفيف؛ والاستفهام للإنكار، والتوبيخ؛ يعني لو كنتم صادقين بأنكم تؤمنون بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله؛ لأن قتلهم لأنبياء الله مستلزم لكفرهم بهم . أي بأنبياء الله؛ { من قبل } أي من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

وقوله تعالى: { أنبياء } فيها قراءتان: { أنبئاء } بالهمزة؛ و{ أنبياء } بالياء، مثل: "النبي" ، و "النبيء" ؛ و"النبيء" جمعه أنبئاء؛ و"النبي" جمعه أنبياء..



الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: { آمنوا بما أنزل الله }؛ لأن ما أنزل الله هو القرآن . وهو كلام؛ والكلام ليس عيناً قائمة بذاتها؛ بل هو صفة في غيره؛ فإذا كان صفة في غيره، وهو نازل من عند الله لزم أن يكون كلام الله عزّ وجلّ..

.2 ومنها: علوّ الله سبحانه وتعالى؛ لأنه إذا كان القرآن كلامه، وهو نازل من عنده دلَّ على علوّ المتكلم به

.3 ومنها: كذب اليهود في قولهم: { نؤمن بما أنزل علينا }؛ لأنهم لو آمنوا به لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر...} [الأعراف: 157] إلخ..

.4 ومنها: عتوّ اليهود، وعنادهم؛ لأنهم يقولون: لا نؤمن إلا بما أنزل علينا..

.5 ومنها: أن من دُعي إلى الحق من هذه الأمة، وقال: "المذهب كذا، وكذا" . يعني ولا أرجع عنه ففيه شبه من اليهود . لأن الواجب إذا دعيت إلى الحق أن تقول: "سمعنا وأطعنا"؛ ولا تعارضه بأي قول كان، أو مذهب..

.6 ومنها: وجوب قبول الحق من كل من جاء به..

.7 ومنها: إفحام الخصم بإقامة الحجة عليه من فعله؛ ووجه ذلك أن الله أقام على اليهود الحجة على فعلهم؛ لأنهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا وهم قد قتلوا أنبياء الله الذين جاءوا بالكتاب إليهم؛ فإن قولهم: { نؤمن بما أنزل علينا } ليس بحق؛ لأنه لو كانوا مؤمنين حقيقة ما قتلوا الأنبياء؛ ولهذا قال تعالى: ( قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ).

القـرآن

)وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) (البقرة:92)

التفسير:

.{ 92 } قوله تعالى: { ولقد جاءكم موسى }: الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام الموطئة للقسم . وهي للتوكيد؛ و "قد" وهي هنا للتحقيق؛ لأنها دخلت على الماضي؛ و{ جاءكم }: الخطاب لليهود؛ والدليل على أنه لليهود قوله تعالى: { موسى }؛ لأن موسى نبيهم؛ وهنا خاطبهم باعتبار الجنس لا باعتبار الشخص؛ إذ إن موسى لم يأت هؤلاء الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه أتى بني إسرائيل الذين هؤلاء منهم..

قوله تعالى: { بالبينات }: الباء للمصاحبة، أو للتعدية؛ يعني: جاءكم مصحوباً بالبينات؛ أو أن البينات هي التي جيء بها، فتكون للتعدية؛ و "البينات" صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: بالآية البينات . أي بالعلامات الدالة على رسالته؛ ومنها: اليد، والعصا، والحجر، وفلق البحر، والجراد الذي أرسل على آل فرعون، والسنون، وأشياء كثيرة، مثل القمل، والضفادع، والدم..

قوله تعالى: { ثم }: تفيد الترتيب بمهلة . يعني ثم بعد أن مضى عليكم وقت أمكنكم أن تتأملوا في هذه الآية، وأن تعرفوها: الذي حصل أنكم لم ترفعوا بها رأساً: { اتخذتم العجل }: "اتخذ" من أفعال التصيير، كقوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا} [النساء: 125] يعني صيَّره؛ إذاً هي تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ، والخبر؛ المفعول الأول: { العجل }؛ والمفعول الثاني محذوف تقديره: إلهاً؛ وحذف للعلم به، كما قال ابن مالك في الألفية:.

وحذف ما يعلم جائز و{ العجل } هو ولد البقرة، وليس عجلاً من حيوان؛ ولكنه عجل من حلي: صنعوا من الحلي مجسماً كالعجل، وجعلوا فيه ثقباً تدخله الريح، فيكون له صوت كخوار الثور، فأغواهم السامري، وقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى فنسي؛ لأن موسى كان قد ذهب منهم لميقات ربه على أنه ثلاثون يوماً، فزاد الله تعالى عشراً، فصار أربعين يوماً؛ فقال لهم السامري: إن موسى ضلّ عن إلهه؛ ولهذا تخلف، فلم يرجع؛ فهو قد ضلّ، ولم يهتد إلى إلهه؛ فهذا إلهكم، وإله موسى، فاتَّخِذوه إلهاً..

قوله تعالى: { من بعده } أي من بعد ذهاب موسى لميقات ربه؛ لأن موسى رجع إليهم، وقال للسامري عن إلهه: {لنحرقنه ثم لننسفنَّه في اليم نسفاً} [طه: 97] ؛ وجرى هذا: فحرقه موسى صلى الله عليه وسلم، ونسفه في البحر..

قوله تعالى: { وأنتم ظالمون } أي معتدون؛ وأصل الظلم النقص، كما في قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33] ؛ وسمي العدوان ظلماً؛ لأنه نقص في حق المعتدى عليهم؛ وجملة: { وأنتم ظالمون } حال في موضع النصب من فاعل { اتخذتم } أي والحال أنكم ظالمون؛ وهذا أبلغ في القبح: أن يعمل الإنسان العمل القبيح وهو يعلم أنه ظالم..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: إقامة البرهان على عناد اليهود؛ ووجه ذلك أنه قد جاءهم موسى بالبينات، فاتخذوا العجل إلهاً..

2 . ومنها: سفاهة اليهود، وغباوتهم، لاتخاذهم العجل إلهاً مع أنهم هم الذين صنعوه..

.3 ومنها: أن اليهود اغتنموا فرصة غياب موسى مما يدل على هيبتهم له؛ لقوله تعالى: { من بعده } يعني من بعد ذهاب موسى إلى ميقات ربه..

.4 ومنها: أن اليهود عبدوا العجل عن ظلم، وليس عن جهل؛ لقوله تعالى: ( وأنتم ظالمون )



القـرآن

)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:93)

التفسير:

.{ 93 } قوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم }: { إذ } تأتي في القرآن كثيراً؛ والمعربون يعربونها بأنها مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: اذكر؛ وإذا كان الخطاب لأكثر من واحد يقدر: اذكروا، أي اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم؛ و "الميثاق" : العهد؛ وسمي العهد ميثاقاً؛ لأنه يتوثق به..

قوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور } وهو الجبل المعروف؛ رفعه الله عزّ وجلّ على رؤوسهم تهديداً لهم؛ فجعلوا يشاهدونه فوقهم كأنه ظلة؛ فسجدوا خوفاً من الله عزّ وجلّ، وجعلوا ينظرون إلى الجبل وهم يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى بكشف كربتهم؛ ولهذا ذكر بعض أهل العلم عن اليهود أنهم يرون أن أفضل سجدة يسجدون لله بها أن يسجدوا وقد أداروا وجوههم إلى السماء؛ يقولون: هذه السجدة أنجانا الله بها؛ فهي أشرف سجدة عندنا..

قوله تعالى: { خذوا } فعل أمر؛ وهو في محل نصب مقولاً لقول محذوف . أي: قلنا: خذوا . { ما أتيناكم } أي ما أعطيناكم؛ والمراد به التوراة { بقوة } أي بجدٍّ، ونشاط؛ فالجد: العزيمة الثابتة؛ والنشاط: القوة في التنفيذ؛ { واسمعوا } أي سماع قبول، واستجابة؛ فأمروا بأن يأخذوا بالتوراة بقوة، وأن يسمعوا، ويستجيبوا، وينقادوا؛ وكان الجواب: { قالوا سمعنا } أي بآذاننا؛ { وعصينا } أي بأفعالنا؛ فما سمعوا السمع الذي طُلب منهم؛ ولكنهم استكبروا عنه؛ وظاهر الآية الكريمة أنهم قالوا ذلك لفظاً: { سمعنا وعصينا }؛ وقال بعضهم: قالوا: { سمعنا } بألسنتهم، وعصوا بأفعالهم؛ فيكون التعبير بالعصيان هو عبارة عن أفعالهم، وأنهم لم يقولوا بألسنتهم: { وعصينا }؛ وهذا ضعيف؛ لأن الواجب حمل اللفظ على ظاهره حتى يقوم دليل صحيح على أنه غير مراد، ولأنه لا يمتنع أن يقولوا: "سمعنا وعصينا" بألسنتهم وهم الذين قالوا لموسى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] ؛ فالذين تجرأوا أن يقولوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} يتجرءون أن يقولوا: { سمعنا وعصينا } بألسنتهم؛ وكأن الذين قالوا: إن المراد بالمعصية هنا فعل المعصية؛ وليس معناه أنهم قالوا بألسنتهم: { وعصينا } كأنهم قالوا: إنهم التزموا بهذا والجبل فوق رؤوسهم؛ ومن كان هذه حاله لا يمكن أن يقول: "سمعنا، وعصينا" والجبل فوقه؛ ويمكن الجواب عن هذا بأنهم قالوا ذلك بعد أن فُرِّج عنهم؛ و"العصيان": هو الخروج عن الطاعة بترك المأمور، أو فعل المحظور؛ فمن ترك الجماعة وهي واجبة عليه فهو عاصٍ؛ ومن زنى، أو سرق، أو شرب الخمر فهو أيضاً عاصٍ لله. ورسوله..

قوله تعالى: { وأُشربوا في قلوبهم العجل }: قال بعضهم: إنه على تقدير مضاف؛ والتقدير: أشربوا في قلوبهم حب العجل؛ لأن العجل نفسه لا يمكن أن يشرب في القلب؛ ومعنى { أشربوا }: أنه جُعل هذا الحب كأنه ماء سقي به القلب؛ إذاً امتزج بالقلب كما يمتزج الماء بالمدر إذا أشرب إياه؛ والمدر هو الطين اليابس؛ فهذا القلب أشرب فيه حب العجل، ولكن عبر بالعجل عن حبه؛ لأنه أبلغ؛ فكأن نفس العجل دخل في قلوبهم؛ والذي أشرب هذا في قلوبهم هو الله سبحانه وتعالى؛ ولكن من بلاغة القرآن أن ما يكرهه الله يعبر عنه غالباً بالبناء لما لم يسم فاعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "والشر ليس إليك"(1) ، وقال الله تعالى عن الجن: {وأنَّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} [الجن: 10] ؛ ففي الشر قالوا: {أريد} ، ولم ينسبوه إلى الله؛ أما الرشد فنسبوه إلى الله عزّ وجلّ..

قوله تعالى: { بكفرهم }: الباء هنا للسببية؛ أي بسبب كفرهم بالله السابق على عبادة العجل؛ لأنهم قد نووا الإثم قبل أن يقعوا فيه؛ فصاروا كفاراً به، ثم أشربوا في قلوبهم العجل حتى صاروا لا يمكن أن يتحولوا عنه: قال لهم هارون صلى الله عليه وسلم {يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} [طه: 90] ؛ ولكن كان جوابهم لهارون: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [طه: 91] ؛ فأصروا؛ لأنهم أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم..

قوله تعالى: { قل }: يخاطب الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أو يخاطب كل من يصح توجيه الخطاب إليه . أي قل أيها
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:14 am من طرف ahmadhamad
الاية 98 الي الاية 111
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (البقرة:97)( مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:98)

التفسير:

.{ 97 } قوله تعالى: { قل } أي يا محمد؛ ويجوز أن يكون المراد: كل من يتوجه إليه الخطاب؛ { من كان عدواً لجبريل } أي معادياً له؛ "وجبريل" هو الملَك الموكل بالوحي؛ وكان اليهود يعادونه، ويقولون: "إنه ينْزل بالعذاب"؛ { فإنه نزله على قلبك }: فيه إعرابان: الأول: أن الجملة جواب الشرط؛ ووجه ارتباطه بفعل الشرط من الناحية المعنوية تأكيد ذم هؤلاء اليهود المعادين لجبريل، كأنه لم يكن فيه ما يوجب العداوة إلا أنه نزله على قلبك؛ وهذا يشبه تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول القائل:.

(ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب) فالمعنى: من كان عدواً لجبريل فلا موجب لعداوته إلا أنه نزله . أي القرآن . على قلبك؛ وهذا الوصف يقتضي ولايته . لا عداوته؛ وقيل: إن جواب الشرط محذوف؛ والتقدير: من كان عدواً لجبريل فليمت غيظاً؛ لكن الإعراب الأول أصح، وأبلغ..

وقوله تعالى: { على قلبك } أي قلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا كقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين * على قلبك} [الشعراء: 193، 194] ؛ وإنما كان نزوله على قلبه؛ لأن القلب محل العقل، والفهم، كما قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} [الحج: 46] ..

قوله تعالى: { بإذن الله } أي بإذنه الكوني القدري؛ { مصدقا لما بين يديه }: حال من الضمير . الهاء. في قوله تعالى { نزله }؛ يعني نزله حال كونه مصدقاً لما بين يديه . أي لما سبقه من الكتب، كالتوراة، والإنجيل، وغيرهما من الكتب التي أخبرت عن نزول القرآن؛ وسبق بيان معنى تصديق القرآن لما بين يديه.

قوله تعالى: { وهدًى } أي دلالة؛ { وبشرى } أي بشارة؛ و"البشارة" الإخبار بما يسر؛ وقد تأتي في الإخبار بما يضر، مثل قوله تعالى: { فبشره بعذاب أليم } [لقمان: 7] ؛ و{ للمؤمنين } متعلق بـ{ بشرى }؛ وإنما كان بشرى للمؤمنين خاصة؛ لأنهم الذين قبلوه، وانتفعوا به؛ "المؤمنون" أي الذين آمنوا بما يجب الإيمان به مع القبول، والإذعان؛ لأن الإيمان يدل على أمن، واستقرار؛ ولهذا قال بعض العلماء: إنه يكون في الأمور الغيبية دون الأمور المحسوسة..

.{ 98 } قوله تعالى: { من كان عدواً لله } أي معادياً له مستكبراً عن عبادته..

قوله تعالى: { وملائكته } يعني وعدواً لملائكته؛ و "الملائكة" جمع ملَك؛ وهم عالم غيبي خلقهم الله عزّ وجلّ من نور، وسخرهم لعبادته يسبحون الليل، والنهار لا يفترون؛ ومنهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أسماءهم في افتتاح صلاة الليل(149) ..

قوله تعالى: { ورسله } جمع رسول؛ وهم الذين أوحى الله تعالى إليهم بشرع، وأمرهم بتبليغه؛ أولهم نوح، وآخرهم محمد . صلى الله عليهم وسلم أجمعين..

قوله تعالى: { وجبريل وميكال }: معطوف على قوله تعالى: { وملائكته } من باب عطف الخاص على العام؛ وعطف الخاص على العام يدل على شرف الخاص؛ فجبريل موكل بالوحي من الله إلى الرسل؛ و{ ميكال } هو ميكائيل الموكل بالقطر، والنبات؛ وخص هذين الملكين؛ لأن أحدهما موكل بما تحيى به القلوب وهو جبريل؛ والثاني موكل بما تحيى به الأرض وهو ميكائيل..

قوله تعالى: { فإن الله عدو للكافرين }: هذا جواب الشرط: من كان عدواً لله فالله عدو له؛ ومن كان عدواً للملائكة فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لرسله فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لجبريل فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لميكائيل فإن الله عدو له؛ وهنا أظهر في موضع الإضمار لفائدتين؛ إحداهما: لفظية؛ والثانية: معنوية؛ أما الفائدة اللفظية: فمناسبة رؤوس الآي؛ وأما الفائدة المعنوية فهي تتضمن ثلاثة أمور: الأول: الحكم على أن من كان عدواً لله ومن ذُكر، بأنه يكون كافراً؛ يعني: الحكم على هؤلاء بالكفر؛ الثاني: أن كل كافر سواء كان سبب كفره معاداة الله، أو لا، فالله عدو له، ثالث: بيان العلة . وهي في هذه الآية: الكفر..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: أن من الناس من يكون عدواً لملائكة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { قل من كان عدواً لجبريل }: ووجه ذلك: أن مثل هذا لكلام لو لم يكن له أصل لكان لغواً من القول؛ والقرآن منزه عن هذا اللغو..

.2 ومنها: فضيلة جبريل . عليه الصلاة والسلام . لأن الله تعالى دافع عنه..

.3 ومنها: ذكر الوصف الذي يستحق أن يكون به ولياً لجبريل؛ لقوله تعالى: { فإنه نزله على قلبك } يعني: ومن كان هذه وظيفته فإنه يستحق أن يكون ولياً..

.4 . ومنها: إثبات علوّ الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { فإنه نزله }؛ وإنما نزل به من عند الله؛ والنّزول لا يكون إلا من أعلى..

.5 ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وعى القرآن وعياً كاملاً لا يتطرق إليه الشك؛ لقوله تعالى: { نزله على قلبك }؛ لأن ما نفذ إلى القلب حلّ في القلب؛ وإذا حلّ في القلب فهو في حرز مكين..

.6 ومنها: أن هذا القرآن إنما نزل بإذن الله؛ لقوله تعالى: { نزله على قلبك بإذن الله }؛ والإذن هنا كوني؛ وقد ذكر العلماء أن إذن الله تعالى نوعان:.

كوني: وهو المتعلق بالخلق، والتكوين، ولا بد من وقوع ما أذِن الله تعالى فيه بهذا المعنى؛ مثاله قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255] ، وقوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} [البقرة: 102] وقوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله} [التغابن: 11] ..

والثاني شرعي: وهو ما يتعلق بالشرع، والعبادة؛ مثاله قوله تعالى: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] ؛ وقوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] ؛ والفرق بينهما أن المأذون به شرعاً قد يقع، وقد لا يقع؛ وأما المأذون به قدراً فواقع لا محالة؛ ومن جهة أخرى: أن المأذون به شرعاً محبوب إلى الله عزّ وجلّ؛ والمأذون به قدراً قد يكون محبوباً، وقد يكون غير محبوب..

7 . ومن فوائد الآيتين: أن القرآن بشرى للمؤمنين؛ وعلامة ذلك أنك تنتفع به؛ فإذا وجدت نفسك منتفعاً به حريصاً عليه تالياً له حق تلاوته فهذا دليل على الإيمان، فتناله البشرى؛ وكلما رأى الإنسان من نفسه كراهة القرآن، أو كراهة العمل به، أو التثاقل في تطبيقه فليعلم أنه إنما فاقد للإيمان بالكلية، أو أن إيمانه ناقص..

.8 . ومنها: أن من عادى الله فهو كافر؛ لقوله تعالى: { من كان عدواً لله }، ثم قال تعالى: ( فإن الله عدوّ للكافرين ).

.9 ومنها: أن من كان عدواً للملائكة، أو للرسل فإنه عدو لله؛ لأن الملائكة رسل الله، كما قال تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} [فاطر: 1] ؛ والرسل البشريون أيضاً رسل لله؛ فمن عادى ملائكة الله من جبريل أو غيره، أو عادى الرسل من محمد أو غيره فقد عادى الله عزّ وجلّ..

فإن قيل: فهل من عادى المؤمنين يكون معادياً لله ؟

فالجواب: هذا محل توقف في دلالة الآية عليه؛ اللهم إلا إذا عادى المؤمنين لكونهم تمسكوا بشريعة الرسل؛ فهذا يظهر أن الله يكون عدواً لهم، لأن من عاداهم إنما فعل ذلك بسبب أنهم تمسكوا بما جاءت به الرسل؛ فكان حقيقة معاداتهم أنهم عادوا رسل الله، كما قال أهل العلم في قوله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3] أي مبغضك، ومبغض ما جئت به من السنة هو الأبتر؛ وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى في الحديث القدسي قال: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"(150) ..

10 . ومن فوائد الآيتين: أن كل كافر فاللَّه عدوّ له؛ لقوله تعالى: ( فإن الله عدوّ للكافرين )

11 . ومنها: إثبات صفة العداوة من الله . أي أن الله يعادي؛ وهي صفة فعلية كالرضا، والغضب، والسخط، والكراهة؛ و "المعاداة" ضدها الموالاة الثابتة للمؤمنين، كما قال الله تعالى: (الله وليّ الذين آمنوا) (البقرة: 257)

القـرآن

)وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) (البقرة:99)

التفسير:

.{ 99 } قوله تعالى: { ولقد }: سبق الكلام عليها؛ { أنزلنا إليك }: الإنزال إنما يكون من الأعلى إلى الأسفل؛ وذلك؛ لأن القرآن كلام الله؛ والله تعالى فوق عباده..

قوله تعالى: { آيات } جمع آية؛ والآية في اللغة: العلامة، لكنها في الحقيقة أدق من مجرد العلامة؛ لأنها تتضمن العلامة، والدليل؛ فكل آية علامة . ولا عكس؛ لكن العلماء . رحمهم الله . قد يفسرون الشيء بما يقاربه، أو يلازمه . وإن كان بينهما فرق، كتفسيرهم "الريب" بالشك في قوله تعالى: {لا ريب فيه} [البقرة: ] مع أن "الريب" أخص من مطلق الشك؛ لأنه شك مع قلق؛ وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "أصول التفسير"..

قوله تعالى: { بينات } جمع بينة؛ وهن الواضحات في ذاتها، ودلالتها..

وقوله تعالى: { وما يكفر بها } أي بهذه الآيات البينات؛ { إلا الفاسقون } أي الخارجون عن شريعة الله؛ فالمراد بـ "الفسق" هنا الفسق الأكبر، كقوله تعالى في سورة السجدة: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} [السجدة: 20]

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن القرآن وحي من الله عزّ وجلّ..

.2 ومنها: عظمة القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى أضافه إليه، وجعله آية..

3 . ومنها: ثبوت علوّ الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات }؛ والنّزول لا يكون إلا من أعلى؛ وعلوّ الله سبحانه وتعالى من صفاته الذاتية اللازمة له التي لم يزل، ولا يزال متصفاً بها؛ وأما استواؤه على العرش فإنه من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته..

.4 ومنها: وصف القرآن بأنه آيات بينات، ولا ينافي هذا قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7] ؛ لأن هذا التشابه يكون متشابهاً على بعض الناس دون بعض؛ ولأنه يُحمل على المحكم، فيكون الجميع محكماً، كما قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم...} [آل عمران: 7] الآية..

فالحاصل: أن القرآن . ولله الحمد . آيات بينات؛ ولكنه يحتاج إلى قلب ينفتح لهذا القرآن حتى يتبين؛ أما قلب يكره القرآن، ثم يأتي بما يُشتَبه فيه ليضرب القرآن بعضه ببعض فهذا لا يتبين له أبداً؛ إنما يتبين الهدى من القرآن لمن أراد الهدى؛ وأما من لم يرده فلا؛ ولهذا قال تعالى: { وما يكفر بها إلا الفاسقون }..

5. ومن فوائد الآية: أنه لا يكفر بالقرآن إلا الفاسق..

6. ومنها: أن من كفر به فهو فاسق..

.7 ومنها: إطلاق الفاسق على الكافر؛ وعلى هذا يكون الفسق على نوعين:.

فسق أكبر مخرج عن الملة، كما في قوله تعالى: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} [السجدة: 19، 20] الآية؛ ووجه الدلالة أنه تعالى جعل الفسق هنا مقابلاً للإيمان..

والثاني: فسق أصغر لا يخرج من الإيمان؛ ولكنه ينافي العدالة، كقوله تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] : فعطف {الفسوق} على {الكفر} ؛ والعطف يقتضي المغايرة..

مسألة :-

تنقسم آيات الله تعالى إلى قسمين: كونية، وشرعية؛ فالكونية مخلوقاته، كالشمس، والقمر، والنجوم، والإنسان، وغير ذلك؛ قال الله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37] ، وقال تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} [الروم: 22] ؛ وأما الشرعية فهي ما أنزله الله تعالى على رسله من الشرائع، كقوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته} [الجمعة: 2] ، وقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم..} [سبأ: 43] الآية، وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها..

القـرآن

)أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100)

)وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:101)

التفسير:.

.{ 100 } قوله تعالى: { أوَ كلما }: الهمزة هنا للاستفهام؛ والواو للعطف؛ ومثل هذه الصيغة متكررة في القرآن كثيراً؛ وقد سبق الكلام عليها؛ أما { كلما } فإنها أداة شرط تفيد التكرار . أي كثرة وقوع شرطها، وجوابها؛ وكلما حصل الشرط حصل الجواب؛ فإذا قلت: "كلما جاء زيد فأكرمه" اقتضى تكرار إكرامه بتكرر مجيئه قلّ، أو كثر..

قوله تعالى: { عاهدوا عهداً }؛ "العهد" : الميثاق الذي يكون بين الطوائف سواء كان ذلك بين أمة مسلمة وأمة كافرة؛ أو بين أمتين مسلمتين؛ أو بين أمتين كافرتين؛ والضمير في { عاهدوا } يعود على اليهود؛ { نبذه فريق منهم }: "النبذ" : الطرح، والترك . أي ترك هذا العهد جماعة منهم . أي من اليهود . فطرحوه، ولم يفوا به؛ وهذا هو حال بني إسرائيل مع الله سبحانه وتعالى، ومع عباد الله؛ فالله تعالى أخذ عليهم العهد، والميثاق؛ ومع ذلك نبذوا العهد، والميثاق؛ والنبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم، ونبذوا عهده..

قوله تعالى: { بل أكثرهم لا يؤمنون }: هذا الإضراب للانتقال من وصف إلى وصف: من وصف نقض العهد ونبذه، إلى وصف عدم الإيمان؛ فعليه يكون هذا الإضراب إثباتاً لما قبله، وزيادة وصف . وهو انتفاء الإيمان عن أكثرهم؛ لأن المؤمن حقيقة لا بد أن يفي بالعهد، كما قال الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34] ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن آية المنافق ثلاث: "إذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر..."(151) ؛ ولو أنهم آمنوا ما نقضوا العهد الذي بينهم وبين الله، أو الذي بينهم وبين عباد الله..

.{101 } قوله تعالى: { ولما جاءهم رسول من عند الله }؛ { لما } هنا شرطية؛ وهي على أربعة أنحاء في اللغة العربية: شرطية؛ ونافية جازمة؛ وبمعنى "إلا"؛ وبمعنى "حين"؛ و{ من عند الله } صفة لـ{ رسول } أي رسول مرسل من عند الله . وهو محمد صلى الله عليه وسلم

قوله تعالى: { مصدق لما معهم } أي للذي معهم من التوراة إن كانوا من اليهود، ومن الإنجيل إن كانوا من النصارى؛ والحديث في هذه الآيات كلها عن اليهود؛ وتقدم معنى { مصدق لما معهم }؛ فكان على اليهود، والنصارى أن يفرحوا بهذا القرآن؛ لأنه مؤيد لما معهم؛ ولكن الأمر كان بالعكس!!!.

قوله تعالى: { نبذ } أي طرح بشدة { فريق } أي جماعة { من الذين أوتوا } أي أُعطوا؛ و{ الكتاب }: مفعول ثان لـ{ أوتوا }؛ ومفعولها الأول: الواو، وهي نائب الفاعل؛ و "أل" هنا للعهد الذهني؛ وهو بالنسبة لليهود التوراة؛ وبالنسبة للنصارى الإنجيل؛ و{ كتاب الله } أي القرآن؛ وهو مفعول { نبذ }؛ وأضيف إلى الله لأنه المتكلم به؛ فالقرآن الذي نقرؤه الآن هو كلام ربنا . تبارك وتعالى . تكلم به حقيقة بلفظه، ومعناه، وسمعه منه جبريل، ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حتى وعاه، وأداه إلى الصحابة؛ والصحابة أدوه إلى التابعين، وهكذا حتى بقي إلى يومنا هذا . ولله الحمد؛ وسمي القرآن كتاباً، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ؛ وفي الصحف التي بأيدي الملائكة؛ وفي الصحف التي بأيدي البشر..

قوله تعالى: { وراء ظهورهم } أي رموه بشدة وراء الظهر؛ وهو عبارة عن الانصراف التام عنه؛ لأنهم لو نبذوه أمامهم، أو عن اليمين، أو عن الشمال لكان من الجائز أن يكونوا يأخذون به؛ لكن من ألقاه وراء ظهره كان ذلك أبلغ في التولي، والإعراض عنه، وعدم الرجوع إليه؛ لأن الشيء إذا خُلِّف وراء الظهر فإنه لا يرجع إليه..

قوله تعالى: { كأنهم لا يعلمون }: "كأن" لها معنى، ولها عمل؛ عملها: عمل "إنّ" . تنصب الاسم، وترفع الخبر؛ وأما معناها: فهو هنا التشبيه . يعني كأنهم في نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم لا يعلمون أنه حق..

الفوائد:

.1 من فوائد الآيتين: أن اليهود لا يوثق منهم بعهد؛ لأنهم كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم..

.2 ومنها: أن نبذ فريق من الأمة يعتبر نبذاً من الأمة كلها. ما لم يتبرؤوا منه؛ فإن تبرؤوا منه فإنهم لا يلحقهم عاره؛ لكن إذا سكتوا فإن نبذ الفريق نبذ للأمة كلهم؛ وجه ذلك أن الله وبخ هؤلاء على نبذ فريق منهم مع أنهم لم يباشروه..

.3 ومنها: أن من أهل الكتاب من لم ينبذ كتاب الله وراء ظهره؛ بل آمن به كالنجاشي من النصارى، وعبد الله بن سلام من اليهود..

.4 ومنها: أن من نبذ العهد من هذه الأمة فقد ارتكب محظورين:.

أحدهما: النفاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف؛ وإذا اؤتمن خان"(152) ، وفي الحديث الآخر: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها..."(153) ، وذكر منها: "إذا عاهد غدر" ..

والمحظور الثاني: مشابهة اليهود..

.5 ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق؛ لقوله تعالى: ( من عند الله).

.6 ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرت به الكتب السابقة؛ لقوله تعالى: ( مصدق لما معهم).

.7 ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تقرر ما سبق من رسالات الرسل، لقوله تعالى: (مصدق لما معهم).

.8 ومنها: أنه مع هذا البيان والوضوح، فإن فريقاً من الذين أوتوا الكتاب نبذوا هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم..

.9 . ومنها: أن نبذ من عنده كتاب وعلم أقبح ممن ليس عنده ذلك؛ ولهذا نص على قوله تعالى: { فريق من الذين أوتوا الكتاب }؛ لإظهار شدة القبح من هؤلاء في نبذهم؛ لأن النبذ مع العلم أقبح من النبذ مع الجهل..

.10 ومنها: أن القرآن كلام الله، لأن الله تعالى أضافه إليه في قوله تعالى: ( كتاب الله).

.11 ومنها: توكيد قبح ما صنع هؤلاء المكذبون؛ لقوله تعالى: { كأنهم لا يعلمون }؛ لأنهم في الواقع يعلمون؛ ولكن فعلهم كأنه فعل من لم يعلم؛ وكفر من علم أشد من كفر من لم يعلم..

.12 ومنها: أن هذا النبذ الذي كان منهم لا يرجى بعده قبول؛ لقوله تعالى: { وراء ظهورهم }؛ لأن النبذ لو كان أمامهم ربما يتلقونه بعد؛ كذلك لو كان عن اليمين، والشمال، لكن إذا كان وراء الظهر فمعناه استبعاد القبول منهم..

13 . ومنها: شدة كراهية اليهود للقرآن، واستهانتهم به، حيث نبذوه وراء ظهورهم..

القـرآن

)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102)

التفسير:

.{ 102 } قوله تعالى: { واتبعوا } أي اليهود؛ و{ تتلو } هنا ليست بمعنى "تقرأ"؛ لكنه من: تلاه يتلوه . بمعنى: "تبعه" .؛ أي ما تَتْبعه الشياطين، وتأخذ به؛ { على ملك سليمان } أي في ملكه؛ أي في عهده؛ وإنما قال تعالى: { على ملك سليمان }؛ لأن الله جمع له بين النبوة، والملك، ووهبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده: فسخر له الرياح، والجن، والشياطين؛ فإن سليمان عليه السلام كان ملكاً نبياً رسولاً؛ وكل من ذكر في القرآن من الأنبياء فهم أنبياء رسل؛ لقوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك} [غافر: 78] ؛ وعند اليهود . قاتلهم الله . أن سليمان ملك فقط؛ وهو لا ريب ملك، ونبي، ورسول؛ وسليمان كان بعد موسى عليه السلام؛ لقوله تعالى: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى...} [البقرة: 246] إلى قوله تعالى: {وقتل داود جالوت} [البقرة: 251] ؛ وسليمان هو ابن داود . عليهما السلام ...

قوله تعالى: { وما كفر سليمان } أي بتعلم السحر؛ أو تعليمِه..

قوله تعالى: { ولكنَّ الشياطينَ كفروا } بتشديد نون { لكنَّ }، ونصب { الشياطينَ }؛ وفي قراءة سبعية بتخفيف نون { لكن } وإسكانها ثم كسرها تخلصاً من التقاء الساكنين؛ و{ الشياطينُ } برفع النون؛ فعلى القراءة الأولى تكون الواو حرف عطف، و{ لكنّ } حرف استدراك يعمل عمل "إنّ" ينصب الاسم، ويرفع الخبر، و{ الشياطينَ } اسمها، وجملة: { كفروا } خبرها؛ وعلى قراءة التخفيف تكون الواو للعطف، و{ لكن } حرف استدراك مبني على السكون حُرِّك بالكسر لالتقاء الساكنين، و{ الشياطين } مبتدأ، وجملة: { كفروا } خبر المبتدأ..

وقوله تعالى: { ولكن الشياطين } جمع شيطان؛ وجاءت بالجمع؛ لأن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض، ويعلم بعضهم بعضاً؛ و{ كفروا }: فسَّر هذا بقوله تعالى: {يعلمون الناس السحر} ؛ و"السحر" في اللغة هو كل شيء خفيَ سببه، ولطف؛ ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً"(154) ؛ لأن البيان . وهو الفصاحة . يجذب النفوس، والأسماع حتى إن الإنسان يجد من نفسه ما يشده إلى سماع هذا البيان، والتأثر به، فيسحر الناس؛ لكن ليس هو السحر الذي ورد ذمه؛ وإنما المراد بالسحر المذموم: عُقَد، ورُقى ينفث فيها الساحر، فيؤثر في بدن المسحور، وعقله؛ وهو أنواع: منه ما يقتل؛ ومنه ما يمرض؛ ومنه ما يزيل العقل، ويخدر الإنسان؛ ومنه ما يغير حواس المرء، بحيث يسمع ما لم يكن، أو يشاهد الساكن متحركاً، أو المتحرك ساكناً؛ ومنه ما يجلب المودة؛ ومنه ما يوجب البغضاء؛ المهم أن السحر أنواع؛ وأهله يعرفون هذه الأنواع..

قوله تعالى: {يعلمون الناس السحر} جملة حالية من الفاعل في { كفروا } يعني حال كونهم يعلمون الناس السحر؛ ويجوز أن تكون استئنافية لبيان نوع كفرهم..

قوله تعالى: { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } يعني واتبعوا أيضاً ما أنزل على الملكين؛ والجملة معطوفة على قوله: { واتبعوا ما تتلو }؛ و{ الملَكين } بفتح اللام تثنية ملَك؛ والفرق بين "ملَك" و"ملِك" أن "الملَك" بفتح اللام واحد الملائكة؛ و"الملِك" بكسر اللام: الحاكم الذي له سلطة؛ و "بابل" اسم لبلد في العراق؛ و{ هاروت وماروت } عطف بيان على { الملكين } لبيان اسمهما؛ وهما اسمان أعجميان؛ والمنزَّل عليهما شيء من أنواع السحر..

قوله تعالى: { وما يعلِّمان } أي الملكان هاروت، وماروت { من أحد } أي أحداً؛ وزيدت { مِن } للتوكيد..

قوله تعالى: { حتى يقولا إنما نحن فتنة } أي اختبار للناس؛ ليتبين من يريد السحر ممن لا يريده..

قوله تعالى: { فلا تكفر } أي بتعلم السحر { فيتعلمون } أي الناس { ما يفرقون به } أي سحراً يفرقون به { بين المرء وزوجه }؛ ويسمى هذا النوع من السحر "الصرف"؛ ويقابله سحر "العطف"؛ وهو من أشد أنواع السحر؛ لأنه يصل بصاحبه إلى الهيمان، والخبل..

قوله تعالى: { وما هم بضارين به من أحد } أي ما هؤلاء المتعلمون للسحر بضارين به أحداً { إلا بإذن الله } أي إلا بإذنه القدري . وهو بمعنى المشيئة .؛ و{ مِن } في قوله تعالى: { من أحد } زائدة للتوكيد.

قوله تعالى: { ويتعلمون } أي الناس من الملكين { ما يضرهم ولا ينفعهم } أي ما مضرته محضة لا نفع فيها..

قوله تعالى: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق }: الجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام الواقعة في جوابه، و "قد" ؛ و{ لمن اشتراه }: اللام لام الابتداء؛ وهي معلِّقة للفعل { علموا } عن العمل؛ و "مَن" مبتدأ؛ وخبره جملة: { ما له في الآخرة من خلاق } أي نصيب؛ والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولَي { علموا } أي علم هؤلاء المتعلمون للسحر أن من ابتغاه بتعلمه ليس له نصيب في الآخرة؛ وعلموا ذلك من قول الملكين: ( إنما نحن فتنة فلا تكفر )

قوله تعالى: { ولبئس ما شروا به أنفسهم }: اللام موطئة للقسم؛ والتقدير: والله لبئس ما شروا به أنفسهم؛ و "بئس" فعل ماض لإنشاء الذم . وهو جامد .؛ ومثله: "نعم"، و"عسى"، و"ليس"؛ ويسمونها الأفعال الجامدة؛ لأنها لا تتغير عن صيغتها: فلا تكون مضارعاً، ولا أمراً؛ و{ ما } اسم موصول؛ وهي فاعل "بئس"؛ والمخصوص بالذم محذوف؛ و{ شروا } بمعنى باعوا في اللغة العربية؛ لأن الشراء بيع؛ و"الاشتراء" هو أخذ السلعة؛ فالمشتري طالب؛ والشاري جالب، قال الله سبحانه وتعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} [البقرة: 207] يعني يبيعها؛ فقوله تعالى: { لبئس ما شروا به أنفسهم } أي باعوا به أنفسهم؛ لأنهم في الحقيقة لما اشتروا السحر، الثمن الذي بذلوه في هذا السحر: أنفسهم؛ لأنهم في الحقيقة خسروا أنفسهم؛ صارت الدنيا الآن ليس لهم فيها ربح إطلاقاً؛ والآخرة ليس لهم فيها ربح أيضاً؛ فخسروا الدنيا، والآخرة..

قوله تعالى: { لو كانوا يعلمون }: جملة شرطية؛ وجوابها محذوف تقديره: ما تعلَّموا السحر؛ يعني: لو كانوا من ذوي العلم المنتفعين بعلمهم ما تعلموا السحر؛ وهنا ينبغي للقارئ أن يبتدئ بـ{ لو }، وأن يقف على { ما شروا به أنفسهم }؛ لأن الوصل يوهم أن محل الذم في حال علمهم؛ أما في حال عدم علمهم فليس مذموماً! وهذا خلاف المعنى المراد؛ إذ المعنى المراد: توبيخهم، حيث عملوا عمل الجاهل؛ فقوله تعالى: { لو كانوا يعلمون } نداء عليهم بالجهل..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن اليهود أخذوا السحر عن الشياطين؛ لقوله تعالى: { واتبعوا ما تتلو الشياطين }؛ ويدل على هذا أن أحدهم . وهو لبيد بن الأعصم . سحر النبي صلى الله عليه وسلم.

(155)2 . ومنها: أن السحر من أعمال الشياطين؛ لقوله تعالى: { ما تتلو الشياطين ]..

.3 ومنها: أن الشياطين كانوا يأتون السحر على عهد سليمان مع قوة سلطانه عليهم؛ لقوله تعالى: { ما تتلو الشياطين على ملك سليمان }..

.4 ومنها: أن سليمان لا يقر ذلك؛ لقوله تعالى: { وما كفر سليمان }؛ إذ لو أقرهم على ذلك . وحاشاه . لكان مُقراً لهم على كفرهم..

.5 ومنها: أن تعلم السحر، وتعليمه كفر؛ وظاهر الآية أنه كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى: { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }، وقوله تعالى: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر }؛ وهذا فيما إذا كان السحر عن طريق الشياطين؛ أما إذا كان عن طريق الأدوية، والأعشاب، ونحوها ففيه خلاف بين العلماء..

واختلف العلماء . رحمهم الله . هل تقبل توبته، أو لا؟ والراجح أنها تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل؛ أما قتله فيرجع فيه إلى القواعد الشرعية، وما يقتضيه اجتهاد الحاكم..

.6 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى قد ييسر أسباب المعصية فتنةً للناس . أي ابتلاءً .، وامتحاناً؛ لقوله تعالى: { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة }؛ فإياك إياك إذا تيسرت لك أسباب المعصية أن تفعلها؛ واذكر قصة بني إسرائيل حين حُرِّم عليهم الصيد يوم السبت . أعني صيد البحر .؛ فلم يصبروا حتى تحيلوا على صيدها يوم السبت؛ فقال لهم الله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65] ؛ واذكر قصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين ابتلاهم الله عز وجل وهم محرِمون بالصيد تناله أيديهم، ورماحهم؛ فلم يُقدم أحد منهم عليه حتى يتبين لك حكمة الله . تبارك وتعالى . في تيسير أسباب المعصية؛ ليبلوَ الصابر من غيره..

.7 ومن فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان أن ينصح للناس . وإن أوجب ذلك إعراضهم عنه .؛ لقوله تعالى: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما فتنة فلا تكفر }؛ فإذا كانت عندك سلعة رديئة، وأراد أحد شراءها يجب عليك أن تُحذِّره..

.8 ومنها: أنّ من عِظم السحر أن يكون أثره التفريق بين المرء، وزوجه؛ لقوله تعالى: { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه }؛ لأنه من أعظم الأمور المحبوبة إلى الشياطين، كما ثبت في الحديث الصحيح أن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: "نِعْم أنت"(156) ؛ وفيه سحر مقابل لهذا: وهو الربط بين المرء، وزوجه؛ حتى إنه . والعياذ بالله . يُبتلى بالهيام؛ فلا يستطيع أن يعيش . ولا لحظة . إلا وزوجته أمامه؛ وبعضهم يقضي عليه هذا الأمر . نسأل الله العافية ...

.9 ومن فوائد الآية: أن الأسباب . وإن عظمت . لا تأثير لها إلا بإذن الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ( وما هم بضارِّين به من أحد إلا بإذن الله )

.10 ومنها: أن قدرة الله عز وجل فوق الأسباب؛ وأنه مهما وجدت الأسباب . والله لم يأذن . فإن ذلك لا يؤثر؛ وهذا لا يوجب لنا أن لا نفعل الأسباب؛ لأن الأصل أن الأسباب مؤثرة بإذن الله..

.11 ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي اللجوء إلى الله دائماً؛ لقوله تعالى: { إلا بإذن الله }؛ فإذا علمت أن كل شيء بإذن الله فإذاً تلجأ إليه سبحانه وتعالى في جلب المنافع، ودفع المضار..

12 . ومنها: أنّ تعلم السحر ضرر محض، ولا خير فيه؛ لقوله تعالى: { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم }؛ فأثبت ضرره، ونفى نفعه..

.13 ومنها: أن كفر الساحر كفر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } يعني: من نصيب؛ وليس هناك أحد ليس له نصيب في الآخرة إلا الكفار؛ فالمؤمن مهما عذب فإن له نصيباً من الآخرة..

.14ومنها: أن هؤلاء اليهود تعلموا السحر عن علم؛ لقوله تعالى: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق }..

.15 ومنها: إثبات الجزاء، وأنه من جنس العمل؛ فإن الكافر لما لم يجعل لله نصيباً في دنياه لم يجعل الله له نصيباً من الآخرة..

.16 ومنها: ذم هؤلاء اليهود بما اختاروه لأنفسهم؛ لقوله تعالى: ( ولبئس ما شروا به أنفسهم )

.17ومنها: أن صاحب العلم الذي يَنتفِع بعلمه هو الذي يحذر مثل هذه الأمور؛ لقوله تعالى: { لو كانوا يعلمون } يعني: لو كانوا ذوي علم نافع ما اشتروا هذا العلم الذي يضرهم، ولا ينفعهم؛ والذي علموا: أنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق..



القـرآن

)وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:103)

التفسير:

.{ 103 } قوله تعالى: { ولو أنهم آمنوا } أي بقلوبهم { واتقوا } أي بجوارحهم؛ فالإيمان بالقلب؛ والتقوى بالجوارح؛ هذا إذا جمع بينهما؛ وإن لم يجمع بينهما صار الإيمان شاملاً للتقوى، والتقوى شاملة للإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "التقوى هاهنا"(157) وأشار إلى قلبه؛ والإيمان عند أهل السنة والجماعة: "التصديق مع القبول، والإذعان"؛ وإلا فليس بإيمان؛ و "التقوى" أصلها: وَقْوَى؛ وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله؛ وذلك بفعل أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في معناها؛ وإلا فبعضهم قال: "التقوى" أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله؛ وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله؛ وبعضهم قال في تعريف "التقوى" .

(خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى) (واعمل كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى) (لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى) وقوله تعالى: { ولو أنهم }: "أن" هنا مفتوحة الهمزة؛ و"أن" من الحروف المصدرية التي تؤول، وما بعدها بمصدر فاعل لفعل محذوف؛ والتقدير: لو ثبت أنهم آمنوا . أي إيمانهم ..

قوله تعالى: { لمثوبة }؛ "المثوبة" ، و "الثواب" بمعنى الجزاء؛ وسمي بذلك؛ لأنه من ثاب يثوب: إذا رجع؛ لأن الجزاء كأنه عمَلُ الإنسان رجع إليه، وعاد إليه منفعته، وثمرته..

قوله تعالى: { من عند الله } أضافها الله إلى نفسه، وجعلها من عنده لأمرين:.

الأول: أنها تكون أعظم مما يتصوره العبد؛ لأن العطاء من العظيم عظيم؛ فالعطية على حسب المعطي؛ عطية البخيل قليلة؛ وعطية الكريم كثيرة..

الثاني: اطمئنان العبد على حصولها؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد..

قوله تعالى: { خير }: الأَولى أن نقول: هي خيرية مطلقة . خير من كل شيء .؛ واللام في قوله: {لمثوبة } واقعة في جواب { لو }؛ ويوقف عند قوله: { لمثوبة من عند الله خير }؛ ولا توصل بما بعدها؛ لأنها لو وصلت به لاختل المعنى، حيث تكون مع الوصل: المثوبة خير بشرط العلم؛ والأمر ليس كذلك؛ وعلى هذا فجواب { لو كانوا يعلمون } محذوف تقديره: لآمنوا واتقوا..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: سعة حلم الله، حيث يعرض عليهم الإيمان، والتقوى؛ لقوله تعالى: { ولو أنهم آمنوا واتقوا } يعني فيما مضى، وفيما يستقبل؛ وهذه من سنته سبحانه وتعالى أن يعرض التوبة على المذنبين؛ انظر إلى قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} البروج: 10] : يُحَرِّقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة؛ لقوله تعالى: {ثم لم يتوبوا ..

.2 ومنها: أن الإيمان يُنال به ثواب الله؛ لقوله تعالى: { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير..

.3 ومنها: أن ثواب الله خير لمن آمن واتقى من الدنيا؛ لقوله تعالى: { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير } أي خير من كل شيء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا، وما فيها(158)" ..

.4 ويؤخذ منها: ومن قوله تعالى عن الناصحين لمن تمنوا أن يكون لهم مثل ما لقارون: {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً} [القصص: 80] ، أنّ التقوى هي العمل الصالح..

.5 ومنها: أن فعل هؤلاء اليهود، واختيارهم لما فيه الكفر من تعلم السحر فعلُ الجاهل؛ لقوله تعالى: ( لو كانوا يعلمون ).



القـرآن

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:104)

التفسير:

.{ 104 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: { يا أيها الذين آمنوا } فأرعها سمعك . يعني استمع لها .؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(159). وهذه الآية من النهي: { لا تقولوا راعنا} يعني لا تقولوا عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم راعنا؛ و{ راعنا } من المراعاة؛ وهي العناية بالشيء، والمحافظة عليه؛ وكان الصحابة إذا أرادوا أن يتكلموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: "يا رسول الله، راعنا" ؛ وكان اليهود يقولون: "يا محمد، راعنا"؛ لكن اليهود يريدون بها معنى سيئاً؛ يريدون "راعنا" اسم فاعل من الرعونة؛ يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم راعن؛ ومعنى "الرعونة" الحمق، والهوج؛ لكن لما كان اللفظ واحداً وهو محتمل للمعنيين نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوه تأدباً، وابتعاداً عن سوء الظن؛ ولأن من الناس من يتظاهر بالإيمان . مثل المنافقين . فربما يقول: "راعنا" وهو يريد ما أرادت اليهود؛ فلهذا نُهي المسلمون عن ذلك..

قوله تعالى: { وقولوا انظرنا } يعني إذا أردتم من الرسول أن ينتظركم فلا تقولوا: { راعنا }؛ ولكن قولوا: { انظرنا }: فعل طلب؛ و"النظر" هنا بمعنى الانتظار، كما في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} [البقرة: 210] ، أي ما ينتظر هؤلاء..

قوله تعالى: { واسمعوا } فعل أمر من السمع بمعنى الاستجابة؛ أي اسمعوا سماع استجابة، وقبول، كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 21] يعني اسمعوا ما تؤمرون به فافعلوه، وما تنهون عنه فاتركوه..

قوله تعالى: { وللكافرين عذاب أليم }؛ المراد بـ "الكافرين" هنا اليهود؛ و{ عذاب } بمعنى عقوبة؛ و{ أليم } بمعنى مؤلم..

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أنه ينبغي استعمال الأدب في الألفاظ؛ يعني أن يُتجنب الألفاظ التي توهم سبًّا، وشتماً؛ لقوله تعالى: { لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا..

.2 ومنها: أن الإيمان مقتضٍ لكل الأخلاق الفاضلة؛ لأن مراعاة الأدب في اللفظ من الأخلاق الفاضلة..

.3 ومنها: أن مراعاة الأخلاق الفاضلة من الإيمان..

.4 ومنها: أنه ينبغي لمن نهى عن شيء أن يدل الناس على بدله المباح؛ فلا ينهاهم، ويجعلهم في حيرة..

.5 ومنها: وجوب الانقياد لأمر الله ورسوله؛ لقوله تعالى: ( واسمعوا )

.6 ومنها: التحذير من مخالفة أمر الله، وأنها من أعمال الكافرين؛ لقوله تعالى: (وللكافرين عذاب أليم )


)مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (البقرة:105)

التفسير:

.{ 105 } قوله تعالى: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين }؛ { ما } نافية؛ و{ يود } بمعنى يحب؛ و "الود" خالص المحبة؛ و{ مِن } هنا لبيان الجنس؛ وليست للتبعيض؛ وعليه يصير المعنى أن أهل الكتاب كلهم كفار؛ { ولا المشركين } معطوفة على قوله تعالى: { من أهل الكتاب } يعني: ما يود الذين كفروا من هؤلاء، ولا هؤلاء؛ ولهذا قال تعالى: { ولا المشركين }؛ لأنها لو كانت معطوفة على { الذين كفروا } لكانت بالرفع؛ فعلى هذا تكون { من } لبيان الجنس؛ أي الذين كفروا من هذا الصنف . الذين هم أهل الكتاب؛ وكذلك من المشركين..

قوله تعالى: { أن ينزل عليكم من خير من ربكم }: { أن ينزل } مفعول { يود } يعني: ما يودون تنزيل خير؛ وقوله تعالى: { من خير }: { مِن } زائدة إعراباً؛ و "الخير" هنا يشمل خير الدنيا، والآخرة، القليل والكثير؛ لو حصل للكافرين من أهل الكتاب من اليهود، والنصارى، ومن المشركين أن يمنعوا القطر عن المسلمين لفعلوا؛ لأنهم ما يودون أن ينزل علينا أيّ خير؛ ولو تمكنوا أن يمنعوا العلم النافع عنا لفعلوا؛ وهذا ليس خاصاً بأهل الكتاب والمشركين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هو عام؛ ولهذا جاء بصيغة المضارع: { ما يود }؛ وهو دال على الاستمرار..

وقوله تعالى: { ينزَّل } بتشديد الزاي؛ وفي قراءة بدون تشديد؛ والفرق بينهما أن "التنزيل" : هو إنزاله شيئاً فشيئاً؛ وأما "الإنزال" : فهو إنزاله جملة واحدة؛ هذا هو الأصل؛ فهم لا يودون هذا، ولا هذا: لا أن ينزل علينا الخير جملة واحدة؛ ولا أن ينزل شيئاً فشيئاً..

قوله تعالى: { والله يختص برحمته من يشاء }؛ "يختص" تستعمل لازمة، ومتعدية؛ فإن كانت لازمة فإن { مَن } فاعل { يختص }؛ والمعنى على هذا: ينفرد برحمته من يشاء؛ كما تقول: اختصصت بهذا الشيء: أي انفردت به؛ وإن كانت متعدية فهي بمعنى: يخص برحمته من يشاء؛ وعلى هذا فتكون { مَن } مفعولاً به لـ{ يختص }؛ وعلى كلا الوجهين المعنى واحد: أي أن الله عز وجل يخص برحمته من يشاء؛ فيختص بها..

وقوله تعالى: { برحمته } يشمل رحمة الدين، والدنيا؛ ومن ذلك رحمة الله بإنزال هذا الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو من رحمة الله عليه، وعلينا، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107).

وقوله تعالى: { من يشاء } هذا مقرون بالحكمة؛ يعني اختصاصه بالرحمة لمن يشاء مبني على حكمته سبحانه وتعالى؛ فمن اقتضت حكمته ألا يختصه بالرحمة لم يرحمه..

قوله تعالى: { والله ذو الفضل } أي ذو العطاء الزائد عما تتعلق به الضرورة؛ و{ العظيم } أي الواسع الكثير الكبير؛ فالعِظم هنا يعود إلى الكمية، وإلى الكيفية..



الفوائد:

.1 من فوائد الآية: بيان عداوة غير المسلمين للمسلمين؛ لأنه تعالى ذكر صنفين ينتظمان جميع الأصناف: أهل الكتاب . وهم اليهود، والنصارى .؛ والمشركين . وهم كل أصحاب الأوثان .؛ فكل هؤلاء أعداء للمسلمين؛ لأنهم لا يودون الخير للمسلمين..

.2 ومنها: أنه يجب علينا أن نحذر من كل تصرف يصدر عن اليهود، والنصارى، والمشركين، ونتخذهم أعداءً، وأن نعلم أنهم بجميع تصرفاتهم يحاولون أن يمنعوا الخير عن المسلمين..

.3 ومنها: أن هؤلاء الكفار يودون أن يمنعوا عن المسلمين التقدم..

.4 ومنها: أنه يحرم على المسلمين أن يُوَلُّوا هؤلاء الكفار أيّ قيادة؛ لأنهم ما داموا لا يودون لنا الخير فلن يقودونا لأيّ خير مهما كان الأمر؛ ولهذا يحرم أن يجعل لهم سلطة على المسلمين لا في تخطيط، ولا في نظام، ولا في أي شيء؛ بل يجب أن يكونوا تحت إمرة المسلمين، وتحت تدبيرهم ما أمكن؛ وإذا استعنا بهم فإنما نستعين بهم لإدراك مصالحنا وهم تحت سلطتنا؛ لأنهم لو استطاعوا أن يمنعوا القطر وينبوع الأرض عن المسلمين لفعلوا؛ إذاً فيجب علينا الحذر من مخططاتهم، وأن نكون دائماً على سوء ظن بهم؛ لأن إحسان الظن بهم في غير محله؛ وإنما يحمل عليه الذل، وضعف الشخصية، والخور، والجبن؛ ولهذا قال تعالى: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم }؛ وهي شاملة لخير الدنيا، والآخرة؛ فاليهود حسدوا المسلمين لما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونزل عليهم هذا الكتاب..

.5 ومن فوائد الآية: أن خير الله لا يجلبه ودّ وادّ، ولا يرده كراهة كاره؛ لقوله تعالى: { والله يختص برحمته من يشاء }؛ فلا يمكن لهؤلاء اليهود، والنصارى، والمشركين أن يمنعوا فضل الله علينا؛ وعلى هذا جاء الحديث الصحيح: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك؛ ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك(160)" ..

.6 . ومنها: أن الإنسان الذي لا يود الخير للمسلمين فيه شبه باليهود، والنصارى؛ لأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم..

.7 ومنها: إثبات المشيئة لله؛ لقوله تعالى: { من يشاء }؛ ومشيئته تعالى عامة في كل شيء سواء كان من أفعاله، أو من أفعال عباده؛ لقوله تعالى: {ولو شاء الله ما فعلوه} [الأنعام: 137] ، وقوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 29] ؛ وأما ما يتعلق بأفعاله تعالى فالأمثلة عليه كثيرة، كقوله تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13] ، وقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} [فاطر: 16] ، وقوله تعالى: { والله يفعل ما يشاء }، وغير ذلك من الآية..

.8 ومن فوائد الآية: إثبات الرحمة لله؛ لقوله تعالى: ( برحمته )

.9 ومنها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله تعالى: { يختص }؛ لأن التخصيص يدل على الإرادة..

.10 ومنها: إثبات الفضل لله؛ لقوله تعالى: ( ذو الفضل )

.11 ومنها: إثبات أن فضله ليس كفضل غيره؛ ففضل غيره محدود؛ وأما فضل الله ففضل عظيم لا حدود له؛ فإن الله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم؛ ومن فضله تبارك وتعالى أنه خص هذه الأمة بخصائص عظيمة كثيرة ما جعلها لأحد سواها؛ منها ما جاء في حديث جابر في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر؛ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ؛ وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي؛ وأعطيت الشفاعة؛ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"(161) ..

تــنــبــيــه:.

لا يعارض هذه الآية قوله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون} [المائدة: 82] ؛ لأن هذه الآية في صنف معين من النصارى: وهم الذين منهم القسيسون، والرهبان الذين من صفاتهم أنهم لا يستكبرون؛ فإذا وجد هذا الصنف في عهد الرسول، أو بعده انطبقت عليه الآية؛ لكن اختلفت حال النصارى منذ زمن بعيد؛ نسأل الله أن يعيد للمسلمين عزتهم وكرامتهم، حتى يعرفوا حقيقة عداوة النصارى، وغيرهم من أهل الكفر، فيعدوا لهم العدة..



القـرآن

)مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:106)

التفسير:

.{ 106 } قوله تعالى: { ما ننسخ من آية أو ننسها } فيها ثلاث قراءات؛ الأولى: بفتح النون الأولى في { نَنسخ }؛ وضمها في { نُنسها } بدون همز؛ والثانية: بفتح النون الأولى في { نَنسخ }؛ وفتحها في { نَنسأها } مع الهمز؛ والثالثة بضم النون الأولى في { نُنسخ }؛ وضمها في { نُنسها } بدون همز..

قوله تعالى: { ما ننسخ من آية... }؛ { ما }: شرطية؛ وهي اسم شرط جازم يجزم فعلين؛ الأول: فعل الشرط: { ننسخ }؛ والثاني: جوابه: { نأت }؛ وأما قوله تعالى: { أو ننسها } فهي معطوفة على ( ننسخ )

وقوله تعالى: { ننسخ من آية أو ننسها } بضمير الجمع للتعظيم؛ وليس للتعدد؛ لأن الله واحد؛ و"النسخ" معناه في اللغة: الإزالة؛ أو ما يشبه النقل؛ فالأول كقولهم: "نسخت الشمس الظل" يعني أزالته؛ والثاني كقولهم: "نسخت الكتاب"؛ إذ ناسخ الكتاب لم يزله، ولم ينقله؛ وإنما نقش حروفه، وكلماته؛ لأنه لو كان "نسخ الكتاب" يعني نقله كان إذا نسخته انمحت حروفه من الأول؛ وليس الأمر كذلك؛ أما في الشرع: فإنه رفع حكم دليل شرعي، أو لفظه، بدليل شرعي؛ و{ مِن } لبيان الجنس؛ لأن { ما } اسم شرط جازم مبهم؛ والمراد بـ "الآية" الآية الشرعية؛ لأنها محل النسخ الذي به الأمر والنهي دون الآية الكونية..

وقوله: { ننسها } من النسيان؛ وهو ذهول القلب عن معلوم؛ وأما { ننسأها } فهو من "النسأ"؛ وهو التأخير؛ ومعناه: تأخير الحكم، أو تأخير الإنزال؛ أي أن الله يؤخر إنزالها، فتكون الآية لم تنزل بعد؛ ولكن الله سبحانه وتعالى أبدلها بغيرها
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:15 am من طرف ahmadhamad
الاية 112 الي الاية 125
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:112)

التفسير:

.{ 112 } قوله تعالى: { بلى }: هذا إبطال للنفي في قولهم: { لن يدخل... } إلخ؛ وإن كان بعض المفسرين يقول: إن { بلى } هنا بمعنى "بل"؛ ولكن نقول: { بلى } هنا حرف جواب تفيد إبطال النفي؛ يعني لما قالوا: { لن يدخل الجنة... } إلخ قال الله تعالى: { بلى } أي يدخل الجنة من ليس هوداً، أو نصارى؛ وبينه بقوله تعالى: { من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره }؛ { من } شرطية؛ وهي مبتدأ؛ وجواب الشرط قوله تعالى: { فله أجره }؛ والمراد بـ "الوجه" القصد، والنية، والإرادة؛ "أسلم وجهه لله" أي جعل اتجاهه، وقصده، وإرادته خالصاً لله عز وجل؛ وعبر بـ "الوجه" لأنه الذي يدل على قصد الإنسان؛ ولهذا يقال: أين كان وجه فلان؟ يعني: أين كان قصده، واتجاهه..

وقوله تعالى: { وهو محسن }: الجملة في محل نصب على الحال من فاعل { أسلم }؛ يعني: أسلم والحال أنه محسن . أي متبع لشريعة الله ظاهراً، وباطناً ...

قوله تعالى: { فله أجره } أي ثوابه؛ وشبَّهه بالأجر؛ لأن الله التزم به للعامل..

قوله تعالى: { عند ربه }: أضاف العندية إليه لفائدتين:.

الفائدة الأولى: أنه عظيم؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم؛ ولهذا جاء في حديث أبي بكر الذي علمه الرسولُ صلى الله عليه وسلم إياه أنه قال: "فاغفر لي مغفرة من عندك(170)" ..

والفائدة الثانية: أن هذا محفوظ غاية الحفظ، ولن يضيع؛ لأنك لا يمكن أن تجد أحداً أحفظ من الله؛ إذاً فلن يضيع هذا العمل؛ لأنه في أمان غاية الأمان..

وأضافه إلى وصف الربوبية ليبين كمال عناية الله بالعامل، وإثابته عليه؛ فالربوبية هنا من الربوبية الخاصة

قوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي فيما يستقبل من أمرهم { ولا هم يحزنون } أي فيما مضى من أمرهم.

الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن أهل الجنة هم الذين جمعوا بين وصفين؛ الأول: الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: { من أسلم وجهه لله }؛ والثاني: اتباع شرعه؛ لقوله تعالى: { وهو محسن }..

.2 ومنها: أن إخلاص النية وحده لا يكفي في تبرير التعبد لله؛ لقوله تعالى: { وهو محسن }؛ وعلى هذا فمن قال: إنه يحب الله، ويخلص له وهو منحرف في عبادته فإنه لا يدخل في هذه الآية لاختلال شرط الإحسان..

ويتفرع على هذه الفائدة أن أهل البدع لا ثواب لهم على بدعهم . ولو مع حسن النية .؛ لعدم الإحسان الذي هو المتابعة؛ والأجر مشروط بأمرين: الأول: إسلام الوجه لله؛ والثاني: الإحسان..

.3 ومن فوائد الآية: الدلالة على الشرطين الأساسيين في العبادة؛ وهما الإخلاص؛ والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم..

.4 ومنها: ثبوت الأجر في الآخرة، وأن العمل لن يضيع؛ لقوله تعالى: ( فله أجره عند ربه )

.5 ومنها: أن الجزاء من جنس العمل..

.6 ومنها: عظم الثواب؛ لإضافته إلى الله في قوله تعالى: ( عند ربه )

.7 ومنها: انتفاء الخوف، والحزن لمن تعبد لله سبحانه وتعالى بهذين الوصفين؛ وهما الإخلاص والمتابعة؛ ولهذا قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام: 82)

.8 . ومنها: حسن عاقبة المؤمنين بانتفاء الخوف، والحزن عنهم؛ وغير المؤمنين تُملأ قلوبهم رعباً، وحزناً؛ قال تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166] ، وقال تعالى: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 167] ، وقال تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة} [مريم: 39] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تحسر هؤلاء الذين لم يهتدوا إلى صراط الحميد..

.9 ومن فوائد الآية: الحث على الإخلاص لله سبحانه وتعالى في العبادة، واتباع الشرع فيها؛ لأن الله إنما أخبرنا بهذا الثواب لمن أخلص، واتبع الشريعة من أجل أن نقوم بذلك؛ وليس لمجرد الخبر؛ وهكذا يقال في كل ما أخبر الله به من ثواب على طاعة، أو عقاب على معصية؛ فإنه إنما يراد به الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية..

القـرآن

)وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة:113)

التفسير:

.{ 113 } قوله تعالى: { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } يعني على شيء من الدين..

قوله تعالى: { وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } يعني على شيء من الدين..

وإنما قالت اليهود ذلك؛ لأنهم يكفرون بعيسى، ولا يرون شريعته ديناً؛ وقالت النصارى: { ليست اليهود على شيء }؛ لأنهم يرون أن الدين الحق ما كانوا عليه، واليهود قد كفروا به؛ أما عن دعوى اليهود فإنها باطلة على كل تقدير؛ لأن النصارى بلا شك على دين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما دعوى النصارى في اليهود فحق؛ لأن دينهم نسخ بما جاء به عيسى؛ إذ إنهم يجب عليهم أن يؤمنوا بعيسى؛ فإذا كذبوه لم يكونوا على شيء من الدين؛ بل هم كفار..

قوله تعالى: { وهم يتلون الكتاب }: الجملة هذه حالية؛ والضمير { هم } يعود على اليهود، والنصارى؛ يعني: والحال أن هؤلاء المدعين كلهم { يتلون الكتاب } يعني يقرؤونه؛ والمراد بـ{ الكتاب } الجنس، فيشمل التوراة، والإنجيل؛ و "كتاب" فعال بمعنى مفعول؛ لأن الكتب المنزلة من السماء تكتب وتُقرأ؛ ولا سيما أن التوراة كتبها الله بيده سبحانه وتعالى..

قوله تعالى: { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم }؛ قال المعربون: إن الكاف في مثل هذا التعبير اسم بمعنى "مثل"، وأنها منصوبة على المفعولية المطلقة؛ وأن "ذلك" اسم إشارة يشير إلى المصدر؛ أي مثلَ ذلك القول قال: { الذين لا يعلمون }؛ يعني: الذين لم يقرؤوا كتاباً؛ وكلمة { مثل قولهم } تأكيد لـ{ كذلك }؛ قالوا: لأن العامل الواحد لا ينصب معمولين بمعنى واحد..

وقوله تعالى: { الذين لا يعلمون }؛ قال بعض المفسرين: المراد بهم كفار قريش . أهل الجاهلية .؛ فإنهم قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس على دين، وليس على شيء؛ وقال بعض المفسرين: إنهم أمم سابقة؛ وقال بعض المفسرين: إنهم طوائف من اليهود، والنصارى؛ يعني أن الذين يتلون الكتاب من اليهود، والنصارى قالوا مثل قول الذين لا يعلمون منهم؛ فاستوى قول عالمهم، وجاهلهم؛ والأحسن أن يقال: إن الآية عامة . مثل ما اختاره ابن جرير، وغيره .؛ والقاعدة أن النص من الكتاب، والسنة إذا كان يحتمل معنيين لا منافاة بينهما، ولا يترجح أحدهما على الآخر فإنه يحمل على المعنيين جميعاً؛ لأنه أعم في المعنى؛ وهذا من سعة كلام الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وشمول معناهما؛ وهذه قاعدة مهمة ينبغي أن يحتفظ بها الإنسان..

قوله تعالى: { فالله يحكم بينهم يوم القيامة}؛ الفاء حرف عطف؛ ولفظ الجلالة مبتدأ؛ وجملة: { يحكم } في محل رفع خبر المبتدأ؛ و{ يحكم } للمستقبل؛ و "الحكم" معناه القضاء، والفصل بين الشيئين؛ والله . تبارك وتعالى . يوم القيامة يقضي بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون؛ فيبين لصاحب الحق حقه، ويجزيه به؛ و{ يوم القيامة } هو اليوم الذي يبعث فيه الناس؛ وسمي بذلك لأمور ثلاثة سبق ذكرها(171) ..

قوله تعالى: { فيما كانوا فيه يختلفون } أي في الخلاف الواقع بينهم؛ ومعلوم أن هناك خلافاً بين اليهود، والنصارى؛ بل النصارى الآن مختلفون في مللهم بعضهم مع بعض اختلافاً جوهرياً في الأصول؛ واليهود كذلك على خلاف؛ وكذلك المسلمون عامة مع الكفار؛ والذي يحكم بينهم هو الله عز وجل يوم القيامة..



الفوائد:

.1 من فوائد الآية: أن الأمم الكافرة يكفِّر بعضها بعضاً؛ فهم أعداء بعضهم لبعض من جهة؛ وأولياء بعضهم لبعض من جهة أخرى: بالنسبة لنا هم بعضهم لبعض وليّ؛ وبالنسبة لما بينهم بعضهم لبعض عدو؛ فالإسلام عدو مشترك لليهودية، والنصرانية، وسائر الكفار؛ فيجب أن يتولى بعضنا بعضاً..

.2 ومنها: شدة قبح قول من خالف الحق وهو يعلمه؛ لقوله تعالى: { وهم يتلون الكتاب }؛ فهذه الجملة تفيد زيادة القبح فيما قالوه، حيث قالوا ذلك وهم يتلون الكتاب، ويعرفون الحق؛ فالنصارى تتلو التوراة، وتعرف أن اليهود تدين بالتوراة . وهم على دين صحيح قبل بعثة عيسى .؛ واليهود أيضاً يتلون الإنجيل، ويعرفون أن عيسى حق؛ لكنهم كفروا استكباراً؛ ولا ريب أن الذي ينكر الحق مع العلم به أعظم قبحاً من الذي ينكر الحق مع الجهل به؛ لأن هذا معاند مكابر بخلاف الجاهل، فالجاهل ينكر الحق للجهل به؛ ثم إذا تبين له الحق اتبعه إذا كان المانع له من اتباعه الجهل؛ لكن العالم لا عذر له..

.3 ومن فوائد الآية: إثبات يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { فالله يحكم بينهم يوم القيامة }؛ والإيمان بيوم القيامة أحد أركان الإيمان الستة؛ ولأهميته يقرنه الله سبحانه وتعالى كثيراً بالإيمان به عز وجل..

.4 ومنها: إثبات الحكم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { فالله يحكم بينهم }؛ وحكم الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرعي، وكوني، وجزائي؛ فالشرعي: مثل قوله تعالى في سورة الممتحنة: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم} [الممتحنة: 10] ؛ والكوني: مثل قوله تعالى عن أخي يوسف: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} [يوسف: 80] ؛ والجزائي: مثل هذه الآية: {فالله يحكم بينهم يوم القيامة }؛ والحكم الجزائي هو ثمرة الحكم الشرعي؛ لأنه مبني عليه: إن خيراً فخير؛ وإن شراً فشر؛ هذا الحكم يوم القيامة بين الناس إما بالعدل؛ أو بالفضل؛ ولا يمكن أن يكون بالظلم؛ لقوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46] ، وقوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] ، وقوله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً"(172) ؛ هذا بالنسبة لحقوق الله؛ أما بالنسبة لحقوق الخلق فيما بينهم فيقضى بينهم بالعدل..

فإذا قال قائل: إذا كان الله تعالى يجزي المؤمنين بالفضل، فما الجواب عن قوله تعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} [يونس: 4] ؟

فالجواب: أن هذا هو الذي أوجبه الله على نفسه؛ والفضل زيادة؛ والمقام مقام تحذير..

.5 ومن فوائد الآية: أن هؤلاء الذين اختلفوا في الحق، والباطل، سوف يكون القضاء بينهم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل؛ فيجزي صاحب الحق بعمله، ويجزي صاحب الباطل بعمله؛ لقوله تعالى: { فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }، وقوله تعالى: {فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} [النساء: 141] ؛ ولهذا لا يوجد حكم يبين للخصم أن الحق له دون خصمه إلا في هذا؛ فالقاضي مثلاً لا يقول لأحد الخصمين: "لن يكون لخصمك سبيل عليك" حتى يتبين، ويأتي كلٌّ بحجته؛ لكن هنا بيّن الله أن الكافرين ليس لهم سبيل على المؤمنين؛ لأن الحجة واضحة للجميع..



القـرآن

{)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:114)

التفسير:ـ

{ 114 } قوله تعالى: { ومن أظلم }: { من } اسم استفهام؛ وهي مبتدأ؛ و{ أظلم } خبرها؛ والاستفهام هنا بمعنى النفي؛ يعني لا أحد أظلم؛ والميزان الذي يبيِّن أن الاستفهام بمعنى النفي أنك لو حذفت الاستفهام، وأقمت النفي مقامه لصح؛ والفائدة من تحويل النفي إلى الاستفهام أنه أبلغ في النفي؛ إذ إن الاستفهام الذي بمعنى النفي مشرب معنى التحدي؛ كأنه يقول: بيِّنوا لي أيّ أحد أظلم من كذا وكذا.

وقوله تعالى: { أظلم } اسم تفضيل من الظلم؛ وأصله في اللغة النقص؛ وهو أن يفرط الإنسان فيما يجب؛ أو يعتدي فيما يحرم؛ ويدل على هذا قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33] أي لم تنقص؛ وهو في الشرع بهذا المعنى؛ لأن الظلم عبارة عن تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم وهذا نقص

قوله تعالى: { ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه }: «مِن» حرف جر؛ و{ مَن } اسم موصول؛ أي من الذي منع؛ وأضيفت المساجد إلى الله عز وجل؛ لأنها محل عبادته؛ فتكون الإضافة هنا من باب التشريف.

وقوله تعالى: { مساجد الله } منصوب على أنه مفعول { منع }؛ و{ أن يذكر فيها اسمه } بدل منه.

قوله تعالى: { وسعى في خرابها } معطوف على { منع }؛ يعني جمع وصفين: منع المساجد أن يذكر فيها اسمه؛ والسعي في خرابها؛ والخراب هو الفساد، كما قال تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم} [الحشر: 2] .

قوله تعالى: { أولئك } اسم إشارة يعود إلى الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها؛ { ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } يحتمل ثلاثة معان:

الأول: ما كان ينبغي لهؤلاء أن يدخلوها إلا خائفين فضلاً عن أن يمنعوا عباد الله؛ لأنهم كافرون بالله عز وجل؛ فليس لهم حق أن يدخلوا المساجد إلا خائفين.

الثاني: أن هذا خبر بمعنى النهي؛ يعني: لا تدعوهم يدخلوها - إذا ظهرتم عليهم - إلا خائفين.

الثالث: أنها بشارة من الله عز وجل أن هؤلاء الذين منعوا المساجد - ومنهم المشركون الذين منعوا النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام - ستكون الدولة عليهم، ولا يدخلونها إلا وهم ترجف قلوبهم.

قوله تعالى: { لهم في الدنيا خزي } أي ذل، وعار { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } أي عقوبة عظيمة.

الفوائد:

1- من فوائد الآية: أن المعاصي تختلف قبحاً؛ لقوله تعالى: { ومن أظلم }؛ و{ أظلم } اسم تفضيل؛ واسم التفضيل يقتضي مفضَّلاً، ومفضَّلاً عليه؛ وكما أن المعاصي تختلف، فكذلك الطاعات تختلف: بعضها أفضل من بعض؛ وإذا كانت الأعمال تختلف فالعامل نتيجة لها يختلف؛ فبعض الناس أقوى إيماناً من بعض؛ وبهذا نعرف أن القول الصحيح قول أهل السنة، والجماعة في أن الإيمان يزيد، وينقص، والناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً لا في الكسب القلبي، ولا في الكسب البدني: فإن الناس يتفاوتون في اليقين؛ ويتفاوتون في الأعمال الظاهرة من قول أو فعل.

يتفاوتون في اليقين: فإن الإنسان نفسه تتفاوت أحواله بين حين وآخر؛ في بعض الأحيان يصفو ذهنه وقلبه حتى كأنما يشاهد الآخرة رأي عين؛ وفي بعض الأحيان تستولي عليه الغفلة، فيَقِلُّ يقينه؛ ولهذا قال الله تعالى لإبراهيم: {أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] ؛ وتفاوت الناس في العلم، واليقين أمر معلوم: فلو أتى رجل، وقال: «قدم فلان» - والرجل ثقة عندي - صار عندي علم بقدومه؛ فإذا جاء آخر، وقال: «قدم فلان» ازداد علمي؛ فإذا جاء الثالث ازداد علمي أكثر؛ فإذا رأيتُه ازداد علمي؛ فالأمور العلمية تتفاوت في إدراك القلوب لها.

أيضاً يتفاوت الناس في الأقوال: فالذي يسبِّح الله عشر مرات أزيد إيماناً ممن يسبِّحه خمس مرات؛ وهذه زيادة كمية الإيمان؛ كذلك يتفاوت الناس في الأعمال من حيث جنس العمل: فالمتعبد بالفريضة أزيد إيماناً من المتعبد بالنافلة؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه»(1) ؛ فبهذا يكون القول الصواب بلا ريب قول أهل السنة، والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.

2 ـ ومن فوائد الآية: جواز منع دخول المساجد لمصلحة؛ لقوله تعالى: { أن يذكر فيها اسمه}؛ ومنع مساجد الله له أسباب؛ فتارة تمنع المساجد من أن تمتهن فرشها، أو أرضها، أو كتبها، أو مصاحفها؛ فتغلَّق الأبواب حماية لها؛ وتارة تغلق أبوابها خوفاً من الفتنة، كما لو اجتمع فيها قوم لإثارة الفتن، والتشويش على العامة؛ فتغلق منعاً لهؤلاء من الاجتماع؛ وتارة تغلق لترميمها، وإصلاحها؛ وتارة تغلق خوفاً من سرقة ما فيها؛ ففي كل هذه الصور إغلاقها مباح، أو مطلوب.

3 ـ ومنها: تحريم منع المساجد من أن يذكر فيها اسم الله سواء كان ذكر الله: صلاة، أو قراءة للقرآن، أو تعليماً للعلم، أو غير ذلك.

وأخذ بعض العلماء من هذه الآية: تحريم التحجر؛ وهو أن يضع شيئاً في الصف، فيمنع غيره من الصلاة فيه، ويخرج من المسجد؛ قالوا: لأن هذا منع المكان الذي تحجره بالمسجد أن يذكر فيه اسم الله؛ لأن هذا المكان أحق الناس به أسبق الناس إليه؛ وهذا قد منع من هو أحق بالمكان منه أن يذكر فيه اسم الله؛ وهذا مأخذ قوي؛ ولا شك أن التحجر حرام: أن الإنسان يضع شيئاً، ويذهب، ويبيع، ويشتري، ويذهب إلى بيته يستمتع بأولاده، وأهله؛ وأما إذا كان الإنسان في نفس المسجد فلا حرج أن يضع ما يحجز به المكان بشرط ألا يتخطى الرقاب عند الوصول إليه، أو تصل إليه الصفوف؛ فيبقى في مكانه؛ لأنه حينئذ يكون قد شغل مكانين.

4- ومن فوائد الآية: شرف المساجد؛ لإضافتها إلى الله؛ لقوله تعالى: { مساجد الله }؛ والمضاف إلى الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون أوصافاً؛ أو أعياناً؛ أو ما يتعلق بأعيان مخلوقة؛ فإذا كان المضاف إلى الله وصفاً فهو من صفاته غير مخلوق، مثل كلام الله، وعلم الله؛ وإذا كان المضاف إلى الله عيناً قائمة بنفسها فهو مخلوق وليس من صفاته، مثل مساجد الله، وناقة الله، وبيت الله؛ فهذه أعيان قائمة بنفسها إضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوق لخالقه على وجه التشريف؛ ولا شيء من المخلوقات يضاف إلى الله عز وجل إلا لسبب خاص به؛ ولولا هذا السبب ما خص بالإضافة؛ وإذا كان المضاف إلى الله ما يتعلق بأعيان مخلوقة فهو أيضاً مخلوق؛ وهذا مثل قوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29] ؛ فإن الروح هنا مخلوقة؛ لأنها تتعلق بعين مخلوقة.

5- ومن فوائد الآية: أن المصلَّيات التي تكون في البيوت، أو الدوائر الحكومية لا يثبت لها هذا الحكم؛ لأنها مصلَّيات خاصة؛ فلا يثبت لها شيء من أحكام المساجد.

6- ومنها: أنه لا يجوز أن يوضع في المساجد ما يكون سبباً للشرك؛ لأن { مساجد الله } معناها موضع السجود له؛ فإذا وضع فيها ما يكون سبباً للشرك فقد خرجت عن موضوعها، مثل أن نقبر فيها الموتى؛ فهذا محرم؛ لأن هذا وسيلة إلى الشرك.

7- ومنها: وجوب تطهير المساجد؛ وهذا مأخوذ من إضافتها إلى الله تلك الإضافة القاضية بتشريفها، وتعظيمها؛ ولهذا قال تعالى: { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركَّع السجود }.

8- ومنها: أن الناس فيها سواء؛ لأن الله تعالى أضافها إلى نفسه: { مساجد الله }؛ والناس عباد الله - بالنسبة إلى الله في المسجد سواء -؛ فكل من أتى إلى هذه المساجد لعبادة الله فإنه لا فرق بينه وبين الآخرين.

وهنا نقول: إن للعالِم الحق أن يتخذ مكاناً يجعله لإلقاء الدرس، وتعليم الناس؛ لكنه إذا أقيمت الصلاة لا يمنع الناس - هو، وغيره سواء -.

9- ومنها: أن ذكر الله لا بد أن يكون باسمه، فتقول: لا إله إلا الله؛ سبحان الله؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون؛ سبحان ربي العظيم؛ فالذكر باللسان لا يكون إلا باسم الله؛ أما ذكر القلب فيكون ذكراً لله، وذكراً لأسمائه؛ فقد يتأمل الإنسان في قلبه أسماء الله، ويتدبر فيها، ويكون ذكراً للاسم؛ وقد يتأمل في أفعال الله عز وجل، ومخلوقاته، وأحكامه الشرعية.

أما ذكره بالضمير المفرد فبدعة، وليس بذكر، مثل طريقة الصوفية الذين يقولون: أفضل الذكر أن تقول: «هو»، «هو»؛ «هو»، «هو»؛ قالوا: لأنك لا تشاهد إلا الله ـ والعياذ بالله؛ فهم يرون أن أكمل حال الإنسان هو الفناء ـ أي يفنى عن مشاهدة ما سوى الله، بحيث إنه ما شاهد إلا الله؛ ويقولون: ليس بلازم أن تقول: «لا إله إلا الله»: تثبت إلهين: واحد منفي، والثاني مثبت! بل قل: «هو»، «هو»، «هو»؛ فهذا لا شك من البدع؛ وليس ذكراً لله عز وجل؛ بل هو من المنكر.

10 ـ ومن فوائد الآية: تحريم تخريب المساجد؛ لقوله تعالى: { وسعى في خرابها }؛ ويشمل الخراب الحسي، والمعنوي؛ لأنه قد يتسلط بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ على هدم المساجد حسًّا بالمعاول، والقنابل؛ وقد يخربها معنًى، بحيث ينشر فيها البدع والخرافات المنافية لوظيفة المساجد.

11 ـ ومنها: البشارة للمؤمنين بأن العاقبة لهم، وأن هؤلاء الذين منعوهم لن يدخلوها إلا وهم خائفون؛ وهذا على أحد الاحتمالات التي ذكرناها.

12 ـ ومنها: أن عقوبة من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، الخزي والعار في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة.

13 ـ ومنها: أن الذنب إذا كان فيه تعدٍّ على العباد فإن الله قد يجمع لفاعله بين العقوبتين: عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة؛ عقوبة الدنيا ليشفي قلب المظلوم المعتدى عليه؛ ولا شك أن الإنسان إذا اعتدى عليك، ثم رأيت عقوبة الله فيه أنك تفرح بأن الله سبحانه وتعالى اقتص لك منه؛ أما إذا كان في حق الله فإن الله تعالى لا يجمع عليه بين عقوبتين؛ لقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] .

14 ـ ومن فوائد الآية: إثبات يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { ولهم في الآخرة عذاب عظيم }.

15 ـ ومنها: أن عذاب الآخرة أعظم من عذاب الدنيا، كما أن نعيم الآخرة أكمل من نعيم الدنيا؛ ولكن الله سبحانه وتعالى يُري عباده نموذجاً من هذا، ومن هذا؛ لأنه لا يستقيم فهم الوعيد، ولا فهم الوعد، إلا بمشاهدة نموذج من ذلك؛ لو كان الله توعد بالنار، ونحن لا ندري ما هي النار، فلا نخاف إلا خوفاً إجمالياً عاماً؛ وكذلك لو وعد بالنعيم والجنة، ولا نعرف نموذجاً من هذا النعيم، لم يكن الوعد به حافزاً للعمل.

القـرآن

{)وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:115)

التفسير:

{ 115 } قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب }؛ اللام للاختصاص؛ يعني أن الله سبحانه وتعالى مختص بملك المشرق، والمغرب؛ وأما من سواه فملكه محدود؛ و{ المشرق } مكان الشروق؛ و{ المغرب } مكان الغروب؛ وقد وردت المشرق، والمغرب في القرآن على ثلاثة أوجه: مفردة، ومثناة، وجمع؛ فجاءت مفردة هنا فقال تعالى: { ولله المشرق والمغرب }؛ وجاءت مثناة في قوله تعالى: {رب المشرقين ورب المغربين} [الرحمن: 17] ، وجمعاً في قوله تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} [المعارج: 40] ؛ والجمع بين هذه الأوجه الثلاثة أن نقول: أما «المشرق» فلا ينافي «المشارق» ، ولا «المشرقين» ؛ لأنه مفرد محلى بـ «أل» ؛ فهو للجنس الشامل للواحد، والمتعدد؛ وأما { رب المشرقين ورب المغربين }، و{ رب المشارق والمغارب } فالجمع بينهما أن يقال: إن جمع { المشارق }، و{ المغارب } باعتبار الشارق، والغارب؛ لأن الشارق، والغارب كثير: الشمس، والقمر، والنجوم؛ كله له مشرق، ومغرب؛ فمن يحصي النجوم! أو باعتبار مشرق كل يوم، ومغربه؛ لأن كل يوم للشمس مشرق، ومغرب؛ وللقمر مشرق، ومغرب؛ وثنَّى باعتبار مشرق الشتاء، ومشرق الصيف؛ فمشرق الشتاء تكون الشمس في أقصى الجنوب؛ ومشرق الصيف في أقصى الشمال؛ وبينهما مسافات عظيمة لا يعلمها إلا الله؛ وسورة «الرحمن» أكثر ما فيها بصيغة التثنية؛ فلذلك كان من المناسب اللفظي أن يذكر المشرق، والمغرب بصيغة التثنية؛ أما عند العظمة فذكرت بالجمع: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين} [المعارج: 40، 41] ؛ فقوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب } أي مشرق كل شارق؛ ومغرب كل غارب؛ ويحتمل أن المراد له كل شيء؛ لأن ذكر المشرق والمغرب يعني الإحاطة والشمول.

قوله تعالى: { فأينما تولوا فثم وجه الله }؛ «أين» شرطية؛ و «ما» زائدة للتوكيد؛ و{ تولوا } فعل الشرط مضارع مجزوم بأداة الشرط؛ وعلامة جزمه حذف النون؛ وقوله تعالى: { فثم وجه الله }: الفاء رابطة لجواب الشرط؛ و{ ثم } اسم إشارة يشار به للبعيد؛ وهو ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ { وجه } مبتدأ مؤخر؛ والجملة من المبتدأ وخبره في محل جزم جواب الشرط.

قوله تعالى: { تولوا } أي تتجهوا؛ { فثم } أي فهناك؛ والإشارة إلى الجهة التي تولوا إليها؛ و{ وجه الله }: اختلف فيه المفسرون من السلف، والخلف، فقال بعضهم: المراد به وجه الله الحقيقي؛ وقال بعضهم: المراد به الجهة: { فثم وجه الله } يعني: في المكان الذي اتجهتم إليه جهة الله عز وجل؛ وذلك؛ لأن الله محيط بكل شيء؛ ولكن الراجح أن المراد به الوجه الحقيقي؛ لأن ذلك هو الأصل؛ وليس هناك ما يمنعه؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قِبَل وجه المصلي(2)؛ والمصلُّون حسب مكانهم يتجهون؛ فأهل اليمن يتجهون إلى الشمال؛ وأهل الشام إلى الجنوب؛ وأهل المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى الشرق؛ وكل يتجه جهة؛ لكن الاتجاه الذي يجمعهم الكعبة؛ وكل يتجه إلى وجه الله؛ وعلى هذا يكون معنى الآية: أنكم مهما توجهتم في صلاتكم فإنكم تتجهون إلى الله سواء إلى المشرق، أو إلى المغرب، أو إلى الشمال، أو إلى الجنوب.

قوله تعالى: { إن الله واسع عليم }؛ «الواسع» يعني واسع الإحاطة، وواسع الصفات؛ فهو واسع في علمه، وفي قدرته، وسمعه، وبصره، وغير ذلك من صفاته؛ و{ عليم } أي ذو علم؛ وعلمه محيط بكل شيء.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: انفراد الله بالملك؛ لتقديم الخبر في قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب}.

2 ـ ومنها: عموم ملك الله؛ لأن المشرق والمغرب يحتويان كل شيء.

3 ـ ومنها: إحاطة الله تعالى بكل شيء؛ لقوله تعالى: { فأينما تولوا فثم وجه الله }.

4 ـ ومنها: عموم ملك الله تعالى للمشرق، والمغرب خلقاً وتقديراً؛ وله أن يوجه عباده إلى ما شاء منهما من مشرق ومغرب؛ فله ملك المشرق والمغرب توجيهاً؛ وقد سبق أن قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها...} [البقرة: 106] إلى آيات نسخ القبلة كله تمهيد لتحويل القبلة؛ فكأن الله تعالى يقول: لله المشرق والمغرب فإذا شاء جعل اتجاه القبلة إلى المشرق؛ وإذا شاء جعله إلى المغرب؛ فأينما تولوا فثم وجه الله.

5 ـ ومنها: إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { فثم وجه الله }.

6 ـ ومنها: أن الله تعالى له مكان لقوله تعالى: { فثم }؛ لأن «ثم» إشارة إلى المكان؛ ولكن مكانه في العلو؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء»(3) .

7 ـ ومنها: إبطال بدعتين ضالتين؛ إحداهما بدعة الحلولية القائلين بأن الله تعالى في كل مكان بذاته؛ فإن قول هؤلاء باطل يبطله السمع، والعقل، والفطرة أيضاً؛ الثانية: قول النفاة المعطلة الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم، ولا خارجه؛ ولا فوق العالم، ولا تحته؛ ولا يمين العالم، ولا شمال العالم، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عن العالم؛ وهذا القول قال بعض أهل العلم: لو قيل لنا: صفوا لنا العدم ما وجدنا وصفاً أدق من هذا.

8 ـ ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: { واسع }، و{ عليم }.

9ـ ومنها: إثبات سعة الله، وعلمه؛ ونستفيد صفة ثالثة من جمع السعة والعلم؛ للإشارة إلى أن علم الله واسع بمعنى أنه لا يفوته شيء من كل معلوم لا في الأرض، ولا في السماء.



القـرآن

{ )وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) (البقرة:116) )بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117)

التفسير:

{ 116 } قوله تعالى: { وقالوا اتخذ الله ولداً } أي قالت النصارى، واليهود، والمشركون، اتخذ الله ولداً؛ اليهود قالت: عُزير ابن الله؛ والنصارى قالت: المسيح ابن الله؛ والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله؛ فنزه الله نفسه عن ذلك بقوله تعالى: { سبحانه } أي تنزيهاً له أن يكون له ولد؛ لأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته؛ وهو سبحانه وتعالى مالك لجميع المخلوقات، كما قال تعالى مبطلاً هذه الدعوى: { بل له ما في السموات والأرض }؛ ومن له ملك السموات والأرض، لا يحتاج إلى ولد؛ ولأنه لو كان له ولد لكان الولد مماثلاً له؛ والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء.

قوله تعالى: { كل له قانتون } أي كل له خاشع ذليل؛ لأنه مملوك؛ والله ـ تبارك وتعالى ـ هو المالك؛ وهذا من الاستدلال بالعقل على كذب دعوى هؤلاء أن له سبحانه وتعالى ولداً.

{ 117 } قوله تعالى: { بديع }: فعيل بمعنى مُفعل؛ أي مبدع؛ ولها نظير في اللغة العربية، مثل قول الشاعر:

(أم الريحانةَ الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع) فـ«السميع» بمعنى المسمِع؛ { بديع السموات والأرض} أي موجدهما على غير مثال سابق.

قوله تعالى: { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } أي إذا أراد أن يقضي أمراً؛ والفعل يأتي بمعنى إرادته المقارنة له، مثل قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] أي إذا أردت قراءته؛ والدليل على تأويل {قضى } بمعنى «أراد أن يقضي» هو قوله تعالى في آية أخرى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ؛ على أنه يصلح أن يكون { إذا قضى أمراً... } بمعنى إذا فعل شيئاً فإنما يقول تعالى له عند فعله: { كن فيكون }؛ يعني أن فعله سبحانه وتعالى للشيء يكون بعد قوله عز وجل: { كن } من غير تأخر؛ لأنه ليس أمراً شاقاً عليه؛ و{ أمراً } واحد الأمور؛ يعني الشؤون؛ أي إذا قضى شأناً من شؤونه سبحانه وتعالى فإن ذلك لا يصعب عليه: { فإنما يقول له كن }؛ أي لا يقول له إلا «كن» مرة واحدة بدون تكرار؛ و{ كن } هنا تامة من «كان» بمعنى حدث؛ { فيكون } أي فيحدث كما أمره الله سبحانه وتعالى على ما أراد الله عز وجل.

وفي قوله تعالى: { فيكون } قراءتان؛ هما النصب، والرفع؛ فعلى قراءة النصب تكون جواباً للأمر: { كن } أي فبسبب ذلك يكون؛ وتكون الفاء للسببية؛ وعلى قراءة الرفع تكون للاستئناف؛ أي فهو يكون.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآيتين: بيان عتوّ الإنسان وطغيانه، حيث سبَّ الله سبحانه وتعالى هذه السبَّة العظيمة، فقال: إن الله اتخذ ولداً!!! في الحديث الصحيح القدسي: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك؛ وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: إنه لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفْئاً أحدٌ»(4) ؛ فهذا من أعظم العدوان؛ وهو يشير كما تقدم في التفسير إلى ثلاث طوائف: اليهود، والنصارى، والمشركين؛ وقد أبطل الله هذه الدعوى الكاذبة من ستة أوجه:

الوجه الأول: في قوله تعالى: { سبحانه }؛ فإن تنزهه عن النقص يقتضي أن يكون منزهاً عن اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد يقصد به الإعانة، ودفع الحاجة، أو بقاء العنصر؛ والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ ومنزه أيضاً عن المماثلة؛ ولو كان له ولد لكان مثيلاً له.

الوجه الثاني: في قوله تعالى: { بل له ما في السموات والأرض }؛ وعموم ملكه يستلزم استغناءه عن الولد.

الوجه الثالث: في قوله تعالى: { بل له ما في السموات والأرض }، والمملوك لا يكون ولداً للمالك؛ حتى إنه شرعاً إذا ملك الإنسان ولده يعتق عليه؛ فالمملوك لا يمكن أن يكون ولداً للمالك؛ فالله خالق؛ وما سواه مخلوق؛ فكيف يكون المخلوق ولداً للخالق!

الوجه الرابع: في قوله تعالى: { كل له قانتون }؛ ووجهه أن العباد كلهم خاضعون ذليلون؛ وهذا يقتضي أنهم مربوبون لله عابدون له؛ والعبد لا يكون ولداً لربه.

الوجه الخامس: في قوله تعالى: { بديع السموات والأرض }؛ ووجهه أنه سبحانه وتعالى مبدع السموات والأرض؛ فالقادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق إنساناً بلا أب، كما قال تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] .

الوجه السادس: في قوله تعالى: { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون }؛ ومن كان هذه قدرته فلا يستحيل عليه أن يوجد ولداً بدون أب.

فبطلت شبهتهم التي يحتجون بها على أن لله ولداً.

2 ـ ومن فوائد الآيتين: امتناع أن يكون لله ولد؛ لهذه الوجوه الستة.

3ـ ومنها: عموم ملك الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { بل له ما في السموات والأرض }.

4ـ ومنها: أن الله لا شريك له في ملكه؛ لتقديم الخبر في قوله تعالى: { له ما في السموات والأرض }؛ وتقديم الخبر يفيد الاختصاص.

5ـ ومنها: أن كل من في السموات، والأرض قانت لله؛ والمراد القنوت العام ـ وهو الخضوع للأمر الكوني ـ؛ والقنوت يطلق على معنيين؛ معنى عام وخاص؛ «المعنى الخاص» هو قنوت العبادة، والطاعة، كما في قوله تعالى: {أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً} [الزمر: 9] ، وكما في قوله تعالى: {وصدَّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12] ، وكما في قوله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43] ؛ و«المعنى العام» هو قنوت الذل العام؛ وهذا شامل لكل من في السموات، والأرض، كما في هذه الآية: { كل له قانتون }؛ حتى الكفار بهذا المعنى قانتون لله سبحانه وتعالى؛ لا يخرجون عن حكمه الكوني.

6 ـ ومن فوائد الآيتين: عظم قدرة الله عز وجل ببدع السموات، والأرض؛ فإنها مخلوقات عظيمة.

7ـ ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى بأن هذه السموات، والأرض على نظام بديع عجيب؛ قال تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك: 3] ؛ هذا النظام الواسع الكبير العظيم لا يختل، ولا يتغير على مر السنين، والأعوام؛ فتدل على قدرة باهرة بالغة، وحكمة عظيمة بالغة: كل شيء منظم تنظيماً بديعاً متناسباً، فلا يصطدم شيء بشيء فيفسده؛ ولا يغير شيء شيئاً؛ بل كل سائر حسب ما أمره الله به؛ قال الله تعالى: {وأوحى في كل سماء أمرها} [فصلت: 12] ؛ إذاً { بديع السموات والأرض } يستفاد منها القوة، والقدرة، والحكمة.

8ـ ومن فوائد الآيتين: أن السموات عدد؛ لأن الجمع يدل على العدد؛ وقد بيَّن الله في القرآن، وثبتت السنة، وأجمع المسلمون على أن السماء جرم محسوس؛ وليس كما قال أهل الإلحاد: إن الذي فوقنا فضاء لا نهاية له؛ وأما الأرض فلم تأت في القرآن إلا مفردة؛ لكن أشار الله سبحانه وتعالى إلى أنها سبع في قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] ؛ وصرحت السنة بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين»(5) .

9ـ ومن فوائد الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عن أمره شيء؛ لقوله تعالى: { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون }.

10ـ ومنها: إثبات القول لله؛ لقوله تعالى: { فإنما يقول له }.

11ـ ومنها: أن قول الله بصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { فإنما يقول له كن فيكون }؛ و{ له } صريحة في توجيه القول للمقول له؛ ولولا أنه يسمعه لما صار في توجيهه له فائدة؛ ولهذا يسمعه الموجه إليه الأمر، فيمتثل، ويكون.

12ـ ومنها: أن قول الله بحروف؛ لقوله تعالى: { كن }؛ وهي كلمة بحرفين.

فإن قال قائل: كيف يمكن أن نتصور هذا ونحن نقول: ليس كمثله شيء؛ وأنتم تقولون: إنه بحروف؟ قلنا: نعم؛ الحروف هي الحروف؛ لكن كيفية الكلام، وحقيقة النطق بها ـ أو القول ـ لا يماثل نطق المخلوق، وقوله؛ ومن هنا نعرف أننا لا نكون ممثِّلة إذا قلنا: إنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأننا نقول: صوت ليس كأصوات المخلوقين؛ بل هو حسب ما يليق بعظمته، وجلاله.

13ـ ومن فوائد الآيتين: أن الجماد خاضع لله سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن قوله تعالى: { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } يشمل الأمور المتعلقة بالحيوان، والمتعلقة بالجماد؛ فالجماد إذا قال الله تعالى له: { كن } كان.

14ـ ومنها: أنه ليس بين أمر الله بالتكوين، وتكونه تراخٍ؛ بل يكون على الفورية؛ وذلك لقوله تعالى: { فيكون }: بالفاء؛ والفاء تدل على الترتيب، والتعقيب.



القــرآن

{ )وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (البقرة:118)

التفسير:

{ 118 } قوله تعالى: { وقال الذين لا يعلمون } أي ليسوا من ذوي العلم { لولا يكلمنا الله } أي هلاّ يكلمنا الله بتصديق الرسل { أو تأتينا آية } أي علامة على صدقهم؛ وهذا منهم على سبيل التعنت والعناد؛ فالتعنت قولهم: { لولا يكلمنا الله }؛ والعناد قولهم: { أو تأتينا آية }؛ لأن الرسل أتوا بالآيات التي يؤمن على مثلها البشر؛ وأعظمها القرآن الكريم الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله، فعجزوا.

قوله تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم }؛ أي مثلَ هذا القول قال الذين من قبلهم؛ وعلى هذا يكون { مثل قولهم } توكيداً لقوله تعالى: { كذلك }؛ أي مثل هذا القول الذي اقترحوه قد اقترحه من قبلهم: قوم موسى قالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] ؛ فهذا دأب المكذبين للرسل ينكرون، ويقترحون؛ وقد أُتوا من الآيات بأعظم مما اقترحوه.



قوله تعالى: { تشابهت قلوبهم }: الأولون، والآخرون قلوبهم متشابهة في رد الحق، والعناد، والتعنت، والجحود؛ من أول ما بعثت الرسل إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ـ بل وإلى يوم القيامة ـ فقلوب أهل الكفر، والعناد متشابهة؛ إنما يختلف الأسلوب؛ قد يقترح هؤلاء شيئاً؛ وهؤلاء شيئاً آخر؛ لكن الكلام على جنس الاقتراح، وعدم قبولهم للحق.

قوله تعالى: { قد بينا } أي أظهرنا؛ لأن «بان» بمعنى ظهر؛ و«بيَّن» بمعنى أظهر؛ و{ الآيات } جمع آية؛ وهي العلامة المعيِّنة لمدلولها؛ فكل علامة تعين مدلولها تسمى آية؛ فآيات الله هي العلامات الدالة عليه.

قوله تعالى: { لقوم يوقنون } متعلقة بقوله تعالى: { بينا }؛ و «الإيقان» هو العلم الذي لا يخالجه شك.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن أهل الباطل يجادلون بالباطل؛ لأن طلبهم الآيات التي يعينونها ما هو إلا تعنت واستكبار؛ ففي الآيات التي جاءت بها الرسل ما يؤمن على مثلها البشر؛ ثم إنهم لو جاءت الآيات على ما اقترحوا لم يؤمنوا إذا حقت عليهم كلمة ربهم؛ لقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .

2 ـ ومنها: وصف من لم يَنقَدْ للحق بالجهل؛ لقوله تعالى: { وقال الذين لا يعلمون }؛ فكل إنسان يكابر الحق، وينابذه فإنه أجهل الناس.

3 ـ ومنها: أن المشركين يقرون بأن الله يتكلم بحرف، وصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { لولا يكلمنا الله فهم خير في هذا ممن يدعون أن كلام الله هو المعنى القائم في نفسه.

4 ـ ومنها: أنه ما من رسول إلا وله آية؛ لأن قولهم: { أو تأتينا آية } هذا مدَّعى غيرهم؛ إذ إن من لم يأت بآية لا يلام من لم يصدقه؛ مثلاً إذا جاء رجل يقول: «أنا رسول الله؛ آمنوا بي وإلا قتلتكم، واستحللت نساءكم، وأموالكم» فلا نطيعه؛ ولو أننا أنكرناه لكنا غير ملومين؛ لكن الرسل تأتي بالآيات؛ ما من رسول إلا وأعطاه الله تعالى من الآيات ما يؤمن على مثلها البشر؛ فالله تعالى لا يرسل الرسل، ويتركهم بدون تأييد.

5 ـ ومن فوائد الآية: أن أقوال أهل الباطل تتشابه؛ لقوله تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} وقوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52، 53] ؛ وأنت لو تأملت الدعاوى الباطلة التي رد بها المشركون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من زمنه إلى اليوم لوجدت أنها متشابهة، كما قال تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 32] ؛ واليوم يقولون للمتمسكين بالقرآن، والسنة هؤلاء رجعيون؛ هؤلاء دراويش لا يعرفون شيئاً.

6 ـ ومن فوائد الآية: أن الأقوال تابعة لما في القلوب؛ لقوله تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم }؛ فلتشابه القلوب تشابهت الأقوال؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»(6).

7ـ ومنها: تشابه قلوب الكفار؛ لقوله تعالى: { تشابهت قلوبهم }.

8ـ ومنها: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان المصاب إذا رأى أن غيره أصيب فإنه يتسلى بذلك، وتخف عليه المصيبة، كما قال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39] ؛ فالله تعالى يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذا القول الذي قيل له قد قيل لمن قبله.

9 ـ ومنها: إبطال دعوى قولهم: { أو تأتينا آية } في قوله تعالى: { قد بينا الآيات }.

10 ـ ومنها: أنه لا ينتفع بالآيات إلا الموقنون؛ لقوله تعالى: { قد بينا الآيات لقوم يوقنون }؛ وأما غير الموقنين فلا تتبين لهم الآيات لما في قلوبهم من الريب والشك.

11 ـ ومنها: أن الموقن قد يتبين له من الآيات ما لم يتبين لغيره؛ ويؤيده قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17] .

12 ـ ومنها: أن الآيات تنقسم إلى قسمين: آيات شرعية، وآيات كونية؛

فالآيات الشرعية: ما جاءت به الرسل من الوحي؛ والقسم الثاني آيات كونية: وهي مخلوقات الله الدالة عليه، وعلى ما تقتضيه أسماؤه، وصفاته، كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، وغيرها:

(وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد) 13 ـ ومنها: زيادة العلم باليقين؛ لأن من آيات الله هذا الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكلما ازداد يقينك تبين لك من آيات الله ما لم يتبين لغيرك، فيزداد علمك؛ فباليقين يزداد العلم؛ قال تعالى: {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31] ؛ فكلما كان الإنسان أقوى يقيناً كان أكثر علماً؛ وكلما ازداد علمه ازداد يقينه؛ فهما متلازمان.



إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) (البقرة:119)

التفسير:

{ 119 } قوله تعالى: { إنا أرسلناك }؛ «إن» للتوكيد؛ اسمها «نا» لكن حذفت النون لتوالي الأمثال؛ مع أن الأصل أنها لا تحذف: «إننا»؛ لكن لا نقول اسمها الألف؛ إذ إن الألف لا تكون ضميراً إلا إذا اتصلت بفعل، مثل: قالا، قاما، وما أشبه ذلك؛ وحذف المرسل إليه لإفادة العموم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العالمين؛ وغيره من الرسل إلى قومهم خاصة.

قوله تعالى: { بالحق }؛ الباء هنا للمصاحبة، أو الملابسة؛ يعني أرسلناك متلبساً بالحق؛ أو أن المعنى: حاملاً الحق في هذه الرسالة؛ والآية تحتمل المعنيين؛ أحدهما: أن إرسالك حق؛ والثاني: أن ما أرسلت به حق؛ والمعنيان كلاهما صحيح؛ فتحمل الآية عليهما؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم رسالته حق؛ وعليه فالباء للملابسة؛ والرسول صلى الله عليه وسلم ما أرسل به فهو حق؛ وعلى هذا فالباء للمصاحبة ـ يعني أن رسالتك مصحوبة بالحق ـ؛ لأن ما جئت به حق؛ والحق هو الثابت المستقر؛ وهو ضد الباطل؛ والحق بالنسبة للأخبار الصدق؛ وبالنسبة للأحكام العدل.

قوله تعالى: { بشيراً } من البشارة؛ وهي الإخبار بما يسر؛ وقد تقع فيما يسوء، كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] .

قوله تعالى: { ونذيراً } من الإنذار؛ وهو الإعلام بالمكروه؛ أي بما يخاف منه.

والرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه مبشر بما يسر ـ وهو الجنة ـ؛ ومنذر بما يخاف منه ـ وهو النار و{ بشيراً } حال من الكاف في { أرسلناك }؛ و{ نذيراً } حال أخرى بواسطة حرف العطف؛ فجمع الله له بين كونه مبشراً، ومنذراً؛ لأن ما جاء به أمر، ونهي؛ والمناسب للأمر: البشارة؛ وللنهي: الإنذار؛ فعليه تكون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة بين البشرى، وبين الإنذار؛ والأمر، والنهي؛ إذاً فالرسول مبشر للمتقين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً؛ ومنذر للكافرين أن لهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.

قوله تعالى: { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم }؛ في { تسأل } قراءتان؛ إحداهما بالرفع على أن { لا} نافية؛ والفعل مبني لما لم يسم فاعله؛ يعني: ولا تُسأل أنت عن أصحاب الجحيم؛ أي لا يسألك الله عنهم؛ لأنك بلَّغت؛ والحساب على الله؛ والقراءة الثانية: بالجزم على أن { لا } ناهية؛ و{ تَسألْ }: فعل مضارع مبني للفاعل مجزوم بها؛ والمعنى: لا تَسأل عن أصحاب الجحيم بما هم عليه من العذاب؛ فإنهم في حال لا يتصورها الإنسان؛ وهذا غاية ما يكون من الإنذار لهؤلاء المكذبين المخالفين الذين هم أصحاب الجحيم؛ فالنهي هنا للتهويل؛ والقراءتان سبعيتان جامعتان للمعنيين؛ و{ أصحاب } جمع صاحب؛ وهو الملازم؛ و{ الجحيم } النار العظيمة؛ وهي لها أسماء كثيرة منها: النار، والسعير، وجهنم، والجحيم؛ كل ذلك لاختلاف أوصافها؛ وإلا فهي واحدة.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: الرد على هؤلاء الذين قالوا: { لولا يكلمنا الله... }؛ لقوله تعالى: { إنا أرسلناك بالحق }.

2ـ ومنها: ثبوت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { إنا أرسلناك }.

3ـ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول صادق؛ وليس برب؛ لأن الرسول لا يمكن أن يكون له مقام المرسِل.

4 ـ ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة لأمر، ونهي، وتبشير، وإنذار؛ لقوله تعالى: { بشيراً ونذيراً }؛ والحكمة من ذلك ظاهرة؛ وذلك لأن الإنسان قد يهون عليه فعل الأوامر، ويشق عليه ترك المنهيات؛ أو بالعكس؛ فلو كانت الشريعة كلها أوامر ما تبين الابتلاء في كفّ الإنسان نفسه عن المحارم، ولو كانت كلها نواهي ما تبين ابتلاء الإنسان بحمل نفسه على الأوامر؛ فكان الابتلاء بالأمر، والنهي غاية الحكمة؛ فالشيخ الكبير يهون ع
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:16 am من طرف ahmadhamad
الاية 126 الي الاية 139

)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:126)

التفسير:

{ 126 } قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم } أي اذكر إذ قال إبراهيم: { رب اجعل } أي صيِّر { هذا } أي مكة { بلداً آمناً }؛ «البلد» اسم لكل مكان مسكون سواء كان ذلك مدينة كبيرة، أو مدينة صغيرة؛ كله يسمى بلداً؛ وقد سمى الله سبحانه وتعالى مكة بلداً، كما في قوله تعالى: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3] ؛ وسماها الله تعالى قرية، كما في قوله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم} [محمد: 13] .

وقوله تعالى: { آمناً }: قال بعض المفسرين: أي آمناً مَن فيه؛ لأن البلد نفسه لا يوصف بالأمن، والخوف؛ «البلد» أرض، وبناء؛ وإنما الذي يكون آمناً: أهلُه؛ أما هو فيكون أمْناً؛ والذي ينبغي هو أن يبقى على ظاهره، وأن يكون البلد نفسه آمناً؛ وإذا أمِنَ البلد أمِن مَن فيه ـ وهو أبلغ ـ؛ لأنه مثلاً لو جاء أحد، وهدم البناء ما كان البناء آمناً، وصار البناء عرضة لأن يتسلط عليه من يُتلفه؛ فكون البلد آمناً أبلغ من أن نفسره بـ«آمناً أهله»؛ لأنه يشمل البلد، ومن فيه؛ ولهذا قال تعالى: { وارزق أهله }؛ لأن البلد لا يرزق.

قوله تعالى: { ارزق } فعل دعاء؛ ومعناه: أعطِ؛ و{ أهله } مفعول أول؛ و{ من الثمرات } مفعول ثانٍ؛ و{ من آمن بالله واليوم الآخر } بدل من قوله: { أهله } ـ بدل بعض من كل ـ؛ و«الإيمان» في اللغة: التصديق؛ وفي الشرع: التصديق المستلزم للقبول، والإذعان؛ والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته؛ و{ اليوم الآخر } هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه لا يوم بعده؛ وسبق بيان ذلك.

قوله تعالى: { قال ومن كفر }؛ القائل هو الله سبحانه وتعالى؛ فأجاب الله تعالى دعاءه؛ يعني: وأرزق من كفر أيضاً؛ فهي معطوفة على قوله تعالى: { من آمن }؛ ولكنه تعالى قال في الكافر: { فأمتعه قليلاً.. } إلخ.

قوله تعالى: { فأمتعه } فيها قراءتان؛ الأولى بفتح الميم، وتشديد التاء؛ والثانية بإسكان الميم، وتخفيف التاء؛ و «الإمتاع» و «التمتيع» معناهما واحد؛ وهو أن يعطيه ما يتمتع به؛ و«المتعة»: البلغة التي تلائم الإنسان.

قوله تعالى: { قليلاً }: القلة هنا تتناول الزمان، وتتناول عين الممتَّع به؛ فالزمن قصير: مهما طال بالإنسان العمر فهو قليل؛ قال الله عزّ وجلّ: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35] ؛ كذلك عين الممتع به قليل؛ كل ما يحصل للإنسان من هذه الدنيا من اللذة، والمتاع قليل بالنسبة للآخرة، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لموضع سوطٍ في الجنة خير من الدنيا وما فيها»(16)؛ ومع قلته فهو مشوب بكدر سابق، ولاحق، كما قال الشاعر:

(فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساء ويوم نُسَرُّ) ويقول الآخر:

(لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم)

وإذا شئت أن تعرف حقيقة الأمر فقس ما بقي من حياتك بما مضى؛ الآن كلنا يعرف أننا خلفنا أياماً كثيرة؛ فما خلفنا بالأمس كأنه لا شيء؛ نحن الآن في الوقت الذي نحن فيه؛ وأما ما مضى فكأنه لم يكن؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً الدنيا: «إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها»(17) : إنسان اطمأن قليلاً تحت ظل شجرة، ثم ارتحل! هذه الدنيا كلها.

قوله تعالى: { ثم أضطره إلى عذاب النار } أي ألجئه إلى عذاب النار؛ وإنما جعل الله ذلك إلجاءً؛ لأن كل إنسان يفر من عذاب النار؛ لكنه لا بد له منه إن كان من أهل النار؛ لأنه هو الذي فعل الأسباب التي توجبه؛ و «العذاب» العقوبة التي يتألم بها المرء؛ و{ النار } اسم معروف.

قوله تعالى: { وبئس المصير }؛ { بئس } فعل ماضٍ جامد إنشائي يراد به الذم؛ و{ المصير } فاعل { بئس }؛ والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي؛ أي: وبئس المصير هي؛ لأنه لو لم تقدر هذا لم تكن الجملة عائدة على ما سبق؛ و{ المصير } بمعنى مكان الصيرورة؛ أي المرجع الذي يصير إليه الإنسان.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: التنويه بفضل إبراهيم؛ لأن قوله تعالى: { وإذ قال } سبق أنها على تقدير: واذكر إذ قال؛ ولولا أن هذا أمر يستحق التنويه، والإعلام ما أمر به.

2ـ ومنها: أنه لا غنى للإنسان عن دعاء الله مهما كانت مرتبته؛ فلا أحد يستغني عن الدعاء أبداً؛ لقوله تعالى: { رب اجعل... } إلخ.

3ـ ومنها: أن للدعاء أثراً في حصول المقصود سواء كان دفع مكروه، أو جلب محبوب؛ لأنه لولا أن للدعاء أثراً لكان الدعاء عبثاً؛ وقول من يقول: «لا حاجة للدعاء: إن كان الله كتب هذا فهو حاصل، دعوت أو لم أدعُ؛ وإن كان الله لم يكتبه فلن يحصل، دعوت أو لم أدعُ»، فإن جوابنا عن هذا أن نقول: إن الله قد كتبه بناءً على دعائك؛ فإذا لم تدع لم يحصل، كما أنه لو قال: «لن آكل الطعام؛ فإن أراد الله لي الحياة فسوف أحيا ـ ولو لم آكل؛ وإن كان يريد أن أموت فسوف أموت ـ ولو ملأت بطني إلى حلقومي»؛ نقول: لكن الأكل سبب للحياة؛ فإنكار أن يكون الدعاء سبباً إنكار أمور بديهيات؛ لأننا نعلم علم اليقين فيما أُخبرنا به، وفيما شاهدناه، وفيما جرى علينا أن الله سبحانه وتعالى يقدِّر الأشياء بالدعاء؛ فالله تعالى قص علينا في القرآن قصصاً كثيرة فيها إجابة للدعاء؛ كذلك يجري للإنسان نفسه أشياء يدعو الله بها فيشاهدها رأي العين أنها جاءت نتيجة لدعائه؛ فإذاً الشرع، والواقع كلاهما يبطل دعوى من أنكر تأثير الدعاء.

4ـ ومن فوائد الآية: رأفة إبراهيم صلى الله عليه وسلم بمن يؤم هذا البيت؛ لأن جعل البيت آمناً يتضمن الإرفاق بمن أمّه من الناس.

5ـ ومنها: رأفة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أيضاً، حيث سأل الله أن يرزق أهله من الثمرات؛ لقوله تعالى: { وارزق أهله من الثمرات }.

6ـ ومنها: أدب إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يعمم في هذا الدعاء؛ فقال: { وارزق أهله من الثمرات من آمن } خوفاً من أن يقول الله له: «من آمن فأرزقه»، كما قال تعالى حين سأله إبراهيم أن يجعل من ذريته أئمة: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] ؛ فتأدب في طلب الرزق: أن يكون للمؤمنين فقط من أهل هذا البلد؛ لكن المسألة صارت على عكس الأولى: الأولى خصص الله دعاءه؛ وهذا بالعكس: عمم.

7ـ ومنها: أن رزق الله شامل للمؤمن، والكافر؛ لقوله تعالى: { ومن كفر }؛ فالرزق عام شامل للمؤمن، والكافر؛ بل للإنسان، والحيوان، كما قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} [هود: 6] ؛ وأنت ترى بعض الخشاش في الأرض ما حوله شيء، ولكن ييسر الله له الرزق يُجلب إليه من حيث لا يشعر، ولا يحتسب؛ ويُذكر في هذه الأمور قصص غريبة، ويشاهَد بعض الحيوانات الصغيرة الصماء العمياء يَجلب الله لها رزقاً كلما احتاجت إلى ذلك، فتأكله؛ والله على كل شيء قدير.

8ـ ومن فوائد الآية: أنه يجب علينا أن نتخذ من هذا الوقت القصير عملاً كثيراً ينفعنا في الآخرة؛ لقوله تعالى: { فأمتعه قليلاً }؛ والعمل اليسير ـ ولله الحمد ـ يثمر ثمرات كثيرة في الآخرة يضاعف بعشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

9ـ ومنها: إثبات عذاب النار.

10ـ ومنها: إثبات كلام الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { قال }؛ وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ والدليل على أنه بحرف أن قوله تعالى: { ومن كفر } مثلاً مكوَّن من حروف؛ والدليل على أنه بصوت مسموع: المحاورة مع إبراهيم؛ فلولا أن إبراهيم يسمع صوتاً لم تكن محاورة.

11ـ ومنها: إثبات سمع الله؛ لأنه يسمع إبراهيم وهو يكلمه سبحانه وتعالى.

12 ـ ومنها: إثبات اليوم الآخر.

13ـ ومنها: الثناء على النار بهذا الذم، وأنها بئس المصير؛ فكل إنسان يسمع هذا من كلام الله عزّ وجلّ سوف ينفر من هذه النار، ولا يعمل عمل أهلها.



القــرآن

{ )وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127)

التفسير:

{ 127 } لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه جعل هذا البيت مثابة للناس بيَّن الله تعالى كيف نشأ هذا البيت، فقال تعالى: { وإذ يرفع... }.

قوله تعالى: { وإذ يرفع }؛ { إذ } ظرف عاملها محذوف؛ والتقدير: واذكر إذ يرفع؛ و{ يرفع } فعل مضارع؛ والمضارع للحاضر، أو للمستقبل؛ ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم.

قوله تعالى: { إبراهيم } فيها قراءتان؛ إحداهما: بكسر الهاء بعدها ياء؛ والثانية: بفتح الهاء بعدها ألف: { إبراهام

قوله تعالى: { القواعد } مفعول { يرفع }؛ جمع قاعدة؛ وقاعدة الشيء أساسه.

قوله تعالى: { من البيت } بيان للقواعد؛ وهي في محل نصب على الحال؛ والمراد بـ{ البيت } الكعبة، كما سبق.

قوله تعالى: { وإسماعيل } عطفاً على قوله تعالى: { إبراهيم }؛ فهو مشارك لأبيه في رفع القواعد؛ وأخّر ذكر إسماعيل؛ لأن الأصل: إبراهيم؛ وإسماعيل مُعِين؛ هذا الظاهر ـ والله أعلم ـ.

قوله تعالى: { ربنا تقبل منا }؛ «رب» منادى حذفت منه «يا» النداء؛ وأصله: يا ربنا؛ حذفت «يا» النداء للبداءة بالمدعو المنادى ـ وهو الله ـ؛ وجملة: { ربنا تقبل منا } عاملها محذوف تقديره: «يقولان»؛ وجملة: «يقولان» في موضع نصب على الحال؛ ودعَوَا الله سبحانه وتعالى باسم «الرب» ؛ لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية؛ لأنها خلق وإيجاد.

قوله تعالى: { ربنا تقبل منا } يعني كل واحد يقول بلسانه: ربنا تقبل منا؛ هذا ظاهر اللفظ؛ و «القبول» أخذ الشيء، والرضا به؛ ومنه ما يذكره الفقهاء في قولهم: ينعقد البيع بالإيجاب، والقبول؛ فتقبُّلُ الله سبحانه وتعالى للعمل أن يتلقاه بالرضا، فيرضى عن فاعله؛ وإذا رضي الله تعالى عن فاعله فلا بد أن يثيبه الثواب الذي وعده إياه.

قوله تعالى: { إنك أنت السميع العليم }: هذه الجملة تعليل لطلب القبول؛ يعني: نسألك أن تقْبل لأنك أنت السميع العليم: تسمع أقوالنا، وتعلم أحوالنا؛ وهذه الجملة مؤكدة بمؤكدين؛ أحدهما: «إنّ» ؛ والثاني: { أنت }؛ ومن المعلوم أن ضمير الفصل يفيد التوكيد؛ وضمير الفصل لا محل له من الإعراب؛ و{ السميع } خبر «إن» ؛ وقوله تعالى: { العليم } أي ذو العلم.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: فضل عمارة الكعبة؛ لأن الله تعالى أمر نبيه أن يذكر هذه الحادثة؛ لقوله تعالى: { وإذ يرفع... } إلخ.

2ـ ومنها: فضل إبراهيم، وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، حيث قاما برفع هذه القواعد.

3ـ ومنها: أن من إحكام البناء أن يؤسس على قواعد؛ لقوله تعالى: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد }؛ وإذا بني على غير قاعدة فإنه ينهار.

4ـ ومنها: جواز المعاونة في أفعال الخير.

5ـ ومنها: أهمية القبول، وأن المدار في الحقيقة عليه؛ وليس على العمل؛ فكم من إنسان عمل أعمالاً كثيرة وليس له من عمله إلا التعب، فلم تنفعه؛ وكم من إنسان عمل أعمالاً قليلة قبلت فنفعه الله بها؛ ولهذا جاء في الحديث: «رب صائم حظه من صيامه الجوع، والظمأ؛ ورب قائم حظه من قيامه السهر»(18) .

6ـ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { السميع }، و{ العليم }؛ وكل اسم من أسماء الله يدل على صفة من صفاته؛ بل على صفتين أحياناً، أو أكثر ـ ما يلزم من إثبات الصفة التي يدل عليها الاسم ـ؛ مثال ذلك: «الخالق» دل على صفة الخلق؛ وصفة الخلق تستلزم ثبوت صفة العلم، والقدرة؛ وقد يدل الاسم على الأثر إذا كان ذلك الاسم متعدياً؛ مثاله: { السميع } يدل على صفة السمع، ويدل على أن الله يسمع كل صوت يحدث.

7ـ ومن فوائد الآية: إثبات السمع لله عزّ وجلّ؛ وينقسم السمع إلى قسمين: سمع بمعنى سماع الأصوات؛ وسمع بمعنى الإجابة؛ فمثال الأول قوله تبارك وتعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [الزخرف: 80] ، وقوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] ؛ ومثال الثاني قوله تعالى: {إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39] أي مستجيب الدعاء؛ وكذلك قول المصلي: «سمع الله لمن حمده» ـ يعني استجاب لمن حمده ـ؛ والسمع الذي هو بمعنى سماع الأصوات من صفاته الذاتية؛ والسمع بمعنى الاستجابة من صفاته الفعلية؛ لأن الاستجابة تتعلق بمشيئته: إن شاء استجاب لمن حمده؛ وإن شاء لم يستجب؛ وأما سماع الأصوات فإنه ملازم لذاته ـ لم يزل، ولا يزال سميعاً ـ؛ إذ إن خلاف السمع الصمم؛ والصمم نقص؛ والله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص؛ وكلا المعنيين يناسب الدعاء: فهو سبحانه وتعالى يسمع صوت الداعي، ويستجيب دعاءه.

والسمع ـ أعني سماع الأصوات ـ تارة يفيد تهديداً؛ وتارة يفيد إقراراً، وإحاطة؛ وتارة يفيد تأييداً. يفيد تهديداً ، كما في قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا...} [آل عمران: 181] الآية، وقوله تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [الزخرف: 80] ويفيد إقراراً، وإحاطة ، كما في قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1] ؛ ويفيد تأييداً ، كما في قوله تعالى لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] .

8ـ ومن فوائد الآية: إثبات العلم لله ـ تبارك وتعالى ـ جملةً، وتفصيلاً؛ موجوداً، أو معدوماً؛ ممكناً، أو واجباً، أو مستحيلاً؛ مثال علمه بالجملة: قوله تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12] ، وقوله تعالى: {الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً} [طه: 98] ، ومثال علمه بالتفصيل: قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] ؛ ومثال علمه بالموجود: ما أخبر الله به عن علمه بما كان، مثل قول الله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} [البقرة: 187] ؛ ومثال علمه بالمعدوم الذي قد وجِد: ما علمه الله من أحوال الماضين؛ ومثال علمه بالمعدوم الذي لم يوجد بعد: ما علمه الله عزّ وجلّ من أحوال القيامة، ومآل الخلق؛ ومثال علمه بالممكن: ما علمه الله عزّ وجلّ من الحوادث الواقعة من الإنسان؛ ومثال علمه بالواجب: ما علمه الله عزّ وجلّ من كمال صفاته؛ ومثال علمه بالمستحيل: قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، وقوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22] .

واعلم أن من أنكر علم الله فهو كافر سواء أنكره فيما يتعلق بفعله، أو فيما يتعلق بخلقه؛ فلو قال: إن الله تعالى لا يعلم ما يفعله العبد فهو كافر، كما لو قال: إن الله لا يعلم ما يفعله بنفسه؛ ولهذا كفَّر أهل السنة والجماعة غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أفعال العباد؛ فالذي ينكر علم الله بأفعال العباد لا شك أنه كافر؛ لأن الله تعالى يقول: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}

[ق: 16] ، ويقول سبحانه وتعالى: {أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} [الزخرف: 80] ؛ فالذي يقول: إن الله لا يعلم أفعال العباد فإنه كافر بهذه الآيات؛ ولهذا قال الشافعي في القدرية: «ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خُصِموا؛ وإن أنكروه كفروا»؛ وإيمانك بهذا يوجب لك مراقبته، والخوف منه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه؛ لأنك متى علمت أنه عالم بك فإنك تخشاه؛ تستحيي منه عند المخالفة؛ وترغب فيما عنده عند الموافقة.

9ـ ومن فوائد الآية: التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته المناسبة لما يدعو به؛ لقوله تعالى: { إنك أنت السميع العليم }.

10ـ ومنها: أن الدعاء يكون باسم «الرب» ؛ لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية؛ لأنها خَلْق، وإيجاد.



القـــــرآن

{ )رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128)

التفسير:

{ 128 } قوله تعالى: { ربنا واجعلنا مسلمين }: أتى بالواو عطفاً على قوله تعالى: { ربنا تقبل منا } يعني ربنا واجعلنا مع قبولك مسلمين لك؛ و{ اجعلنا } أي صيِّرنا.

قوله تعالى: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يعني واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك؛ فأتى بـ{ من } التي للتبعيض؛ والمراد بـ{ ذريتنا } من تفرعوا منهما؛ فذرية الإنسان من تفرعوا منه.

قوله تعالى: { أمة مسلمة لك } هذه الأمة هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصدق على أحد أنه من ذرية إبراهيم، وإسماعيل إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود، والنصارى ليسوا من بني إسماعيل؛ بل من بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

قوله تعالى: { وأرنا مناسكنا } أي بيِّنها لنا حتى نراها؛ و «المناسك» جمع منسك؛ وهو هنا مكان العبادة.

قوله تعالى: { وتب علينا } أي وفقنا للتوبة فنتوب؛ والتوبة من العبد: هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة؛ ومن الله عزّ وجلّ: هي توفيق العبد للتوبة، ثم قبولها منه.

قوله تعالى: { إنك أنت التواب الرحيم }: هذا من باب التوسل بأسماء الله عزّ وجلّ المناسبة للمطلوب؛ و{ التواب } صيغة مبالغة لكثرة من يتوب الله عليهم، وكثرة توبته على العبد نفسه؛ و{ الرحيم } أي الموصوف بالرحمة التي يرحم بها من يشاء من عباده.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: شدة افتقار الإنسان إلى ربه، حيث كرر كلمة: { ربنا }؛ وأنه بحاجة إلى ربوبية الله الخاصة التي تقتضي عناية خاصة.

2ـ ومنها: أن الإنسان مفتقر إلى تثبيت الله؛ وإلا هلك؛ لقوله تعالى: { واجعلنا مسلمين }؛ فإنهما مسلمان بلا شك: فهما نبيَّان؛ ولكن لا يدوم هذا الإسلام إلا بتوفيق الله؛ قال الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74، 75] .

3ـ ومنها: أهمية الإخلاص؛ لقوله تعالى: { مسلمين لك }: { لك } تدل على إخلاص الإسلام لله عزّ وجلّ، كما قال تعالى في آية أخرى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [البقرة: 112] .

4ـ ومنها: أن الإسلام يشمل كل استسلام لله سبحانه وتعالى، ظاهراً وباطناً.

5ـ ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء؛ لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }؛ وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في آية أخرى: { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام }؛ فالذرية صلاحها لها شأن كبير بالنسبة للإنسان.

6ـ ومنها: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: { وأرنا مناسكنا } يعني: أعلمنا بها.

7ـ ومنها: أن الأصل في العبادات أنها توقيفية ـ يعني: الإنسان لا يتعبد لله بشيء إلا بما شرع ـ؛ لقوله تعالى: { وأرنا مناسكنا }.

8ـ ومنها: تحريم التعبد لله بما لم يشرعه؛ لأنهما دعَوَا الله عزّ وجلّ أن يريهما مناسكهما؛ فلولا أن العبادة تتوقف على ذلك لتَعبدا بدون هذا السؤال.

9ـ ومنها: افتقار كل إنسان إلى توبة الله؛ لقوله تعالى: { وتب علينا }؛ إذ لا يخلو الإنسان من تقصير.

10ـ ومنها: إثبات { التواب }، و{ الرحيم } اسمين من أسماء الله سبحانه وتعالى، وما تضمناه من صفة.

11ـ ومنها: مشروعية التوسل إلى الله عزّ وجلّ بأسمائه، وصفاته؛ لأن قوله تعالى: { إنك أنت التواب الرحيم } تعليل للطلب السابق؛ فهو وسيلة يتوصل بها الداعي إلى حصول مطلوبه.

12ـ ومنها: أن التوسل بأسماء الله يكون باسم مطابق لما دعا به؛ لقوله تعالى: { وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم }، ولقوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها }.

تنبيه :

إن قال قائل: كيف يستقيم أن يسأل إبراهيم، وإسماعيل ربهما أن يجعلهما مسلمين له مع أنهما كانا كذلك؟

فالجواب: أن المراد بذلك تثبيتهما على الإسلام؛ لأن الإنسان من حيث هو إنسان لا يأمن العاقبة؛ أو يقال: إن المراد تقوية إسلامهما بالإخلاص لله عزّ وجلّ، والانقياد لطاعته؛ أو يقال: إنهما قالا ذلك توطئة لما بعدها في قولهما: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }؛ والأول أقوى الاحتمالات.



القــــرآن

{ )رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:129)

التفسير:

{ 129 } قوله تعالى: { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك }، أي أرسل فيهم رسولاً مرسَلاً من عندك يقرأ عليهم آياتك، ويبينها لهم، كما قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] .

قوله تعالى: { ويعلمهم الكتاب } أي القرآن، وما فيه من أخبار صادقة نافعة، وأحكام عادلة؛ { والحكمة قيل: هي السنة؛ لقوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113] ؛ ويحتمل أن يكون المراد بها معرفة أسرار الشريعة المطهرة، وأنها شريعة كاملة صالحة لكل زمان، ومكان.

قوله تعالى: { ويزكيهم } أي ينمي أخلاقهم، ويطهرها من الرذائل.

قوله تعالى: { إنك أنت العزيز الحكيم }؛ { أنت }: ضمير فصل لا محل له من الإعراب؛ و{ العزيز} خبر { إن }؛ و{ الحكيم } خبر ثان؛ والكاف اسم { إن }؛ و{ العزيز } أي ذو العزة؛ و «العزة» بمعنى القهر، والغلبة؛ فهو سبحانه وتعالى ذو قوة، وذو غلبة: لا يغلبه شيء، ولا يعجزه شيء؛ و{ الحكيم } أي ذو الحُكم، والحكمة.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: ضرورة الناس إلى بعث الرسل؛ ولذلك دعــا إبراهيمُ وإسماعيلُ الله سبحانه وتعالى أن يبعث فيهم الرسول.

2ـ ومنها: أن كون الرسول منهم أقرب إلى قبول دعوته؛ لقوله تعالى: { رسولاً منهم }؛ لأنهم يعرفونه، كما قال تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 53] ؛ فتأمل قوله تعالى: {ما ضل صاحبكم} [النجم: 53] ، حيث أضافه إليهم؛ يعني: صاحبكم ـ الذي تعرفونه، وتعرفون رجاحة عقله، وتعرفون أمانته ـ ما ضل، وما غوى.

3ـ ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الله سبحانه وتعالى فيه من الخير أنه يتلو الآيات، ويعلم الكتاب، ويعلم الحكمة؛ لقوله تعالى: { يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة }.

4ـ ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تتضمن ذكر آيات الله الكونية، والشرعية، وتتضمن تعليم الكتاب تلاوةً، ومعنًى، وتتضمن أيضاً الحكمة ـ وهي معرفة أسرار الشريعة، وتتضمن تزكية الخلق؛ لقوله تعالى: { يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم }.

5ـ ومنها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يزكي الأخلاق، ويطهرها من كل رذيلة، كما قال صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(19) ؛ وهكذا كانت شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم: تنمية للأخلاق الفاضلة، وتطهيراً من كل رذيلة؛ فهو يأمر بالبر، ويأمر بالمعروف، ويأمر بالإحسان، ويأمر بالصلة، ويأمر بالصدق، ويأمر بكل خير؛ كل ما فيه خير للإنسان في دينه ودنياه فإن الإسلام يأمر به ـ وهذه تزكية ـ؛ وينهى عن ضد ذلك؛ ينهى عن الإثم، والقطيعة، والعدوان، والعقوق، والكذب، والغش، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق ـ وهذه أيضاً تزكية ـ.

وحال الناس قبل الإسلام بالنسبة للعبادة لا تَسأل! شرك، وكفر؛ وبالنسبة للأحوال الاجتماعية لا تَسأل أيضاً عن حالهم! القوي يأكل الضعيف؛ والغني يأكل الفقير؛ ويأكلون الربا أضعافاً مضاعفة؛ يُغيِر بعضهم على بعض؛ يتعايرون بالأنساب؛ يدعون بدعوى الجاهلية... إلخ.

جاء الإسلام، وهدم كل هذا؛ ومن تدبر التاريخ قبل بعثه صلى الله عليه وسلم وبعده، علم الفرق العظيم بين حال الناس قبل البعثة، وحالهم بعدها؛ وظهر له معنى قوله تعالى: { ويزكيهم }.

6ـ ومنها: أن هذه الشريعة كاملة؛ لتضمن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المعاني الجليلة مما يدل على كمال شريعته.

7ـ ومنها: إثبات العزة، والحكمة لله؛ لقوله تعالى: { إنك أنت العزيز الحكيم }.

8ـ ومنها: إثبات هذين الاسمين لله: { العزيز }، و{ الحكيم }.

9ـ ومنها: مناسبة العزة، والحكمة لبعث الرسول؛ وهي ظاهرة جداً؛ لأن ما يجيء به الرسول كله حكمة، وفيه العزة: قال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 80] ؛ للمؤمنين عرباً كانوا، أو عجماً؛ من كان مؤمناً بالله عزّ وجلّ قائماً بأمر الله فإن له العزة؛ ومن لم يكن كذلك فاته من العزة بقدر ما أخل به من الإيمان، والعمل الصالح؛ ولهذا يجب أن تكون رابطة الإيمان أقوى الروابط بين المؤمنين؛ لأنه لا يمكن أن تكون هناك عزة واجتماع على الخير برابطة أقوى من هذه الرابطة.



القــــرآن

{ )وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة:130)

التفسير:

{ 130 } قوله تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه }؛ { مَن } اسم استفهام يراد به النفي؛ وهو مبتدأ؛ وجملة: { يرغب } خبره؛ ولا نقول: { مَن } هنا شرطية؛ نعم، لو كانت الآية: «ومن يرغب عن ملة إبراهيم فقد سفه نفسه» صارت شرطية؛ لكن الأول أبلغ.

قوله تعالى: { يرغب عن ملة إبراهيم }: يقال: رغب في كذا؛ ورغب عنه؛ والفرق أن «رغب فيه» يعني طلبه؛ و«رغب عنه» يعني تركه، واجتنبه؛ هنا: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } يعني تركها؛ و «الملة» بمعنى الدين - أي دين إبراهيم -؛ ودين إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) أنه كان حنيفاً مسلماً لله، ولم يكن من المشركين؛ و{ إبراهيم } هو الخليل صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو الأنبياء، وأشرفهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجعله الله إماماً، قال الله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً [النحل: 120] ، وجعل ملته هي الملة الحنيفية؛ فإذا كان كذلك فلا أحد يرغب عن الملة الحنيفية القويمة.

قوله تعالى: { إلا من سفه نفسه } أي أوقعها في سفه؛ و «السفه» ضد الرشد؛ وقيل: معناه: جهل نفسه أي جهل ما يجب لها، فضيعها؛ ولنا أن نقول: إن التعبير بما يحتمل الوجهين فيه نكتة عظيمة؛ وهي أن يكون التعبير صالحاً للأمرين؛ فكأنه ناب عن جملتين؛ فهو في الحقيقة جاهل إن لم يتعمد المخالفة؛ وسفيه إن تعمد المخالفة.

قوله تعالى: { ولقد اصطفيناه في الدنيا }: الجملة هنا مؤكدة بمؤكدات ثلاثة؛ وهي القسم المقدر؛ واللام؛ و «قد» ؛ لأن اللام هنا موطئة للقسم؛ والتقدير: وواللَّهِ لقد.

وقوله تعالى: { اصطفيناه } افتعال من الصفوة؛ فأصل هذه المادة من صفا يصفو؛ ومعنى { اصطفيناه في الدنيا اخترناه، وجعلناه صفياً من الخلق: اصطفاه الله سبحانه وتعالى في الدنيا على كل الأنبياء ما عدا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ واتخذه الله سبحانه وتعالى خليلاً.

قوله تعالى: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين }: { إنه }: «إنّ» واسمها؛ و{ لمن الصالحين }: خبرها؛ وهذه الجملة مؤكدة بـ «إن» واللام فقط؛ و{ في الآخرة }: في موضع نصب على الحال؛ أي إنه في حال كونه في الآخرة؛ لمن الصالحين؛ في الدنيا اصطفاه الله، واختاره؛ وفي الآخرة يكون من الصالحين الذين أدوا ما أوجب الله عليهم لنفسه ولخلقه.

وهنا ذكر الله تعالى الاصطفاء في الدنيا، والصلاح في الآخرة؛ فهل هنا نكتة لتغاير الحالين، أو لا؟

الجواب: يبدو لي ـ والله أعلم ـ أن هناك نكتة؛ وهي أن الدنيا دار شهوات، وابتلاء؛ فلا يصبر عن هذه الشهوات، ولا على هذا الابتلاء إلا واحد دون الآخر؛ فإذا أخلص الإنسان نفسه لله صار صفوة من عباد الله؛ والآخرة ليست هكذا؛ الآخرة حتى الكفار يؤمنون؛ ولكن الفرق بين من يكون من الصالحين، وغير الصالحين؛ لأنهم إذا عرضوا على النار قيل لهم: {أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} [الأنعام: 30] ، وقيل لهم: {أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} [غافر: 50] ؛ وقالوا: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52] ... وهكذا ما يدل على أنهم مؤمنون؛ لكنهم ليسوا من الصالحين؛ فإن كانت هذه هي النكتة فذلك من فضل الله؛ وإن لم تكن إياها فالعلم عند الله؛ ولا بد أن يكون هناك نكتة جهلناها.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن الرشد في اتباع ملة إبراهيم؛ لقوله تعالى: { إلا من سفه نفسه }.

2ـ ومنها: أن مخالفة هذه الملة سفه؛ مهما كان الإنسان حكيماً في قوله فإنه يعتبر سفيهاً إذا لم يلتزم بشريعة الله.

3ـ ومنها: فضيلة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، حيث اصطفاه الله، واختاره على العالمين؛ لقوله تعالى: { ولقد اصطفيناه في الدنيا }.

4ـ ومنها: إثبات الآخرة؛ لقوله تعالى: { وإنه في الآخرة }.

5ـ ومنها: أن الصلاح وصف للأنبياء، ومن دونهم؛ فيوصف النبي بأنه صالح، ويوصف متبع الرسول بأنه صالح؛ ولهذا كانت الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يحيون الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بقولهم: «مرحباً بالأخ الصالح، والنبي الصالح»(20) ؛ فوصفوه بالصلاح.

6ـ ومنها: أن المخالفين للرسل سفهاء؛ لقوله تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، وقوله في المنافقين: {ألا إنهم هم السفهاء} [البقرة: 13] ، وقوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142] ؛ فإنهم ـ وإن كانوا أذكياء، وعندهم علم بالصناعة، والسياسة ـ هم في الحقيقة سفهاء؛ لأن العاقل هو الذي يتبع ما جاءت به الرسل فقط.



القـــــرآن

{ )إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:131)

التفسير:

{ 131 } قوله تعالى: { إذ قال له ربه أسلم }؛ هذا من الثناء على إبراهيم؛ { إذ }: يحتمل أن تكون متعلقة بقوله: { ولقد اصطفيناه } أي: ولقد اصطفيناه إذ قال له ربه؛ ويحتمل أن تكون متعلقة بمحذوف، والتقدير: اذكر إذ قال له ربه؛ فيكون أمراً للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينوه بهذه الحال التي كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم عليها.

قوله تعالى: { أسلمت } يشمل إسلام الباطن، والظاهر.

قوله تعالى: { لرب العالمين } يتضمن توحيد الربوبية، والأسماء، والصفات؛ وما أكثر الذين أُمروا بالإسلام ولم يسلموا: تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف من بني آدم كلهم في النار، وواحد من ألف في الجنة؛ لأنهم أُمروا بالإسلام، ولم يسلموا.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: فضيلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حيث لم يتوانَ، ولم يستكبر؛ فبادَر بقوله: { أسلمت لرب العالمين } حين قال له ربه عزّ وجلّ: { أسلم } ولم يستكبر؛ بل أقر؛ لأنه مربوب لرب العالمين.

2ـ ومنها: إثبات ربوبية الله سبحانه وتعالى العامة لكل أحد؛ لقوله تعالى: { لرب العالمين }.

3ـ ومنها: الإشارة إلى أن الخلق من آيات الله؛ لأنهم سُمّوا «عالمين»، حيث إنهم عَلَم على خالقهم.

4ـ ومنها: المناسبة بين قوله تعالى: { أسلمت }، و{ رب }؛ كأن هذا علة لقوله تعالى: { أسلمت }؛ فإن الرب هو الذي يستحق أن يُسْلَم له؛ الرب: الخالق؛ ولهذا أنكر الله سبحانه وتعالى عبادة الأصنام، وبيّن علة ذلك بأنهم لا يخلقون؛ قال تعالى: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل: 20، 21] ؛ فتبين بهذا مناسبة ذكر الإسلام مقروناً بالربوبية.



القــــرآن

{{ )وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة:132)

التفسير:

{ 132 } قوله تعالى: { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب }؛ { وصى } فيها قراءتان؛ إحداهما بهمزة مفتوحة مع تخفيف الصاد: { أَوصَى }، والثانية بحذف الهمزة مع تشديد الصاد: { وصَّى }؛ أما { إبراهيم } ففيها قراءتان؛ إحداهما بكسر الهاء بعدها ياء: { إبراهيم }؛ والثانية بفتح الهاء بعدها ألف: { إبراهام }؛ وقراءة: { أوصى } لا تنطبق عليها الشروط الثلاثة في القراءة، والمجموعة في البيتين، وهما:

{وكل ما وافق وجه نحو وكان للرسم احتمالاً يحوي وصح نقلاً فهو القُران فهذه الثلاثة الأركان} فقوله تعالى: { وصى }، و{ أوصى } لم تتفق في الرسم؛ إذاً الشروط أو الأركان التي ذكرت بناءً على الأغلب.

قوله تعالى: { ووصى بها إبراهيم }: الضمير «ها» يعود على هذه الكلمة العظيمة؛ وهي {أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] ؛ ويجوز أن يكون الضمير يعود على الملة ـ أي: وصى بهذه الملة ـ؛ والمعنى واحد؛ لأن {ملة إبراهيم} [البقرة: 130] هي {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] ؛ و «التوصية» العهد المؤكّد في الأمر الهام.

قوله تعالى: { بنيه } مفعول { وصى }؛ ولهذا نُصبت بالياء؛ لأنها ملحق بجمع المذكر السالم.

قوله تعالى: { ويعقوب } معطوفة على { إبراهيم } فهي مرفوعة؛ يعني: وكذلك وصى بها يعقوب بنيه؛ وسمي يعقوب: قيل: لأنه عقب إسحاق؛ وقيل: إنه اسم غير عربي، ومثله لا يطلب له اشتقاق.

قال يعقوب: { يا بني } أي يا أبنائي؛ وإنما ناداهم بوصف البنوة ترفقاً معهم ليكون أدعى إلى القبول.

قوله تعالى: { إن الله اصطفى } أي اختار { لكم } أي لأجلكم { الدين } أي العبادة، والعمل؛ ويطلق على الجزاء؛ ففي قوله تعالى: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] المراد بـ {الدين} الجزاء؛ وفي قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3] ؛ «الدين» : العبادة؛ فالدين يطلق على هذا، وعلى هذا ـ على العمل، وعلى الجزاء عليه ـ؛ ومنه قولهم: كما تدين تدان ـ يعني كما تعمل تُجازى.

قوله تعالى: { فلا تموتن } الفاء للتفريع؛ أي فعلى هذا الاختيار تمسكوا بهذا الدين؛ و «لا» ناهية؛ و{ تموتن } مجزوم بحذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة؛ والنون هنا التي فيها للتوكيد؛ وأصلها: «تموتونَنَّ»: حذفت النون للجزم فصارت «تموتونّ»؛ ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين؛ لأن الحرف المشدد أوله ساكن؛ والواو ساكنة؛ فحذفت الواو؛ قال ابن مالك:

{إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن ليناً فحذفه استحق} قوله تعالى: { إلا وأنتم مسلمون } جملة حالية يراد بها استمرارهم على الإسلام إلى الممات.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أهمية هذه الوصية؛ لأنه اعتنى بها إبراهيم، ويعقوب؛ فإبراهيم أبو العرب والإسرائيليين؛ ويعقوب أبو الإسرائيليين؛ فهذان الرسولان الكريمان اعتنيا بها، حيث جعلاها مما يوصى به.

2ـ ومنها: أنه ينبغي العناية بهذه الوصية اقتداءً بإبراهيم، ويعقوب.

3ـ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى اختار لعباده من الدين ما هو أقوم بمصالحهم؛ لقوله تعالى: { اصطفى لكم الدين }؛ فلولا أنه أقوم ما يقوم بمصالح العباد ما اختاره الله سبحانه وتعالى لعباده.

4ـ ومنها: أنه ينبغي التلطف في الخطاب؛ لقوله تعالى: { يا بنيّ }؛ فإن نداءهم بالبنوة يقتضي قبول ما يلقى إليهم.

5ـ ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتعاهد نفسه دائماً حتى لا يأتيه الموت وهو غافل؛ لقوله تعالى: { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }.

6ـ ومنها: أن الأعمال بالخواتيم؛ لقوله تعالى: { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }.


أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133)

التفسير:

{ 133 } قوله تعالى: { أم كنتم شهداء }؛ { أم } هنا منقطعة؛ و«المنقطعة» يقول المعربون: إنها بمعنى «بل» وهمزة الاستفهام؛ فمعنى { أم كنتم }: بل أكنتم؛ والضمير في { كنتم } يعود على اليهود الذين ادعوا أنهم على الحق، وأنّ هذه وصية أبيهم يعقوب، فالتزَموا ما هم عليه؛ ويحتمل أن يكون عائداً على جميع المخاطبين، ويكون المقصود بذلك الإعلام بما حصل من يعقوب حين حضره الموت؛ وهذا الاحتمال أولى؛ لأنه لا يوجد هنا دليل على أنه يعود على اليهود؛ بل الآية كلها عامة؛ وهي أيضاً منقطعة عن اليهود بآيات سابقة كثيرة؛ فالمعنى: تقرير ما وصى به يعقوب حين موته؛ و{ شهداء } جمع شهيد، أو شاهد ـ بمعنى حاضر ـ.

قوله تعالى: { إذ حضر يعقوب الموت }؛ { إذ } ظرف مبنية على السكون في محل نصب ـ أي وقت حضور يعقوب الموت ـ؛ و{ يعقوب } منصوبة؛ لأنها مفعول به مقدم؛ و{ الموت } فاعل مؤخر؛ لأن الحاضر الموت؛ والمحضور يعقوب.

قوله تعالى: { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي }؛ { إذ } بدل من { إذ } الأولى: يعني: إذ حضر إذ قال؛ يعني: أم كنتم شهداء إذ قال لبنيه: «ما تعبدون من بعدي» حين حضره الموت؛ وبنو يعقوب هم يوسف، وإخوته: أحد عشر رجلاً؛ حضر يعقوب الموت، فكان أولاده حاضرون، فقال لهم: { ما تعبدون من بعدي } أي من بعد موتي { قالوا نعبد إلهك }: بدؤوا به؛ لأنهم يخاطبونه؛ { وإله آبائك } جمع أب؛ ثم بينوا الآباء بقولهم: { إبراهيم وإسماعيل وإسحاق }؛ { إبراهيم } بالنسبة إلى يعقوب جدّ؛ و{ إسماعيل } بالنسبة إليه عم؛ و{ إسحاق بالنسبة إليه أب مباشر؛ أما إطلاق الأبوة على إبراهيم، وعلى إسحاق فالأمر فيه ظاهر؛ لأن إسحاق أبوه، وإبراهيم جده؛ والجد أب؛ بل قال الله عزّ وجلّ لهذه الأمة: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78] ؛ وهي بينها وبين إبراهيم عالَم؛ لكن الإشكال في عدِّهم إسماعيل من آبائه مع أنه عمهم؛ فيقال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه»(21) ؛ و«الصنو» الغصنان أصلهما واحد؛ فذُكر مع الآباء؛ لأن العم صنو الأب؛ وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الخالة بمنزلة الأم»(22) ؛ كذلك نقول: العم بمنزلة الأب؛ وقيل: إن هذا من باب التغليب، وأن الأب لا يطلق حقيقة على العم إلا مقروناً بالأب الحقيقي؛ وعلى هذا فلا يكون فيها إشكال إطلاقاً؛ لأن التغليب سائغ في اللغة العربية، فيقال: «القمران»؛ والمراد بهما الشمس، والقمر؛ ويقال: «العُمَرانِ»؛ وهما أبو بكر، وعمر.

وقوله تعالى: { إبراهيم } بدل من { آبائك }؛ أو عطف بيان؛ وفيها قراءة: { إبراهام } بفتح الهاء بعدها ألف.

قوله تعالى: { إلهاً واحداً } أي نعبده؛ و{ إلهاً } هذه حال؛ يسمونها حال موطئة؛ ولكنها بناءً على أن «إله»، و«الله» غير مشتق؛ والصحيح أنه مشتق، وأنه بمعنى مألوه؛ وعليه فتكون حالاً مؤسسة حقيقية؛ وليست موطئة؛ لأن الحال الموطئة التي تكون تمهيداً لمشتق، مثل: {قرآناً عربياً} [يوسف: 2] فإن «قرآن» غير مشتقة؛ والحال ـ كما تقدم ـ تكون مشتقة و{ واحداً } حال أخرى مكررة.

قوله تعالى: { ونحن له مسلمون }؛ { نحن } مبتدأ؛ و{ مسلمون } خبره؛ و{ له } جار ومجرور متعلقة بـ{ مسلمون } قدمت عليها لإفادة الحصر ـ من حيث المعنى؛ ولمراعاة فواصل الآيات ـ من حيث اللفظ؛ و{ نحن له مسلمون } أي منقادون لأمر هذا الإله الواحد سبحانه وتعالى، وشرعه.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: أن التوحيد وصية الأنبياء؛ لقوله تعالى: { ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك.

2ـ ومنها: أن الموت حق حتى على الأنبياء؛ قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 144] .

3ـ ومنها: جواز الوصية عند حضور الأجل؛ لقوله تعالى: { إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك }؛ وهذا كالوصية لهم؛ ولكنه يشترط أن يكون الموصي يعي ما يقول؛ فإن كان لا يعي ما يقول فإنه لا تصح وصيته.

4ـ ومنها: رجحان القول الصحيح بأن الجدّ أب في الميراث؛ لقوله تعالى: { آبائك إبراهيم }.

5ـ ومنها: أنه يجوز إطلاق اسم الأب على العم تغليباً؛ لقوله تعالى: { وإسماعيل }.

6ـ ومنها: أن أبناء يعقوب كانوا على التوحيد، حيث قالوا: { نعبد إلهك وإله آبائك }؛ وهذا لا شك توحيد منهم.

7ـ ومنها: أن النفوس مجبولة على اتباع الآباء؛ لكن إن كان على حق فهو حق؛ وإن كان على باطل فهو باطل؛ لقولهم: { وإله آبائك }؛ ولهذا الذين حضروا وفاة أبي طالب قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب.

8ـ ومنها: أهمية التوحيد، والعناية به؛ لقوله تعالى: { ما تعبدون من بعدي }.

9ـ ومنها: أن العبادة والألوهية معناهما واحد؛ لكن العبادة باعتبار العابد؛ والألوهية باعتبار المعبود؛ ولهذا كان أهل العلم يسمون التوحيد توحيد العبادة؛ وبعضهم يقول: توحيد الألوهية.

10ـ ومنها: إخلاص الإسلام لله، حيث قال تعالى: { ونحن له مسلمون }؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول في { له }؛ لأنه متعلق بـ{ مسلمون }؛ فهو معمول له؛ وقد عُلم أن تقديم المعمول يفيد الحصر.

11ـ ومنها: إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: { إلهاً واحداً }.





القــرآن

{ )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:134)

التفسير:

{ 134 } قوله تعالى: { تلك آمة قد خلت }: المشار إليه إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومن سبق؛ وكان اليهود يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء؛ فبين الله تعالى أن هذه أمة قد مضت { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } فلا تنالون مما كسبوا شيئاً؛ ولا ينالون مما كسبتم شيئاً.

و «الأمة» هنا بمعنى طائفة؛ وتطلق في القرآن على عدة معانٍ؛ المعنى الأول: الطائفة، كما هنا؛ المعنى الثاني: الحقبة من الزمن، مثل قوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة} [يوسف: 45] يعني: بعد حقبة من الزمن؛ والمعنى الثالث: الإمام، مثل قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120] ؛ والمعنى الرابع: الطريق، والملة، مثل قوله تعالى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} [الزخرف: 22] .

قوله تعالى: { ولا تسألون عما كانوا يعملون } أي لا تُسألون عن أعمال من سبقكم؛ لأن لهم ما كسبوا، ولكم ما كسبتم.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: أن الاعتماد على أعمال الآباء لا يجدي شيئاً؛ لقوله تعالى: { تلك أمة قد خلت... } الآية؛ يعني هم مضوا، وأسلموا لله؛ وأنتم أيها اليهود الموجودون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم أن تنظروا ماذا كسبتم لأنفسكم.

2ـ ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي لنا أن نسكت عما جرى بين الصحابة؛ لأنا نقول كما قال الله لهؤلاء: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } فنحن معنيون الآن بأنفسنا؛ ويُذكر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أنه سئل عما جرى بين الصحابة، فقال لهم: «هذه دماء طهر الله سيوفنا منها؛ فنحن نطهر ألسنتنا منها» ؛ هذه كلمة عظيمة؛ فعلى هذا النزاع فيما جرى بين معاوية، وعلي بن أبي طالب، وعائشة، وما أشبه ذلك لا محل له؛ لكن الذي يجب أن نعتني به حاضر الأمة؛ هذا الذي يجب أن يبين فيه الحق، ويبطَل فيه الباطل؛ ونقول: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر: 10] .

3ـ ومن فوائد الآية: أن الإنسان وعملَه؛ لقوله تعالى: { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم }؛ فلا أحد يعطى من عمل أحد، ولا يؤخذ منه؛ قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38] .

4ـ ومنها: أن الآخِر لا يُسأل عن عمل الأول؛ ولكن الأول قد يُسأل عن عمل الآخر، كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} [القصص: 41] ؛ فقد يكون الأول صاحب بدعة، ويُتَّبَع على بدعته؛ فيكون دالاً على ضلالة؛ فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ لكن الآخر لا يسأل عن عمل الأول؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا»(23) ؛ وفي لفظ: «فتؤذوا الأحياء»(24) .

5ـ ومن فوائد الآية: إثبات عدل الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يؤاخذ أحداً بما لم يعمله؛ لقوله تعالى: { ولا تسألون عما كانوا يعملون }.

6 ـ ومنها: إثبات السؤال، وأن الإنسان سيُسأل؛ لقوله تعالى: { ولا تسألون عما كانوا يعملون }؛ منطوق الآية: نفي السؤال عن عمل الغير؛ ومفهومها: ثبوت السؤال عن عمل العامل، وأنه مسؤول عن العمل.



القـــرآن

{ )وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة:135)

التفسير:

{ 135 } قوله تعالى: { وقالوا }: الضمير يعود على اليهود، والنصارى، يخاطبون المسلمين؛ { كونوا هوداً } يعني من اليهود على ملتهم؛ و «هود» جمع هائد، مثل «عود» جمع عائد؛ والذين يقولون: { كونوا هوداً } هم اليهود؛ وقوله تعالى: { أو نصارى } يقوله النصارى؛ أي كونوا نصارى ـ أي على ملتهم ـ.

قوله تعالى: { تهتدوا } مجزوم على أنه جواب الأمر؛ أي تكونوا مهتدين.

قال الله تعالى في جواب من يدعو إلى اليهودية من اليهود، أو النصرانية من النصارى: { قل بل ملة إبراهيم حنيفاً }؛ { بل } هنا للإضراب الإبطالي؛ لأنها تبطل ما سبق؛ يعني: بل لا نتبع، ولا نكون هوداً، ولا نصارى؛ بل ملة إبراهيم؛ وبهذا التقدير يتبين لنا على أيّ وجه نصب { ملة }؛ فهي مفعول لفعل محذوف تقديره: بل نتبع ملة إبراهيم؛ و «الملة» بمعنى الدين كما سبق؛ وملة إبراهيم هي التوحيد؛ يعني نتبع توحيد الله عزّ وجلّ، والإسلام له؛ لأن إبراهيم لما قال له ربه عزّ وجلّ: {أسلم} [البقرة: 131] ؛ قال: {أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] .

وقوله تعالى: { حنيفاً } منصوب على الحال من إبراهيم؛ وهي حال لازمة بدليل قوله تعالى: { وما كان من المشركين }.

قوله تعالى: { وما كان من المشركين }: هذا توكيد لقوله تعالى: { حنيفاً }؛ لأن «الحنيف» المائل عما سوى التوحيد؛ مأخوذ من حنف الذئب ـ أي ميله؛ فهو مائل عن كل ما سوى التوحيد؛ إذاً { وما كان من المشركين } يكون
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:21 am من طرف ahmadhamad
الاية 140 الي الاية 146
{)أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:140) )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:141)

التفسير:

{ 140 } قوله تعالى: { أم تقولون إن إبراهيم... }؛ { أم } هنا للإضراب؛ والمعنى: بل أتقولون؛ وهو إضراب انتقال؛ وليس إضراب إبطال؛ والمعنى أنه انتقل من توبيخ هؤلاء الذين يحاجون في الله إلى توبيخ آخر؛ وهو دعواهم أن هؤلاء الرسل الكرام كانوا هوداً، أو نصارى؛ وهذه دعوى كاذبة؛ فليس هؤلاء هوداً، ولا نصارى؛ بل إن الله سبحانه وتعالى قال موبخاً لهؤلاء مبيناً ضلالهم ـ الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهودياً، أو نصرانياً {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} [آل عمران: 67] ، وقال تعالى: {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون} [آل عمران: 65] ؛ فكيف يكون يهودياً أو نصرانياً وكتاب اليهود والنصارى لم ينزل إلا من بعد إبراهيم؟!!!

قوله تعالى: { وإسماعيل }: هو أكبر أولاد إبراهيم؛ وهو الذي أمر الله أباه أن يذبحه؛ والقصة مبسوطة في سورة الصافات.

قوله تعالى: { وإسحاق }: هو أخو إسماعيل؛ وهو الولد الثاني لإبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ { ويعقوب }: هو ابن إسحاق؛ وهو الذي ينتمي إليه بنو إسرائيل؛ { والأسباط } سبق الكلام على بيانهم(29).

قوله تعالى: { كانوا هوداً أو نصارى } يعني كانوا على ملة اليهودية، والنصرانية؛ وهذا من سفه هؤلاء اليهود الذين يدعون ذلك؛ لأن أصل اليهودية، والنصرانية حدثت بعد هؤلاء؛ فكيف يكون هؤلاء هوداً، أو نصارى؟!!!

ثم أبطل الله تعالى دعواهم بطريق آخر فقال: { قل أأنتم أعلم أم الله }؛ ومن المعلوم أنه لا أحد أعلم من الله عزّ وجلّ؛ ولكن الله سبحانه وتعالى قال ذلك إلزاماً للخصم حتى يتبين بطلان ما ادعاه؛ وهو كقوله تعالى: { آلله خير أم ما يشركون }؛ ومن المعلوم أن الله خير مما يشركون؛ لكن من أجل إفحام الخصم، وإلزامه بما هو ظاهر لا إشكال فيه.

قوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } يعني لا أحد أظلم في كتمان الشهادة ممن كتم شهادة عنده من الله؛ وهؤلاء اليهود والنصارى كتموا الشهادة عندهم من الله؛ لأن الله - تبارك وتعالى - أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر أوصافه في التوراة، والإنجيل، كما قال الله - تبارك وتعالى - في سورة الأعراف: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] ؛ فهذه أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل معلومة لبني إسرائيل؛ ولكنهم يكتمون هذه الشهادة؛ ولا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله تعالى في كتمان الشهادة؛ وإن كان المشرك أظلم الظالمين؛ لكن اسم التفضيل يختص بالشيء المعين الذي يشترك فيه المفضل، والمفضل عليه.

قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون } يعني أن الله عزّ وجلّ لا يغفل عما يعمل هؤلاء؛ بل هو جل وعلا عالم به، وسوف يحاسبهم عليه.

{ 141 } قوله تعالى: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت... } الآية: قد سبق الكلام على نظيرها، وفوائدها.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: إبطال دعوى هؤلاء اليهود، والنصارى أن إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، كانوا هوداً أو نصارى؛ فهذه الدعوى باطلة؛ بل وصفُ هؤلاء الإسلام؛ فإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط ليسوا هوداً، ولا نصارى؛ بل هم مسلمون لله سبحانه وتعالى.

2ـ ومنها: رد علم هذه الأشياء إلى الله؛ لقوله تعالى: { أأنتم أعلم أم الله }.

3ـ ومنها: الرد على أهل التحريف في أسماء الله، وصفاته الذين يقولون: «إن هذا جائز عقلاً على الله؛ فنقر به؛ وهذا يمتنع عقلاً على الله؛ فلا نقر به» كالمعتزلة، والأشاعرة، ونحوهم؛ نقول لهم كلهم في الجواب: { أأنتم أعلم أم الله }: أأنتم أعلم بما يجوز على الله، ويمتنع عليه، ويجب له، أم الله أعلم بما يمتنع عليه، ويجب له، ويجوز له؟!!! وهذه في الحقيقة حجة ملزمة مفحمة مقحمة لهؤلاء الذين يتحكمون في صفات الله تعالى بعقولهم، فيقولون: «يجب لله كذا؛ يمتنع عليه كذا»؛ نقول: { أأنتم أعلم أم الله }.

4ـ ومن فوائد الآية: عظم كتم العلم؛ لقوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله }؛ فإن العالم بشريعة الله عنده شهادة من الله بهذه الشريعة، كما قال الله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} [آل عمران: 18] ؛ فكل إنسان يكتم علماً فقد كتم شهادة عنده من الله؛ ثم إن في هذا عظم إثمه؛ لقوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله }.

5ـ ومنها: كمال علم الله، ومراقبته لعباده؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }.

6ـ ومنها: ثبوت الصفات المنفية؛ وهي ما نفاه الله سبحانه وتعالى عن نفسه؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }؛ فإن هذه صفة منفية، وليست ثبوتية؛ والصفات المنفية متضمنة لإثبات كمال ضدها؛ فلكمال مراقبته، وعلمه سبحانه وتعالى ليس بغافل عما نعمل.

7ـ ومنها: تخويف الإنسان، وإنذاره من المخالفة؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون}؛ فإياك والمخالفة؛ مثلما تهدد إنساناً بشيء تقول: لست بغافل عنك.

8ـ ومنها: إضافة العمل إلى العامل؛ ففيه رد على الجبرية الذين يقولون: «إن الإنسان مجبر على عمله»؛ لقوله تعالى: { عما تعملون }.

القــرآن

{ )سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:142)

التفسير:

{ 142 } قوله تعالى: { سيقول السفهاء من الناس }؛ { سيقول }: السين للتنفيس؛ وإذا دخلت على المضارع أخلصته للمستقبل؛ المضارع إذا دخلت عليه «لم» أخلصته للماضي؛ وإذا دخلت عليه السين أخلصته للمستقبل؛ وإذا كان مجرداً فهو صالح للحاضر، والمستقبل؛ و{ سيقول } تفيد أيضاً مع الاستقبال تحقيق وقوع هذا الشيء، وتفيد أيضاً قرب هذا الشيء؛ بخلاف «سوف» فإنها تدل على المستقبل البعيد؛ و{ السفهاء } جمع سفيه؛ وهو الذي لا يحسن التصرف لنفسه؛ وكل من خالف الحكمة في تصرفه فهو سفيه؛ فهؤلاء السفهاء سفهاء في دينهم؛ وقد يكونون في المال جيدين؛ وسفه الدين بينه الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: 130] .

وقوله تعالى: { من الناس } بيان للسفهاء؛ وهي في موضع نصب على الحال - يعني حال كونهم من الناس قوله تعالى: { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } في موضع نصب على أنها مقول القول؛ و{ ما } اسم استفهام؛ يعني: أيّ شيء صرفهم { عن قبلتهم } أي ما يستقبلون؛ فقبلة الإنسان ما يستقبله؛ والمراد بها بيت المقدس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة صار متجهاً إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً؛ أو سبعة عشر شهراً(30) - يعني إما سنة وأربعة أشهر؛ أو سنة وخمسة أشهر؛ إذا كان مستقبلاً لبيت المقدس تكون الكعبة خلفه تماماً؛ لهذا يقول ابن عمر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام»(31).

قوله تعالى: { التي كانوا عليها } أي قبل أن يتجهوا إلى الكعبة؛ فأخبر الله عزّ وجلّ بما سيقول هؤلاء السفهاء، وأعلمه بالرد عليهم.

قوله تعالى: { قل لله المشرق والمغرب }؛ { لله }: خبر مقدم؛ و{ المشرق } مبتدأ مؤخر؛ وتقديم الخبر وهو حقه التأخير ـ يفيد الحصر؛ يعني: لله وحده المشرق، والمغرب؛ فهو الذي يوجه إن شاء إلى المشرق؛ وإن شاء إلى المغرب؛ وإن شاء إلى الشمال؛ وإن شاء إلى الجنوب؛ وخص المشرق، والمغرب؛ لأن منهما تطلع الشمس، وتغرب؛ و{ المشرق }: مكان شروق الشمس، والقمر، والنجوم؛ و{ المغرب } محل غروبها.

قوله تعالى: { يهدي من يشاء } أي يدِلّ، ويوفق؛ و{ من يشاء } مفعول { يهدي }؛ وهي عامة؛ ولكن كل شيء قيد بمشيئة الله فهو مقرون بالحكمة: يهدي من يشاء ممن هو أهل للهداية؛ و «المشيئة» هي الإرادة الكونية: فما شاء الله كان؛ وما لم يشأ لم يكن.

قوله تعالى: { إلى صراط مستقيم }؛ «الصراط» الطريق الواسع الذي يسهل سلوكه؛ والمراد به هنا شريعة الله التي شرعها لعباده، و «المستقيم» الذي لا اعوجاج فيه.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: علم الله تعالى بما سيكون؛ لقوله تعالى: { سيقول السفهاء }.

2ـ ومنها: تحقق وقوع خبر الله عزّ وجلّ؛ لأنهم قالوا ذلك.

3ـ ومنها: من اعترض على حكم الله فهو سفيه.

4ـ ومنها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، حيث أخبر الله تعالى أنه لا يعترض عليه في ذلك إلا سفيه.

5ـ ومنها: إعلام المرء بما يتوقع أن يكون ليستعد له؛ ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب» ؛ ليكون مستعداً(32).

6ـ ومنها: جواز تعليل الأحكام الشرعية بمقتضى الربوبية لإسكات الناس حتى لا يحصل منازعة؛ إذا قال أحد: لماذا كذا؟ قلت: الله ربك يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد؛ «لماذا أحل كذا، وحرم كذا؟» تقول: لأنه ربك؛ «لماذا توجه الناس من المشرق إلى المغرب؛ من المغرب إلى المشرق؛ من بيت المقدس إلى الكعبة؟» قلت: لأن ذلك بمقتضى ربوبية الله: { لله المشرق والمغرب }.

7ـ من فوائد الآية: أن العدو يحتج على عدوه بما يثير نعرته، ويلزمه؛ لقوله تعالى: { عن قبلتهم }؛ لم يقولوا: عن القبلة؛ كأنهم يقولون: كنتم تتولون ذلك فما الذي صرفكم عنه؟!! وهكذا قد يثير شعور الإنسان حتى يبقى على ما هو عليه، وكأنهم قالوا: بالأمس تختارونها، واليوم تنكرونها، وتنبذونها؛ فالخصم دائماً يُهيج خصمه بما يثير نعرته؛ ليوافقه فيما ذهب إليه.

8ـ من فوائد الآية: عموم ملك الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { لله المشرق والمغرب }؛ فهو المالك سبحانه وتعالى للجهات يُصرِّف إليها العباد كيف يشاء؛ ونحن ليس علينا إلا السمع، والطاعة؛ أينما وجهنا توجهنا؛ هذا المهم؛ لا أن تتجه إلى كذا، أو إلى كذا؛ فالسجود لغير الله شرك؛ وكان بالنسبة للملائكة حين أمرهم الله بالسجود لآدم طاعة، وعبادة؛ وقتل النفس بغير حق ـ ولا سيما قتل الولد ـ من أكبر الكبائر؛ وحين أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح ابنه كان قربة، وعبادة؛ فالاعتبار بطاعة الله سبحانه وتعالى.

9ـ من فوائد الآية: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: { يهدي من يشاء }.

فإن قال قائل: هل في ذلك حجة للجبرية في قولهم: إن العبد مجبر على عمله؟

فالجواب: أنه لا حجة لهم في ذلك؛ لأن الاحتجاج ببعض القرآن دون بعض كفر به؛ فالقرآن من متكلم واحد؛ فمطلقه في موضع يقيد في موضع آخر؛ بل إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تقيد القرآن، وتبينه، وتخصصه؛ فإذاً لا دليل في هذه الآية للجبرية إلا من نظر بعين أعور؛ لأن الأعور ينظر من جانب العين الصحيحة؛ لكن من جانب العين العوراء لا يرى؛ والواجب أن ينظر الإنسان إلى النصوص بعينين ثاقبتين؛ وليس بعين واحدة؛ وقد دلت النصوص من الكتاب، والسنة على أن الإنسان له إرادة، واختيار، وقدرة، وأضافت أعماله إليه؛ وحينئذ لا يمكن أن يكون مجبراً.

10ـ من فوائد الآية: أن الهداية بيد الله؛ لقوله تعالى: { يهدي من يشاء }، ومنها: أنْ هدَى هذه الأمة إلى القبلة التي يرضاها الرسول صلى الله عليه وسلم.

11ـ ومنها: الثناء على هذه الأمة؛ لأنها التي على صراط مستقيم؛ لأن أول من يدخل في قوله تعالى: { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } هؤلاء الذين تولوا عن بيت المقدس إلى الكعبة.

12ـ ومنها: أن معارضة الشرع كما أنه سفه، فهو أيضاً ضلال؛ لأن الشرع هو الصراط المستقيم ـ وهو الهداية؛ وما سواه ضلال، واعوجاج.

13ـ ومنها: فضيلة هذه الأمة، حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع الناس.



القــــرآن

{)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143)

التفسير:

{ 143 } قوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }؛ الكاف هنا اسم بمعنى «مثل» في محل نصب على المفعولية المطلقة ـ أي: مثلَ ذلك؛ والمشار إليه ما سبق؛ وهو جعل القبلة إلى الكعبة؛ أي: مثلَ هذا الجعل الذي جعلنا لكم ـ وهو اتجاهكم إلى القبلة ـ جعلناكم أمة وسطاً.

وقوله تعالى: { جعلناكم } أي صيرناكم؛ والكاف مفعوله الأول؛ و{ أمة } مفعوله الثاني؛ و{ أمة } هنا بمعنى جماعة؛ وتطلق في القرآن على أربعة معانٍ، وسبق بيانها(33)؛ و{ وسطاً } أي عدلاً خياراً.

قوله تعالى: { لتكونوا شهداء على الناس }؛ اللام في قوله: { لتكونوا } للتعليل؛ وليست للعاقبة؛ والفرق بين لام العاقبة، ولام التعليل: أن لام العاقبة تدخل على أمر غير مراد؛ لكن النتيجة آلت إليه؛ ولام التعليل تدخل على أمر مراد ليكون علة للحكم؛ و{ شهداء } جمع شهيد؛ أي تشهدون على الناس بأن الرسل قد بلغتهم؛ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر.

قوله تعالى: { ويكون الرسول عليكم شهيداً }: النبي صلى الله عليه وسلم يشهد على أمته بأنه بلغ البلاغ المبين.

قوله تعالى: { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } وهي استقبال بيت المقدس { إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }: المراد علم ظهور، أو علم يترتب عليه الجزاء؛ لأن علم الله الكائن في الأزل لا يترتب عليه الجزاء حتى يُمتحن العبد، ويُنظر؛ أو علم ظهور ـ أي علم بأن الشيء حصل، فيعلمه أنه حاصل؛ وأما العلم به قبل وقوعه فهو علم بأنه سيحصل؛ وفرق بين العلم بالشيء أنه سيحصل، والعلم بأنه قد حصل؛ وقد قال بعض أهل المعاني: إن { لنعلم } هنا بمعنى الماضي ـ أي إلا لعلمنا؛ والمعنى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وهذا ـ وإن كان له وجه من حيث اللفظ؛ وهو أن يعبر بالمضارع عن الماضي أحياناً ـ لكنه ضعيف هنا من حيث المعنى؛ إذ لا حكمة من ذلك؛ لأنه يكون معنى الآية: وما جعلنا هذا إلا لأننا قد علمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وحينئذ يقال: إذاً ما الفائدة؟! لأنه لا يناسب أن الله ما جعل هذه القبلة إلا لأنه قد علم من يبقى على دينه، ومن لا يبقى؛ فالصواب الوجهان الأولان؛ وأحسنهما أن يكون المراد بالعلم هنا الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأنه الواضح وليس فيه تكلف.

وذكر بعض المعربين أن «نعلم» هنا ضمن معنى «نميز» بدليل قوله تعالى: { ممن ينقلب }؛ مثل: {ليميز الله الخبيث من الطيب} [الأنفال: 37] ؛ فقالوا: إن مثل هذا التقييد يدل على أن هذا الفعل للتمييز ـ أي لنميز من يتبع ممن ينقلب على عقبيه؛ وليس هذا ببعيد أن يكون الفعل ضمن معنى «نميز» مع أنه دال على العلم؛ إذ لا تمييز إلا بعد العلم؛ والفعل إذا ضمن معنى فعل آخر فإنه يدل على معناه الأصلي، وعلى معناه المضمن.

وقوله تعالى: { وما جعلنا }: { ما } نافية؛ و{ جعلنا } يحتمل أن تكون بمعنى «صيرنا»؛ أو بمعنى «شرعنا»؛ فعلى الاحتمال الأول تحتاج إلى مفعولين؛ وعلى الثاني لا تحتاج إلى مفعولين؛ و«الجعل» يأتي بمعنى الشرع في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} [المائدة: 103] أي ما شرع؛ وعلى هذا المعنى لا يبقى في الآية أيّ إشكال؛ يعني: ما شرعنا القبلة التي كنت عليها ـ وهي اتجاهك إلى بيت المقدس ـ إلا لنعلم من يتبع الرسول إذا صرفناك عنها ممن ينقلب على عقبيه؛ أما على احتمال أن تكون بمعنى «صيرنا» فإنها تحتاج إلى مفعولين؛ الأول: { القبلة }؛ والتقدير: وما صيرنا القبلة التي كنت عليها قبلةً.

وقوله تعالى: { إلا لنعلم من يتبع الرسول }؛ { إلا } أداة حصر؛ وهذا الاستثناء من أعم الأحوال؛ إذا كان الاستثناء مفرغاً يقولون: إنه استثناء من أعم الأحوال ـ يعني: ما جعلنا بأي حال من الأحوال هذه القبلة إلا لهذه الحال فقط لنعلم من يتبع؛ والمراد بـ{ الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم؛ وأظهر وصفه في موضع الإضمار تنويهاً بصدقه، وحثاً على اتباعه؛ إذ مقتضى السياق ـ لولا ذلك ـ أن يقال: إلا لنعلم من يتبعه.

والأصل في «الاتباع» المشي خلف الإنسان؛ وهو يختلف باختلاف السياق: إن تعلق بأمور حسية فمعناه: أنك تمشي خلفه في الشارع، وما أشبه ذلك؛ وإن تعلق بأمور معنوية يكون المراد به التأسي بأفعاله، وأقواله؛ وهنا علق بأمور معنوية؛ فيكون المراد به التأسي بأقواله وأفعاله.

وقوله تعالى: { ممن ينقلب على عقبيه } أشد مما لو قال: ممن لم يتبع الرسول؛ لأن الانقلاب على العقب أشد نفوراً، واستنكاراً ممن وقف.

قوله تعالى: { وإن كانت لكبيرة }؛ الضمير يعود على الواقعة؛ يعني: وإن كانت هذه الواقعة ـ وهي تحويل القبلة ـ لكبيرة؛ و{ إن } هنا مخففة من الثقيلة؛ واسمها ضمير الشأن؛ والتقدير: وإنها كانت لكبيرة؛ واللام هنا للتوكيد؛ ويجوز أن نقول: إنها للفصل بين «إنْ» النافية، و«إنْ» المخففة؛ و{ كبيرة } أي عظيمة شاقة؛ فالكبَر يراد به الشيء الشاق العظيم؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في صاحبَي القبرين: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير»(34)، أي في أمر شاق عليهما.

قوله تعالى: { إلا على الذين هدى الله }؛ { الذين } اسم موصول؛ والعائد ضمير منصوب محذوف؛ والتقدير: إلا على الذين هداهم الله؛ والمراد بالهداية هنا هداية العلم، وهداية التوفيق؛ أما كونها هداية العلم فلأن الذين يخشون الله هم العلماء، كما قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] أي العلماء به، وبأسمائه، وصفاته، وبأحكامه؛ هذه هي هداية العلم؛ لأنهم إذا علموا خشوا الله سبحانه وتعالى، ولم يكرهوا شريعته، ولم يكبر ذلك عليهم، ولم يشق؛ كذلك هداية التوفيق ـ وهي المهمة: إذا وفق العبد للانقياد لله سبحانه وتعالى سهل عليه دينه، وصار أيسر عليه من كل شيء، كما قال تعالى: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى} [الليل: 5 ـ 7] .

قوله تعالى: { هدى الله }: أضاف الفعل إلى نفسه؛ لأن كل شيء بقضاء الله، وقدره.

قوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }؛ اللام في قوله تعالى: { ليضيع } يسمونها لام الجحود؛ و«الجحود» يعني النفي؛ وهذه اللام لها ضابط؛ وهو أن تقع بعد «كون» منفي؛ فاللام التي تأتي بعد «كون» منفي تسمى لام الجحود؛ هذا من جهة الإعراب؛ أما من جهة المعنى فكلما جاءت «ما كان الله...» في القرآن فهي الأمر الممتنع غاية الامتناع؛ مثل: «لا ينبغي»، أو «ما ينبغي» فالمراد أنه ممتنع مستحيل، كقوله تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} [يس: 40] ، وقوله تعالى: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} [مريم: 92] أي ممتنع مستحيل؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام»(35)، المعنى: أنه مستحيل.

قوله تعالى: { ليضيع إيمانكم }؛ «يضيع» بمعنى يتركه سدًى بدون مجازاة عليه؛ والمراد بـ{ إيمانكم} صلاتهم إلى بيت المقدس؛ وهذا عام للذين ماتوا قبل تحويل القبلة، ومن بقوا حتى حولت؛ وقد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود صاروا يقولون للمسلمين: الذين صلوا منكم قبل تحويل القبلة ضاعت صلاتهم، وليس لهم فيها ثواب؛ فأنزل الله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }.

قوله تعالى: { إن الله بالناس لرؤوف رحيم }؛ { لرؤوف } فيها قراءتان: { لرؤف } بحذف الواو بعد الهمزة؛ و{ لرؤوف } بإثبات الواو بعد الهمزة؛ وكلتاهما قراءتان سبعيتان؛ هذه الجملة مؤكدة بمؤكدين؛ أحدهما: { إنّ }؛ والثاني: اللام، و{ لرؤوف } قال العلماء: إن الرأفة أشد الرحمة؛ فهي رحمة خاصة؛ و{ رحيم } أي متصف بالرحمة؛ وقالوا: إنه قدمت { لرؤوف } على { رحيم } ـ مع أن «الرؤوف» أبلغ ـ من أجل مراعاة الفواصل؛ وقال تعالى: { رحيم } لأن هذا يتعلق بفعله ـ أي برحمته الخلق.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: فضيلة هذه الأمة حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع للناس؛ وروى الإمام أحمد في مسنده أن مما يحسدنا عليه اليهود القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها؛ فهم يحسدوننا على هذه الخصلة؛ وكذلك على يوم الجمعة، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين(36)؛ المهم أن استقبال القبلة مما حسدونا عليه؛ لأن الكعبة أول بيت وضع للناس، وأعظم بيت في الأرض؛ ولا يوجد بيت قصده ركن من أركان الإسلام للحج إلا الكعبة؛ ولذلك حسدنا اليهود عليها، وأثاروا ضجة عظيمة على التولي عن قبلتهم إلى الكعبة، وصاروا مع من يناصرهم من المشركين؛ أحدثوا أمراً عظيماً حتى إن بعض المسلمين ارتد ـ والعياذ بالله ـ عن الإسلام لما سمع من زخرف القول من هؤلاء اليهود، وغيرهم.

2ـ ومن فوائد الآية: فضل هذه الأمة على جميع الأمم؛ لقوله تعالى: { وسطاً }.

3ـ ومنها: عدالة هذه الأمة؛ لقوله تعالى: { لتكونوا شهداء على الناس }؛ والشهيد قوله مقبول؛ والمراد بـ «الأمة» هنا أمة الإجابة؛ ومن هنا نعرف حذق أهل الفقه، حيث قالوا: إن «العدل» من استقام على دين الله؛ يعني: هذه الأمة أمة وسط إذا كانت على دين الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون شهيداً، وتقبل شهادتها إذا استقامت على دين الله، وكانت أمة حقيقية؛ فعليه يؤخذ من هذا حدّ «العدل»: أن العدل من استقام على دين الله.

4ـ من فوائد الآية: أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { لتكونوا شهداء على الناس }؛ والشهادة تكون في الدنيا، والآخرة؛ فإذا حشر الناس، وسئل الرسل: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم؛ ثم تسأل الأمم: هل بُلِّغتم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير، ولا نذير؛ ما جاءنا من أحد؛ فيقال للرسول: من يشهد لك؟ فيقول: «محمد، وأمته»؛ يُستشهدون يوم القيامة، ويَشهدون؛ فيكونون شهداء على الناس.

فإذا قال قائل: كيف تشهد وهي لم تر؟ نقول: لكنها سمعت عمن خبره أصدق من المعاينة ـ صلوات الله وسلامه عليه.

5ـ من فوائد الآية: أن نبينا صلى الله عليه وسلم يكون شهيداً علينا يوم القيامة ـ شهيداً علينا بالعدالة؛ وقيل: شهيداً علينا بأنه بلغ البلاغ المبين؛ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم عرفة في أعظم مجمع حصل له مع الصحابة: «ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد»(37) ؛ فأشهد النبي صلى الله عليه وسلم ربه على إقرار أمته بالبلاغ؛ نعم؛ لقد بلغ البلاغ المبين صلى الله عليه وسلم، فترك أمته على المحجة البيضاء؛ وما مات حتى أكمل الله به الدين؛ وما بقي شيء يحتاج الناس إليه في دينهم صغيراً كان، أو كبيراً إلا بينه صلى الله عليه وسلم بياناً واضحاً - والحمد لله - فالرسول صلى الله عليه وسلم شهيد على هذه الأمة؛ قال الله تعالى في سورة النساء: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41] ، يعني: كيف تكون الحال في ذلك اليوم عظيم؛ ولهذا لما قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم، ووصل إلى هذه الآية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «حسبك» يعني: قف؛ قال: «فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان»(38)؛ لأن الأمر عظيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم شهيد علينا؛ يشهد بأننا بُلِّغنا، وأقيمت علينا الحجة، وما بقي لنا عذر بأيّ وجه من الوجوه؛ ولهذا لا عذر لأحد بعد أن يتبين له الهدى أن يشاق الله ورسوله، كما قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء: 115] .

6ـ ومن فوائد الآية: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { ويكون الرسول عليكم شهيداً }.

7ـ ومنها: أنه لا رسول بعده؛ لأن «أل» هنا للعهد، وهو يخاطب هذه الأمة؛ فالرسول المعهود فيها واحد؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون بعده رسول.

8ـ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن العباد بالأحكام الشرعية إيجاباً، أو تحريماً، أو نسخاً؛ لقوله تعالى: { ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }؛ فلينتبه الإنسان لهذا؛ فإن الله قد يبتليه بالمال بأن يعطيه مالاً ليبلوه أيقوم بواجبه، أم لا؛ وهذه محنة؛ لأن غالب من ابتلي بالمال طغى من وجه، وشح من وجه آخر؛ ثم اعتدى في تمول المال؛ فضَلَّ في تموله، والتصرف فيه، وتصريفه؛ وقد يبتليه بالعلم؛ فيرزقه علماً ليبلوه أيعمل به، أم لا؛ ثم هل يعلمه الناس، أم لا؛ ثم هل يدعو به إلى سبيل الله، أم لا؛ فليحذر من آتاه الله علماً أن يخل بواحد من هذه الأمور.

وكذلك قد يمتحن العباد بالأحكام الكونية ؛ ومنها ما يجري على العبد من المصائب.

ومن امتحانه بهما أن الله حرم الصيد على المحرِم، ثم أرسله على الصحابة وهم محرِمون حتى تناله أيديهم، ورماحهم.

9ـ ومن فوائد الآية: وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { لنعلم من يتبع الرسول فالله امتحن العباد ليعلم هل يتبعون الرسول؛ والصحابة رضي الله عنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك أشد الاتباع: جاءهم رجل وهم يصلون الفجر في قباء وهم ركوع، فقال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة القرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام؛ فاستداروا إلى الكعبة»(39)؛ هذا هو الاتباع العظيم؛ وكذلك فعل بنو سلمة في مسجد القبلتين(40)؛ إذاً فاتباع الرسول واجب؛ وإلا لما احتيج إلى محنة الناس عليه.

10ـ ومن فوائد الآية: إثبات علم الله؛ لقوله تعالى: { لنعلم }؛ وعلم الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، كما قال تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12] .

11ـ ومنها: أن الردة عن الإسلام انقلاب؛ لقوله تعالى: { ممن ينقلب على عقبيه }؛ فإن بعض الذين أسلموا ارتدوا حينما تحولت القبلة إلى الكعبة؛ وقالوا: «إن محمداً ليس على يقين من أمره: بالأمس له قبلة؛ واليوم له قبلة»؛ وما علموا أن ذلك مما يؤيد رسالته؛ لأن الإنسان الكذاب يحرص على أن لا يتراجع؛ لأن التراجع وصمة فيه؛ لكن الإنسان الصدوق لا يهتم أن يقول ما أوحي إليه، سواء وافق ما كان عليه أولاً، أو خالف.

12 ـ ومنها: أن التقدم حقيقة إنما يكون بالإسلام، وأن الرجعية حقيقة إنما تكون بمخالفة الإسلام؛ لقوله تعالى: { ممن ينقلب على عقبيه }؛ فإن هذا حقيقة الرجوع على غير هدًى؛ لأن الذي ينقلب على عقبيه لا يبصر ما وراءه؛ فمن قال للمتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله رجعيون، قلنا له: بل أنت الرجعي حقيقة؛ لأن الله سمى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم انقلاباً على العقب؛ ولا أبلغ من هذا الرجوع أن الإنسان يرجع على عقبيه رجوعاً أعمى ـ والعياذ بالله ـ لا يدري ما وراءه.

13ـ ومن فوائد الآية: أن تغيير القبلة شاق إلا على طائفة معينة من الناس؛ لقوله تعالى: { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله }؛ وهذا يقع كثيراً للإنسان: تشق عليه بعض الأوامر الشرعية، واجتناب بعض النواهي الشرعية؛ لكن بتمام الإيمان تزول هذه المشقة، وتكون سهلة؛ والعلماء اختلفوا: أيهما أفضل رجل يفعل العبادة بمشقة، ويترك المعصية بمشقة؛ وآخر يفعل العبادة بيسر، ويترك المعصية بيسر؛ قال بعض العلماء: الأول أفضل؛ لأنه مجاهد يجاهد نفسه، فيتعب؛ وقال آخرون: بل الثاني أفضل؛ لأن العبادة كأنها امتزجت بدمه ولحمه، حتى صارت سجية له، ويسيرة عليه لا ينشرح صدره إلا بها؛ والصحيح أن يقال: أما الذي يفعلها بسهولة، ويسر، وانقياد فهذا أكمل حالاً بلا شك؛ لأنه مطمئن بالإيمان فرح بالطاعة؛ أما الثاني فحاله أدنى؛ ولكنه يؤجر على مجاهدة نفسه على الطاعة؛ وعلى ترك المعصية؛ على أن هذا الثاني الذي قلنا: إنه مفضول، وله أجر المشقة ربما يمن الله عزّ وجلّ عليه ـ وهو أكرم الأكرمين ـ حتى تكون العبادة في نفسه سهلة، ويفعلها بارتياح؛ وهذا هو معنى قول بعض أهل العلم: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله؛ فالإنسان قد يفعل العبادة في البداية بمشقة، ويكون عنده نوع من التعب في تنفيذها؛ لكن إذا علم الله من نيته صدق القصد والطلب، يسر الله له الطاعة حتى كانت سجية له.

14ـ ومن فوائد الآية: إظهار منة الله عزّ وجلّ على من هداه الله؛ لأنه نسب الهداية إليه؛ لقوله تعالى: { إلا على الذين هدى الله }؛ وهذه أعظم منة منَّ الله بها عليه أن هداه للإسلام؛ فيجب أن يشعر بها الإنسان؛ لا يمنّ بدينه على ربه؛ بل يعتقد أن المنة لله عليه، كما قال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17] ؛ فكم من أناس ضلوا عن الحق مع بيانه، ووضوحه؛ وهم كثيرون؛ بل هم الأكثر، كما قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116] ؛ وانظر إلى الفضل، والكرم: هو الذي منّ علينا بالهداية، ثم يقول في سورة الرحمن: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] ؛ فكأننا نحن الذين أحسنا؛ فأحسن إلينا بالجزاء مع أن له الإحسان أولاً، وآخراً؛ هو الذي أحسن إلينا أولاً، وأحسن إلينا آخراً؛ ولكن هذه مِن منَّته سبحانه وتعالى، ومِن شكره لسعي عبده، كما قال تعالى: {إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً} [الإنسان: 22] .

15ـ ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر عمل عامل إذا كان مبنياً على الإيمان؛ لقوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }؛ كل عمل تعمله صادر عن إيمانه فإنه لن يضيع؛ ستجده مسجلاً ـ قولاً كان، أو فعلاً، أو همّاً بالقلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة»(41).

16ـ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: «الرؤوف» و «الرحيم» ، وما تضمناه من الصفة؛ وهي الرأفة، والرحمة.

17ـ ومنها: إثبات عموم الرحمة لكل الناس؛ لقوله تعالى: { إن الله بالناس لرؤوف رحيم }؛ وهذه هي الرحمة العامة التي بها يعيش الناس في دنياهم برزق الله من طعام، وشراب، وكسوة، وغيرها؛ وأما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين خاصة؛ وبها يحصل سعادة الدنيا، والآخرة، كالعلم والإيمان المثمرَين لطاعة الله، ورسوله.

18ـ ومنها: أن العمل من الإيمان، لقوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }؛ فإنها فسرت بالصلاة إلى بيت المقدس؛ وهذا مذهب أهل السنة والجماعة: أن العمل داخل في الإيمان؛ وهذا أحد أدلتهم؛ ومن الدليل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ فأفضلها قول: لا إله إلا الله؛ وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق؛ والحياء شعبة من الإيمان»(42)؛ فقول: «لا إله إلا الله» من أعمال اللسان؛ و «إماطة الأذى عن الطريق» من أعمال الجوارح؛ وقوله (صلى الله عليه وسلم): «الحياء شعبة من الإيمان» من أعمال القلوب؛ كما أن الإيمان أيضاً يطلق على الاعتقاد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم): «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله»(43)؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله» هذا اعتقاد القلب؛ فالإيمان عند أهل السنة والجماعة يشمل: اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح؛ ووجه كون الأعمال من الإيمان أنها صادرة عن إيمان؛ الإيمان هو الذي حمل عليها، ولهذا لا يعد عمل المنافق من الإيمان؛ عمل المنافق ـ صلاته، وذكره لله؛ ونفقاته ـ لا يُعَدّ من الإيمان؛ لأنه صادر عن غير إيمان.



القــــرآن

{ )قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة:144)

التفسير:

{ 144 } قوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء }؛ { قد } هنا للتحقيق؛ و{ نرى } فعل مضارع عبر به عن الماضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر تقلب وجهه في السماء؛ فأتى بالفعل المضارع للدلالة على استمرار رؤية الله له كما استمر تقلب وجه النبي صلى الله عليه وسلم في السماء ترقباً لنزول جبريل بتحويل القبلة إلى الكعبة؛ وقيل: إنه فعل مضارع على بابه، فيكون إخباراً بأن الله سيرى تقلب وجهه، ثم يحوله إلى القبلة التي يرضاها؛ وهذا أقرب إلى ظاهر اللفظ.

قوله تعالى: { فلنولينك } الفاء للتفريع؛ لأن ما بعدها مفرع على ما قبلها؛ واللام موطئة للقسم؛ فالجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات؛ وهي القسم المقدر، واللام، والنون؛ وقوله: { فلنولينك } أي فلنوجهنَّك؛ وقيل: فلنحولنَّك إلى {قبلة ترضاها }؛ ونكِّرت { قبلة } للتعظيم؛ و{ ترضاها } أي تطمئن إليها، وتحبها، وتقبلها؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قَبِل القبلة الأولى، ورضيها قبل أن يحول إلى الكعبة؛ لكنه يحب أن يحول إلى الكعبة.

قوله تعالى: { فول وجهك } أي استقبل بوجهك؛ و «وجه» مفعول أول؛ و{ شطر } مفعول ثان؛ والمراد بـ «الشطر» هنا الجهة؛ يعني: جهة المسجد الحرام؛ والمراد بـ «الوجه» جميع البدن؛ لأن البدن بهيئته وطبيعته إذا استقبل الوجه جهة صار جميع البدن مستقبلاً لها.

قوله تعالى: { المسجد الحرام }؛ «المسجد» في الأصل مكان السجود؛ وقيل: إن «المسجَد» بفتح الجيم: مكان السجود؛ و«المسجِد» بكسر الجيم: المكان المعد للسجود؛ فيكون بينهما فرق: هو أن المكان المبني المعَدّ للسجود يسمى مسجِداً ـ بالكسر ـ وأما المكان الذي سجدت فيه بالفعل فيسمى مسجَداً ـ بالفتح.

وقوله تعالى: { الحرام } صفة مشبهة من الحُرم؛ وهو المنع؛ وسمي «حراماً»؛ لأنه يمنع فيه من أشياء لا تمنع في غيره، ولأنه محترم معظم؛ والمراد به الكعبة، وما حولها من البناء المعروف.

قوله تعالى: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }؛ عدل عن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى الخطاب لأمته؛ لأن الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب له، وللأمة؛ إذ إنه الإمام؛ والخطاب إذا وجه للإمام فهو خطاب له، ولمن اتبعه؛ ونظير ذلك أن الوزير مثلاً يقول للقائد: اتجه إلى كذا؛ المعنى: اتجه، ومن يتبعك من الجنود؛ فهكذا الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم يكون له، وللأمة؛ ونظير هذا قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] ؛ فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم قال تعالى: {إذا طلقتم}؛ لأن الحكم له، ولأمته.

قوله تعالى: { حيث } ظرف مكان لكنها شرطية زيدت عليها { ما } لفظاً لا معنًى للتوكيد؛ و{ كنتم } فعل الشرط؛ وجواب الشرط قوله تعالى: { فولوا وجوهكم }.

قوله تعالى: { وإن الذين أوتوا الكتاب }؛ المراد بـ{ الكتاب } الجنس؛ وهو التوراة، والإنجيل؛ والذين أوتوه هم اليهود، والنصارى.

قوله تعالى: { ليعلمون أنه الحق من ربهم }؛ اللام للتوكيد؛ فالجملة إذاً مؤكدة بـ{ إن }، واللام؛ و«العِلم» إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً للواقع.

وقوله تعالى: { أنه الحق } أي استقبالك المسجد الحرام الحق؛ و{ الحق } معناه الشيء الثابت؛ فإن أضيف إلى الخبر فهو الصدق؛ وإن أضيف إلى الحكم فهو العدل؛ قال الله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} [الأنعام: 115] .

قوله تعالى: { من ربهم }؛ «الرب» الخالق المالك الكامل السلطان المدبر لجميع الأمور.

قوله تعالى: { وما الله بغافل عما يعملون }؛ { ما } هنا حجازية؛ لأن القرآن بلغة قريش؛ والدليل على هذا قوله تعالى في سورة يوسف: {ما هذا بشراً} [يوسف: 31] ؛ ولم يقل: «بشر» ؛ فالقرآن بلغة قريش؛ وقريش حجازيون؛ و{ ما } عندهم تعمل عمل «ليس».

وقوله تعالى: { بغافل }: الباء زائدة إعراباً مفيدة معنًى ـ وهو التوكيد؛ و{ غافل } خبر { ما } منصوب بها؛ وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد؛ و «الغفلة» اللهو والسهو عن الشيء.

وقوله تعالى: { عما يعملون }: «ما» اسم موصول تفيد العموم؛ يعني: عن أيّ عمل يعملونه سواء كان يتعلق بالجوارح، أو يتعلق بالقلوب؛ فيشمل الاعتقاد، ويشمل القول، والفعل.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: إثبات رؤية الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء}.

2ـ ومنها: أن النظر إلى السماء ليس سوء أدب مع الله؛ لقوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء لكن في الصلاة لا يرفع بصره إلى السماء؛ لورود الوعيد الشديد به.

3ـ ومنها: إثبات علو الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء؛ لأن الوحي يأتيه من السماء.

4ـ ومنها: كمال عبودية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، حيث كان يحب أن يتوجه إلى الكعبة؛ لكنه لم يفعل حتى أُمر بذلك.

5ـ ومنها: إثبات عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { فلنولينك قبلة }؛ فإن ضمير الجمع للتعظيم.

6ـ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يتوجه إلى الكعبة؛ لقوله تعالى: { ترضاها } مع قوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك }.

7ـ ومنها: وجوب الاتجاه نحو المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام }.

8ـ ومنها: أن الوجه أشرف الأعضاء حيث عبر به عن سائر الجسم.

9ـ ومنها: ما استدل به المالكية على أنه ينبغي للمصلي أن ينظر تلقاء وجهه؛ لقوله تعالى: { فول وجهك شطر المسجد الحرام }؛ فإذا ولّى الإنسان وجهه شطر المسجد الحرام فسيكون نظره تلقاء وجهه غالباً؛ وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: ماذا ينظر إليه المصلي حال القيام؟ فالمشهور عن المالكية أن المصلي ينظر تلقاء وجهه؛ وعند الإمام أحمد أنه ينظر إلى موضع سجوده - وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة؛ واستدلوا لذلك بأثر مرسل عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطأطئ رأسه، وينظر إلى موضع سجوده(44) ؛ ولأنه أظهر في الخشوع؛ وقال بعض العلماء: إن الإمام والمنفرد ينظران إلى موضع السجود؛ وأما المأموم فينظر إلى إمامه - بكسر الهمزة؛ واستدلوا لذلك بأحاديث في البخاري؛ وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما صلى صلاة الكسوف، وأخبر أصحابه بأنه عرضت عليه الجنة والنار قال لهم: «وذلك حين رأيتموني تقدمت وتأخرت»(45)؛ وهذا دليل على أنهم ينظرون إليه؛ ومنها أنه لما صنع له المنبر قام يصلي عليه، فكان يقوم، ويركع؛ فإدا أراد السجود نزل، وسجد على الأرض؛ وقال: «إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي»(46)؛ وهذا دليل على أنهم ينظرون إليه؛ ومنها أيضاً أنهم لما أخبروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة السر؛ قيل لهم: بم تعرفون ذلك؟ قالوا: «باضطراب لحيته»(47)؛ وهذه كلها في الصحيح؛ فهذا دليل على أن المأموم ينظر إلى إمامه؛ ولأنه أبلغ في الائتمام به؛ لأن الإمام قد يقوم، وقد يجلس ساهياً مثلاً؛ فإذا كان المأموم ينظر إلى الإمام كان ذلك أبلغ في الاقتداء به؛ أما الإمام، والمنفرد فإنهما ينظران إلى موضع السجود؛ وهذا القول أقرب؛ ولا سيما إذا كان المأموم محتاجاً إلى ذلك، كما لو كان لا يسمع، فيريد أن ينظر إلى الإمام ليقتدي به، أو نحو ذلك.

لكن يستثنى من ذلك إذا كان جالساً؛ فإنه ينظر إلى موضع إشارته؛ لقول عبد الله بن الزبير: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجاوز بصره إشارته»(48)؛ ومما يستثنى من ذلك عند بعضهم: إذا كنت في المسجد الحرام ويمكنك مشاهدة الكعبة؛ فإنك تنظر إلى الكعبة؛ ومنها إذا كنت في خوف وحولك العدو؛ فإنك تنظر إلى جهة العدو؛ فهذه المسائل الثلاث تستثنى؛ والراجح في مسألة الكعبة أن المصلي لا ينظر إليها حال صلاته؛ لعدم الدليل على ذلك؛ ولأنه ربما ينشغل به عن صلاته، لا سيما إذا كان الناس يطوفون حولها؛ وأما استثناء الصلاة حال الخوف فصحيح؛ لدخوله في عموم قوله تعالى: { وخذوا حذركم }؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث طليعة؛ فكان يصلي وهو يلتفت إلى الشعب هل جاء الطليعة أم لا(49).

10ـ ومن فوائد الآية: عظمة هذا المسجد لوصفه بالحرام - أي ذي الحرمة والتعظيم - ولهذا كان من يدخله آمناً، ولا يدخله أحد إلا بإحرام وجوباً إن كان لم يؤد الفرض؛ أو استحباباً إن كان قد أداه - بخلاف غيره؛ فكل شيء فيه حياة فهو آمن داخل الحرم - حتى الجماد: فالشجر آمن لا يجوز قطعه في الحرم؛ والصيد آمن لا يقتل في الحرم؛ بل ولا ينفر من مكانه.

11ـ ومنها: وجوب الاتجاه إلى القبلة في أيّ مكان كان الإنسان: من بر، أو بحر، أو جو؛ لقوله تعالى: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }؛ ويشمل من كان في مكة، ومن كان بعيداً عنها، ومن كان في جوف الكعبة؛ لعموم قوله تعالى: { وحيث ما كنتم }؛ إذاً إذا كان في جوف الكعبة يستقبل أمام وجهه من أيّ الجهات كان؛ إلا أن بعض أهل العلم يقول: لا يستقبل الباب إذا كان مفتوحاً ما لم يكن له عتبة؛ لأنه لابد من شاخص يكون بين يديه حتى يصح أن يقال: إنه ولّى وجهه شطره؛ وإذا كنا خارج الكعبة ـ ولكن في المسجد ـ فإنا ندور حوله؛ لأننا لو استقمنا في صف مستقيم لم نوَلّ وجوهنا شطره؛ ويكون من خرج عن مسامتته ولّى وجهه جهة غيره؛ لأنه محصور الآن؛ وإذا ابتعدنا فإن بعض العلماء يقول: إن كنت في مكة فاستقبل المسجد؛ وإن كنت خارج مكة فاستقبل مكة؛ لكن هذا تقريبي؛ إنما الصواب في هذه المسألة أن من أمكنه مشاهدة عين الكعبة وجب عليه استقبال العين ـ لا يخرج عن مسامتتها؛ ومن لا يمكن مشاهدتها لبعد، أو حيلولة شيء دونها استكفى بالجهة؛ لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] .

ويسقط استقبال القبلة في مواضع؛ منها:

أ ـ عند صلاة النفل في سفر؛ فيصلي حيث كان وجهه.

ب ـ عند الخوف الشديد إذا كان لا يمكن استقبال القبلة.

ج ـ إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة لمرض ـ أو صلب ـ يعني: لو صلب إلى غير القبلة، أو نحو ذلك.

أما إذا اشتبهت عليه القبلة فعليه أن يجتهد إن كان بمكان يصح فيه الاجتهاد؛ فإن أصاب فذاك؛ وإن أخطأ فهو معذور؛ إذاً فالاشتباه لا يُستثنى؛ لأن حقيقة الأمر أنه لا يجوز أن يصلي إلا وهو يعتقد أنه إلى القبلة؛ بخلاف الذي ذكرنا؛ فالعاجز يعرف أن القبلة خلفه، فيصلي إلى غير القبلة؛ وكذلك في شدة الخوف؛ وكذلك المتنفل في السفر.

12- ومنها مراعاة الشريعة اجتماع المسلمين على وجهة واحدة؛ لأنه تعالى قال: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }؛ فالمسلمون في أقطار الدنيا كلها يتجهون إلى قبلة واحدة؛ هذا توحيد؛ ولا سيما أنهم يتجهون هذا الاتجاه، ويتحدون هذا الاتحاد في أعظم مشعر عملي، أو في أعظم فريضة عملية ـ وهي الصلاة؛ فيدل هذا على أن الشرع يراعي مراعاة تامة توحيد المسلمين في دينهم، وتوحيدهم في الاتجاه البدني، وكذلك في الاتجاه القلبي الفكري.

13- ومنها بيان عناد اليهو والنصارى؛ لقوله تعالى: { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم }؛ ولكن مع ذلك شنعوا على النبي صلى الله عليه وسلم تشنيعاً عظيماً حين توجه إلى الكعبة بأمر ربه.

14ـ ومنها: أن ما كان من عند الله فهو حق؛ لقوله تعالى: { أنه الحق } مضافاً إلى الله: { من ربهم }.

15ـ ومنها: أن هؤلاء المعاندين من أهل الكتاب يعاندون مع علمهم التام، ومع إقرارهم بربوبية الله سبحانه وتعالى؛ فهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيستقبل الكعبة؛ وهم علموا ذلك مما جاء في كتبهم من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذا النبي الأمي سوف يتجه إلى الكعبة؛ وكان عليهم حيث أقروا بربوبية الله لهم، وعلموا الحق أن ينقادوا له، وأن يكونوا أولى الناس باتباعه؛ لأن من أقر بربوبية الله سبحانه وتعالى لزم أن يقر بأحكامه، ويلتزم بها؛ لأن الرب له الملك المطلق يتصرف كيف يشاء؛ ولهذا أضاف الربوبية هنا إليهم: { من ربهم }؛ لإقامة الحجة عليهم حيث يعترفون بربوبيته.

16ـ ومن فوائد الآية: انتفاء غفلة الله عزّ وجلّ عن أعمالهم المتضمن لكمال علمه، وإحاطته بهم؛ ولا يكفي أن نقول: انتفاء الغفلة فقط؛ بل نقول: المتضمن لكمال العلم، والإحاطة؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما يعملون }.

17ـ ومنها: صحة تقسيم الصفات إلى ثبوتية، ومنفية؛ لأن التي في الآية هنا منفية ـ وهي قوله تعالى: { وما الله بغافل عما يعملون } فالصفات المنفية: كل صفة صُدِّرت بما يدل على النفي بأيّ أداة كانت، مثل قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] ، وقوله تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] ، وقوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38] ، وقوله تعالى: {ولم يعيَ بخلقهن} [الأحقاف: 33] ؛ واعلم أن الصفات المنفية لا يراد بها مجرد النفي؛ وإنما يراد بها مع النفي: ضدها؛ فإذا قال الله تعالى عن نفسه: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38] فالمراد: نفي اللغوب، وإثبات كمال قوته، وقدرته.

18ـ ومن فوائد الآية: تهديد هؤلاء المعاندين الذين أوتوا الكتاب، وعلموا الحق، ولم يتبعوه؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما يعملون }؛ ويشبه هؤلاء من بعض الوجوه من يتعصب لمذهبه ـ ولو علم أن الحق في خلافه ـ إحساناً لل
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:22 am من طرف ahmadhamad
الاية 147 الي الاية 160
)الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (البقرة:147)

التفسير:

{ 147 } قوله تعالى: { الحق من ربك }؛ { الحق } مبتدأ؛ و{ من ربك } خبره؛ وهنا الجملة لتقرير ما سبق؛ يعنى أن الحق ثابت، وحاصل من ربك؛ وقيل: إن { الحق } خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: هذا الحق من ربك.

وهنا الربوية خاصة؛ لأن الله سبحانه وتعالى رب العالمين؛ لكن أضافها إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقام يقتضيه، حيث هو مقام التثبيت، والنصرة؛ فلولا أن الله سبحانه وتعالى ثبَّت الرسول صلى الله عليه وسلم لكان كما قال الله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً} [الإسراء: 74، 75] ؛ و «الرب» هو الخالق المالك المدَبِّر: هو الذي خلق الخلق كله؛ وهو مالك الخلق كله؛ وهو سبحانه وتعالى المدبر للخلق كله.

قوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }؛ { لا } ناهية؛ والفعل بعدها مبني على الفتح في محل جزم؛ وإنما بني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد؛ لأن الفعل المضارع إذا اتصل بنون التوكيد صار مبنياً على الفتح دائماً؛ والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهذا النهي يراد به التثبيت؛ إذ لا يمكن وقوع الامتراء من النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما أن أمر المؤمن بالإيمان يراد به الثبوت، والاستمرار عليه، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} [النساء: 136] ، كما أن الشرط قد يعلق بما لا يمكن وقوعه كما سبق في قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين} [البقرة: 145] .

قوله تعالى: { من الممترين }: معنى «الامتراء»: الشك.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن ما جاء من عند الله فهو حق؛ لقوله تعالى: { الحق من ربك }.

2ـ ومنها: أنه ما دام الحق من الله فإنه يجب أن يؤمن الإنسان به، وأن لا يلحقه في ذلك شك، ولا مرية.

3ـ ومنها: أن كل شيء خالف ما جاء عن الله فهو باطل؛ لقوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} [يونس: 32] .

4ـ ومنها: تقوية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الحق ـ وإن كتمه أهل الكتاب ـ لأن الإنسان بشر؛ لما أنكر هؤلاء الذين أوتوا الكتاب الحق قد يعتري الإنسان شيء من الشبهة ـ وإن كان بعيداً؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن ما جاء به هو الحق؛ لقوله تعالى: { الحق من ربك }.

5ـ ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى بالنبي بذكره بالربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: { من ربك}.

6- ومنها: أن الشك ينافي الإيمان؛ لقوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }.

7- ومنها: أنه قد ينهى عن الشيء مع استحالة وقوعه؛ لقوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون من الممترين.

8- ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى بالرسول صلى الله عليه وسلم بالتثبيت؛ لأن قوله تعالى له: { الحق من ربك } يقتضي ثباته عليه؛ وقوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين } يقتضي استمراره على هذا الثبات؛ ولا شك أن في هذا من تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيته ما هو ظاهر.



القــرآن

{ )وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:148)

التفسير:

{ 148 } قوله تعالى: { ولكل وجهة هو موليها }؛ الوجهة، والجهة، والوجه، معناها متقارب؛ أي: لكل واحد من الناس جهة يتولاها؛ وهذا شامل للجهة الحسية، والمعنوية؛ مثال الحسية: اختلاف الناس إلى أين يتجهون في صلاتهم: فمنهم من يتجه نحو المشرق؛ ومنهم من يتجه نحو بيت المقدس؛ ومنهم من يتجه إلى الكعبة؛ واختلاف الناس كذلك في اتجاههم في العمل: فمنهم من يتجه للتجارة؛ ومنهم من يتجه للحدادة؛ ومنهم من يتجه للنجارة... وهكذا؛ ومثال المعنوية: اختلاف الناس في الملل، والنحل، وما أشبه ذلك.

وقوله تعالى: { هو موليها } فيها قراءتان؛ الأولى: بكسر اللام، وياء ساكنة بعدها - { مولِّيها} - على أنها اسم فاعل؛ والقراءة الثانية: بفتح اللام، وألف بعدها - { مولَّاها } - على أنها اسم مفعول؛ فالمعنى على القراءة الأولى: هو متجه إليها؛ والمعنى على القراءة الثانية: هو موجَّه إليها إما شرعاً؛ وإما قدراً؛ وإما شرعاً وقدراً؛ وجملة: { هو موليها }، أو { هو مولاها } في محل رفع صفة لـ{ وجهة }؛ وليس المراد بهذه الجملة إقرار أهل الكفر على كفرهم؛ وإنما المراد - والله أعلم - تسلية المؤمنين، وتثبيتهم على ما هم عليه من الحق؛ لأن لكل أحد وجهة ولاَّه الله إياها حسب ما تقتضيه حكمته.

قوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات } أمر من الاستباق؛ والمراد به التسابق إلى الخيرات؛ وتعدّى بنفسه دون حرف الجر كأنه ضُمِّن معنى افعلوا على وجه المسابقة؛ وفائدة تضمين الفعل فعلاً آخر لأجل أن يدل التضمين على المعنيين، كقوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6] .

قوله تعالى: { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً }؛ «أين» شرطية؛ و «ما» زائدة للتوكيد؛ و{ تكونوا } فعل الشرط مجزوم بحذف النون؛ والواو فاعل؛ لأن «كان» هنا تامة؛ وليست ناقصة؛ يعني: أينما توجدوا يأت بكم الله؛ و{ يأت } جواب الشرط مجزوم بحذف الياء؛ والكسرة قبلها دليل عليها.

وقوله تعالى: { أينما تكونوا } في برّ، أو بحر، أو جوّ فإن الله يأتي بكم جميعاً، وذلك يوم القيامة، حيث يحشر الله الأولين، والآخرين في مقام واحد.

قوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير }: هذه جملة خبرية مؤكدة بـ{ إن }؛ عامة في كل شيء من موجود، أو معدوم؛ و «القدرة» صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: أن الأمم قد تختلف مناهجها ـ وإن اتفقت على أصل واحد؛ وهو الإسلام؛ ونعني بـ«الإسلام» المعنى العام؛ وهو الاستسلام لله بشرائعه القائمة التي لم تُنسَخ.

2ـ ومنها: أن الإنسان يجب عليه أن يتبع الحق أينما كان؛ ولا ينظر إلى كثرة المخالف؛ لا يقل: الناس على كذا فكيف أشذ عنهم! بل يجب عليه أن يتبع الحق؛ لأن قوله تعالى: { ولكل وجهة } يشمل الوجهة الشرعية، والوجهة القدرية؛ يعني ما وجه الله العباد إليه شرعاً، وما وجههم إليه قدراً؛ الوجهة القدرية معروفة: فمن الناس من يهديه الله تعالى فيكون اتجاهه إلى الحق؛ ومن الناس من يُخذَل فيَضل، ويكون اتجاهه إلى الباطل؛ فالوجهة التي يتبعها المشركون، واليهود، والنصارى، وما أشبه ذلك هذه وجهة قدرية؛ أما شرعية فلا؛ لأن الله ما شرع الكفر أبداً؛ ولا شرع شيئاً من خصال الكفر؛ والوجهة الشرعية: اختلاف الشرائع بين الناس؛ فلا تظن أن اختلاف الشريعة الإسلامية عن غيرها معناه أنها ليست حقاً؛ فإنها الحق من الله.

3ـ ومن فوائد الآية: وجوب المسابقة إلى الخير؛ لقوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات }.

4ـ ومنها: أن الأمر يقتضي الفورية؛ لأن الاستباق إلى الخير لا يكون إلا بالمبادرة إلى فعله؛ فهذه الآية مما يستدل به على أن الأمر المطلق للفورية.

5ـ ومنها: البلاغة التامة في قوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات } دون «استبقوا إلى الخيرات» - وإن كان بعض الناس يقولون: إنها نُزِع منها حرف الجر؛ وليس بصحيح؛ لأن { فاستبقوا الخيرات } يشمل الاستباق إليها، والاستباق فيها؛ فليس معناه: إذا وصلت إلى الخير فإنك تقف؛ بل حتى في نفس فعلك الخير كن مسابقاً؛ وهذا يشبهه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] ؛ فالمطلوب أن يصل الإنسان إلى الصراط، ويستمر فيه؛ ولهذا قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] .

6ـ ومن فوائد الآية: إحاطة الله تعالى بالخلق أينما كانوا؛ لقوله تعالى: { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً }.

7ـ ومنها: الإشارة إلى البعث؛ لأن الإتيان بالجميع يكون يوم القيامة.

8ـ ومنها: إثبات عموم قدرة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير }؛ وقد قال الله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44].

وهناك كلمة يقولها بعض الناس فيقول: «إن الله على ما يشاء قدير»؛ وهذا لا ينبغي:

أولاً: لأنه خلاف إطلاق النص؛ فالنص مطلق.

ثانياً: لأنه قد يفهم منه تخصيص القدرة بما يشاء الله دون ما لم يشأ؛ والله قادر على ما يشاء، وعلى ما لا يشاء.

ثالثاً: أنه قد يفهم منه مذهب المعتزلة القدرية الذين قالوا: «إن الله عزّ وجلّ لا يشاء أفعال العبد؛ فهو غير قادر عليها».

ولهذا ينبغي أن نطلق ما أطلقه الله لنفسه، فنقول: إن الله على كل شيء قدير؛ أما إذا جاءت القدرة مضافة إلى فعل معين فلا بأس أن تقيد بالمشيئة، كما في قوله تعالى: {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} [الشورى: 29] ؛ فإن {إذا يشاء} عائدة على «الجمع» ؛ لا على «القدرة» ؛ فهو قدير على الشيء شاءه، أم لم يشأه؛ لكن جمعه لا يقع إلا بالمشيئة؛ ومنه الحديث في قصة الرجل الذي أكرمه الله سبحانه وتعالى، فقال: «ولكني على ما أشاء قادر»(52)؛ لأنه يتكلم عن فعل معين؛ ولهذا قال: «قادر» : أتى باسم الفاعل الدال على وقوع الفعل دون الصفة المشبهة ـ «قدير» ـ الدالة على الاتصاف بالقدرة.



القــرآن

{ )وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:149)

التفسير:

{ 149 } قوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام }؛ ما أعظم هذا الحدث؛ ولهذا أكده الله عدة مرات؛ { من } حرف جر؛ و{ حيث } مبنية على الضم؛ قال ابن مالك في عدّ المبنيات:

(كأينَ أمسِ حيثُ والساكن كمْ) و{ خرجت }: الخطاب هنا إما أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإما أن يكون لكل من يتأتى خطابه؛ أي من حيث خرجت أيها الإنسان { فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي مستقبلاً له؛ وذلك عند الصلاة؛ و{ شطر المسجد } أي جهة المسجد؛ و{ المسجد الحرام } هو المسجد الذي فيه الكعبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام...»(53)؛ بل لقوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} [الفتح: 25] ؛ ووصِف بالحرام لاحترامه، وتعظيمه.

قوله تعالى: { وإنه } أي توليك شطر المسجد الحرام { للحق } اللام هنا للتوكيد؛ فالجملة هنا مؤكدة بمؤكدين؛ أحدهما: «إن» ؛ والثاني: اللام؛ و «الحق» هو الشيء الثابت؛ لأنه محقوق ـ أي مثبت؛ ومنه قوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} [يونس: 96] : {حقت} بمعنى ثبتت، ووجبت.

قوله تعالى: { من ربك } تقدم الكلام عليها، وأنها ربوبية خاصة.

قوله تعالى: { وما الله بغافل }: الباء حرف جر زائد للتوكيد؛ والأولى أن نقول: «الباء للتوكيد» فقط؛ ولا نقول: «زائد»؛ لئلا يفهم السامع أن في القرآن ما ليس له معنى؛ و{ غافل } خبر { ما } منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر؛ و «الغفلة» الذهول.

قوله تعالى: { عما تعملون } بالتاء: خطاب للمسلمين؛ وفي قراءة: { عما يعملون } بالياء: خطاب لهؤلاء الذين اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى ليس بغافل عنهم؛ بل سوف يجازيهم بما يستحقون.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: وجوب التوجه إلى المسجد الحرام أينما كان الإنسان؛ لقوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام }؛ وسبق ذكر ما يستثنى من ذلك عند قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء...} [البقرة: 144] الآية(54).

2ـ ومنها: تكرار الأمر الهام لتثبيته، والثبات عليه، ودفع المعارضة فيه؛ لأنه كلما كرر كان مقتضاه أن الأمر ثابت محكم يجب الثبوت عليه؛ وكون المسلمين ينقلون من وجهة إلى وجهة في القبلة أمر هام له شأن عظيم؛ ولهذا ارتد من ارتد من الناس حين حوِّلت القبلة.

3ـ ومنها: إثبات حرمة المسجد الحرام، وتعظيمه؛ لقوله تعالى: { المسجد الحرام }؛ فالمسجد محترم معظم؛ حتى ما حوله صار محترماً معظماً؛ فالبلد كله آمن حتى الأشجار التي لا إحساس لها آمنة في هذا المكان؛ ولهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها، أو يعضد شوكها(55)، أو يقطع شجرها(56)، كل هذا لاحترام هذا المكان، وتعظيمه.

4ـ ومنها: أن التوجه إلى الكعبة هو الحق؛ لقوله تعالى: { وإنه للحق من ربك } فأثبت فيه الحقية مؤكداً بـ{ إن }، واللام.

5ـ ومنها: كمال علم الله سبحانه وتعالى، ومراقبته لخلقه؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }.

6ـ ومنها: إضافة العمل إلى الإنسان، فيكون فيه رد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { عما تعملون}؛ ولا شك أن الإنسان يضاف إليه عمله؛ وعمله: كسبه - إن كان في الخير - واكتسابه - إن كان في الشر - كما قال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] .

والناس في هذه المسألة ـ أعني مسألة أعمال العباد ـ ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من يرون أن الإنسان مجبر على العمل؛ لا يفعل شيئاً باختيار أبداً؛ وما فعله الاختياري إلا كفِعله الاضطراري: فمن نزل من السطح على الدرج درجة درجة هو كمن سقط بدون علمه من أعلى السطح؛ وهذا مذهب الجبرية من الجهمية؛ وهو مذهب باطل ترده الأدلة السمعية، والعقلية.

القسم الثاني: من يرون أن الإنسان مستقل بعمله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يصرِّف العبد إطلاقاً؛ فالعبد له الحرية الكاملة في عمله، ولا تعلق لمشيئة الله به، ولا تعلق لتقدير الله، وخلقه بعمل الإنسان، وهذا مذهب المعتزلة القدرية؛ وهو مذهب باطل للأدلة السمعية، والعقلية.

وكلا القسمين مع بطلانهما يلزم عليهما لوازم باطلة .

القسم الثالث: يرون أن فعل العبد باختياره؛ وله تعلق بمشيئة الله؛ فمتى فعل العبد الفعل علمنا أن الله تعالى قد شاءه، وقدره؛ وأنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريد؛ بل كل ما وقع فهو مراد لله مخلوق له؛ ووجه كون فعل العبد مخلوقاً لله: أن الإنسان مخلوق لله؛ وفعله كائن بأمرين: بعزيمة صادقة؛ وقدرة؛ والله عزّ وجلّ هو الذي خلق العزيمة الصادقة، والقدرة؛ فالإنسان بصفاته، وأجزائه، وجميع ما فيه كله مخلوق لله عزّ وجلّ.

هذا القول الوسط هو الذي تجتمع فيه الأدلة جميعاً؛ لأن الذين قالوا: «إن الإنسان مجبر» أخذوا بدليل واحد، وأطلقوا من أيديهم الدليل الآخر؛ والذين قالوا: «إنه مستقل» أخذوا بدليل واحد، وأطلقوا الدليل الثاني من أيديهم؛ لكن أهل السنة، والجماعة ـ والحمد لله ـ أخذوا بأيديهم بالدليلين؛ وقالوا: الإنسان يفعل باختياره؛ ولكن تصرفه تحت مشيئة الله عزّ وجلّ؛ ولهذا إذا وقع الأمر بغير اختياره رُفع عنه حكمه: فالنائم لا حكم لفعله، ولا لقوله؛ والمكره على الشيء لا حكم لفعله، ولا لقوله؛ بل أبلغ من ذلك: الجاهل بالشيء لا حكم لفعله مع أنه قد قصد الفعل؛ لكنه لجهله يعفى عنه؛ كل ذلك يدل على أن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.



الـقـــرآن

{ )وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة:150)

التفسير:

{ 150 } قوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } هذه الجملة تقدم الكلام عليها؛ وكررت للتوكيد، وبيان الأهمية، والتوطئة لما بعدها؛ وهو قوله تعالى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة }؛ { لئلا اللام هنا للتعليل اقترنت بها «أن» المصدرية، و «لا» النافية؛ و{ يكون } فعل مضارع منصوب بـ «أن» المصدرية؛ ولا يضر الحيلولة بين الناصب والمنصوب بــ «لا» النافية؛ و{ حجة } اسم { يكون } إن كانت ناقصة؛ أو فاعل إن كانت تامة؛ والمراد بـ «الناس» كل من احتج على المسلمين بتحولهم من بيت المقدس إلى الكعبة؛ وقد احتج على المسلمين في هذه المسألة اليهود، والمشركون، والمنافقون؛ فالحجة التي احتج بها اليهود لها جهتان:

الأولى: أنهم قالوا: إن الرجل ترك ملتنا إلى ملة آبائه.

والجهة الثانية: أنه لو بقي على استقبال بيت المقدس لقالوا: ليس هذا النبي هو الذي جاء وصفه في التوراة.

وأما حجة المشركين فقالوا: إنه متبع هواه؛ فقد داهن اليهود أول أمره، ثم عاد، واستقبل الكعبة؛ وقالوا: «هذا الرجل خالفنا في عقيدتنا وخالفنا في ملتنا حين هاجر إلى المدينة، ثم رجع إلى قبلتنا؛ فسيرجع إلى ديننا».

وأما حجة المنافقين فقالوا: إن هذا الرجل لا يثبت على دينه؛ ولو كان نبياً حقاً لثبت على دينه.

وهذه عادة أهل الباطل يموِّهون، ويقلبون الحق باطلاً؛ لأنهم يريدون غرضاً سيئاً؛ بل إن تحوله إلى استقبال الكعبة مع هذه الاعتراضات، والمضايقات دليل على أنه رسول الله حقاً فاعل ما يؤمر به.

وقوله تعالى: { عليكم }: الضمير يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأن كل حجة يُحتج به على الرسول للتلبيس وإبطال الدعوة، فهي في الحقيقة حجة على جميع أتباعه؛ لأن أتباعه إنما تبعوه لأنه على الحق؛ فإذا جاء من يُلَبِّس صار ذلك تلبيساً على جميعهم ـ التابع، والمتبوع.

وقوله تعالى: { حجة } أي حجة باطلة؛ ولا يلزم من الاحتجاج قبوله، كما قال تعالى: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16] أي باطلة.

قوله تعالى: { إلا الذين ظلموا منهم }؛ المراد بهم المعاندون المكابرون الذين لا يَرْعَوون للحق مهما تبين؛ واختلف في الاستثناء أهو متصل، أم منقطع؟ فمنهم من قال: إنه متصل؛ ومنهم من قال: إنه منقطع، و{ إلا بمعنى «لكن»؛ يعني: لئلا يكون للناس عليكم حجة؛ لكن الذين ظلموا منهم لن تنجوا من محاجتهم، ومخاصمتهم؛ ومن قال: «إنه متصل» قال: يكون { الذين ظلموا } مستثنى من «الناس» ؛ لأن الناس منهم ظالم؛ ومنهم من ليس بظالم؛ والأقرب عندي ـ والله أعلم ـ أن الاستثناء منقطع؛ لأن قوله تعالى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة } هذا عام شامل؛ لكن من ظلَم من اليهود، أو المشركين، فإنه لن يرعوي بهذه الحكمة التي أبانها الله عزّ وجلّ.

قوله تعالى: { فلا تخشوهم واخشوني } يعني مهما قال الذين ظلموا من كلام، ومهما قالوا من زخارف القول، ومهما ضايقوا من المضايقات فلا تخشوهم؛ و«الخشية»، و«الخوف» متقاربان؛ إلا أن أهل العلم يقولون: إن الفرق أن «الخشية» لا تكون إلا عن علم؛ لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] بخلاف «الخوف»: فقد يخاف الإنسان من المخوف وهو لا يعلم عن حاله؛ والفرق الثاني: أن «الخشية» تكون لعظم المخشيّ؛ و«الخوف» لضعف الخائف ـ وإن كان المخوف ليس بعظيم، كما تقول مثلاً: الجبان يخاف من الجبان ـ يخاف أن يكون شجاعاً؛ وعلى كل حال إن صح هذا الفرق فهو ظاهر؛ لكن الفرق الأول واضح؛ وهو أن «الخشية» إنما تكون عن علم.

وأتى بالأمر { واخشوني } بعد النهي؛ لأنه كما يقال: التخلية قبل التحلية؛ أزِلْ الموانع أولاً، ثم أثبت؛ فأولاً فرِّغ قلبك من كل خشية لغير الله، ثم مكن خشية الله من قلبك؛ فأنت أزل الشوائب حتى يكون المحل قابلاً؛ فإذا كان المحل قابلاً فحينئذٍ يكون الوارد عليه وارداً على شيء لا ممانعة فيه؛ والأمر هنا للوجوب بلا شك؛ الواجب على المرء أن يخشى الله وحده.

قوله تعالى: { ولأتم نعمتي عليكم } معطوفة على قوله تعالى: { لئلا يكون }؛ وإتمام الشيء: بلوغ غايته؛ والغالب أنه يكون في الكمال؛ و «النعمة» هي ما ينعَم به الإنسان؛ ويقال: «نِعمة» بكسر النون؛ ويقال: «نَعمة» بالفتح؛ لكن الغالب في نعمة الخير أن تكون بالكسر؛ و«النَّعمة» بالفتح: التنعم من غير شكر، كما قال تعالى: {ونعمة كانوا فيها فاكهين} [الدخان: 27] ، وقال تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النَّعمة} [المزمل: 11] ونزلت هذه الآية في أول الهجرة عند تحويل القبلة ـ يعني في السنة الثانية ـ ولا يعارضها قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] ؛ وقد نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع؛ لأن المراد في آية المائدة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} الإتمام العام في كل الشريعة؛ أما هنا: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] : في هذه الشريعة الخاصة ـ وهي استقبال الكعبة بدلاً عن بيت المقدس؛ لأنه سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء ينتظر متى يؤمر بالتوجه إلى الكعبة؛ فلا شك أنه من نعمة الله عزّ وجلّ أن أنعم على المسلمين بأن يتجهوا إلى هذا البيت الذي هو أول بيت وضع للناس، والذي ـ كما قال بعض أهل العلم ـ هو قبلة جميع الأنبياء، كما ذكره شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ويحتمل وجهاً آخر في الجمع بين الآيتين: بأن هذه الآية جاءت بصيغة المضارع الدال على الاستمرار؛ وآية المائدة بصيغة الماضي الدال على الانتهاء.

وأضاف الله سبحانه وتعالى النعمة إليه؛ لأنه عزّ وجلّ صاحبها: هو الذي يسديها، ويولِيها على عباده؛ ولولا نعم الله العظيمة ما بقي الناس طرفة عين؛ وانظر إلى قوله تعالى: {إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم} [الفاتحة] ؛ في النعمة قال: {أنعمت عليهم}؛ لأن النعمة من الله وحده، كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] ؛ وأما الغضب على المخالف في دين الله فيكون من الله، ومن أولياء الله من الرسل، وأتباعهم.

وقوله تعالى: { ولعلكم تهتدون }؛ «لعل» هنا للتعليل؛ أي: تكتسبون علماً، وعملاً؛ وهذه هي العلة الثالثة؛ العلة الأولى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم }؛ والعلة الثانية: { ولأتم نعمتي عليكم والثالثة: { ولعلكم تهتدون }؛ وسيأتي بيان أنواع الهداية.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: تكرير الأمر الهام؛ وذلك لتثبيته، وتَسِرَّ به النفوس، وبيان أهميته.

2ـ ومنها: وجوب استقبال الكعبة أينما كان الإنسان؛ قال أهل العلم: من أمكنه مشاهدة الكعبة فالواجب إصابة عينها؛ ومن لم تمكنه كفى استقبال جهتها؛ لقوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }؛ وسبق ذكر ما يستثنى من ذلك عند قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144] الآية.

3ـ ومنها: دفع ملامة اللائمين ما أمكن؛ لقوله تعالى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة }.

4ـ ومنها: أن الظالم لا يدفع ملامته شيء؛ بمعنى أنه سيلوم وإن لم يكن محل لوم؛ لقوله تعالى: { إلا الذين ظلموا منهم }.

5ـ ومنها: أن أهل الباطل يحاجون في الحق لإبطاله؛ ولكن حججهم باطلة.

ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يعرف شبه المخالفين التي يدعونها حججاً لِيَنْقَضَّ عليهم منها، فيبطلها؛ قال الله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} [الأنبياء: 18] .

6ـ ومن فوائد الآية: وجوب تنفيذ شريعة الله عزّ وجلّ، وألا يخشى الإنسان لومة لائم.

7ـ ومنها: وجوب خشية الله تعالى؛ لأنه هو الذي بيده النفع، والضرر.

8ـ ومنها: نعمة الله ـ تبارك وتعالى ـ على هذه الأمة، وفضله، وإحسانه؛ لقوله تعالى: { ولأتم نعمتي عليكم }.

9ـ ومنها: إثبات حكمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { ولأتم... ولعلكم تهتدون }.

10ـ ومنها: أن تنفيذ أوامر الله، وخشيته سبب للهداية؛ والهداية نوعان: هداية علمية؛ وهداية عملية؛ ويقال: هداية الإرشاد؛ وهداية التوفيق.

فـ«الهداية العلمية» معناها أن الله يفتح على الإنسان من العلم ما يحتاج إليه لأمور دينه ودنياه.

و«الهداية العملية» أن يوفق للعمل بهذا العلم.

الأولى: وسيلة، والثانية: غاية؛ ولهذا لا خير في علم بدون عمل؛ بل إن العلم بدون عمل يكون وبالاً على صاحبه؛ والهداية هنا شاملة للعلمية، والعملية؛ ووجه كونها شاملة: أنهم لم يعلموا أن مرضاة الله بالتوجه إلى الكعبة إلا بما علمهم الله؛ ثم إن الله وفقهم للعمل به؛ فلم يمانعوا أبداً؛ بل إن أهل قباء أتاهم الخبر وهم يصلون صلاة الفجر وكانوا متجهين إلى بيت المقدس، فاستداروا إلى الكعبة؛ فصار الإمام نحو الجنوب، والمأمومون نحو الشمال؛ هذه هداية عملية عظيمة؛ لأن انتقال الإنسان إلى ما أمره الله به بهذه السهولة مع توقع المعارضات، والمضايقات يدل على قوة إيمانهم، وثقتهم بربهم سبحانه وتعالى؛ وهكذا يجب على كل مؤمن إذا جاء أمر الله أن يمتثل الأمر؛ وسيجعل الله له من أمره يسراً؛ لأن تقوى الله فيها تيسير الأمور؛ لقوله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً }.

11ـ ومنها: إثبات الحكمة في أفعال الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ولعلكم تهتدون }.



القــــرآن

{ )كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:151)

التفسير:

{ 151 } قوله تعالى: { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم }؛ هذه أيضاً منّة رابعة وجهت إلى المؤمنين؛ والثلاث قبلها هي: قوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} [البقرة: 150] ، وقوله تعالى: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] ، وقوله تعالى: {ولعلكم تهتدون} [البقرة: 150] ؛ يعني أن نعمة الله عزّ وجلّ علينا بالتوجه إلى الكعبة بدلاً عن بيت المقدس عظيمة، كما أن نعمته علينا بالرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة؛ و «الإرسال» بمعنى البعث؛ يعني أنه مرسل من الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: { يتلو عليكم آياتنا } يعني: يقرأ عليكم آياتنا؛ فيأتي بها كما سمع.

قوله تعالى: { ويزكيكم } أي ويطهركم، وينمي أخلاقكم، ودينكم.

قوله تعالى: { ويعلمكم الكتاب } أي القرآن؛ وكان العرب أُميين لا يقرؤون، ولا يكتبون إلا النادر منهم.

قوله تعالى: { والحكمة }: هي أسرار الشريعة، وحسن التصرف بوضع كل شيء في موضعه اللائق به - بعد أن كانوا في الجاهلية يتصرفون تصرفاً أهوج من عبادة الأصنام، وقتل الأولاد، والبغي على العباد...

قوله تعالى: { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } أي من أمور الدين، والدنيا؛ وهذه الجملة لتقرير ما سبق من تعليمهم الكتاب، والحكمة.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: بيان نعمة الله تعالى علينا بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { كما أرسلنا فيكم رسولاً }؛ لأن هذه الآية متعلقة بقوله تعالى: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] ؛ فإن هذا من تمام النعمة؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليُعبَد بما شرع؛ ولا يمكن أن نعرف أن هذا مما يرضاه الله أن نتعبده به، وهذا مما لا يرضاه إلا بواسطة الرسل؛ ولو أن الإنسان وكِل إلى عقله في العبادة ما عرف كيف يعبد الله؛ ولو وكِل إلى عقله في العبادة ما اجتمع الناس على عبادة الله: لكان كل واحد يقول: هذا هو الصواب؛ ولو أن الإنسان وكل إلى عقله في العبادة ما كانت أمتنا أمة واحدة؛ فعلى كل حال لا يمكن لنا بمجرد عقولنا أن ندرك كيف نعبد الله؛ ومَثَل يسير يبين ذلك: لو أُمرنا بالتطهر للصلاة ـ ولم يبين لنا الكيفية ـ لتنازع الناس في ذلك؛ وأخذ كلٌّ برأيه؛ فافترقت الأمة؛ فلولا أن الله أبان لنا كيف نعبده ما عرفنا كيف نعبده، فهذا من نعمة الله علينا من إرسال هذا الرسول محمداً (صلى الله عليه وسلم) الذي بين لنا كل شيء؛ ولهذا قال أبو ذر رضي الله عنه: «تركنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا عندنا منه علم»(57)؛ حتى الطيور في السماء علمنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم.

2ـ ومن فوائد الآية: أن كون الرسول مِنّا يقتضي أن تكون قريش أول من يصدق به؛ لأنهم يعرفونه، ويعرفون نسبه، ويعرفون أمانته؛ ولهذا وبخهم الله تعالى على الكفر به، ووصْفِه بالضلال، والجنون، فقال جل وعلا: {ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 2] ، وقال جل وعلا: {وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22] .

3ـ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أوحي إليه على وجه الكمال؛ لقوله تعالى: { يتلو عليكم آياتنا }؛ فإن هذا يدل على أن جميع الآيات التي أوحاها الله إليه قد تلاها؛ ولهذا القرآن ـ والحمد لله ـ مبين لفظه، ومعناه؛ ليس فيه شيء يشتبه على الناس إلا اشتباهاً نسبياً بحيث يشتبه على شخص دون الآخر، أو في حال دون الأخرى؛ قال الله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 17 ـ 19] .

4ـ ومنها: أن من فوائد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حصول العلم؛ لأن هذه الآيات كلها علم؛ لقوله تعالى: { يتلو عليكم آياتنا }.

5ـ ومنها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو من آيات الله الدالة على كمال ربوبيته، وسلطانه، ورحمته، وحكمته سواء كان من الآيات الكونية، أو الشرعية؛ لكن منها ما هو بيِّن ظاهر؛ ومنها ما يخفى على كثير من الناس إلا الراسخين في العلم؛ ومنها ما هو بيْن ذلك.

6ـ ومنها: أن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم كلها تزكية للأمة، وتنمية لأخلاقها، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة؛ ولهذا كان من القواعد المقررة في الشريعة أنها تأتي بالمصالح الخالصة، أو الراجحة، وتنهى عن المفاسد الخالصة، أو الراجحة؛ فالخمر فيه مصالح، ومفاسد؛ لكن مفاسده راجحة؛ ولهذا حرم؛ الحجر على السفيه فيه مصالح، وفيه مفاسد؛ لكن مصالحه راجحة؛ فلذلك قدمت المصالح؛ أو مصالح خالصة ـ فليس فيها مفاسد، كعبادة الله مثلاً؛ هذه قاعدة الشريعة؛ ولهذا قال تعالى: { ويزكيكم }.

7ـ ومن فوائد الآية: أن كل ما فيه تزكية للنفوس فإن الشريعة قد جاءت به؛ لقوله تعالى: { ويزكيكم}

8ـ ومنها: أن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومهمته التي جاء بها أنه يعلمنا الكتاب والحكمة.

9ـ ومنها: الرد على أهل التأويل، وأهل التجهيل؛ لقوله تعالى: { يعلمكم الكتاب } ـ أهل التأويل الذين يؤولون آيات الصفات ـ لأنه لو كان هذا التأويل من العلم لعلمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما لم يعلمنا إياه علمنا أنه ليس من العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وأهل التجهيل ـ وهم طائفة يقولون: «إن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والأمة كلها لا تعلم معاني آيات الصفات، وأحاديثها؛ فلا يدرون ما معناها؛ حتى النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالحديث من صفات الله ولا يدري معناها»!!!

10ـ ومن فوائد الآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم الأمة لفظ القرآن، ومعناه؛ ولهذا إذا استشكل الصحابة شيئاً من المعنى سألوه، فعلمهم؛ ولكن الغالب أنهم لا يستشكلون؛ لأنه نزل بلغتهم، وفي عصرهم، يعرفون معناه، ومغزاه، وأسبابه.

11ـ ومنها: اشتمال الشريعة على الحكمة؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الكتاب والحكمة }؛ فالشريعة متضمنة للحكمة تضمناً كاملاً؛ فما من شيء من مأموراتها، ولا منهياتها، إلا وهو مشتمل على الحكمة؛ لكن هنا حكمة لازمة لكل حكم؛ وهو طاعة الله ورسوله؛ فإن هذه أعظم حكمة؛ وهي ثابتة فيما نعقل حكمته، وفيما لا نعقلها؛ ولهذا لما قالت المرأة لعائشة رضي الله عنها: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة»(58)؛ فبينت الحكمة من ذلك؛ وهو طاعة الله، ورسوله؛ وهذه حكمة لازمة في كل حكم سواء عقل معناه، أو لم يُعقَل.

12ـ ومن فوائد الآية: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }؛ وهو مما يدل على نقص الإنسان، حيث كان الأصل فيه الجهل؛ قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [النحل: 78] ؛ ثم قال عزّ وجلّ: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] ؛ فبين طرق العلم: {السمع والبصر}؛ وبهما الإدراك؛ و {الأفئدة} ؛ وبها الوعي، والحفظ.

13ـ ومنها: فضل الله عزّ وجلّ، حيث علمنا ما لم نكن نعلم؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }؛ وهذا عام في كل ما نحتاج إلى العلم به من أمور الدنيا، والآخرة.

إذا قال قائل: «اضربوا لنا مثلاً» فماذا نقول؟

فالجواب: أن كل الشريعة مثال؛ فإننا لا نعرف كيف نصلي إلا بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولا كيف نتوضأ، ولا مقدار الواجب في الأموال من الزكاة، ولا مَن تُصرف إليهم الزكاة، ولا غير ذلك من أمور الشريعة إلا بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهناك أحكام قدرية لا نعرفها أيضاً علمنا الله سبحانه وتعالى إياها، كابتداء الكون، ونهايته: كخلق السموات، والأرض؛ واليوم الآخر؛ إذاً فعلومنا الشرعية، والقدرية متلقاة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وليس لنا علم بها قبل تعليم النبي صلى الله عليه وسلم.



القــرآن

{ )فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة:152)

التفسير:

{ 152 } قوله تعالى: { فاذكروني أذكركم }؛ «اذكروني» فعل أمر؛ فيه نون الوقاية؛ والياء مفعول به؛ والواو فاعل؛ وجواب فعل الأمر: { أذكركم }.

فقوله تعالى: { فاذكروني أذكركم } عمل، وجزاء؛ العمل: ما أفاده قوله تعالى: { اذكروني }؛ والجزاء: ما أفاده قوله تعالى: { أذكركم }؛ وذِكر الله يكون بالقلب، واللسان، والجوارح.

وقوله تعالى: { فاذكروني } فيها قراءة بفتح الياء؛ وقراءة بإسكانها؛ لأن ياء المتكلم من حيث اللغة العربية يجوز إسكانها، وفتحها، وحذفها تخفيفاً؛ لكنها في القرآن تتوقف على السماع.

قوله تعالى: { واشكروا لي }؛ { اشكروا } فعل أمر من «شكر»؛ أي قوموا بالشكر؛ واللام للاختصاص؛ و «الشكر» هو القيام بطاعة المنعم؛ وقد اختلف علماء العربية هل: { واشكروا لي } بمعنى «اشكروني»؛ أي أن الفعل يتعدى بنفسه تارة، وباللام أخرى؛ أو أن بينهما فرقاً؟ فقال بعضهم: هي بمعناها، فيقال: شكره؛ ويقال: شكر له؛ وقال بعضهم: إنها ليست بمعناها؛ وأن «شكر» تتعدى بنفسها دائماً، وأن المفعول هنا في نحو { واشكروا لي } محذوف؛ يعني: اشكروا لي ما أنعمت عليكم، أو نعمتي، أو ما أشبه ذلك؛ والخلاف في هذا قريب؛ لأن الجميع متفقون على أن المراد شكر الله عزّ وجلّ على نعمته.

قوله تعالى: { ولا تكفرون }؛ { لا } ناهية؛ والنون هنا نون الوقاية، وليست نون الإعراب؛ ومثله قوله تعالى: {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون} [الذاريات: 59] ؛ ولهذا كانت مكسورة فيهما؛ و{ لا تكفرون } أي لا تجحدوني، أو تجحدوا نعمتي؛ بل قوموا بشكرها، وإعلانها، وإظهارها.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: وجوب ذكر الله؛ للأمر به؛ مطلق الذكر واجب: يجب على كل إنسان أن يذكر ربه؛ بل كل مجلس يجلسه الإنسان ولا يذكر الله فيه، ولا يصلي على النبي إلا كان عليه ترة ـ أي خسارة، وحسرة يوم القيامة؛ فالعبد مأمور بذكر الله؛ لكن ذكر الله ينقسم إلى فريضة من فرائض الإسلام؛ وإلى واجب من واجباته؛ وإلى سنة من سننه ـ بحسب ما تقتضيه الأدلة؛ إنما مطلق الذكر حكمه أنه واجب.

2ـ ومنها: أن مَنْ ذَكر الله ذكره الله؛ لقوله تعالى: { أذكركم }؛ وكون الله يذكرك أعظم من كونك تذكره؛ ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي؛ ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه»(59)؛ وذكر الله يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح؛ فالأصل ذكر القلب كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»(60) فالمدار على ذكر القلب؛ لقوله تعالى: { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} [الكهف: 28؛ وذكر الله باللسان، أو بالجوارح بدون ذكر القلب قاصر جداً، كجسد بلا روح؛ وصفة الذكر بالقلب التفكر في آيات الله، ومحبته، وتعظيمه، والإنابة إليه، والخوف منه، والتوكل عليه، وما إلى ذلك من أعمال القلوب؛ وأما ذكر الله باللسان فهو النطق بكل قول يقرب إلى الله؛ وأعلاه قول: «لا إله إلا الله»؛ وأما ذكر الله بالجوارح فبكل فعل يقرب إلى الله: القيام في الصلاة، والركوع، والسجود، والجهاد، والزكاة، كلها ذكر لله؛ لأنك عندما تفعلها تكون طائعاً لله؛ وحينئذٍ تكون ذاكراً لله بهذا الفعل؛ ولهذا قال الله تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] ؛ قال بعض العلماء: أي لما تضمنته من ذكر الله أكبر؛ وهذا أحد القولين في هذه الآية.

3ـ ومن فوائد الآية: فضيلة الذكر؛ لأن به يحصل ذكر الله للعبد؛ وذكر الله للعبد أمر له شأن كبير عظيم؛ فليس الشأن بأن تذكر الله، أو أن تحب الله؛ ولكن الشأن أن يذكرك الله عزّ وجلّ، وأن يحبك الله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] ؛ فقال تعالى: {يحببكم الله} لأن هذا هو الغاية المطلوبة.

4ـ ومنها: وجوب الشكر؛ لقوله تعالى: { واشكروا لي }؛ و«الشكر» يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح؛ ولا يكون إلا في مقابلة نعمة؛ فسببه أخص من سبب «الحمد»؛ ومتعلَّقه أعم من متعلق «الحمد»؛ فيختلفان إذاً من حيث السبب؛ ويختلفان من حيث المتعلق؛ سبب «الحمد» كمال المحمود، وإنعام المحمود؛ فإذا كان سببه إنعام المحمود كان «الحمد» من «الشكر»؛ أما «الشكر» فسببه واحد؛ وهو نعمة المشكور؛ وأما متعلق «الحمد» فيكون باللسان فقط؛ وأما متعلق «الشكر» فثلاثة: يكون باللسان، والقلب، والجوارح؛ وعليه قول الشاعر:

(أفادتكم النعماء مني ثلاثة - يدي ولساني والضمير المحجبا) فـ«يدي» هذا الشكر بالجوارح؛ و«لساني» هذا الشكر باللسان ـ يعني القول؛ و«الضمير المحجبا» يعني القلب.

والشكر بالقلب أن يعتقد الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله عزّ وجلّ وحده؛ فيحب الله سبحانه وتعالى لهذا الإنعام؛ ولهذا ورد في الحديث: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه»(61)؛ فإن الإنسان إذا شعر بأن هذه النعمة من الله أحب الله سبحانه وتعالى؛ لأن النفوس مجبولة على محبة من يحسن إليها.

وأما الشكر باللسان فأن يتحدث الإنسان بنعمه لا افتخاراً؛ بل شكراً؛ قال الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11] ؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر»(62).

وأما الشكر بالجوارح فأن يقوم الإنسان بطاعة الله، ويصرف هذه النعمة لما جعلت له؛ فإن هذا من شكر النعمة.

5ـ ومن فوائد الآية: وجوب ملاحظة الإخلاص؛ لقوله تعالى: { واشكروا لي } يعني مخلصين لله عزّ وجلّ؛ لأن الشكر طاعة؛ والطاعة لا بد فيها من الإخلاص، كما قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 110] .

6ـ ومنها: تحريم كفر النعمة؛ لقوله تعالى: { ولا تكفرون } ولهذا إذا أنعم الله على عبده نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته عليه؛ فإذا أنعم الله عليه بعلم فإن الله يحب من هذا العالم أن يظهر أثر هذه النعمة عليه:

أولاً: على سلوكه هو بنفسه بحيث يكون معروفاً بعلمه، وعمله به.

ثانياً: بنشر علمه ما استطاع، سواء كان ذلك على وجه العموم، أو الخصوص.

ثالثاً: أن يدعو إلى الله على بصيرة بحيث إنه في كل مجال يمكنه أن يتكلم في الدعوة إلى الله بقدر ما يستطيع حتى في المجالس الخاصة فيما إذا دعي إلى وليمة مثلاً، ورأى من المصلحة أن يتكلم فليتكلم؛ وبعض أهل العلم يكون معه كتاب، فيقرأ الكتاب على الحاضرين، فيستفيد، ويفيد؛ وهذا طيب إذا علم من الناس قبول هذا الشيء بأن يكون قد عوَّدهم على هذا، فصاروا يرقبونه منه؛ أما إذا لم يعوِّدهم فإنه قد يثقل عليهم بهذا، ولكن من الممكن أن يفتح المجال بإيراد يورده ـ سؤالاً مثلاً ـ حتى ينفتح المجال للناس، ويسألون، وينتفعون؛ لأن بعض طلبة العلم تذهب مجالسهم كمجالس العامة لا ينتفع الناس بها؛ وهذا لا شك أنه حرمان ـ وإن كانوا لا يأثمون إذا لم يأتوا بما يوجب الإثم؛ فالذي ينبغي لطالب العلم ـ حتى وإن لم يُسأل ـ أن يورد هو سؤالاً لأجل أن يفتح الباب للحاضرين، فيسألوا؛ وقد جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة، وأماراتها؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»(63)؛ مع أن الذي يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكن جعله معلماً وهو يسأل؛ لأنه هو السبب في هذا التعليم.



القــرآن

{ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153)

التفسير:

{ 153 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ سبق أن الكلام إذا صدَّر بالنداء فهو دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب التفات المخاطب إلى مناديه؛ وسبق بيان فوائد تصدير الخطاب بوصف الإيمان(64).

قوله تعالى: { استعينوا بالصبر والصلاة } أي اجعلوا الصبر عوناً لكم؛ وكذلك استعينوا بالصلاة؛ وسبق الكلام على نظير هذه الجملة(65).

قوله تعالى: { إن الله مع الصابرين }: هذه بشرى عظيمة لمن صبر؛ وقال تعالى: { مع الصابرين } لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن الصلاة من الصبر؛ لأنها صبر على طاعة الله.

الوجه الثاني: أن الاستعانة بالصبر أشق من الصلاة؛ لأن الصبر مُرّ:

(الصبر مثل اسمه مُرٌّ مذاقته - لكن عواقبه أحلى من العسل) فهو مرٌّ يكابده الإنسان، ويعاني، ويصابر، ويتغير دمه حتى من يراه يقول: هذا مريض.

الوجه الثالث: أنه إذا كان مع الصابرين فهو مع المصلين من باب أولى بدليل أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان المصلي يناجي ربه، وأن الله قِبل وجهه(66) - وهو على عرشه سبحانه وتعالى.

الفوائد:

1ـ من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، وأنه من أشرف أوصاف الإنسان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا... }.

2ـ ومنها: الإرشاد إلى الاستعانة بالصلاة؛ لقوله تعالى: { استعينوا بالصبر والصلاة }.

3ـ ومنها: بيان الآثار الحميدة للصلاة، وأن من آثارها الحميدة أنها تعين العبد في أموره.

4ـ ومنها: جواز الاستعانة بغير الله فيما يمكن أن يعين فيه؛ لقوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة} وجاء في الحديث: «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة»(67).

5ـ ومنها: أن الاستعانة بالصلاة من مقتضيات الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استعينوا... } إلخ.

6ـ ومنها: فضيلة الصبر؛ لأنه يعين على الأمور؛ والصبر ثقيل جداً على النفس؛ لأن الإنسان إذا أصابه ضيق، أو بلاء ثقل عليه تحمله، فاحتاج إلى الصبر؛ ولهذا قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [هود: 49] ؛ فقال تعالى: { فاصبر } إشارة إلى أن هذا الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى صبر، وتحمل؛ لأنه سيجد من ينازع، ويضاد؛ ونظيره قوله تعالى: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً * فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [الإنسان: 23، 24] ؛ إذاً الصبر شاق على النفوس؛ لكن يجب على الإنسان أن يصبر؛ ولهذا من لم يوفق للصبر فاته خير كثير؛ والذي يصبر أيضاً غالباً ينتظر الفرج لا سيما إذا صبر بإخلاص، وحسن نية؛ وانتظار الفرج عبادة، وباب للفرج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر؛ وأن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسراً»(68)؛ لأنه إذا كان منتظراً للفرج هان عليه الصبر؛ لأنه يؤمل أن الأمور ستزول، وأن دوام الحال من المحال؛ فإذا كان يؤمل الأجر في الآخرة، ويؤمل الفرج في الدنيا هان عليه الصبر كثيراً؛ وهذه لا شك من الخصال الحميدة التي جاء بها الإسلام، ودليل على أن الأمور تسهل بالصبر؛ مهما بلغتك الأمور اصبر، فتهون؛ ولهذا جعل الله الصبر عوناً.

7ـ ومن فوائد الآية: أن في الصبر تنشيطاً على الأعمال، والثبات عليها؛ لقوله تعالى: { إن الله مع الصابرين }؛ فإذا آمن الإنسان بأن الله معه ازداد نشاطاً، وثباتاً؛ وكون الله سبحانه وتعالى مع الإنسان مسدداً له، ومؤيداً له، ومصبِّراً له، لا شك أن هذه درجة عالية كل يريدها؛ ولهذا لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يتناضلون قال: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً وأنا مع بني فلان؛ قال الآخرون: يا رسول الله، إذا كنت معهم فلا نناضل؛ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم»(69).

8ـ ومن فوائد الآية: إثبات معية الله سبحانه وتعالى؛ ومعيته تعالى نوعان:

النوع الأول: عامة لجميع الخلق، ومقتضاها الإحاطة بهم علماً، وقدرة، وسلطاناً، وسمعاً، وبصراً، وغير ذلك من معاني ربوبيته؛ لقوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7] .

والنوع الثاني: خاصة؛ ومقتضاها مع الإحاطة: النصر، والتأييد؛ وهي نوعان: مقيدة بوصف ، كقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ؛ و مقيدة بشخص ، كقوله تعالى لموسى، وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] ، وقوله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]

)وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154)

التفسير:

{ 154 } قوله تعالى: { ولا تقولوا }؛ { لا } ناهية؛ ولهذا جزمت الفعل؛ وعلامة جزمه حذف النون.

قوله تعالى: { لمن يقتل في سبيل الله } أي فيمن يقتل في سبيل الله؛ وهو الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

قوله تعالى: { أموات } خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم أموات.

فإن قال قائل: كيف لا نقول أموات وقد ماتوا؟

فالجواب: أن المراد هنا: لا تقولوا: أموات موتاً مطلقاً - دون الموت الذي هو مفارقة الروح لل
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:26 am من طرف ahmadhamad
الاية 161 الي الاية 167

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (البقرة:161)

)خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (البقرة:162)

التفسير:

الآيتان قبلها في العلماء الذين كتموا الحق؛ وهذه في الكفار الذين استكبروا عن الحق.

{161 } قوله تعالى: { إن الذين كفروا }: «الكَفْر» في اللغة بمعنى الستر؛ ومنها كُفُرَّى النخل ـ أي وعاء طلعه ـ لستره الطلع؛ والمراد بالكُفر في القرآن والسنة: جحد ما يجب لله سبحانه وتعالى من الطاعة، والانقياد؛ وهو نوعان: إما تكذيب؛ وإما استكبار.

قوله تعالى: { وماتوا وهم كفار } معطوفة على { كفروا } فلا محل لها من الإعراب؛ لأنها معطوفة على صلة الموصول التي لا محل لها من الإعراب؛ وجملة { وهم كفار } حالية من الفاعل في { ماتوا }؛ يعني أنهم ـ والعياذ بالله ـ استمروا على كفرهم إلى الموت، فلم يزالوا على الكفر، ولم يتوبوا، ولم يرجعوا؛ وخبر { إن } جملة { أولئك عليهم لعنة الله }: { أولئك } مبتدأ ثانٍ؛ و{ عليهم } جار ومجرور خبر مقدم لـ{ لعنة }؛ و{ لعنة } مبتدأ ثالث؛ والجملة من المبتدأ الثالث، وخبره خبر المبتدأ الثاني: { أولئك}؛ والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر { إن }.

وقوله تعالى: { لعنة الله } أي طرده، وإبعاده عن رحمته؛ { والملائكة } أي ولعنة الملائكة؛ والملائكة عالم غيبي خُلِقوا من نور؛ وهم محجوبون عن الإنس؛ وربما يرونهم إما على الصورة التي خلقوا عليها، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلِق عليها له ستمائة جناح(82) قد سد الأفق(83)؛ وإما على صورة أخرى، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورة دحية الكلبي(84)؛ وهم عباد لله عزّ وجلّ لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون؛ يسبحون الليل والنهار لا يفترون؛ لا يأكلون، ولا يشربون؛ صُمْدٌ - أي لا أجواف لهم؛ والملائكة عليهم السلام لهم وظائف، وأعمال خصهم الله سبحانه وتعالى بها؛ فإسرافيل، وميكائيل، وجبريل موكلون بما فيه الحياة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاة الليل بقوله: «اللهم رب جَبرائيل وميكائيل وإسرافيل...»(85) الحديث؛ لأن هؤلاء الثلاثة موكلون بما فيه الحياة؛ والبعث من النوم حياة؛ ولهذا ناسب أن يكون هذا الاستفتاح في أول عمل يعمله الإنسان بعد أن توفاه الله عزّ وجلّ بالنوم؛ وهؤلاء الثلاثة أحدهم مكلف بما فيه حياة القلوب - وهو جبريل - والثاني بما فيه حياة الأبدان - وهو إسرافيل - والثالث بما فيه حياة النبات - وهو ميكائيل - وأفضلهم جبريل - ولهذا امتدحه الله عزّ وجلّ بقوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير: 19، 20] ، وبقوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} [مريم: 17] ؛ فجبريل أفضل الملائكة على الإطلاق.

قوله تعالى: { والناس أجمعين } أي عليهم لعنة الناس أجمعين؛ يلعنهم الناس ـ والعياذ بالله، ويمقتونهم ولا سيما في يوم القيامة؛ فإن هؤلاء يكونون مبغضين عند جميع الخلق؛ فهم أعداء الله سبحانه وتعالى.

{ 162 } قوله تعالى: { خالدين فيها } أي في هذه اللعنة ـ والعياذ بالله؛ والمراد فيما يترتب عليها؛ فإنهم خالدون في النار التي تكون بسبب اللعنة.

قوله تعالى: { لا يخفف عنهم العذاب }؛ أي لا يخففه الله سبحانه وتعالى؛ وحذف الفاعل للعلم به.

قوله تعالى: { ولا هم ينظرون } أي لا يمهلون؛ بل يؤخذون بالعقاب؛ من حين ما يموتون وهم في العذاب؛ ويحتمل أن المراد لا ينظرون بالعين؛ فلا ينظرون نظر رحمة، وعناية بهم؛ وهذا قد يؤيَّد بقوله تعالى: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] ؛ فإن هذا من احتقارهم، وازدرائهم أنهم يوبخون بهذا القول.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآيتين: أن الكافر مستحق للعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين.

2 ـ ومنها: أنه تشترط لثبوت هذا أن يموت على الكفر؛ لقوله تعالى: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار }؛ فلو رجعوا عن الكفر إلى الإسلام ارتفعت عنهم هذه العقوبة.

3 ـ ومنها: إثبات الملائكة.

4 ـ ومنها: أن الكافر يلعنه الكافر؛ لقوله تعالى: { والناس أجمعين }؛ وقد أخبر الله تعالى عن أهل النار أنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، وقال تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب} [البقرة: 166] إلخ؛ فالكافر ـ والعياذ بالله ـ ملعون حتى ممن شاركه في كفره.

5 ـ ومنها: أن الذين يموتون وهم كفار مخلدون في لعنة الله، وطرده، وإبعاده عن رحمته.

6 ـ ومنها: أن العذاب لا يخفف عنهم، ولا يوماً واحداً؛ ولهذا يقول الله عزّ وجلّ: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49] ؛ لم يسألوا أن يرفع العذاب؛ ولم يسألوا أن يخفف دائماً؛ بل يخفف ولو يوماً واحداً من أبد الآبدين؛ يتمنون هذا؛ يتوسلون بالملائكة إلى الله عزّ وجلّ أن يخفف عنهم يوماً واحداً من العذاب؛ ولكن يوبخون إذا سألوا هذا: {قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} [غافر: 50] ؛ فما يستطيع أحد أن يتصور كيف تكون حسرتهم حينئذٍ؛ يقولون: ليتنا فعلنا؛ ليتنا صدقنا؛ ليتنا اتبعنا الرسول؛ ولهذا يقولون: {بلى} ؛ لا يستطيعون أن ينكروا أبداً؛ {قالوا فادعوا} [غافر: 50] أي أنتم؛ ولكن دعاء لا يقبل، كما قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 50] أي في ضياع ـ والعياذ بالله؛ والمقصود أنه لا يخفف عنهم العذاب.

7 ـ من فوائد الآيتين: أنهم لا ينظرون؛ إما أنه من النظر؛ أو من الإنظار؛ فهم لا يمهلون ولا ساعة واحدة؛ ولهذا قال تعالى: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر: 71] ؛ فمن يوم يجيئونها تفتح؛ أما أهل الجنة فإذا جاءوها لم تفتح فور مجيئهم، كما قال تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 71] ؛ لأنهم لا يدخلونها إلا بالشفاعة، وبعد أن يقتص من بعضهم لبعض؛ فإذا جاءوها هذبوا، ونقوا، ثم شفع النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة؛ وحينئذ تفتح أبوابها.



القـــرآن

{)وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة:163)

التفسير:

{ 163 } قوله تعالى: { وإلهكم } الخطاب للبشر كلهم؛ أي أيها الناس معبودكم الحق الذي تكون عبادته حقاً؛ و{ إله } بمعنى مألوه؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و«المألوه» معناه المعبود حباً، وتعظيماً ـ وهو إله واحد؛ و{ إلهكم } مبتدأ؛ و{ إله } خبر؛ و{ واحد } صفة لـ{ إله }؛ وجملة { إلهكم إله واحد } طرفها الأول معرفة؛ والثاني نكرة موصوفة، ومؤكد بالوحدانية يعني أن إله الخلق إله واحد؛ ووحدانيته بالألوهية متضمنة لوحدانيته بالربوبية؛ إذ لا يُعبد إلا من يُعلم أنه رب.

ثم أكد هذه الجملة الاسمية بجملة تفيد الحصر، فقال: { لا إله إلا هو }؛ وهذه الجملة توكيد لما قبلها في المعنى؛ فإنه لما أثبت أنه إله واحد نفى أن يكون معه إله.

وقوله تعالى: { لا إله إلا هو } أي لا معبود حق إلا هو؛ وعلى هذا تكون { لا } نافية للجنس؛ وخبرها محذوف؛ والتقدير: لا إله حق إلا هو؛ وإنما قدرنا «حق»؛ لقوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] ؛ ولهذا قال الله تعالى عن هذه الآلهة: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23] ؛ وقد زعم بعضهم أن تقدير الخبر «موجود»؛ وهذا غلط واضح؛ لأنه يختل به المعنى اختلالاً كبيراً من وجهين:

الوجه الأول: أن هناك آلهة موجودة سوى الله؛ لكنها باطلة، كما قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] ، وكما قال تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك} [هود: 101] ، وكما قال تعالى: {فلا تدع مع الله إلهاً آخر} [الشعراء: 213] .

الوجه الثاني: أنه يقتضي أن الآلهة المعبودة من دون الله هي الله، ولا يخفى فساد هذا؛ وعليه فيتعين أن يكون التقدير: «لا إله حق»، كما فسرناه.

قوله تعالى: { الرحمن الرحيم } خبر ثالث، ورابع لقوله تعالى: { إلهكم }؛ ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: هو الرحمن الرحيم؛ فألوهيته مبنية على الرحمة؛ وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 2، 3] ؛ فإن ذكر هذين الاسمين بعد الربوبية يدل على أن ربوبيته مبنية على الرحمة.

وقوله تعالى: { الرحمن الرحيم } اسمان من أسماء الله؛ أحدهما يدل على سعة رحمته ـ وهو { الرحمن }؛ والثاني يدل على إيصال الرحمة ـ وهو { الرحيم }؛ وأسماء الله سبحانه وتعالى لها ثلاث دلالات: دلالة مطابقة؛ ودلالة تضمن؛ ودلالة التزام؛ فدلالة الاسم على الذات، والصفة دلالة مطابقة؛ ودلالته على الذات وحدها، أو الصفة وحدها دلالة تضمن؛ ودلالته على ما يستلزمه من الصفات الأخرى دلالة التزام؛ مثال ذلك «الخالق»: فهو دال على ذات متصفة بالخلق؛ وعلى صفة الخلق؛ فدلالتها على الأمرين دلالة مطابقة؛ وعلى أحدهما دلالة تضمن؛ وهي تدل على صفة العلم، والقدرة دلالة التزام؛ إذ لا خلق إلا بعلم وقدرة.

و«الرحمة» تنقسم إلى عامة، وخاصة؛ فالعامة هي التي تشمل جميع الخلق؛ والخاصة تختص بالمؤمنين.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن إله الخلق إله واحد ـ وهو الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإلهكم إله واحد }.

2 ـ ومنها: إثبات اسم «الإله» ، و «الواحد» لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإلهكم إله واحد }؛ وقد جاء في قوله تعالى: {لله الواحد القهار} [إبراهيم: 48] : فأثبت اسم «الواحد» سبحانه وتعالى.

3 ـ ومنها: اختصاص الألوهية بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { لا إله إلا هو }.

فإن قال قائل: إن هؤلاء المشركين قد يفتنون بهذه الآلهة، فيدعونها، ثم يأتيهم ما دعوا به؛ فما هو الجواب؟

فالجواب: عن هذا أن هذه الأصنام لم توجد ما دعوا به قطعاً؛ لقوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم من دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف: 5، 6] ، ولقوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 14] ؛ فيكون حصول ما دعوا به من باب الفتنة التي يضل بها كثير من الناس؛ والذي أوجدها هو الله عزّ وجلّ؛ لكن قد يُمتحَن الإنسان بتيسير أسباب المعصية ابتلاءً من الله عزّ وجلّ؛ فيكون هذا الشيء حصل عند دعاء هذه الأصنام لا به.

4 ـ ومنها: كفر النصارى القائلين بتعدد الآلهة؛ لأن قولهم تكذيب للقرآن؛ بل وللتوراة، والإنجيل؛ بل ولجميع الرسل؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»(86).

5 ـ ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { الرحمن الرحيم }.

6 ـ ومنها: إثبات ما تضمنه هذان الاسمان من الصفة ـ وهو الرحمة ـ والحكم: أنه يرحم بهذه الرحمة.

7 ـ ومنها: أنه قد يكون للاسم من أسماء الله معنًى إذا انفرد؛ ومعنًى إذا انضم إلى غيره؛ لأن { الرحمن } لو انفرد لدل على الصفة، والحكم؛ وإذا جمع مع { الرحيم } جُعل { الرحمن } للوصف؛ و{ الرحيم} للفعل.



القــرآن

{)إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164)

التفسير:

{ 164 } قوله تعالى: { إن في خلق السموات والأرض }؛ { السموات } جمع سماء، وتقدم أنها سبع؛ و{ الأرض } مفرد يراد به الجنس؛ فيشمل السبع؛ و{ خلق السموات والأرض } أي إيجادهما من عدم؛ ويشمل ذلك بقاءهما، وكيفيتهما، وكل ما يتعلق بهما من الشيء الدال على علم الله سبحانه وتعالى، وقدرته، وحكمته، ورحمته.

وقوله تعالى: { والأرض } يشمل ما أودع الله فيها من المنافع، حيث جعلها متضمنة، ومشتملة على جميع ما يحتاج الخلق إليه في حياتهم، وبعد مماتهم، كما قال تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً * أحياءً وأمواتاً} [المرسلات: 25، 26] إلى آخر الآيات؛ ما ظنك لو جعل الله هذه الأرض شفافة كالزجاج، فدفن فيها الأموات ينظر الأحياء إلى الأموات ـ فلا تكون كفاتاً لهم! وما ظنك لو جعل الله هذه الأرض صلبة كالحديد، أو أشد فلا يسهل علينا أن تكون كفاتاً لأمواتنا، ولا لنا أيضاً في حياتنا! ثم هذه الأرض أودع الله فيها من المصالح، والمعادن شيئاً لم نستطع الوصول إليه حتى الآن.

قوله تعالى: { واختلاف الليل والنهار } يعني في الإضاءة، والظلمة؛ في الحر، والبرد؛ في النصر، والخذلان؛ في كل شيء يتعلق بالليل، والنهار؛ هذه الليالي، والأيام التي تدور على العالم كم فَنِي فيها من حي! كم فيها من حي! كم عز فيها من ذليل! كم ذل فيها من عزيز! كم حصل فيها من حوادث لا يعلمها إلا الله! هذا الاختلاف كله آيات تدل على تمام سلطان الله عزّ وجلّ، وعلى تفرده بالوحدانية سبحانه وتعالى.

واختلاف الليل، والنهار أيضاً في الطول، والقصر، كما قال تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} [الحج: 61] على وجه خفي لا يشعر الناس به: يزداد شيئاً فشيئاً، وينقص شيئاً فشيئاً ـ ليست الشمس تطلع فجأة من مدار السرطان، وفي اليوم التالي مباشرة من مدار الجدي! ولكنها تنتقل بينهما شيئاً فشيئاً حتى يحصل الالتئام، والتوازن، وعدم الكوارث؛ فلو انتقلت فجأة من مدار السرطان إلى مدار الجدي لهلك الناس من حر شديد إلى برد شديد؛ والعكس بالعكس؛ ولكن الله ـ جل وعلا ـ بحكمته، ورحمته جعلها تنتقل حتى يختلف الليل والنهار على حسب ما تقتضيه حكمته ورحمته.

قوله تعالى: { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس }؛ { الفلك } هي السفينة؛ وتطلق على المفرد، كما في هذه الآية؛ وعلى الجمع، كما في قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22] و{ تجري } أي تسير؛ { في البحر } أي في جوف البحر: فالغواصات تجري في البحر بما ينفع الناس وهي في جوفه؛ لأنه يقاتل بها الأعداء، وتحمى بها البلاد؛ وهذا مما ينفع الناس؛ ويجوز أن تكون { في } بمعنى «على» أي على سطح البحر، كقوله تعالى: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} [الشورى: 32] ؛ وهذه أيضاً من آيات الله؛ سفن محملة بالآدميين، والأمتعة، والأرزاق، تجري على سطح الماء بدون تقلب، أو إزعاج غالباً! هذا من آيات الله؛ وقد حدث في عصرنا هذا ما هو أعظم آية، وأكبر منه؛ وهو الفلك الذي يجري في الهواء؛ فإذا أشار الله سبحانه وتعالى إلى شيء من آياته في أمر فما هو أعظم منه يكون أقوى دلالة على ذلك؛ وها هو الطير مسخراً في جو السماء لا يمسكه إلا الله من آيات الله، كما قال تعالى: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} [النحل: 79] ؛ هذه الطيور لا تحمل إلا نفسها، فجعلها الله سبحانه وتعالى آية؛ فكيف بهذه الطائرات! تكون أعظم، وأعظم.

وقوله تعالى: { بما ينفع الناس }: الباء هنا للمصاحبة ـ أي مصحوبة بما ينفع الناس من الأرزاق، والبضائع، والأنفس، والذخائر، وغيرها؛ لأن { ما } اسم موصول يفيد العموم؛ فالفلك آية من آيات الله عزّ وجلّ الدالة على كمال قدرته، وكمال رحمته، وتسخيره، كما قال تعالى في أخرى: {وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار} [إبراهيم: 32] .

ومن حكمة الله عزّ وجلّ أنه قدر في الأرض أقواتها ـ يعني جعل قدْراً هنا، وقدْراً هنا، وقدْراً هنا؛ لأجل أن ينتفع الناس؛ فهناك ناس لا تكثر عندهم البقول، والخضروات، وما أشبه ذلك؛ يأتيهم من أرض أخرى؛ وهناك ناس يكثر عندهم نوع من النخيل لا يوجد في مكان آخر، فينقل إلى المكان الآخر، فيتبادل الناس الأرزاق، وينتفع الناس، ويتحركون ـ كل فيما قدر له.

قوله تعالى: { وما أنزل الله من السماء من ماء } يعني: وفيما أنزل الله سبحانه وتعالى من السماء من ماء آيات لقوم يعقلون؛ والمراد بـ{ السماء } هنا العلو؛ لأن المطر ينزل من السحاب المسخر بين السماء، والأرض؛ وليس من السماء نفسها.

وقوله تعالى: { من ماء } بيان لـ{ ما } في قوله تعالى: { وما أنزل الله }؛ والمراد به المطر الذي أنزله الله من السماء؛ وفيه آيات عظيمة؛ منها كونه ينزل من السماء؛ فإن الذي حمله إلى السماء هو الله عزّ وجلّ؛ كذلك كونه ينزل رذاذاً هذا من آيات الله الدالة على رحمته؛ لأنه لو كان ينزل صباً لأهلك العالم؛ وكونه ينزل من السماء لا يجري من الأرض هذا أيضاً من آيات الله؛ لأجل أن ينتفع به سهول الأرض، وجبالها؛ ولو كان يجري من الأرض لغرق الأسفل قبل أن يصل إلى الأعلى؛ كذلك من آيات الله كونه ينزل لا حاراً، ولا بارداً؛ البردُ ذكره الله تعالى في سياق يدل على أنه نوع من الانتقام، فقال تعالى: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} [النور: 43] ؛ وإن كان الله قد يجعله رحمة؛ لكن الغالب أنه انتقام.

قوله تعالى: { فأحيا به الأرض }: الذي يحيى هو النبات الذي فيها ـ وليس الأرض؛ و{ بعد موتها } أي بعد أن كانت يابسة هامدة لا نبات فيها؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63] ؛ وفي إحياء النبات آيات كثيرة: آيات دالة على الرحمة؛ وآيات دالة على الحكمة؛ وآيات دالة على القدرة.

آيات دالة على الرحمة: لما في هذا الإحياء من المنافع العظيمة؛ لقوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعاً لكم ولأنعامكم} [النازعات: 31، 33] ، وقوله تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صباً...} [عبس: 54،25] إلى قوله تعالى: { متاعاً لكم ولأنعامكم} ؛ فكم من نعم كثيرة في هذه الزروع التي أحياها الله سبحانه وتعالى بالمطر لنا، ولأنعامنا قوتاً، ودواءً، وغير ذلك.

وآيات دالة على الحكمة: وهو أن حياة الأرض جاءت بسبب - وهو الماء الذي نزل؛ فمنه نأخذ أن الله - جل وعلا - يخلق بحكمة، ويقدّر بحكمة؛ الله - جل وعلا - قادر على أن يقول للأرض: «أنبتي الزرع» فتنبت بدون ماء؛ لكن كل شيء مقرون بسبب؛ فكونه جلا وعلا ربط إحياء الأرض بنزول الماء يدل على الحكمة، وأن كل شيء له نظام خاص لا يتعداه منذ خُلق إلى أن يأذن الله تعالى بخراب العالم.

وآيات دالة على القدرة: وهي أنك ترى الأرض خاشعة هامدة سوداء شهباء ما فيها شيء؛ فإذا أنزل الله عليها المطر؛ تأتي إليها بعد نحو شهر تجدها تهتز أزهاراً، وأوراقاً، وأشجاراً: قال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} [فصلت: 39] ؛ وهذه قدرة عظيمة؛ واللَّهِ! لو أن البشر من أولهم إلى آخرهم اجتمعوا على أن يخرجوا ورقة واحدة من حبة لما استطاعوا؛ وحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؛ أليس هذا دليلاً على القدرة العظيمة!!!

قوله تعالى: { وبث فيها } أي نشر، وفرق؛ وهي معطوفة على قوله تعالى: { أنزل } أي: وفيما بث في الأرض من كل دابة آيات لقوم يعقلون؛ و{ من كل دابة } أي من كل ما يدب على الأرض من صغير، وكبير، وعاقل، وبهيم؛ وأتى بـ{ كل } لإفادة العموم الشامل لجميع الأجناس، والأنواع، والأفراد؛ ففي الأرض دواب لا يَعلَم بأنواعها، ولا أجناسها - فضلاً عن أفرادها - إلا الذي خلقها سبحانه وتعالى يعلم هذه الأجناس، وأنواعها، وأفرادها، وأحوالها، وكل ما يصلحها؛ ففيها من آيات الله الدالة على كمال قدرته، ورحمته، وعلمه، وحكمته ما يبهر العقول؛ تجد هذه الدواب المختلفة المتنوعة، والحشرات الصغيرة كيف هداها الله لما خلقت له؛ قال تعالى: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] حتى إنك لترى الماء يدخل في جحر النمل، فترى النملة تخرج من هذا الجحر حاملة أولادها! ماذا ترجو من هذه الأولاد؟! لكن رحمة أرحم الراحمين أن جعل في قلب هذه النملة رحمة لتحمل أولادها عن الغرق؛ كذلك أيضاً السباع الضارية التي تأكل ما دون أولادها من الحيوان: تجدها تحنو على ولدها، وتربيه؛ حتى إذا استقل بنفسه صار عدواً لها، أو صارت عدوة له؛ فالهرة تربي أولادها؛ فإذا استغنوا عنها طردتهم، وصارت عدوة لأولادها؛ فهذا من آيات الله عزّ وجلّ؛ ترى بعض الدواب تدب على الأرض؛ ولكن لا تكاد تدرك جسمها صغراً فضلاً عن أعضائها، وعما في جوفها؛ ومع ذلك فهي عايشة، وتعرف مصالحها، وتعرف جحرها تأوي إليه؛ فهذه من آيات الله عزّ وجلّ؛ ومن درس في علم الأحياء وجد من هذا ما يبهر العقول؛ فما بث الله سبحانه وتعالى في الأرض من الدواب من أجناسها، وأنواعها، وأفرادها فيه من آيات الله ما لا يحصى؛ لأن في كل شيء منه آية؛ وهو لا يحصى أنواعاً، أو أجناساً فضلاً عن أفرادٍ؛ وهذه الدواب تنقسم باعتبار مصالح الخلق إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما فيه مصلحة خالصة، أو راجحة.

الثاني: ما فيه مضرة خالصة، أو راجحة؛ لكن مضرتها لها حِكَم كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.

الثالث: ما لا مضرة فيه، ولا مصلحة؛ ولكن فيه دلالة على كمال الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: { وتصريف الرياح } أي تنويعها في اتجاهها، وشدتها، ومنافعها؛ و{ الرياح } جمع ريح؛ وهي الهواء؛ وفي قراءة: { الريح } بالإفراد؛ والمراد به الجنس؛ والتصريف يشمل تصريفها من حيث الاتجاه؛ تصريفها من حيث الشدة، وعدمها؛ تصريفها من حيث المنافع، وعدمها؛ فمن حيث الاتجاه جعلها الله سبحانه وتعالى متجهة جنوباً، وشمالاً، وغرباً، وشرقاً؛ وهذه هي أصول الجهات؛ وهناك جهات أخرى تكون بينها؛ وتسمى النكبة؛ لأنها ليست في الاستقامة في الشرق، أو الغرب، أو الشمال، أو الجنوب؛ فهي نكباء - ناكبة عن الاتجاه الأصلي.

وفي تصريف هذه الرياح آيات: لو بقيت الريح في اتجاه واحد لأضرت بالعالم؛ لكنها تتقابل، فيكسر بعضها حدةَ بعض، ويذهب بعضها بما جاء به البعض الآخر من الأذى، والجراثيم، وغيرها؛ كذلك أيضاً في تصريفها آيات بالنسبة للسحاب فبعضها يجمع السحاب؛ وبعضها يفرقه؛ وبعضها يلقحه؛ وبعضه يدره، فيمطر، كما قال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء} [الروم: 48] ، وقال تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} [الحجر: 22] ؛ قال المفسرون: تلقح في السحاب؛ وفي تصريف الرياح أيضاً آيات للسفن الشراعية؛ وفيه أيضاً آيات في إهلاك الناس، وإنجاء آخرين: أهلك الله به عاداً، وطرد به الأحزاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأنجى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الريح من شر الأحزاب؛ ومن تدبر هذا عرف ما فيها من قدرة الله، ورحمته، وعزته، وحكمته؛ لو أن جميع مكائن الدنيا كلها اجتمعت، وصارت على أقوى ما يكون من نَفْث هواء لا يمكن أن تحرك ساكناً إلا فيما حولها فقط؛ لكن أن تصل من أقصى الشمال إلى الجنوب، أو بالعكس فلا؛ والله - جل وعلا - يقول للشيء إذا أراده: {كن فيكون} [البقرة: 117] ؛ فتجد الرياح شديدة شمالية؛ وفي لحظة تنعكس، وتكون جنوبية شديدة؛ هذه تمام القدرة العظيمة، حيث يدبر الله هذه الرياح بأمر لا يستطيعه البشر؛ ولهذا صار تصريف الرياح آية من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته؛ ثم إن في تصريفها أيضاً مصالح للسفن الجوية؛ لأن لها تأثيراً على الطائرات - كما يقولون؛ وكذلك بالنسبة للسيارات لها تأثير.

قوله تعالى: { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } أي وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض آيات لقوم يعقلون؛ و{ السحاب } هو هذا الغمام، والمزن؛ وسمي سحاباً؛ لأنه ينسحب انسحاباً في الجو بإذن الله؛ و{ المسخر } أي المذلل بأمر الله لمصالح الخلق؛ ومن الآيات فيه أنه دال على القدرة، والرحمة، والحكمة:

أما دلالته على القدرة: فلأنه لا يستطيع أحد أن يفرقه إلا الله؛ ولا يستطيع أحد أن يوجهه إلى أي جهة إلا الله؛ ثم من يستطيع أن يجعل هذا السحاب أحياناً متراكماً حتى يكون مثل الجبال السود يوحش من يراه؛ وأحياناً يكون خفيفاً؛ وأحياناً يكون سريعاً؛ وأحياناً يكون بطيئاً؛ وأحياناً لا يتحرك؛ لأنه يسير بأمر الله.

وأما دلالته على الحكمة: فلأنه يأتي من فوق الرؤوس حتى يكون شاملاً لما ارتفع من الأرض، وما انهبط منها؛ ويأتي قطرات حتى لا ينهدم البنيان، ولا تشقق الأرض.

وأما دلالته على الرحمة: فلما يحصل من آثاره من نبات الأرض المختلف الذي يعيش عليه الإنسان، والبهائم.

وقوله تعالى: { بين السماء والأرض }؛ المراد بـ{ السماء } السقف المرفوع؛ و{ الأرض }: أرضنا هذه؛ وهذه البينية لا تقتضي الملاصقة، ولا المماسة - كما هو ظاهر؛ وبهذا يعرف الرد على الذين أنكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن»(87)، وقالوا: «لو كان هذا حقيقة للزم أن تكون أصابع الرحمن داخل أجوافنا؛ وهذا مستحيل؛ فيكون ظاهر الخبر مستحيلاً، ويصرف إلى معنى أن الله يقلب القلوب دون أن تكون بين أصابعه»؛ ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ وقد تبين بهذه الآية الكريمة أن البينية لا تستلزم الملاصقة، والمماسة؛ وعليه فلا يكون من لازم كون القلوب بين أصابع الرحمن أن تكون أصابعه داخل أجوافنا؛ ويقال أيضاً: بدر بين مكة والمدينة - هذا في المكان، وبينهما مسافة واضحة.

قوله تعالى: { لآيات } اللام للتوكيد؛ و «آيات» اسم { إنّ } مؤخر منصوب بها؛ و «آيات» جمع آية؛ وهي العلامة المعيِّنة لمعلومها؛ وصارت تلك آيات؛ لأنها دالة على كمال علم الله، وقدرته، ورحمته، وحكمته، وسلطانه، وغير ذلك من مقتضى ربوبيته.

قوله تعالى: { لقوم يعقلون } أي لهم عقول؛ والمراد هنا عقل الرشد الحامل لمن اتصف به على الانتفاع بالعقل؛ فالإنسان العاقل حقاً إذا تأمل هذه الأشياء وجد أن فيها آيات تدل على خالقها - جل وعلا -، وموجدها، وعلى ما تضمنته من صفات كماله؛ أما الإنسان المعرض - وإن كان ذكاؤه قوياً - فإنه لا ينتفع بها - ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بأنهم لا يعقلون مع أنهم في العقل الإدراكي - يدركون به ما ينفعهم، وما يضرهم - عقلاء؛ لكن نفاه الله عنهم لعدم انتفاعهم به، وعدم عقلهم الرشدي الذي يرشدهم إلى ما فيه مصلحتهم.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: عظم خلق السموات، والأرض؛ لقوله تعالى: { لآيات }؛ فلولا أنه عظيم ما كان آيات.

2 ـ ومنها: أن السموات متعددة؛ لقوله تعالى: { إن في خلق السموات }.

3 ـ ومنها: أن السموات مخلوقة؛ فهي إذاً كانت معدومة من قبل؛ فليست أزلية.

ويتفرع على هذه الفائدة الرد على الفلاسفة الذين يقولون بقدم الأفلاك ـ يعنون أنها غير مخلوقة، وأنها أزلية أبدية؛ ولهذا أنكروا انشقاق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الأفلاك العلوية لا تقبل التغيير، ولا العدم؛ وفسروا قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1] بأن المراد ظهور العلم، والنور برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا شك أن هذا تحريف باطل مخالف للأحاديث المتواترة الصحيحة في انشقاق القمر انشقاقاً حسياً.

4 ـ ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتأمل في هذه السموات والأرض ليصل إلى الآيات التي فيها؛ فيكون من الموقنين.

5 ـ ومنها: أن الآيات في خلق السموات، والأرض متنوعة بحسب ما تدل عليه من القدرة، والحكمة، والرحمة، وما إلى ذلك.

6 ـ ومنها: ما في اختلاف الليل، والنهار من الآيات، والعبر التي سبق بيان شيء منها؛ لقوله تعالى: { واختلاف الليل والنهار }.

7 ـ ومنها: أن اختلاف الليل، والنهار من رحمة الله، وحكمته.

8 ـ ومنها: ما في الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس من آيات الله، ونعمه؛ وسبق تفصيل ذلك.

9 ـ ومنها: ما تضمنه إنزال المطر من السماء؛ ففيه آيات عظيمة سبقت الإشارة إليها.

10 ـ ومنها: ما تضمنه قوله تعالى: { فأحيا به الأرض بعد موتها } من الآيات؛ وسبق الكلام عليها؛ وهي آيات عظيمة دالة على كمال القدرة، والرحمة، والعظمة، وعلى إحياء الله سبحانه وتعالى الموتى.

11 ـ ومنها: ما تضمنه قوله تعالى: { وبث فيها من كل دابة } من الآيات التي سبق بيان شيء منها.

12 ـ ومنها: ما في تصريف الرياح من الآيات التي سبق ذكر شيء منها.

13 ـ ومنها: ما في السحاب المسخر بين السماء، والأرض من الآيات العظيمة؛ وسبق ذكر شيء منها.

14 ـ ومنها: مدح العقل، وأنه به يستظهر الإنسان الآيات التي تزيده إيماناً، ويقيناً؛ لقوله تعالى: { لقوم يعقلون}

15 ـ ومنها: أن الناس ينقسمون في هذه الآيات إلى قسمين: قسم يعقل ما فيها من الآيات، ويستدل به على ما لله سبحانه وتعالى فيها من كمال الصفات؛ وقسم لا يعقلون ذلك، وقد وصفهم الله تعالى بقوله: { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } [الفرقان: 44] .

القرآن

{)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) (البقرة:165)

التفسير:

لما ذكر الله سبحانه وتعالى: { وإلهكم إله واحد... }، واستدل على ألوهيته بما في خلق السموات، والأرض، وما ذكر من الآيات، بيّن بعد ذلك أن من الناس ـ مع هذه الآيات الواضحة ـ من يتخذ من دون الله أنداداً.

{ 165 } قوله تعالى: { ومن الناس }؛ { مِن } بمعنى بعض؛ { مَن يتخذ }؛ { مَن }: اسم موصول مبتدأ مؤخر؛ وعند بعض النحويين أن { مِن } مبتدأ؛ وأن { مَن } خبره؛ لكن المشهور ما قلناه أولاً.

وقوله تعالى: { من يتخذ من دون الله أنداداً } أي من يجعل من دون الله آلهة أنداداً؛ و{ أنداداً } جمع ندّ؛ وهو الشبيه النظير؛ لأنه من: نادّه ينادّه إذا كان نظيراً له مكافئاً له.

قوله تعالى: { يحبونهم كحب الله } أي يحبون تلك الأنداد؛ وجاء الضمير جمعاً للعاقل دون أن يأتي بضمير المؤنث - مع أن الأكثر من هذه الأنداد أنها لا تعقل؛ وغير العاقل يكون ضميره مؤنثاً - باعتبار عقيدة عابديها؛ لأنهم يعتقدون أنها تنفع وتضر.

وجملة: { يحبونهم } صفة لأنداد؛ ويحتمل أن تكون استئنافية لبيان معنى اتخاذهم أنداداً.

وقوله تعالى: { كحب الله } أي كحبهم لله؛ أو كحب المؤمنين لله؛ والأول أظهر؛ ولهذا جعلوهم أنداداً - أي هؤلاء جعلوا هذه الأصنام مساوية لله في المحبة فيحبونهم كحب الله -؛ فهم يحبون هذه الأصنام، ويعتقدون أنها تنفع، وتضر؛ ولا فرق في ذلك بين من يتخذ محبوباً إلى الله عز وجل، أو غير محبوب إليه؛ فمن اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم نداً لله في المحبة، والتعظيم، كمن اتخذ صنماً من شجر، أو حجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الصنم كلاهما لا يستحق أن يكون نداً لله عز وجل؛ ولهذا لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98] ، وكان ظاهر الآية يشمل الأنبياء الذين عُبدوا من دون الله، استثناهم الله سبحانه وتعالى في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101] - ولو عُبِدوا من دون الله -؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: «ما شاء الله وشئت»: «أجعلتني لله نداً!!! بل ما شاء الله وحده»(88)؛ فأنكر عليه أن يجعله نداً لله.

قوله تعالى: { والذين آمنوا أشد حباً لله }؛ { الذين }: مبتدأ؛ و{ أشد }: خبره؛ و{ حباً }: تمييز؛ لأنها بعد أفعل تفضيل؛ و{ أشد } اسم تفضيل يقتضي مفضلاً، ومفضلاً عليه؛ فالمفضل: حب الذين آمنوا لله؛ والمفضل عليه: إما حب هؤلاء لأصنامهم؛ فيكون المعنى: أن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم؛ وإما أن المفضل عليه حب هؤلاء لله؛ فيكون المعنى: أن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله؛ وكلا الاحتمالين صحيح؛ أما الأول فلأن حب المؤمنين لله يكون في السراء، والضراء؛ وحب هؤلاء لأصنامهم في السراء فقط؛ وعند الضراء يلجؤون إلى الله عز وجل؛ فإذاً ليس حبهم الأصنام كحب المؤمنين لله عز وجل؛ ثم إن بعضهم يصرح، فيقول: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى»؛ وأما الاحتمال الثاني في الآية فوجه التفضيل ظاهر؛ لأن حب المؤمنين لله خالص لا يشوبه شيء؛ وحب هؤلاء لله مشترك: يحبون الله، ويجعلون معه الأصنام نداً.

قوله تعالى: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } فيها قراءات؛ أولاً: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يَرون العذاب } بياء الغيبة في { يرى }، وبفتح الياء في { يَرون }؛ ثانياً: { ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } بتاء الخطاب في { ترى }، وبفتح الياء في { يَرون }؛ وبضمها: { يُرون }؛ فالقراءات إذاً ثلاث.

قوله تعالى: { الذين ظلموا }؛ الظلم في الأصل هو النقص؛ ومنه قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33] أي لم تنقص؛ ولكنه يختلف بحسب السياق؛ فقوله تعالى: { الذين ظلموا } هنا: أي الذين نقصوا الله حقه، حيث جعلوا له أنداداً؛ وهم أيضاً ظلموا أنفسهم - أي نقصوها حقها -؛ لأن النفس أمانة عندك يجب أن ترعاها حق رعايتها؛ ولهذا قال تعالى: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10] ؛ فالنفس أمانة عندك؛ فإذا عصيت ربك فإنك ظالم لنفسك.

قوله تعالى: { إذ يرون العذاب }؛ { إذ } ظرف بمعنى «حين»؛ أي حين يرون العذاب؛ وقال بعض المعربين: { إذ } هنا بمعنى «إذا»؛ وتأتي «إذ» بمعنى «إذا»؛ لأنها إذا تعلقت بمضارع لا تكون للماضي؛ إذ إن الماضي للماضي؛ والمضارع للمستقبل؛ فهنا الآية للمستقبل؛ فتكون «إذ» بمعنى «إذا»؛ ونظيرها قوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم} [غافر: 71] أي إذا الأغلال في أعناقهم؛ فكلمة { إذ } إذا كان العامل فيها فعلاً مضارعاً فهي للمستقبل بمعنى «إذا»؛ والحكمة في كونها جاءت للماضي - وهي في الحقيقة للمستقبل - بيان تحقق وقوعه؛ فصار المستقبل كأنه أمر ماض؛ ونظيره في «الفعل» قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] ؛ {أتى} بمعنى المستقبل؛ لأنه قال: {فلا تستعجلوه} ؛ ولو كان قد أتى لم يصح أن يقال: {فلا تستعجلوه} .

قوله تعالى: { إذ يرون العذاب }؛ على قراءة { يَرون } بفتح الياء الرؤية هنا بصرية؛ ولهذا لم تنصب إلا مفعولاً واحداً؛ وكذلك على قراءة { يُرون } بضم الياء هي بصرية؛ لكنها تعدت إلى مفعولين بالهمزة؛ فهي رباعية؛ لأنها من: أراه يريه؛ فـ{ يُرون } أي يُجعلون يَرون؛ وأصل «أراه»: «أرآه» لكن حذفت الهمزة تخفيفاً؛ والحاصل أن { يُرون } هي رؤية بصرية - أي يريهم الله عز وجل العذاب -؛ و{ العذاب } معناه العقوبة - والعياذ بالله - التي تحصل لهم على أفعالهم.

قوله تعالى: { أن القوة لله جميعاً }؛ اللام هنا للاختصاص - يعني أن المختص بالقوة الكاملة من جميع الوجوه هو الله -؛ و{ جميعاً } حال من { القوة }؛ أي حال كونها جميعاً؛ فلا يشذ منها شيء؛ فكل القوة لله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: { وأن الله شديد العذاب } معطوفة على قوله تعالى: { أن القوة لله جميعاً }؛ و{ شديد العذاب } أي قوي العقوبة.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن بعض الناس يجعل لله نداً في المحبة يحبه كحب الله؛ لقوله تعالى: { يحبونهم كحب الله }

2 ـ ومنها: أن محبة الله من العبادة؛ لأن الله جعل من سوّى غيره فيها مشركاً متخذاً لله نداً؛ فالمحبة من العبادة؛ بل هي أساس العبادة؛ لأن أساس العبادة مبني على الحب، والتعظيم؛ فبالحب يفعل المأمور؛ وبالتعظيم يجتنب المحظور؛ هذا إذا اجتمعا؛ وإن انفرد أحدهما استلزم الآخر.

3 ـ ومنها: أن من جعل لله نداً في المحبة فهو ظالم؛ لقوله تعالى: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب }.

4 ـ ومنها: إثبات الجزاء؛ لقوله تعالى: { إذ يرون العذاب }.

5 ـ ومنها: إثبات القوة لله؛ لقوله تعالى: { أن القوة لله جميعاً }؛ فإن قيل: كيف يتفق قوله تعالى: { جميعاً } مع أن للمخلوق قوة؟

فالجواب: أن قوة المخلوق ليست بشيء عند قوة الخالق؛ وهذا كقوله تعالى: {فإن العزة لله جميعاً} [النساء: 139 مع أن الله أثبت للمخلوق عزة؛ وهكذا نقول في بقية الصفات التي يشترك فيها الخالق والمخلوق في أصل الصفة.

6 ـ ومنها: أن المؤمن محب لله عز وجل أكثر من محبة هؤلاء لأصنامهم؛ لقوله تعالى: { والذين آمنوا أشد حباً }.

7 ـ ومنها: أنه كلما ازداد إيمان العبد ازدادت محبته لله؛ وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى رتب شدة المحبة على الإيمان؛ وقد عُلم أن الحكم إذا عُلِّق على وصف فإنه يقوى بقوة ذلك الوصف، وينقص بنقصه؛ فكلما ازداد الإنسان إيماناً بالله عز وجل ازداد حباً له.

8 ـ ومنها: شدة عذاب الله عز وجل لهؤلاء الظالمين؛ لقوله تعالى: { وأن الله شديد العذاب }؛ فإن قيل: كيف يكون الله عز وجل شديد العذاب مع أنه أرحم من الوالدة بولدها؟

فالجواب: أن هذا من كمال عزه، وسلطانه، وعدله، وحكمته؛ لأنه أنذر مستحق العذاب، وأعذر منهم بإرسال الرسل؛ فلم يبق لهم حجة توجب تخفيف العذاب عنهم؛ فلو رحم هؤلاء الكافرين به لكان لا فرق بينهم والمؤمنين به.

وشدة عذاب الله لهؤلاء مذكور في القرآن، والسنة: قال الله تعالى: {وإن يستغيثوا} [الكهف: 29] أي أهل النار {يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الكهف: 29] ؛ فما بالك لو وصلت إلى الأمعاء؟!!؛ ولهذا قال تعالى في آية أخرى: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} [محمد: 15] ؛ ومع ذلك تتقطع، وتلتئم بسرعة كما قال تعالى في جلودهم: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} [النساء: 56] ؛ و {كلما} تفيد التكرار؛ وجوابها يفيد الفورية؛ والحكمة: {ليذوقوا العذاب} [النساء: 56] ؛ وقال تعالى: {إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} [الدخان: 43 ـ 48] ؛ ويقال له أيضاً: تبكيتاً، وتوبيخاً، وتنديماً، وتلويماً، { ذق }؛ ويذكّر أيضاً بحاله في الدنيا فيقال له: { إنك أنت العزيز الكريم }؛ فحينئذ يتقطع ألماً، وحسرة؛ ولا شك أن المؤمنين يسرون بعذاب أعداء الله؛ فعذابهم رحمة للمؤمنين، كما قال تعالى: { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون }.



القرآن

{ )إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) (البقرة:166)

التفسير:

{ 166 } قوله تعالى: { إذ تبرأ الذين اتبعوا }؛ { إذ } ظرف عامله محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ تبرأ؛ والمراد بالذكر هنا: الذكر للغير، والتذكر أيضاً؛ فالله سبحانه وتعالى يُذكِّرنا، ويأمرنا أيضاً أن نذكر لغيرنا؛ و{ تبرأ } أي تخلى، وبعُد { الذين اتُّبِعوا }: وهم الرؤساء، والسادة يتبرءون من { الذين اتَّبعوا }: وهم الأتباع، والضعفاء، وما أشبههم؛ فمن ذلك مثلاً: رؤساء الكفر يدعون الناس إلى الكفر، مثل فرعون: فقد دعا إلى الكفر؛ فهو متَّبَع؛ وقومه متَّبِعون؛ وكذلك غيره من رؤساء الكفر، والضلال، فإنهم أيضاً متَّبَعون؛ ومن تبعهم فهو متّبِع، فهؤلاء يتبرأ بعضهم من بعض؛ وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مناقشة بعضهم لبعض، ومحاجة بعضهم بعضاً في عدة آيات.

ولا يشمل قوله تعالى: { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } من اتبع أئمة الهدى؛ فالمتبعون للرسل لا يتبرأ منهم الرسل؛ والمتبعون لأئمة الهدى لا يتبرأ منهم أئمة الهدى؛ لقوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67] ؛ فالأخلاء، والأحبة يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض إلا المتقين.

قوله تعالى: { ورأوا العذاب }؛ أمامنا الآن فعل ماض في { تبرأ }، وفعل ماض في { رأوا } ـ مع أن هذا الأمر مستقبل ـ؛ لكن لتحقق وقوعه عبر عنه بالماضي؛ وهذا كثير في القرآن.

وقوله تعالى: { ورأوا العذاب } أي رأوه بأعينهم، كما قال تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً} [الكهف: 53] ؛ و{ العذاب } هو العقوبة التي يعاقب الله بها من يستحقها.

قوله تعالى: { وتقطعت بهم الأسباب }؛ الباء هنا إما أن تكون بمعنى «عن»؛ أو تكون صلة بمعنى أنهم متشبثون بها الآن، ثم تنقطع بهم كما ينقطع الحبل بمن تمسك به للنجاة من الغرق؛ و{ الأسباب } جمع سبب؛ وهو ما يتوصل به إلى غيره؛ والمراد بها هنا كل سبب يؤملون به الانتفاع من هؤلاء المتبوعين، مثل قولهم: {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12] ، وقول فرعون لقومه: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29] ؛ فهذه الأسباب التي سلكها المتبعون ظناً منهم أنها تنقذهم من العذاب إذا كان يوم القيامة تقطعت بهم؛ ولا يجدون سبيلاً إلى الوصول إلى غاياتهم؛ وفسر ابن عباس رضي الله عنهما { الأسباب } هنا بالمودة؛ أي تقطعت بهم المودة؛ وهذا التفسير على سبيل التمثيل؛ والآية أعم من ذلك؛ ووجه تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في سياق محبة هؤلاء المشركين لأصنامهم.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن المتبوعين بالباطل لا ينفعون أتباعهم؛ لقوله تعالى: { إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا }؛ ولو كانوا ينفعونهم لم يتبرؤوا منهم.

2 ـ ومنها: أن الأمر لا يقتصر على عدم النفع؛ بل يتعداه إلى البراءة منهم، والتباعد عنهم؛ وهذا يكون أشد حسرة على الأتباع مما لو كان موقفهم سلبياً.

3 ـ ومنها: ثبوت العقاب؛ لقوله تعالى: { ورأوا العذاب }.

ويتفرع عليه ثبوت البعث.

4 ـ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يجمع يوم القيامة بين الأتباع والمتبوعين توبيخاً، وتنديماً لهم؛ ويتبرأ بعضهم من بعض؛ لأن هذا ـ لا شك ـ أعظم حسرة إذا صار متبوعه الذي كان يعظمه في الدنيا يتبرأ منه وجهاً لوجه.

5 ـ ومنها: أن جميع الأسباب الباطلة التي لا تُرضي الله ورسوله، تتقطع بأصحابها يوم القيامة، وتزول، ولا تنفعهم.

6 ـ ومنها: أن من استغاث بالرسل، أو غيرهم من المخلوقات فيما لا يقدر عليه إلا الله، فقد ضل في دينه، وسفه في عقله، وأتى الشرك الأكبر.



القرآن

{)وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة:167)

التفسير:

{ 167 } قوله تعالى: { وقال الذين اتبعوا }: هم الأتباع.

قوله تعالى: { لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم }؛ { لو } هنا ليست شرطية؛ ولكنها للتمني؛ يعني: ليت لنا كرة فنتبرأ؛ والدليل على أنها للتمني أن الفعل نصب بعدها؛ وهو منصوب بـ«أنْ» المضمرة بعد الفاء السببية؛ و«لو» تأتي في اللغة العربية على ثلاثة أوجه: تكون شرطية؛ وتكون للتمني؛ وتكون مصدرية؛ فـ{ لو } في قوله تعالى: {وودوا لو تكفرون} [الممتحنة: 2] مصدرية؛ و{ لو } في قوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253] شرطية؛ { لو } في قوله تعالى: { لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم } للتمني؛ ومثلها قوله تعالى: {فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين} [الشعراء: 102] .

و«الكرة» الرجوع إلى الشيء؛ والمراد هنا: الرجوع إلى الدنيا؛ فنتبرأ منهم في الدنيا إذا رجعنا كما تبرءوا منا هنا في الآخرة؛ فنجازيهم بما جازونا به؛ لكن أنى لهم ذلك!!! فهذا التمني لا ينفعهم؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار }؛ و{ كذلك }: الكاف: اسم بمعنى «مثل»؛ وهي مفعول مطلق عامله الفعل بعده؛ وهذا كثيراً ما يأتي في القرآن، كقوله تعالى: {وكذلك يفعلون} [النمل: 3] ، وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143] .

وقوله تعالى: { يريهم } من: أرى يُري؛ فزيادة الهمزة جعلتها تنصب ثلاثة مفاعيل؛ الأول: الضمير، والثاني: { أعمالهم }؛ والثالث: { حسرات }؛ و{ حسرات } جمع حسرة؛ وهي الندم مع الانكماش، والحزن؛ فهؤلاء الأتباع شعورهم بالندم، والخيبة، والخسران لا يتصور؛ فالأعمال التي عملوها لهؤلاء المتبوعين صارت - والعياذ بالله - خسارة عليهم، وندماً؛ ضاعت بها دنياهم، وآخرتهم؛ وهذا أعظم ما يكون من الحسرة.

قوله تعالى: { وما هم بخارجين من النار }، أي أنهم خالدون فيها.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن هؤلاء الأتباع يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليتبرءوا من متبوعيهم كما تبرأ هؤلاء منهم في الآخرة؛ وهو غير ممكن؛ وما يزيدهم هذا إلا حسرة؛ ولهذا قال الله تعالى: { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم }.

2 ـ ومنها: تحسر هؤلاء، وأمثالهم الذين فاتهم في هذه الدنيا العمل الصالح؛ فإنهم يتحسرون في الآخرة تحسراً لا نظير له لا يدور في خيالهم اليوم، ولا في خيال غيرهم؛ لأنه ندم لا يمكن العتبى منه.

3 ـ ومنها: إثبات نكال الله بهم؛ لقوله تعالى: { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم }.

4 ـ ومنها: أن المشركين مخلدون في النار لا يخرجون منها؛ لقوله تعالى: { وما هم بخارجين من النار }؛ وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الخلود الأبدي في النار في ثلاثة مواضع من القرآن: في سورة النساء؛ وفي سورة الأحزاب؛ وفي سورة الجن؛ وبه يبطل قول من ادعى أن النار تفنى؛ لأن خلود الماكث الأبدي يدل على خلود مكانه.

5 ـ ومنها: إثبات النار، وأنها حق.
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:26 am من طرف ahmadhamad
العضو 'احمد حمد' قام بالعملية التالية: رمي النرد

'الافضل' : 1
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:27 am من طرف ahmadhamad
الاية 168 الي الاية 174
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168)

التفسير:

{ 168 } هذه الآية جاءت في سورة البقرة؛ وسورة البقرة مدنية؛ وقد سبق أنه جاء أيضاً مثلها: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] ؛ وقد ذكر كثير من المؤلفين في أصول التفسير أن الغالب في السور المدنية أن يكون الخطاب فيها بـ {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة: 104] ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة صارت المدينة بلاد إسلام؛ وهي أول بلد إسلامي يحكمه المسلمون في هذه الرسالة؛ فصار التوجه إليها بالخطاب بـ{ يا أيها الذين آمنوا }؛ لكنها ليست قاعدة؛ ولكنها ضابط يخرج منه بعض المسائل؛ لأن من السور المدنية فيها { يا أيها الناس }، كسورة النساء، وسورة الحجرات.

قوله تعالى: { يا أيها الناس }؛ { الناس } أصلها: الأناس؛ وحذفت الهمزة منها تخفيفاً؛ والمراد بـ{ الناس } بنو آدم.

قوله تعالى: { كلوا مما في الأرض }؛ «مِن» يحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ ويحتمل أن تكون للتبعيض؛ لكن كونها لبيان الجنس أولى؛ ويرجحه قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] ؛ أي كلوا من هذا ما شئتم؛ ويشمل كل ما في الأرض من أشجار، وزروع، وبقول، وغيرها؛ ومن حيوان أيضاً؛ لأنه في الأرض.

قوله تعالى: { حلالًا }: منصوبة على الحال من «ما» ؛ أي كلوه حال كونه حلالاً - أي محللاً -؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و{ طيباً } حال أخرى - يعني: حال كون طيباً - مؤكد لقوله تعالى: { حلالًا }؛ ويحتمل أن يكون المراد بـ «الحلال» ما كان حلالاً في كسبه؛ وبـ «الطيب» ما كان طيباً في ذاته؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] ، وقوله تعالى في الميتة، ولحم الخنزير: {فإنه رجس} [الأنعام: 145] ؛ وهذا أولى؛ لأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التوكيد.

قوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }؛ { لا } ناهية؛ و «اتباع الخطوات» معناه: أن يتابع الإنسان غيره في عمله، كمتبع الأثر الذي يتبع أثر البعير، وأثر الدابة، وما أشبهها؛ و{ خطوات الشيطان } أي أعماله التي يعملها، ويخطو إليها؛ وهو شامل للشرك فما دونه؛ فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، والمنكر؛ قال تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على ما لا تعلمون} [البقرة: 169] ، وقال تعالى: {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} [النور: 21] ؛ فكل شيء حرمه الله فهو من خطوات الشيطان سواء كان عن استكبار، أو تكذيب، أو استهزاء، أو غير ذلك؛ لأنه يأمر به، وينادي به، ويدعو إليه؛ و{ الشيطان } من: شطن؛ فالنون أصلية؛ وليس من «شاط»؛ لأنه مصروف في القرآن؛ قال تعالى: {وما هو بقول شيطانٍ رجيمٍ} [التكوير: 25] ؛ ولو كان من «شاط» لكانت النون زائدة، والألف زائدة؛ فيكون ممنوعاً من الصرف؛ إلا أنه قد يقال: لا يمنع من الصرف؛ لأن مؤنثه: شيطانة؛ والذي يمنع من الصرف إذا كان مؤنثه «فعلى»، كـ«سكران»، و«سكرى»؛ ومعنى «شطن» بعُد؛ فسمي الشيطان بذلك لبعده عن رحمة الله عز وجل.

قوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ محل هذه الجملة استئنافية تعليل لما قبلها؛ والعدو ضد الصديق؛ وإن شئت فقل: ضد الولي؛ لقوله تعالى: { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء }؛ وقد حده الفقهاء - رحمهم الله - بقولهم: من سره مساءة شخص؛ أو غمه فرحه فهو عدو؛ فالعدو من يحزن لفرحك، ويُسَرّ لحزنك.

وقوله تعالى: { مبين } أي ظاهر العداوة؛ وقد كان عدواً لأبينا آدم صلى الله عليه وسلم؛ فما زالت عداوته إلى قيام الساعة؛ وقال تعالى عنه: {لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنَّهم ولأمنينَّهم ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنَّهم فليغيرنَّ خلق الله} [النساء: 118، 119] ، ثم قال تعالى: {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً} [النساء: 119] .

الفوائد:

1 ــــ من فوائد الآية: إظهار منة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب؛ لقوله تعالى: { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً }.

2 ــــ ومنها: أن الأصل فيما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام.

3 ــــ ومنها: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لقوله تعالى: { يا أيها الناس }؛ وهم داخلون في هذا الخطاب؛ ومخاطبتهم بفروع الشريعة هو القول الصحيح؛ ولكن ليس معنى خطابهم بها أنهم ملزمون بها في حال الكفر؛ لأننا ندعوهم أولاً إلى الإسلام، ثم نلزمهم بأحكامه؛ وليس معنى كونهم مخاطبين بها أنهم يؤمرون بقضائها؛ والدليل على الأول قوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} [التوبة: 54] ؛ فكيف نلزمهم بأمر لا ينفعهم؛ هذا عبث، وظلم؛ وأما الدليل على الثاني فقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] ؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ممن أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات حال كفره؛ والفائدة من قولنا: إنهم مخاطبون بها – كما قال أهل العلم – زيادة عقوبتهم في الآخرة؛ وهذا يدل عليه قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين* في جنات يتساءلون* عن المجرمين* ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} [المدثر: 39 ــــ 47] .

4 ــــ ومن فوائد الآية: تحريم اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين }؛ ومن ذلك الأكل بالشمال، والشرب بالشمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»(89)؛ ومن اتباع خطوات الشيطان القياس الفاسد؛ لأن أول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس؛ لأن الله لما أمره بالسجود لآدم عارض هذا الأمر بقياس فاسد: قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص~: 38] ؛ يعني: فكان الأولى هو الذي يسجد؛ فهذا قياس في مقابلة النص؛ فاسد الاعتبار؛ ومن اتباع خطوات الشيطان أيضاً الحسد؛ لأن الشيطان إنما قال ذلك حسداً لآدم؛ وهو أيضاً دأب اليهود، كما قال تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم} [البقرة: 109] ؛ وكل خُلق ذميم، أو عمل سوء، فإنه من خطوات الشيطان.

5 ــــ ومن فوائد الآية: تأكيد عداوة الشيطان لبني آدم؛ لقوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ فإن الجملة مؤكدة بـ «إن» .

6 ــــ ومنها: ظهور بلاغة القرآن؛ وذلك لقرن الحُكم بعلته؛ فإن قرن الحكم بعلته له فوائد؛ منها معرفة الحكمة؛ ومنها زيادة طمأنينة المخاطب؛ ومنها تقوية الحكم؛ ومنها عموم الحكم بعموم العلة ــــ يعني القياس ــــ؛ مثاله قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] ؛ فإن مقتضى هذا التعليل أن كل ما كان نجساً فهو محرم.

7 ــــ ومنها: التحذير الشديد من اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ وما أظن أحداً عاقلاً يؤمن بعداوة أحد ويتبعه أبداً.



القرآن

{ )إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:169)

التفسير:

{ 169 } قوله تعالى: { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء }؛ { إنما } أداة حصر؛ و«الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه، كما لو قلت: «إنما القائم زيد»؛ أثبتَّ القيام لزيد، ونفيته عمن سواه؛ يعني ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء... إلخ.

وقوله تعالى: { يأمركم } أي الشيطان؛ والخطاب للناس جميعاً؛ لأن الآيات كلها سياقها للناس.

وقوله تعالى: { بالسوء } أي كل ما يسوء من المعاصي الصغيرة؛ أي السيئات؛ و{ الفحشاء } أي المعاصي الكبيرة، كالزنا؛ فهو يأمر بهذا، وبهذا؛ مع أن المعاصي الصغار تقع مكفّرة بالأعمال الصالحة إذا اجتنبت الكبائر؛ لكنه يأمر بها؛ لأنه إذا فعلها الإنسان مرة بعد أخرى فإنه يفسق، ويقسو قلبه؛ ثم لا ندري أتقوى هذه الأعمال الصالحة على تكفير السيئات، أم يكون فيها خلل، ونقص يمنع من تكفيرها السيئات.

قوله تعالى: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } معطوف على قوله تعالى: { بالسوء } يعني أن الشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون ــــ أي تنسبوا إليه القول من غير علم ــــ؛ وعطْف { أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } على { السوء والفحشاء } من باب عطف الخاص على العام؛ فإنه داخل إما في السوء، أو الفحشاء؛ وهو أيضاً إلى الفحشاء أقرب.

الفوائد:

1 ــــ من فوائد الآية: أن للشيطان إرادة، وأمراً؛ لقوله تعالى: { إنما يأمركم }.

2 ــــ ومنها: أن الشيطان لا يأمر بالخير؛ لقوله تعالى: { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء }؛ وهذا حصر بـ{ إنما }؛ وهو يوازن: ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء.

3 ــــ ومنها: أن الإنسان إذا وقع في قلبه همّ بالسيئة أو الفاحشة فليعلم أنها من أوامر الشيطان، فليستعذ بالله منه؛ لقوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [الأعراف: 200] .

4 ــــ ومنها: أن القول على الله بلا علم من أوامر الشيطان؛ لقوله تعالى: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }؛ والقول على الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قاله؛ هذا جائز؛ ويصل إلى حد الوجوب إذا دعت الحاجة إليه.

القسم الثاني: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قال خلافه؛ فهذا حرام؛ وهذا أشد الأقسام لما فيه من محادة الله.

القسم الثالث: أن يقول على الله ما لا يعلم أن الله قاله؛ وهذا حرام أيضاً.

فصار القول على الله حراماً في حالين؛ إحداهما: أن يقول على الله ما لا يعلم أن الله قاله، أم لم يقله؛ والثانية: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قال خلافه.

وقوله تعالى: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } يشمل القول على الله في ذاته ، كالقائلين أنه سبحانه وتعالى ليس بداخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا فوق العالم، ولا تحت؛ هؤلاء قالوا على الله بلا علم؛ بل بما يُعلم أن الأمر بخلافه.

ويشمل القول على الله في أسمائه ، مثل أن يقول: إن أسماء الله سبحانه وتعالى أعلام مجردة لا تحمل معاني، ولا صفات: فهو سميع بلا سمع؛ وبصير بلا بصر؛ وعليم بلا علم؛ فهو عليم بذاته ــــ لا بعلم هو وصفه

ويشمل أيضاً من قال في صفات الله ما لا يعلم، مثل أن يثبتوا بعض الصفات دون بعض، فيقولون فيما نفوه: أراد به كذا، ولم يرد به كذا؛ فقالوا على الله بلا علم من وجهين:

الوجه الأول: أنهم نفوا ما أراد الله بلا علم.

والثاني: أثبتوا ما لم يعلموا أن الله أراده؛ فقالوا مثلاً: { استوى على العرش } [الأعراف: 54] بمعنى استولى عليه؛ قالوا على الله بلا علم من وجهين؛ الوجه الأول: نفيهم حقيقة الاستواء بلا علم؛ والثاني: إثباتهم أنها بمعنى الاستيلاء بلا علم.

كذلك يشمل القول على الله بلا علم في أفعاله ، مثل أن يثبتوا أسباباً لم يجعلها الله أسباباً، كمثل المنجمين، والخرَّاصين، وشبههم؛ هؤلاء قالوا على الله بلا علم في أفعاله، ومخلوقاته؛ فيقولون: سبب وجود هذا وهذا كذا؛ وهو لا يُعلم أنه سبب له كوناً، ولا شرعاً.

ويشمل أيضاً القول على الله بلا علم في أحكامه ؛ مثل أن يقول: «هذا حرام» وهو لا يعلم أن الله حرمه؛ أو «واجب» وهو لا يعلم أن الله أوجبه؛ وهم كثيرون جداً؛ ومنهم العامة، ومنهم أدعياء العلم الذي يظنون أنهم علماء وليس عندهم علم؛ ومن الأشياء التي مرت عليّ قريباً، وهي غريبة: أن رجلاً ذهب إلى إمام مسجد ليكتب له الطلاق؛ فقال له: «طلق امرأتك طلقتين؛ أنا لا أكتب طلقة واحدة؛ لأن الله يقول: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] »؛ فقال له الرجل: «اكتب أني طلقت امرأتي مرتين»؛ وهذا جهل مركب منافٍ لمعنى الآية؛ لأن معناها أن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة هو الطلقة الأولى، والطلقة الثانية؛ فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.

فالقول على الله بلا علم في ذاته، أو أسمائه، أو صفاته، أو أفعاله، أو أحكامه، كل ذلك من أوامر الشيطان؛ والغالب أنه لا يحمل على ذلك إلا محبة الشرف، والسيادة، والجاه؛ وإلا لو كان عند الإنسان تقوى لالتزم الأدب مع الله عز وجل، ولم يتقدم بين يدي الله ورسوله، وصار لا يقول على الله إلا ما يعلم.

فإذا قال قائل: ألستم تبيحون الفتوى بالظن عند تعذر اليقين؟

فالجواب: بلى؛ بشرط أن يكون لهذا الظن أساس شرعي ــــ من اجتهاد، أو تقليد لمن هو أهل لذلك ــــ يبنى عليه؛ فإذا أفتينا بالظن لتعذر اليقين فقد أفتينا بما أذن الله لنا فيه؛ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ، وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] ؛ ومعلوم أن القول بغلبة الظن خير من التوقف؛ وكثير من مسائل الفقه التي تكلم فيها الفقهاء، واختلفوا فيها من هذا الباب؛ لأنها لو كانت يقينية لم يحصل فيها اختلاف؛ ثم إن الشيء قد يكون يقيناً عند شخص لإيمانه، وكثرة علمه، وقوة فهمه؛ ومظنوناً عند آخر لنقصه في ذلك.

5 ــــ ومنها: تحريم الفتوى بلا علم؛ فإن المفتي يقول على الله، ويعبر عن شرع الله؛ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] .

6 ــــ ومنها: ضلال أهل التأويل في أسماء الله، وصفاته؛ لأنهم قالوا على الله بلا علم.

7 ــــ ومنها: وجوب تعظيم الله عز وجل؛ لأنه تعالى حرم القول عليه بلا علم تعظيماً له، وتأدباً معه؛ وقد قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} [الحجرات: 1] .



القرآن

{)وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170)

التفسير:

{ 170 } قوله تعالى: { وإذا قيل لهم }؛ { قيل } مبني أصلها «قُوِل»؛ لكن صار فيها إعلال؛ وهي أن الواو مكسورة فقلبت ياءً، فكُسر ما قبلها للمناسبة؛ و{ لهم } أي للكفار.

قوله تعالى: { اتبعوا ما أنزل الله } عقيدةً، وقولاً، وفعلاً؛ و{ ما } اسم موصول يفيد العموم فتشمل جميع ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب، والحكمة؛ وقد قال كثير من أهل العلم: «الحكمة» هي السنة؛ فإذا قيل لهم هذا القول لا يلينون، ولا يُقبلون؛ بل يكابرون.

قوله تعالى: { قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا }؛ { بل } هذه للإضراب الإبطالي؛ يعني: قالوا مبطلين هذا القول الذي قيل لهم: { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا }؛ { ما } اسم موصول؛ { ألفينا } أي وجدنا، كما قال تعالى في آية أخرى: {بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} [لقمان: 21] ؛ والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

وقوله تعالى: { ما ألفينا عليه آباءنا } يعني ما وجدناهم عليه من العقيدة والعمل، حقاً كان أو باطلاً؛ و{ آباءنا} يشمل الأدنى منهم، والأبعد؛ وجوابهم هذا باطل خطأ؛ ولهذا أبطله الله تعالى في قوله: { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون }؛ والمعنى: أيتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم في هذه الحال التي لا يستحقون أن يُتَّبعوا فيها لا يعقلون شيئاً؛ والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ لكن ليس عندهم عقل رشد - وهو حسن تصرف -.

وقوله تعالى: { شيئاً } نكرة في سياق النفي؛ والنكرة في سياق النفي للعموم؛ فإذا قال قائل: إذا كانت للعموم فمعنى ذلك أنهم لا يعقلون شيئاً حتى من أمور الدنيا مع أنهم في أمور الدنيا يحسنون التصرف: فهم يبيعون، ويشترون، ويتحرون الأفضل، والأحسن لهم؟ فيقال: هذا ليس بشيء بالنسبة إلى ما يتعلق بأمور الآخرة؛ أو يقال: إن المراد بهذا العموم الخصوص؛ أي لا يعقلون شيئاً من أمور دينهم لأن المقام هنا مقام منهاج، وعمل، وليس مقام دنيا، وبيع، وشراء؛ فيكون المراد بقوله تعالى: { شيئاً } شيئاً من أمور الآخرة؛ وكلا الاحتمالين يرجع إلى معنى واحد.

قوله تعالى: { ولا يهتدون } أي لا يعملون عمل العالم المهتدي؛ وبهذا انتفى عنهم الرشد في العمل؛ والعلم في طريق العمل وهؤلاء الذين بهذا الوصف لا يعقلون ولا يهتدون لا يستحقون أن يتبعوا؛ ولهذا جاءت همزة الإنكار في قوله تعالى(أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)؛ وأقرب شبه لهؤلاء الآية التي بعدها.

الفوائد:

1- من فوائد الآية: ذم التعصب بغير هدى؛ لقوله تعالى: { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا }؛ مع أن آباءهم لا عقل عندهم، ولا هدى.

2 ــــ ومنها: أن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء؛ والواجب أن الإنسان إذا قيل له: «اتبع ما أنزل الله» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا».

3 ــــ ومنها: أنه لا يجب الانقياد إلا لما أنزل الله ــــ وهو الكتاب، والحكمة ــــ.

4 ــــ ومنها: بيان عناد هؤلاء المستكبرين الذين إذا قيل لهم: { اتبعوا ما أنزل الله } قالوا: { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } دون أن يقيموا برهاناً على صحته.

5 ــــ ومنها: أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى: { لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون }.



القرآن

{)وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (البقرة:171)

التفسير:

{ 171 } قوله تعالى: { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } يعني كمثل الراعي الذي ينادي.

قوله تعالى: { بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً } وهم البهائم؛ فهؤلاء مثلهم كمثل إنسان يدعو بهائم لا تفهم إلا الصوت دعاءً، ونداءً؛ و «الدعاء» إذا كان يدعو شيئاً معيناً باسمه؛ و «النداء» يكون للعموم؛ هناك بهائم يسميها الإنسان باسمها بحيث إذا ناداها بهذا الاسم أقبلت إليه؛ والنداء العام لجميع البهائم هذا لا يختص به واحدة دون أخرى؛ فتقبل الإبل جميعاً؛ لكن مع ذلك لا تقبل على أساس أنها تعقل، وتفهم، وتهتدي؛ ربما يناديها لأجل أن ينحرها؛ هؤلاء الكفار مثلهم ــــ في كونهم يتبعون آباءهم بدون أن يفهموا هذه الحال التي عليها آباؤهم ــــ كمثل هذا الناعق بالماشية التي لا تسمع إلا دعاءً، ونداءً.

قوله تعالى: { صم } جمع أصم؛ وهو الذي لا يسمع؛ وهي خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: هم صم؛ و{ بكم } جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ و{ عمي } جمع أعمى؛ وهو الذي لا يبصر؛ أي فهم صم عن سماع الحق؛ ولكن سماع غيره لا فائدة منه؛ فهو كالعدم؛ وهم بُكم لا ينطقون بالحق؛ ونطقهم بغير الحق كالعدم؛ لعدم نفعه؛ وهم كذلك عُمي لا يبصرون الحق؛ وإبصارهم غير الحق لا ينتفعون به.

قوله تعالى: { فهم لا يعقلون } أي لكونهم صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون عقل رشد ــــ وإن كان عندهم عقل إدراك ــــ؛ فلعدم انتفاعهم بعقولهم نفى الله عنهم العقل؛ ورتب الله انتفاء العقل عنهم على كونهم صماً بكماً عمياً؛ لأن هذه الحواس وسيلة العقل والإدراك.

الفوائد:

1 ــــ من فوائد الآية: أن هؤلاء في اتباع آبائهم مثل البهائم التي تستجيب للناعق وهي لا تسمع إلا صوتاً دعاءً، ونداءً؛ لا تسمع شيئاً تعقله، وتعرف فائدته، ومضرة مخالفته.

2 ــــ ومنها: أن هؤلاء قد طبع الله على قلوبهم فلا يسمعون ما يدعون إليه من حق، ولا يقولون به؛ فهُمْ: { صم بكم عمي فهم لا يعقلون }.

3 ــــ ومنها: أن لهؤلاء أمثالاً يدعون بدعوى الجاهلية، كأولئك الذين يدعون إلى القومية: فإن مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً، ونداءً؛ وهذه الدعوى لا يفكر الدعاة لها فيما يترتب عليها من تفريق المسلمين، وتمزيق وحدتهم، وكونهم يجعلون الرابطة هي اللغة، أو القومية، فيدخل فيها غير المسلم ممن تشملهم القومية، ويخرج بها مسلمون كثيرون ممن لا تشملهم القومية؛ لكن الرابطة الدينية التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10] ؛ هذه تدخل جميع المؤمنين ــــ ولو من غير العرب ــــ؛ وتخرج من ليس بمؤمن ــــ ولو كان عربياً ــــ؛ فهذا إبراهيم عليه السلام قال الله عز وجل عنه: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} [التوبة: 114] ؛ وقد حثنا الله عز وجل على التأسي بإبراهيم عليه السلام، حيث قال سبحانه وتعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة: 4] ، ولما قال نوح عليه السلام: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} [هود: 45] قال الله عز وجل له: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 45] ؛ فكون الناس انجرفوا في هذه الدعوى الباطلة ــــ دعوى القومية ــــ هو داخل في هذه الآية: أنهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً.



القرآن

{)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172)

التفسير:

{ 172 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } سبق الكلام على ذكر فوائد تصدير الخطاب بالنداء، وبوصف الإيمان للمنادى؛ وتصدير الحكم بالنداء يدل على الاهتمام به؛ لأن النداء يستلزم انتباه المنادى.

قوله تعالى: { كلوا من طيبات ما رزقناكم }: الأمر هنا للامتنان، والإباحة؛ و{ مِن } هنا الظاهر أنها لبيان الجنس؛ لا للتبعيض؛ والمراد بـ «الطيب» : الحلال في عينه، وكسبه؛ وقيل: المراد بـ «الطيب» : المستلذ، والمستطاب.

قوله تعالى: { واشكروا لله }؛ «الشكر» في اللغة: الثناء؛ وفي الشرع: القيام بطاعة المنعم؛ وإنما فسرناها بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً}، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله }»(90)؛ فالشكر الذي أُمر به المؤمنون بإزاء العمل الصالح الذي أُمر به المرسلون؛ والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

قوله تعالى: { إن كنتم إياه تعبدون }؛ { إن } شرطية؛ وفعل الشرط: { كنتم }؛ و{ إياه } مفعول لـ{ تعبدون } مقدم؛ وجملة: { تعبدون } خبر كان؛ وجواب الشرط: قيل: إنه لا يحتاج في مثل هذا التعبير إلى جواب؛ وهو الصحيح؛ وقيل: إن جوابها محذوف يفسره ما قبله؛ والتقدير: إن كنتم إياه تعبدون فاشكروا له؛ و «العبادة» هي التذلل لله عز وجل بالطاعة؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ مأخوذة من قولهم: طريق معبَّد ــــ يعني مذللاً للسالكين ــــ؛ يعني: إن كنتم تعبدونه حقاً فكلوا من رزقه، واشكروا له.

الفوائد:

1 ــــ من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، حيث وجَّه الله الخطاب إلى المؤمنين، فهم أهل لتوجيه الخطاب إليهم؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }.

2 ــــ ومنها: الأمر بالأكل من طيبات ما رزق الله؛ لقوله تعالى: { كلوا من طيبات ما رزقناكم }؛ وهو للوجوب إن كان الهلاك، أو الضرر بترك الأكل.

3 ــــ ومنها: أن الخبائث لا يؤكل منها؛ لقوله تعالى: { من طيبات ما رزقناكم }؛ والخبائث محرمة؛ لقوله تعالى: { ويحرم عليهم الخبائث }.

4 ــــ ومنها: أن ما يحصل عليه المرء من مأكول فإنه من رزق الله؛ وليس للإنسان فيه إلا السبب فقط؛ لقوله تعالى: {ما رزقناكم} [البقرة: 57] .

5 ــــ ومنها: توجيه المرء إلى طلب الرزق من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ما رزقناكم }؛ فإذا كان هذا الرزق من الله سبحانه وتعالى فلنطلبه منه مع فعل الأسباب التي أمرنا بها.

6 ــــ ومنها: وجوب الشكر لله؛ لقوله تعالى: { واشكروا لله }.

7 ــــ ومنها: وجوب الإخلاص لله في ذلك؛ يؤخذ ذلك من اللام في قوله تعالى: { لله }.

8 ــــ ومنها: أن الشكر من تحقيق العبادة؛ لقوله تعالى: { إن كنتم إياه تعبدون }.

9 ــــ ومنها: وجوب الإخلاص لله في العبادة؛ يؤخذ ذلك من تقديم المعمول في قوله تعالى: { إياه تعبدون }.

10 ــــ ومنها: إثبات رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده من وجهين:

أولاً: من أمره إياهم بالأكل من الطيبات؛ لأن بذلك حفظاً لصحتهم.

ثانياً: من قوله تعالى: { ما رزقناكم }؛ فإن الرزق بلا شك من رحمة الله.

11 ــــ ومنها: الرد على الجبرية من قوله تعالى: { كلوا }، و{ اشكروا }، و{ تعبدون }؛ كل هذه أضيفت إلى فعل العبد؛ فدل على أن للعبد فعلاً يوجه إليه الخطاب بإيجاده؛ ولو كان ليس للعبد فعل لكان توجيه الخطاب إليه بإيجاده من تكليف ما لا يطاق.

12 ــــ ومنها: التنديد بمن حرموا الطيبات، كأهل الجاهلية الذين حرموا السائبة، والوصيلة، والحام.



القرآن

{ )إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173)

التفسير:

مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة؛ لأنه لما أمر بالأكل من الطيبات بين ما حرم علينا من الخبائث.

{ 173 } قوله تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة }؛ { إنما } أداة حصر؛ و«الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه؛ فالتحريم محصور في هذه الأشياء؛ والمعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة...؛ و «التحريم» بمعنى المنع؛ ومعنى { حرم عليكم } أي منعكم ــــ أي حرم عليكم أكلها ــــ؛ والدليل أنه حرم أكلها الآية التي قبلها: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172] ؛ ثم قال تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة }؛ فكأنه قال: «كلوا» ثم استثنى فقال: { إنما حرم عليكم الميتة... } أي فلا تأكلوها؛ و{ الميتة } في اللغة ما مات حتف أنفه ــــ يعني بغير فعل من الإنسان ــــ؛ أما في الشرع: فهي ما مات بغير ذكاة شرعية، كالذي مات حتف أنفه؛ أو ذبح على غير اسم الله؛ أو ذبح ولم ينهر الدم؛ أو ذكاه من لا تحل تذكيته، كالمجوسي، والمرتد.

قوله تعالى: { والدم } يعني: وحرم عليكم الدم؛ و «الدم» معروف؛ والمراد به هنا الدم المسفوح دون الذي يبقى في اللحم، والعروق، ودم الكبد، والقلب؛ لقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] .

قوله تعالى: { ولحم الخنزير } أي: وحرم عليكم لحم الخنزير؛ و «الخنزير» حيوان معروف قذر؛ قيل: إنه يأكل العذرات.

قوله تعالى: { وما أهلَّ به لغير الله } يعني: وحرم عليكم ما أهلَّ به لغير الله؛ و«الإهلال» هو رفع الصوت؛ ومنه الحديث: «إذا استهل المولود ورث»(91)؛ والمراد به هنا ما ذكر عليه اسم غير الله عند ذبحه مثل أن يقول: «باسم المسيح»، أو «باسم محمد»، أو «باسم جبريل»، أو «باسم اللات»، ونحو ذلك.

قوله تعالى: { فمن اضطر }: فيها قراءتان: بكسر النون؛ وضمها؛ فأما الكسر فعلى القاعدة من أنه إذا التقى ساكنان كسر الأول منهما؛ وأما الضم فمن أجل الإتباع لضمة الطاء؛ و{ مَن } هنا شرطية؛ و{ اضطر } فعل ماضٍ مبني لما لم يسم فاعله؛ أي ألجأته الضرورة للأكل؛ والضرورة فوق الحاجة؛ فالحاجة كمال؛ والضرورة ضرورية يكون الضرر منها.

قوله تعالى: { غير باغٍ ولا عادٍ } بنصب { غير } على الحال من نائب الفاعل في { اضطر }؛ و «الباغي» الطالب لأكل الميتة من غير ضرورة؛ و «العادي» المتجاوز لقدر الضرورة؛ هذا هو الراجح في تفسيرهما؛ ويؤيده قوله تعالى: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3]؛ والله سبحانه وتعالى أباح لنا الميتة بثلاثة شروط:

1- الضرورة.

2- أن لا يكون مبتغياً – أي طالباً لها -.

3- أن لا يكون متجاوزاً للحد الذي تندفع به الضرورة.

وبناءً على هذا ليس له أن يأكل حتى يشبع إلا إذا كان يغلب على ظنه أنه لا يجد سواها عن قرب؛ وهذا هو الصحيح؛ ولو قيل: بأنه في هذه الحال يأكل ما يسد رمقه، ويأخذ شيئاً منها يحمله معه ــــ إن اضطر إليه أكل، وإلا تركه ــــ لكان قولاً جيداً.

قوله تعالى: { فلا إثم عليه }: هذا جواب { مَن }؛ وقرن بالفاء؛ لأن الجملة اسمية؛ وإذا كان جواب الشرط جملة اسمية وجب قرنها بالفاء؛ وقوله تعالى: { فلا إثم عليه } أي فلا عقوبة عليه، أو فلا جناح.

قوله تعالى: { إن الله غفور رحيم }؛ هذا تعليل للحكم؛ فالحكم انتفاء الإثم؛ والعلة: { إن الله غفور رحيم }؛ { غفور } يحتمل أن تكون صيغة مبالغة - وقد ورد أن من صيغ المبالغة «فعول» - لكثرة مغفرته سبحانه وتعالى، وكثرة من يغفر لهم؛ فالكثرة هنا واقعة في الفعل، وفي المحل؛ في الفعل: كثرة غفرانه لذنوب عباده؛ وفي المحل: كثرة المغفور لهم؛ ويحتمل أن تكون صفة مشبهة؛ و «الغفور» مأخوذ من الغَفْر؛ وهو الستر مع الوقاية؛ وليس الستر فقط؛ ومنه سمي «المغفر» الذي يغطى به الرأس عند الحرب؛ لأنه يتضمن الستر، والوقاية؛ ويدل لذلك قوله تعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة، وحاسبه: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(92).

وقوله تعالى: «الرحيم » صيغة مبالغة، أو صفة مشبهة من الرحمة؛ والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية الفعلية؛ فهي باعتبار أصل ثبوتها لله صفة ذاتية؛ وباعتبار تجدد من يرحمه الله صفة فعلية؛ ولهذا علقها الله سبحانه وتعالى بالمشيئة في قوله تعالى: { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء } [العنكبوت: 21] فهي صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل؛ وأهل التأويل ــــ والأصح أن نسميهم أهل التحريف ــــ يقولون: إن الرحمة غير حقيقية؛ وأن المراد برحمة الله إحسانه؛ أو إرادة الإحسان؛ فيفسرونها إما بالإرادة؛ وإما بالفعل؛ وهذا لا شك أنه خطأ؛ وحجتهم: أنهم يقولون: إن الرحمة رقة، ولين؛ والرقة، واللين لا تناسبان عظمة الخالق سبحانه وتعالى؛ فنقول لهم: إن هذه الرحمة رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق فإنها تليق به سبحانه وتعالى؛ ولا تتضمن نقصاً؛ فهو ذو رحمة بالغة، وسلطان تام؛ فلا يرد بأسه عن القوم المجرمين.

وهنا مسائل تتعلق بالآية:

1 ــــ نجاسةُ الميتة حسيةٌ.

2 ــــ الذي يعيش في البر والبحر يعطى حكم البر تغليباً لجانب الحظر.

3 ــــ بالنسبة لميتة الآدمي ــــ إذا اضطر إليها الإنسان ــــ اختلف فيها أهل العلم ــــ؛ فالمشهور عند الحنابلة أنه لا يجوز أن يأكلها ــــ ولو اضطر ــــ؛ وقالت الشافعية: «إنه يجوز أكلها عند الضرورة» ــــ وهو الصحيح ــــ.

4 ــــ كل المحرمات إذا اضطر إليها، وزالت بها الضرورة كانت مباحة؛ قلنا: «وزالت بها الضرورة» احترازاً مما لا تزول به الضرورة، كما إذا ما اضطر الإنسان إلى أكل سمّ ــــ فلا يجوز أن يأكل ــــ؛ لأنه لا تزول بها ضرورته؛ بل يموت به؛ ولو اضطر إلى شرب خمر لعطش لم يحل له؛ لأنه لا تزول به ضرورته؛ ولذلك لو احتاج إلى شربه لدفع لقمة غص بها حلّ له؛ لأنه تزول به ضرورته.

الفوائد:

1 ــــ من فوائد الآية: تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير لله.

2 ــــ ومنها: أن التحريم والتحليل إلى الله؛ لقوله تعالى: { إنما حرم عليكم }.

3 ــــ ومنها: حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله؛ لقوله تعالى: { إنما }؛ لأنها أداة حصر؛ لكن هذا الحصر قد بُين أنه غير مقصود؛ لأن الله حرم في آية أخرى غير هذه الأشياء: حرم ما ذبح على النصب - وليس من هذه الأشياء -؛ وحرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع(93)، وكل ذي مخلب من الطير(94) - وليس داخلاً في هذه الأشياء -؛ وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية(95) - وليس داخلاً في هذه الأشياء -؛ فيكون هذا الحصر غير مقصود بدلالة القرآن، والسنة.

4 ــــ ومن فوائد الآية: تحريم جميع الميتات؛ لقوله تعالى: { والميتة }؛ و «أل» هذه للعموم إلا أنه يستثنى من ذلك السمك، والجراد ــــ يعني ميتة البحر، والجراد ــــ؛ للأحاديث الواردة في ذلك؛ والمحرم هنا هو الأكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الميتة: «إنما حرم أكلها»(96)؛ ويؤيده أن الله سبحانه وتعالى قال هنا: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 57] ، ثم قال تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة }؛ لأن السياق في الأكل؛ ويدخل في تحريم أكل الميتة جميع أجزائها.

5 ــــ ومن فوائد الآية: تحريم الدم المسفوح؛ لقوله تعالى: { والدم }.

6 ــــ ومنها: تحريم لحم الخنزير؛ لقوله تعالى: { ولحم الخنزير }؛ وهو شامل لشحمه، وجميع أجزائه؛ لأن اللحم المضاف للحيوان يشمل جميع أجزائه؛ لا يختص به جزء دون جزء؛ اللهم إلا إذا قُرن بغيره، مثل أن يقال: «اللحم، والكبد»، أو «اللحم، والأمعاء»، فيخرج منه ما خصص.

7 ــــ ومنها: تحريم ما ذكر اسم غير الله عليه؛ لقوله تعالى: { وما أهل به لغير الله }.

8 ــــ ومنها: تحريم ما ذبح لغير الله ــــ ولو ذكر اسم الله عليه ــــ، مثل أن يقول: «بسم الله والله أكبر؛ اللهم هذا للصنم الفلاني»؛ لأنه أهل به لغير الله.

9 ــــ ومنها: أن الشرك قد يؤثر الخبثَ في الأعيان ــــ وإن كانت نجاسته معنوية ــــ؛ هذه البهيمة التي أَهل لغير الله بها نجسة خبيثة محرمة؛ والتي ذكر اسم الله عليها طيبة حلال؛ تأمل خطر الشرك، وأنه يتعدى من المعاني إلى المحسوسات؛ وهو جدير بأن يكون كذلك؛ لهذا قال الله عز وجل: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] مع أن بدن المشرك ليس بنجس؛ لكن لقوة خبثه المعنوي، وفساد عقيدته وطويته صار مؤثراً حتى في الأمور المحسوسة.

10 ــــ ومن فوائد الآية: فضيلة الإخلاص لله.

11 ــــ ومنها: أن الضرورة تبيح المحظور؛ لقوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}؛ ولكن هذه الضرورة تبيح المحرم بشرطين:

الشرط الأول: صدق الضرورة بحيث لا يندفع الضرر إلا بتناول المحرم.

الشرط الثاني: زوال الضرورة به حيث يندفع الضرر.

فإن كان يمكن دفع الضرورة بغيره لم يكن حلالاً، كما لو كان عنده ميتة ومذكاة، فإن الميتة لا تحل حينئذ؛ لأن الضرورة تزول بأكل المذكاة؛ ولو كان عطشان، وعنده كأس من خمر لم يحل له شربها؛ لأن ضرورته لا تزول بذلك؛ إذا لا يزيده شرب الخمر إلا عطشاً؛ ولهذا لو غص بلقمة، وليس عنده ما يدفعها به إلا كأس خمر كان شربها لدفع اللقمة حلالاً.

12 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات رحمة الله عز وجل؛ لأن من رحمة الله أن أباح المحَرَّمَ للعبد لدفع ضرورته.

13 ــــ ومنها: أن الأعيان الخبيثة تنقلب طيبة حين يحكم الشرع بإباحتها على أحد الاحتمالين؛ فإن حل الميتة للمضطر يحتمل حالين:

الأولى: أن نقول: إن الله على كل شيء قدير؛ فالذي جعلها خبيثة بالموت بعد أن كانت طيبة حال الحياة قادر على أن يجعلها عند الضرورة إليها طيبة، مثل ما كانت الحمير طيبة تؤكل حال حلها، ثم أصبحت بعد تحريمها خبيثة لا تؤكل؛ فالله سبحانه وتعالى هو خالق الأشياء، وخالق صفاتها، ومغيرها كيف يشاء؛ فهو قادر على أن يجعلها إذا اضطر عبده إليها طيبة.

الحال الثانية: أنها ما زالت على كونها خبيثة؛ لكنه عند الضرورة إليها يباح هذا الخبيث للضرورة؛ وتكون الضرورة واقية من مضرتها؛ فتناولها للضرورة مباح؛ وضررها المتوقع تكون الضرورة واقية منه.

والحالان بينهما فرق؛ لأنه على الحال الأولى انقلبت من الرجس إلى الطهارة؛ وعلى الحال الثانية هي على رجسيتها لكن هناك ما يقي مضرتها - وهو الضرورة -؛ وهذه الحال أقرب؛ لأنه لو كان عند الضرورة يزول خبثها لكانت طيبة تحل للمضطر، وغيره؛ ويؤيده الحس: فإن النفس كلما كانت أشد طلباً للشيء كان هضمه سريعاً، بحيث لا يتضرر به الجسم؛ وانظر إلى نفسك إذا أكلت طعاماً على طعام يتأخر هضم الأول، والثاني - مع ما يحصل فيه من الضرر -؛ لكن إذا أكلت طعاماً وأنت جائع فإنه ينهضم بسرعة؛ ويشهد لهذا ما يروى عن صهيب الرومي أنه كان في عينيه رمد؛ فجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر وهو حاضر؛ فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صهيب أن يأكل منه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تأكل تمراً وبك رمد» ـ لأن المعروف أن التمر يزيد في وجع العين - فقال: «إني أمضَغ من ناحية أخرى»(97) أي إذا كانت اليمنى هي المريضة بالرمد أمضغه على الجانب الأيسر؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ومكنه من أكله؛ قال ابن القيم - رحمه الله -: «إن الحكمة في أن الرسول مكنه - مع أن العادة أن هذا ضرر -؛ لأن قوة طلب نفسه له يزول بها الضرر: ينهضم سريعاً، ويتفاعل مع الجسم، ويذهب ضرره».

14 ــــ ومن فوائد الآية: أن من تناول المحرم بدون عذر فهو آثم؛ لقوله تعالى: { فلا إثم عليه }؛ فعُلم منها أن من كان غير مضطر فعليه إثم.

15 ــــ ومن فوائد الآية عند بعض أهل العلم: أن العاصي بسفره لا يترخص؛ لقوله تعالى: { غير باغ ولا عاد فإنهم قالوا: إن المراد بـ«الباغي» الخارج عن الإمام؛ و«العادي» العاصي بسفره؛ وقالوا: إن العاصي بسفره؛ أو الباغي على الإمام لا يترخص بأي رخصة من رخص السفر: فلا يقصر الصلاة، ولا يمسح الخف ثلاثة أيام، ولا يأكل الميتة، ولا يفطر في رمضان؛ وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم تفصيله في كتب الفقه.

تنبيه :

قد يقال إنه يستفاد من إباحة المحرم عند الضرورة: وجوب تناوله؛ لأن المحرم لا ينتهك إلا بواجب؛ وهذه قاعدة ذهب إليها بعض أهل العلم: قال: إن المحرم إذا انتهك فهو دليل على الوجوب، مثلما قالوا في وجوب الختان: فقد أخذ بعض العلماء الوجوب من هذه القاعدة، قالوا: إن الأصل أن قطع الإنسان شيئاً من بدنه حرام؛ والختان قطع شيء من بدنه؛ ولا ينتهك المحرم إلا لشيء واجب؛ فقرروا وجوب الختان من هذه القاعدة؛ ولكنها غير مطردة؛ ولهذا يجوز للمسافر أن يفطر في رمضان؛ والفطر انتهاك محرم مع أن الفطر ليس بواجب.

17 ــــ ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغفور» و «الرحيم» ، وما تضمناه من صفة.

18 ــــ ومنها: إثبات ما ذكره أهل السنة والجماعة من أن أسماء الله سبحانه وتعالى المتعدية يستفاد منها ثبوت تلك الأحكام المأخوذة منها؛ فالأسماء المتعدية تتضمن الاسم، والصفة، والأثر - الذي هو الحكم المترتب عليه -؛ والعلماء يأخذون من مثل هذه الآية ثبوت الأثر - وهو الحكم -؛ لأنه لكونه غفوراً رحيماً غفر لمن تناول هذه الميتة لضرورته، ورحمه بحلها؛ فيكون في هذا دليل واضح على أن أسماء الله عز وجل تدل على «الذات» الذي هو المسمى؛ و«الصفة»؛ و«الحكم»، كما قال بذلك أهل العلم - رحمهم الله -.


تنبيه :

ما أهل به لغير الله أنواع:

النوع الأول: أن يهل بها لغير الله فقط، مثل أن يقول: باسم جبريل، أو محمد، أو غيرهما؛ فالذبيحة حرام بنص القرآن ــــ ولو ذبحها لله ــــ.

النوع الثاني: أن يهل بها لله، ولغيره، مثل أن يقول: «باسم الله واسم محمد»؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لأنه اجتمع مبيح، وحاظر؛ فغلب جانب الحظر.

النوع الثالث: أن يهل بها باسم الله، وينوي به التقرب، والتعظيم لغيره؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لأنه شرك.

وهل يكون ذبح الذبيحة للضيف إهلالاً بها لغير الله؟

الجواب: إن قصد بها إكرام الضيف فلا يدخل بلا شك، كما لو ذبح الذبيحة لأولاده ليأكلوها، وإن قصد بذلك التقرب إليه، وتعظيمه تعظيم عبادة فإنه شرك، كالمذبوح على النصب تماماً، فلا يحل أكلها؛ وقد كان بعض الناس ــــ والعياذ بالله ــــ إذا قدم رئيسهم أو كبيرهم يذبحون بين يديه القرابين تعظيماً له ــــ لا ليأكلها، ثم تترك للناس ــــ؛ وهذا يكون قد ذبح على النصب؛ فلا يحل أكله ــــ ولو ذكر اسم الله عليه ــــ.

النوع الرابع: أن لا يهل لأحد ــــ أي لم يذكر عليها اسم الله، ولا غيره؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا»(98).



القرآن

{)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:174)

التفسير:

{ 174 } قوله تعالى: { إن الذين يكتمون... }: جملة مكونة من { إن } الدالة على التوكيد؛ و{ الذين } اسمها؛ و{ أولئك }: «أولاء» مبتدأ ثانٍ؛ وجملة: { ما يأكلون } خبر المبتدأ الثاني؛ والجملة من المبتدأ، والخبر خبر { إن }.

وقوله تعالى: { يكتمون ما أنزل الله } أي يخفون؛ { من الكتاب }: «أل» إما أن تكون للعهد؛ أو للجنس؛ فإن قلنا: «للعهد» فالمراد بها التوراة؛ ويكون المراد بـ{ الذين يكتمون } اليهود؛ لأنهم كتموا ما علموه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإن قلنا: إن «أل» للجنس، شمل جميع الكتب: التوراة، والإنجيل، وغيرها؛ ويكون { الذين يكتمون } يشمل اليهود، والنصارى، وغيرهما؛ وهذا أرجح لعمومه.

وقوله تعالى: { ما أنزل الله من الكتاب } أي على رسله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} [الحديد: 25] ؛ فكل رسول فإن معه كتاباً من الله عز وجل يهدي به الناس.

قوله تعالى: { ويشترون به } يعني يأخذون بما أنزل الله؛ ويجوز أن يكون الضمير عائداً على الكتم؛ يعني يأخذون بهذا الكتم.

قوله تعالى: { ثمناً قليلاً }: هذا الثمن إما المال؛ وإما الجاه، والرياسة؛ وكلاهما قليل بالنسبة لما في الآخرة.

قوله تعالى: { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار }: الاستثناء هنا مفرغ؛ والإشارة للبعيد لبعد مرتبتهم، وانحطاطها، والتنفير منها.

قوله تعالى: { ولا يكلمهم الله يوم القيامة } يعني لا يكلمهم تكليم رضا؛ فالنفي هنا ليس نفياً لمطلق الكلام؛ ولكنه للكلام المطلق ــــ الذي هو كلام الرضا؛ { ولا يزكيهم } أي لا يثني عليهم بخير.

قوله تعالى: { ولهم عذاب أليم }؛ «فعيل» هنا بمعنى مفعِل؛ و«مؤلم» أي موجع؛ والعذاب هو النكال، والعقوبة.

الفوائد:

1 ــــ من فوائد الآية: وجوب نشر العلم؛ لقوله تعالى: { إن الذين يكتمون }؛ ويتأكد وجوب نشره إذا دعت الحاجة إليه بالسؤال عنه؛ إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال.

2 ــــ ومنها: أن الكتب منزلة من عند الله؛ لقوله تعالى: { ما أنزل الله من الكتاب }.

3 ــــ ومنها: علو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ما أنزل الله }؛ فإن لازم النزول من عنده أن يكون سبحانه وتعالى عالياً.

4 ــــ ومنها: أن هذا الوعيد على من جمع بين الأمرين: { يكتمون }، و{ يشترون }؛ فأما من كتم بدون اشتراء؛ أو اشترى بدون كتم فإن الحكم فيه يختلف؛ إذا كتم بدون اشتراء فقد قال الله سبحانه وتعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة: 159] ؛ وهذا يدل على أن كتمان ما أنزل الله من كبائر الذنوب؛ ولكن لا يستحق ما ذُكر في الآية التي نحن بصدد تفسيرها؛ وأما الذين يشترون بما أنزل الله من الكتاب ثمناً قليلاً بدون كتمان فقد قال الله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 15، 16] .

فالناس في كتمان ما أنزل الله ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من يكتم العلم بخلاً به، ومنعاً لانتفاع الناس به.

والقسم الثاني: من يكتم العلم، ولا يبينه إلا لغرض دنيوي من مال، أو جاه، أو رئاسة، أو غير ذلك.

والقسم الثالث: من يكتم العلم بخلاً به، ولا يبينه إلا لغرض دنيوي؛ فيجمع بين الأمرين؛ وهذا شر الأقسام؛ وهو المذكور في الآية التي نحن بصدد تفسيرها؛ وقد تبين عقوبة كل واحد من هذه الأقسام فيما سبق.

أما من أظهر العلم لله، وتعلم لله، فهذا هو خير الأقسام؛ وهو القسم الرابع الذي يبين بلسانه، وحاله، وقلمه، ما أنزل الله عز وجل؛ والذي يكتم خوفاً إذا كان سيبين في موضع آخر فلا بأس؛ أما الذي يكتم مطلقاً فهذا لا يجوز؛ فيجب أن يبين ولو قُتل ــــ إذا كان يتوقف بيان الحق على ذلك ــــ، كما جرى لبعض أهل السنة الذين صبروا على القتل في بيانها لتعينه عليهم.

5 ــــ ومن فوائد الآية: أن متاع الدنيا قليل ــــ ولو كثر ــــ؛ لقوله تعالى: { ويشترون به ثمناً قليلاً }.

6 ــــ ومنها: إطلاق المسبَّب على السبب؛ لقوله تعالى: { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } هم لا يأكلون النار؛ ولكن يأكلون المال؛ لكنه مال سبب للنار.

7 ــــ ومنها: إقامة العدل في الجزاء؛ لقوله تعالى: { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار }؛ فجعل عقوبتهم من النار بقدر ما أكلوه من الدنيا الذي أخذوه عوضاً عن العلم.

8 ــــ ومنها: إثبات كلام الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ولا يكلمهم الله }؛ لأنه لو كان لا يتكلم لا معهم، ولا مع غيرهم، لم يكن في نفي تكليمه إياهم فائدة؛ فنفيه لتكليمه هؤلاء يدل على أنه يكلم غيرهم؛ وقد استدل الشافعي ــــ رحمه الله ــــ بقوله تعالى: {كلا إنهم} [المطففين: 15] أي الفجار {عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] برؤية الأبرار له؛ لأنه ما حجب هؤلاء في حال السخط إلا لرؤية الأبرار في حال الرضا؛ إذ لو كان لا يُرى مطلقاً لم يكن لذكر حجب الفجار فائدة؛ وكلام الله عز وجل هو الحرف، والمعنى؛ فالله سبحانه وتعالى يتكلم بكلام
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:28 am من طرف ahmadhamad
الاية 175 الي الاية 181
)أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (البقرة:175)

التفسير:

{ 175 } قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }: المشار إليهم: {الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً} [البقرة: 174] ؛ و{ اشتروا } بمعنى اختاروا؛ ولكنه عبر بهذا؛ لأن المشتري طالب راغب في السلعة؛ فكأن هؤلاء ـ والعياذ بالله ـ طالبون راغبون في الضلالة بمنزلة المشتري؛ و{ الضلالة } هنا كتمان العلم؛ فإنه ضلال؛ وأما «الهدى» فهو بيان العلم ونشره.

وقوله تعالى: { بالهدى }: الباء هنا للعوض؛ ويقول الفقهاء: إن ما دخلت عليه الباء هو الثمن؛ سواء كان نقداً، أم عيناً غير نقد؛ فإذا قلت: اشتريت منك ديناراً بثوب، فالثمن الثوب؛ وقال بعض الفقهاء: الثمن هو النقد مطلقاً؛ والصحيح الأول؛ والثمن الذي دفعه هؤلاء هو الهدى؛ فهم دفعوا الهدى - والعياذ بالله - لأخذ الضلالة.

قوله تعالى: { والعذاب بالمغفرة }؛ فهم أيضاً اشتروا العذاب بالمغفرة؛ ولو أنهم بينوا، وأظهروا العلم لَجُوزوا بالمغفرة؛ ولكنهم كتموا، فجُوزوا بالعذاب.

قوله تعالى: { فما أصبرهم على النار }؛ «ما» تعجبية مبتدأ؛ وجملة { أصبرهم } خبرها؛ والمعنى: شيء عظيم أصبرهم؛ أو ما أعظم صبرهم على النار؛ وهذا التعجب يتوجه عليه سؤالان:

السؤال الأول: أهو تعجب من الله أم تعجيب منه؛ بمعنى: أيرشدنا إلى أن نتعجب ـ وليس هو موصوفاً بالعجب؛ أو أنه من الله ـ؟

السؤال الثاني: أن قوله: { فما أصبرهم } يقتضي أنهم يصبرون، ويتحملون مع أنهم لا يتحملون، ولا يطيقون؛ ولهذا يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49] ؛ وينادون: {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77] أي ليهلكنا؛ ومن قال هكذا فليس بصابر؟

والجواب عن السؤال الأول: ـ وهو أهو تعجب، أو تعجيب ـ: فقد اختلف فيه المفسرون؛ فمنهم من رأى أنه تعجب من الله عز وجل؛ لأنه المتكلم به هو الله؛ والكلام ينسب إلى من تكلم به؛ ولا مانع من ذلك لا عقلاً، ولا سمعاً ـ أي لا مانع يمنع من أن الله سبحانه وتعالى يعجب؛ وقد ثبت لله العجب بالكتاب، والسنة؛ فقال الله تعالى في القرآن: {بل عجبتُ ويسخرون} [الصافات: 12] بضم التاء؛ وهذه القراءة سبعية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ والتاء فاعل يعود على الله سبحانه وتعالى المتكلم؛ وأما السنة ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه»(100)؛ وعلى هذا فالعجب لله ثابت بالكتاب، والسنة؛ فلا مانع من أن الله يعجب من صبرهم؛ فإذا قال قائل: العجب يدل على أن المتعجب مباغَت بما تعجب منه؛ وهذا يستلزم أن لا يكون عالماً بالأمر من قبل ـ وهو محال على الله ـ؟

فالجواب: أن سبب العجب لا يختص بما ذكر؛ بل ربما يكون سببه الإنكار على الفاعل، حيث خرج عن نظائره، كما تقول: «عجبت من قوم جحدوا بآيات الله مع بيانها، وظهورها»؛ وهو بهذا المعنى قريب من معنى التوبيخ، واللوم؛ ومن المفسرين من قال: إن المراد بالعجب: التعجيب؛ كأنه قال: اعجب أيها المخاطب من صبرهم على النار؛ وهذا وإن كان له وجه لكنه خلاف ظاهر الآية.

وأما الجواب عن السؤال الثاني:- وهو كيف يتعجب من صبرهم مع أنهم لم يصبروا على النار – فقال أهل العلم: إنهم لما صبروا على ما كان سبباً لها من كتمان العلم صاروا كأنهم صبروا عليها، مثلما يقال للرجل الذي يفعل أشياء ينتقد فيها: ما أصبرك على لوم الناس لك مع أنه ربما لم يلوموه أصلاً؛ لكن فعل ما يقتضي اللوم؛ يصير معنى: { ما أصبرهم على النار } أنهم لما كانوا يفعلون هذه الأفعال الموجبة للنار صاروا كأنهم يصبرون على النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، كما تفيده الآيات الكثيرة، فيعبر بالعمل عن الجزاء؛ لأنه سببه المترتب عليه؛ و{ النار } هي الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين والظالمين؛ لكن الظلم إن كان ظلم الكفر فهم مخلدون فيها؛ وإن كان ظلماً دون الكفر فإنهم مستحقون للعذاب بحسب حالهم.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن سبب ضلال هؤلاء وكتمانهم الحق أنهم لم يريدوا الهدى؛ وإنما أرادوا الضلال والفساد ـ والعياذ بالله ـ؛ لقوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا... } إلخ.

2 ـ ومنها: الرد على الجبرية؛ لإضافة الفعل إلى الفاعل.

3 ـ ومنها: أن كتمان العلم أو بيانه لغرض من الدنيا من الضلال؛ وذلك؛ لأنه جاهل بما يجب على العالم في علمه من النشر، والتبليغ، ولأنه جهل على نفسه، حيث منعها هذا الخير العظيم في نشر العلم؛ لأن من أفضل الأعمال نشر العلم؛ فإنه ـ أعني العلم ـ ليس كالمال؛ المال يفنى؛ والعلم يبقى؛ أرأيت الآن في الصحابة رضي الله عنهم أناس أغنياء أكثر غنًى من أبي هريرة رضي الله عنه وذِكر أبي هريرة بين الخاص والعام الآن أكثر، والثواب الذي يأتيه مما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث أكثر وأعظم؛ ثم أرأيت منزلة الإمام أحمد بن حنبل، ونحوه من الأئمة مع من في عهدهم من الخلفاء، والوزراء، والأغنياء، هل بقي ذكرهم، كما بقي ذكر هؤلاء الأئمة؟!! فكتمان العلم لا شك أنه ضلالة في الإنسان، وجهالة.

4 ـ ومن فوائد الآية: أن عقوبة الله لهم ليست ظلماً منه؛ بل هم الذين تسببوا لها، حيث اشتروا الضلالة بالهدى؛ والله عز وجل ليس بظلام للعبيد.

5 ـ ومنها: أن نشر العلم، وإظهاره، وبيانه من أسباب المغفرة؛ لأنه جعل لهم العذاب في مقابلة الكتمان، واختيارهم العذاب على المغفرة، والضلالة على الهدى؛ فدل ذلك على أن نشر العلم من أسباب مغفرة الذنوب؛ كما أن الذنوب أيضاً تحول بين الإنسان، والعلم، فكذلك كتم العلم يحول بين الإنسان، والمغفرة؛ وقد استدل بعض العلماء بأن الذنوب تحول بين الإنسان، والعلم بقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً * واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 105، 106] ؛ فقال تعالى: {لتحكم} ، ثم قال تعالى: {واستغفر الله} ؛ فدل هذا على أن الاستغفار من أسباب فتح العلم ـ وهو ظاهر ـ؛ وبقوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به} [المائدة: 13] ؛ لأن الذنوب ـ والعياذ بالله ـ رين على القلوب، كما قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14] ؛ فإذا كانت ريناً عليها فإن الاستغفار يمحو هذا الرين، وتبقى القلوب نيرة مدركة واعية.

6 ـ ومن فوائد الآية: إثبات العجب لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { فما أصبرهم على النار } ـ على أحد الاحتمالين ـ؛ وهو من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته؛ وكل صفة من صفات الله تتعلق بمشيئته فهي من الصفات الفعلية.

فإذا قال قائل: ما دليلكم على أن العجب يتعلق بمشيئته؟

فالجواب: أن له سبباً؛ وكل ما له سبب فإنه متعلق بالمشيئة؛ لأن وقوع السبب بمشيئة الله؛ فيكون ما يتفرع عنه كذلك بمشيئة الله.

7 ـ ومنها: توبيخ هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله؛ لقوله تعالى: { فما أصبرهم على النار }؛ وكان الأجدر بهم أن يتخذوا وقاية من النار لا وسيلة إليها.

8 ـ ومنها: الإشارة إلى شدة عذابهم، كما يقال في شخص أصيب بمرض عظيم: «ما أصبره على هذا المرض»، أي أنه مرض عظيم يؤدي إلى التعجب من صبر المريض عليه.



القرآن

{)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176)

التفسير:

{ 176 } قوله تعالى: { ذلك بأن الله نزل الكتاب }: المشار إليه ما ذكر من جزائهم؛ أي ذلك الجزاء الذي يجازون به؛ { بأن }: الباء هنا للسببية؛ والرابط هنا بين السبب، والمسبَّب واضح جداً؛ لأنه ما دام الكتاب نازلاً بالحق فمن اللائق بهذا الكتاب المنزل بالحق أن لا يُكتم؛ الحق يجب أن يبين؛ فلما أخفاه هؤلاء استحقوا هذا العذاب؛ ومعنى: { نزل الكتاب بالحق } أن ما نزل به حق، وأنه نازل من عند الله حقاً؛ و{ الكتاب } المراد به الجنس: القرآن، والتوراة، والإنجيل، وغيرها من الكتب التي أنزلها الله.

قوله تعالى: { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } بكسر همزة { إن } لوقوع اللام في خبرها؛ أي اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله عز وجل بحق؛ وهذا الاختلاف يشمل الاختلاف في أصله: فمنهم من آمن؛ ومنهم من كفر، والاختلافَ فيما بينهم أي فيما بين أحد الطرفين: فمنهم من استقام في تأويله؛ ومنهم من حرف في تأويله على غير مراد الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: { لفي شقاق بعيد } أي: لفي جانب بعيد عن الحق؛ وهذا البعد يختلف: فمنهم من يكون بعيداً جداً؛ ومنهم من يكون دون ذلك.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: إثبات العلل، والأسباب؛ لقوله تعالى: { ذلك بأن }؛ والباء للسببية؛ وقد ذكر بعض أهل العلم أن في القرآن أكثر من مائة موضع كلها تفيد إثبات العلة؛ خلافاً للجبرية ـ الذين يقولون: «إن فعل الله عز وجل ليس لحكمة؛ بل لمجرد المشيئة».

2 ـ ومنها: الثناء على كتب الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { بأن الله نزَّل الكتاب بالحق }.

3 ـ ومنها: ثبوت العلو لله عزّ وجل ؛ لقوله تعالى: { بأن الله نزَّل الكتاب }.

4 ـ ومنها: أن المختلفين في كتب الله لا يزالون في شقاق بعيد لا تتقارب أقوالهم ـ وإن تقاربت أبدانهم.

5 ـ ومنها: أن الاختلاف ليس رحمة؛ بل إنه شقاق، وبلاء؛ وبه نعرف أن ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة»(101) لا صحة له؛ وليس الاختلاف برحمة؛ بل قال الله سبحانه وتعالى: { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } [هود: 118] أي فإنهم ليسوا مختلفين؛ نعم؛ الاختلاف رحمة بمعنى: أن من خالف الحق لاجتهاد فإنه مرحوم بعفو الله عنه؛ فالمجتهد من هذه الأمة إن أصاب فله أجران؛ وإن أخطأ فله أجر واحد؛ والخطأ معفو عنه؛ وأما أن يقال هكذا على الإطلاق: «إن الاختلاف رحمة» فهذا مقتضاه أن نسعى إلى الاختلاف؛ لأنه هو سبب الرحمة على مقتضى زعم هذا المروي!!! فالصواب أن الاختلاف شر.



القرآن

)لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177)

التفسير:

{ 177 } قوله تعالى: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب }: في هذه الآية قراءتان: { ليس البِرَّ }بفتح الراء؛ و{ ليس البِرُّ } بضم الراء؛ فأما على قراءة الرفع فإن { البرُّ } تكون اسم { ليس }، و{ أن تولوا } خبرها؛ وأما على قراءة النصب فتكون { البرَّ } خبر { ليس }، و{ أن تولوا } اسمها مؤخراً؛ يعني تقدير الكلام على الأول: ليس البرُّ توليتَكم وجوهكم؛ والتقدير على الثاني: ليس البرَّ توليتُكم ـ بالرفع.

و «البر» في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي «البَرّ» لسعته، واتساعه؛ ومنه «البَرّ» اسم من أسماء الله، كما قال تعالى: { إنّا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } [الطور: 28] ؛ ومعنى الآية: ليس الخير، أو كثرة الخير، والبركة أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق ـ أي جهة المشرق؛ أي جهة المغرب.

وهذه الآية نزلت توطئة لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ فبين الله عز وجل أنه ليس البر أن يتوجه الإنسان إلى هذا، أو هذا؛ ليس هذا هو الشأن؛ الشأن إنما هو في الإيمان بالله... إلخ؛ أما الاتجاه فإنه لا يكون خيراً إلا إذا كان بأمر الله؛ ولا يكون شراً إلا إذا كان مخالفاً لأمر الله؛ فأيّ جهة توجهتم إليها بأمر الله فهو البر؛ وجاءت الآية بذكر المشرق، والمغرب؛ لأن أظهر، وأبين الجهات هي جهة المشرق، والمغرب.

قوله تعالى: { ولكن البر }: فيها قراءاتان؛ الأولى: { ولكنِ البرُّ } بالرفع؛ وعلى هذا تكون { لكن } مهملة غير عاملة؛ والقراءة الثانية التي في المصحف: { ولكنَّ البرَّ } بتشديد نون { لكنَّ }، فتكون عاملة.

قوله تعالى: { ولكن البر من آمن بالله... }: { البر } عمل؛ و{ من آمن } عامل؛ فكيف يصح أن يكون العامل خبراً عن العمل؟ في هذا أوجه:

الوجه الأول: أن الآية على تقدير مضاف؛ والتقدير: ولكن البر بر من آمن بالله... إلخ.

الوجه الثاني: أن الآية على سبيل المبالغة؛ وليس فيها تقدير مضاف، كأنه جعل المؤمن هو نفس البر، مثلما يقال: «رجل عدل» بمعنى أنه عادل.

الوجه الثالث: أن نجعل { البر } بمعنى البارّ؛ فيكون مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ولكن البارَّ حقيقة القائمَ بالبر من آمن بالله...

وقوله تعالى: { من آمن بالله }؛ تقدم أن «الإيمان» في اللغة بمعنى التصديق؛ لكنه إذا قرن بالباء صار تصديقاً متضمناً للطمأنية، والثبات، والقرار؛ فليس مجرد تصديق؛ ولو كان تصديقاً مطلقاً لكان يقال: آمنه - أي صدقه؛ لكن «آمن به» مضمنة معنى الطمأنينة، والاستقرار لهذا الشيء؛ وإذا عديت باللام - مثل: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] - فمعناه أنها تضمنت معنى الاستسلام والانقياد.

قوله تعالى: { واليوم الآخر }: هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه ليس بعده يوم.

قوله تعالى: { والملائكة } جمع ملَك؛ وهم عالَم غيبي خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، وذللهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم أجسام ذوو عقول؛ لقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [فاطر: 1] ؛ ولقوله تعالى في وصف جبريل: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 ـ 21] .

قوله تعالى: { والكتاب }؛ المراد به الجنس؛ فيشمل كل كتاب أنزله الله عز وجل على كل رسول.

قوله تعالى: { والنبيين } يدخل فيهم الرسل؛ لأن كل رسول فهو نبي، ولا عكس: قال الله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163] .

قوله تعالى: { وآتى } بالمد؛ بمعنى أعطى؛ إذاً هي تنصب مفعولين؛ المفعول الأول: { المال }؛ والمفعول الثاني: قوله تعالى: { ذوي القربى }، وما عطف عليه؛ و(المال): كل عين مباحة النفع سواء كان هذا المال نقداً، أو ثياباً، و طعاماً، أو عقاراً، أو أي شيء.

قوله تعالى: (على حبه) حال من فاعل (آتى)، يعني حال كونه محباً له لحاجته إليه، كالجائع؛ أو لتعلق نفسه به، مثل أن يعجبه جماله، أو قوته، أو ما أشبه ذلك.

قوله تعالى: { ذوي القربى } أي أصحاب القرابة؛ والمراد قرابة المعطي؛ وبدأ بهم قبل كل الأصناف؛ لأن حقهم آكد؛ وقد ذكروا أن القرابة ما جمع بينك وبينهم الجد الرابع.

قوله تعالى: { واليتامى } جمع يتيم؛ وهو من مات أبوه قبل بلوغه من ذكر، أو أنثى؛ فأما من ماتت أمه فليس بيتيم؛ ومن بلغ فليس بيتيم؛ وسمي يتيماً من اليتم؛ وهو الانفراد؛ ولهذا إذا صارت القصيدة جميلة، أو قوية يقولون: هذه الدرة اليتيمة - يعني أنها منفردة ليس لها نظير.

قوله تعالى: { والمساكين } جمع مسكين؛ وهو الفقير؛ سمي بذلك لأن الفقر أسكنه، وأذله؛ والفقر - أعاذنا الله منه - لا يجعل الإنسان يتكلم بطلاقة؛ هذا في الغالب؛ لأنه يرى نفسه أنه ليس على المستوى الذي يمكنه من التكلم؛ ويرى نفسه أنه لا كلمة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»(102).

واعلم أن الفقير بمعنى المسكين؛ والمسكين بمعنى الفقير؛ إلا إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى غير الآخر؛ فالفقير أشد حاجة، كما في آية الصدقة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين...} [التوبة: 60] ؛ لأن الله بدأ به؛ ويُبدأ بالأحق فالأحق، والأحوج فالأحوج في مقام الإعطاء؛ ويجمعهما - أعني الفقير، والمسكين - أن كلاً منهما ليس عنده ما يكفيه وعائلته من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، ومنكح، ومركوب.

قوله تعالى: { وابن السبيل }؛ «السبيل» بمعنى الطريق؛ والمراد بـ { ابن السبيل } الملازم للطريق؛ وهو المسافر؛ والمسافر يكون في حاجة غالباً، فيحتاج إلى من يعطيه المال؛ ولهذا جعل الله له حظاً من الزكاة؛ فابن السبيل هو المسافر؛ وزاد العلماء قيداً؛ قالوا: المسافر المنقطع به السفر ـ أي انقطع به السفر؛ فليس معه ما يوصله إلى بلده؛ لأنه إذا كان معه ما يوصله إلى بلده فليس بحاجة؛ فهو والمقيم على حدٍّ سواء؛ فلا تتحقق حاجته إلا إذا انقطع به السفر.

قوله تعالى: { والسائلين } جمع سائل؛ وهو المستجدي الذي يطلب أن تعطيه مالاً؛ وإنما كان إعطاؤه من البر؛ لأن معطيه يتصف بصفة الكرماء؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه؛ والسائل نوعان؛ سائل بلسان المقال: وهو الذي يقول للمسؤول: أعطني كذا؛ وسائل بلسان الحال: وهو الذي يُعَرِّض بالسؤال، ولا يصرح به، مثل أن يأتي على حال تستدعي إعطاءه.

قوله تعالى: { وفي الرقاب } أي في إعتاق الرقاب، أو فكاكها من الأسر.

قوله تعالى: { وأقام الصلاة } هذه معطوفة على { آمن } التي هي صلة الموصول؛ فيكون التقدير: ومن أقام الصلاة؛ و{ الصلاة } المراد بها الفرض، والنفل؛ وإقامتها الإتيان بها مستقيمة؛ لأن أقام الشيء يعني جعله قائماً مستقيماً؛ وليس المراد بإقامة الصلاة الإعلام بالقيام إليها؛ واعلم أن «الصلاة» من الكلمات التي نقلها الشارع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فمعناها في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: {وصلّ عليهم} [التوبة: 103] أي ادْعُ لهم بالصلاة، فقل: صلى الله عليكم؛ ولكنها في الشرع: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم.

قوله تعالى: { وآتى الزكاة } أي أعطى الزكاة مستحقها؛ و«الزكاة» أيضاً من الكلمات التي نقلها الشرع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فالزكاة في اللغة من زكا يزكو - أي نما، وزاد؛ وبمعنى الصلاح؛ ومنه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 9] أي أصلحها، وقومها؛ لكن في الشرع «الزكاة» هي التعبد ببذل مال واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة؛ وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخُلق وتنمي المال، وتنمي الثواب؛ تنمي الخُلُق بأن يكون الإنسان بها كريماً من أهل البذل، والجود، والإحسان؛ وهذا لا شك من أفضل الأخلاق شرعاً، وعادة؛ وتنمي المال بالبركة، والحماية، والحفظ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»(103)؛ وتزكي الثواب ، كما قال تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } [البقرة: 261] ؛ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله تعالى يأخذها بيمنيه، فيربيها، كما يربي الإنسان فلوه حتى تكون مثل الجبل»(104).

قوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ { إذا } هنا مجردة من الشرطية؛ فهي ظرفية محضة - يعني: الموفون بعهدهم وقت العهد؛ أي في الحال التي يعاهدون فيها؛ فإذا عاهدوا وفوا.

قوله تعالى: { والصابرين }: فيه إشكال من حيث الإعراب؛ لأن الذي قبله مرفوع؛ وهو غير مرفوع؛ يقول بعض العلماء؛ إنه منصوب بفعل محذوف، والتقدير: وأخص الصابرين؛ والبلاغة من هذا أنه إذا تغير أسلوب الكلام كان ذلك أدعى للانتباه؛ فإن الإنسان إذا قرأ الكلام على نسق واحد لم يحصل له انتباه، كما يحصل عند تغير السياق.

و «الصبر» ليس بذل شيء؛ ولكنه تحمل شيء؛ وما سبق كله بذل شيء؛ فهو مختلف من حيث النوع: { من آمن... وأقام... وآتى... } كل هذه أفعال؛ لكن { الصابرين } ليس فعلاً؛ ولكنه تحمُّل.

و«الصبر» في اللغة الحبس؛ ومنه قولهم: فلان قُتل صبراً ـ أي حبساً؛ وأما في الشرع فإنه حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره المؤلمة.

قوله تعالى: { في البأساء والضراء وحين البأس }: { البأساء } شدة الفقر؛ ومنه «البؤس» يعني الفقر؛ و{الضراء }: المرض؛ و{ حين البأس }: شدة القتل؛ فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة، وأمور لا طاقة لهم بها؛ { في البأساء } يعني: في حال الفقر؛ لا يحملهم فقرهم على الطمع في أموال الناس، ولا يشكون أمرهم لغير الله؛ بل يصبرون عن المعصية: لا يسرقون، ولا يخونون، ولا يكذبون، ولا يغشون؛ ولا تحملهم الضراء - المرض، وما يضر أبدانهم - على أن يتسخطوا من قضاء الله وقدره؛ بل هم دائماً يقولون بألسنتهم وقلوبهم: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً؛ كذلك حين البأس يصبرون، ولا يولون الأدبار - وهذا صبر على الطاعة؛ فتضمنت هذه الآية: { الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر عن المعصية؛ وعلى الأقدار المؤلمة؛ وعلى الطاعة؛ والترتيب فيها للانتقال من الأسهل إلى الأشد.

قوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ هذه شهادة من الله عز وجل؛ وهي أعلى شهادة؛ لأنها شهادة من أعظم شاهد سبحانه وتعالى؛ والمشار إليهم كل من اتصف بهذه الصفات؛ والإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو مرتبتهم.

وقوله تعالى: { الذين صدقوا } أي صدقوا الله، وصدقوا عباده بوفائهم بالعهد، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك؛ والصدق هو مطابقة الشيء للواقع؛ فالمخبر بشيء إذا كان خبره موافقاً للواقع صار صادقاً؛ والعامل الذي يعمل بالطاعة إذا كانت صادرة عن إخلاص، واتباع صار عمله صادقاً؛ لأنه ينبئ عما في قلبه إنباءً صادقاً.

قوله تعالى: { وأولئك هم المتقون } أي القائمون بالتقوى؛ و «التقوى» هي اتخاذ الوقاية من عذاب الله عز وجل بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في تعريف التقوى؛ وتأمل كيف جاءت هذه الجملة بالجملة الاسمية المؤكدة؛ الجملة اسمية لدلالتها على الثبوت، والاستمرار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على أنها صفة ملازمة للمتصف بها؛ وهذه الجملة مؤكدة بضمير الفصل: { هم }؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد سبق ذكرها(105).

وقوله تعالى: { وأولئك هم المتقون }: هؤلاء جمعوا بين البر والتقوى؛ البر: بالصدق؛ والتقوى: بهذا الوصف: { أولئك هم المتقون }؛ وإنما قلنا: إن الصدق بر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة»(106)؛ فجمعوا بين البر والتقوى؛ فهذا ما أمر الله به في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] ؛ وكرر الإشارة مرة ثانية من باب التأكيد، والمدح، والثناء كأن كل جملة من هاتين الجملتين مستقلة.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن البر حقيقة هو الإيمان بالله... إلخ؛ والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته:

أما الإيمان بوجوده: فإنه دل عليه الشرع، والحس، والعقل، والفطرة:

أ ـ دلالة الشرع على وجوده سبحانه وتعالى واضحة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب.

ب ـ دلالة الحس: فإن الله سبحانه وتعالى يدعى، ويجيب؛ وهذا دليل حسي على وجوده ـ تبارك وتعالى، كما في سورة الأنبياء، وغيرها من إجابة دعوة الرسل فور دعائهم، كقوله تعالى: {ونوحاً إذا نادى من قبل فاستجبنا له} [الأنبياء: 76] ، وقوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له} [الأنبياء: 83، 84] .

ج ـ دلالة العقل: أنّ ما من حادث إلا وله محدث، كما قال عز وجل: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35] ؛ هذا الكون العظيم بما فيه من النظام، والتغيرات، والأحداث لا بد أن يكون له موجِد مُحدِث يحدث هذه الأشياء ـ وهو الله عز وجل؛ إذ لا يمكن أن تَحدث بنفسها؛ لأنها قبل الوجود عدم؛ والعدم ـ كاسمه لا وجود له؛ ولا يمكن أن يحدثها مخلوق لِما فيها من العظم والعبر.

د ـ دلالة الفطرة: فإن الإنسان لو ترك وفطرته لكان مؤمناً بالله؛ والدليل على هذا قوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] ؛ حتى غير الإنسان مفطور على معرفة الرب عز وجل.

وأما الإيمان بربوبيته: فهو الإيمان بأنه وحده الخالق لهذا الكون المالك له المدبر له؛ وقد دل عليه ما سبق من الأدلة على وجوده؛ وقد أقر بذلك المشركون، كما في قوله تعالى: { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله }؛ إلى غيرها من الآيات الكثيرة.

وأما الإيمان بألوهيته: فهو الإيمان بأنه لا إله في الوجود حق إلا الله عز وجل وكل ما سواه من الآلهة باطلة، كما قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62] ، فالله سبحانه وتعالى هو الإله الحق.

وأما الإيمان بأسمائه، وصفاته: فهو الإيمان بما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، أو أثبتته له رسله من الأسماء والصفات إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل على حد قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ؛ ودليل ذلك قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [الأعراف: 180] ؛ وقوله تعالى: { ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } [النحل: 60] ووجه الدلالة: تقديم الخبر في الآيتين؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.

2 ـ ومن فوائد الآية: أن طاعة الله عز وجل من البر.

3 ـ ومنها: أن الإيمان باليوم الآخر من البر؛ ويشمل كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، والكتب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً.

والإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح، ولهذا يقرن الله سبحانه وتعالى الإيمان باليوم الآخر بالإيمان به تعالى كثيراً لأن نتجية هذا الإيمان أن يقوم العبد بطاعته سبحانه وتعالى؛ فالذي يقول: إنه مؤمن باليوم الآخرة، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة؛ ومقدار نقصها بمقدار ما خالف في الاستعداد؛ كما أنه لو قيل مثلاً لإنسان عنده حَبٌّ: إنه سينزل اليوم مطر، فظلَّل الحَبّ؛ معلوم أن الذي لا يؤمن بهذا الكلام لن يغطيه؛ كذلك لو قيل: سيأتي اليوم عدو، فشدد في الحراسة؛ إذا آمن بأنه سيأتي عدو شدَّد في الحراسة بجميع ما يمكن؛ فإذا لم يشدد في الحراسة علمنا أنه لم يؤمن به.

4 ـ ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالملائكة من البر؛ ويشمل الإيمان بذواتهم، وصفاتهم، وأعمالهم إجمالاً فيما علمناه إجمالاً، وتفصيلاً فيما علمناه تفصيلاً؛ واعلم أن الملائكة - عليهم الصلاة السلام - منهم من عُين لنا، وعرفناه باسمه؛ ومنهم من لم يعين؛ فمن عين لنا وجب علينا أن نؤمن باسمه كما عين، مثل «جبريل» عليه السلام؛ وإسرافيل؛ ومالك - خازن النار -؛ ومنكر ونكير إن صح الحديث بهذا اللفظ(107) - ففيه نظر -؛ وميكائيل؛ وملك الموت - ولكننا لا نعرف اسمه؛ بعض الناس يقولون: عزرائيل؛ ولكن لم يصح هذا؛ وهاروت، وماروت؛ ثم كذلك أعمالهم منهم من علمنا أعماله؛ ومنهم من لم نعلم؛ لكن علينا أن نؤمن على سبيل الإطلاق بأنهم عباد مكرمون، وممتثلون لأمر الله عز وجل، لهم نصيب من تدبير الخلق بإذن الله؛ منهم الموكل بالقطر، والنبات؛ والموكل بالنفخ في الصور؛ وفيهم ملائكة موكلة بالأجنة؛ وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم؛ وملائكة موكلة بحفظ بني آدم؛ كما قال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] ؛ لكن كل هذا بأمر الله عز وجل وبإذنه؛ وليس لهم منازعة لله عز وجل، ولا معاونة في أي شيء من الكون؛ قال الله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 22، 23فنفى جميع ما يتعلق به المشركون: {لا يملكون مثقال ذرة} [سبأ: 22] انفراداً؛ {وما لهم فيهما من شرك} [سبأ: 22] مشاركة؛ {وما له منهم من ظهير} [سبأ: 22] معاونة؛ {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 23] : فنفى الشفاعة، والوساطة إلا بإذنه، ثم قال تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} [سبأ: 23] : وهم الملائكة إذا سمعوا الوحي صعقوا؛ فليس لهم أي شيء في التصرف في الكون؛ لكنهم يمتثلون أمر الله عز وجل.

5 ـ ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالكتب من البر؛ وكيفيته أن نؤمن بأن كل كتاب أنزله الله على أحد من رسله فهو حق: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام؛ ولكننا لا نكلف بالعمل بما فيها فيما جاءت شريعتنا بخلافه؛ واعلم أنه ما من رسول إلا معه كتاب؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] أي مع هؤلاء الرسل، وقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] ؛ فما من رسول إلا معه كتاب؛ والكتب المعروفة لدينا هي التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، والقرآن الكريم؛ وصحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها، فمنهم من قال: إنها غيرها؛ ومنهم من قال: إنها هي؛ وأما ما لم نعلم به فنؤمن به إجمالاً؛ فتقول بقلبك، ولسانك: آمنت بكل كتاب أنزله الله على كل رسول؛ ثم إن المراد أن نؤمن بأن الله أنزل على موسى كتاباً يسمى التوراة؛ وعلى عيسى كتاباً يسمى الإنجيل؛ وعلى داود كتاباً يسمى الزبور؛ أما أن تؤمن بالموجود منها الآن فليس بواجب عليك؛ لأنه محرف، ومغير، ومبدل؛ لكن تؤمن بأن له أصلاً نزل على هؤلاء الرسل.

6 ـ ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالنبيين من البر؛ فنؤمن بكل نبي أوحى الله إليه؛ فمن علمنا منهم نؤمن به بعينه؛ والباقي إجمالاً؛ وقد ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً؛ وأن عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً(108)؛ فإن صح الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به؛ وإن لم يصح فإن الله تعالى يقول: { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [غافر: 78] ؛ ونحن لا نكلف الإيمان إلا بما بلغنا؛ فالذين علمناهم من الرسل يجب علينا أن نؤمن بهم بأعيانهم؛ والذين لم نعلمهم نؤمن بهم إجمالاً، كما قال تعالى: { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } [البقرة: 285] ؛ وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولاً؛ قال تعالى: {ووهبنا له} [الأنعام: 84] أي إبراهيم: {إسحاق ويعقوب كلًّا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلًّا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 84 ـ 86]؛ فهؤلاء ثمانية عشر؛ ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد صلى الله عليه وسلم.

7 ـ ومن فوائد الآية: أن إعطاء المال على حبه من البر؛ وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به وقال: إن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ؛ وعندما سمع أبو طلحة هذه الآية تصدق ببستانه الذي هو أحب شيء إليه من ماله؛ لا لأنه بستانه فقط؛ ولكن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه، ويشرب فيه من ماء طيب، وكان قريباً من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولما نزلت الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «يا رسول الله، إن الله أنزل هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}؛ وإن أحب مالي إليّ «بيرُحاء»؛ وإني أضعها صدقة إلى الله ورسوله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ! بخ! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح! أرى أن تجعله في الأقربين»(109).

8 ـ ومن فوائد الآية: أن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى، والمساكين؛ لأن الله بدأ بهم، فقال تعالى: { وآتى المال على حبه ذوي القربى }؛ فلو سأل سائل: هل الأفضل أن أعطي القرابة، أو اليتامى؟ لقلنا: أعطِ القرابة؛ اللهم إلا إن يكون هناك ضرورة في اليتامى ترجح إعطاءهم؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقديم صلة الرحم على العتق(110)؛ واعلم أن الحكم إذا علق بوصف تختلف أفراده فيه قوة وضعفاً، فإنه يزداد قوة بقوة ذلك الوصف؛ فإذا كان معلقاً بالقرابة فكل من كان أقرب فهو أولى؛ وأقرب الناس إليك، وأحقهم بالبر: أمك، وأبوك.

9 ـ ومن فوائد الآية: أن لليتامى حقاً؛ لأن الله امتدح من آتاهم المال؛ لقوله تعالى: { واليتامى } سواء كانوا فقراء، أم أغنياء.

10 ـ ومنها: إثبات رحمة الله عز وجل، حيث ندب إلى إتيان المال لليتامى، والمساكين؛ لأن هذا لا شك من الرحمة بهم.

11 ـ ومنها: أن لابن السبيل حقاً - ولو كان غنياً في بلده.

12 ـ ومنها: أن إعطاء السائل من البر - وإن كان غنياً؛ لعموم قوله تعالى: { والسائلين }.

فإذا قال قائل: إذا كان مؤتي المال للسائلين من أهل البر فكيف يتفق، والتحذير من سؤال الناس؟

فالجواب: أنه لا معارضة؛ لأن الجهة منفكة؛ فالممدوح: المعطي؛ والمحذَّر: السائل المعطى؛ فإذا انفكت الجهة فلا تعارض؛ فلو رأيت مبتلى بهذه المهنة - وهي مهنة سؤال الناس - فأعطه إذا سألك، ثم انصحه، وحذره؛ لتكون مؤتياً للمال، وناصحاً للسائل؛ لأن بعض الناس - والعياذ بالله - نعلم علم اليقين - أو يغلب على الظن المؤكد - أنه غني؛ وإنما سأل الناس تكثراً؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: «من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فليستقل، أو ليستكثر»(111)؛ وأنه «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم»(112).

13 ـ ومن فوائد الآية: أن إعتاق الرقاب من البر؛ لقوله تعالى: { وفي الرقاب }؛ والمال المبذول في الرقاب لا يعطى الرقبة؛ وإنما يعطى مالك الرقبة؛ فلهذا أتى بـ { في } الدالة على الظرفية؛ والرقاب ذكر أهل العلم أنها ثلاثة أنواع:

أ ـ عبد مملوك تشتريه، وتعتقه.

ب ـ مكاتب اشترى نفسه من سيده، فأعنته في كتابته.

ج ـ أسير مسلم عند الكفار، فافتديته؛ وكذلك لو أسر عند غير الكفار، مثل الذين يختطفون الآن ـ والعياذ بالله؛ إذا طلب المختطفون فدية فإنه يفك من الزكاة؛ لأن فيها فك رقبة من القتل.

14 ـ ومنها: أن إقامة الصلاة من البر؛ لقوله تعالى: { وأقام الصلاة }.

15 ـ ومنها: أن إيتاء الزكاة للمستحقين لها من البر.

16 ـ ومنها: الثناء على الموفين بالعهد، وأن الوفاء به من البر؛ والعهد عهدان: عهد مع الله عز وجل؛ وعهد مع الخلق.

فالعهد الذي مع الله بينه بقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172] ، وقوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [المائدة: 12] ، وقوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40] ؛ فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به رباً، فنرضى بشريعته؛ بل بأحكامه الكونية، والشرعية؛ هذا العهد الذي بيننا، وبين ربنا.

أما العهد الذي بيننا، وبين الناس فأنواعه كثيرة جداً غير محصورة؛ منها العقود، مثل عقد البيع، وعقد الإجارة، وعقد الرهن، وعقد النكاح، وغير ذلك؛ لأنك إذا عقدت مع إنسان التزمت بما يقتضيه ذلك العقد؛ إذاً فكل عقد فهو عهد؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ، وقال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34] ؛ ومن العهود بين الخلق؛ ما يجري بين المسلمين وبين الكفار؛ وهو ثلاثة أنواع: مؤبد؛ ومقيد؛ ومطلق؛ فأما المؤبد فلا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الجهاد؛ وأما المقيد فبحسب الحاجة ـ وإن طالت المدة على القول الراجح ـ لأنه عهد دعت إليه الحاجة؛ فيتقيد بقدرها؛ وقيل: لا تجوز الزيادة فيه على عشرة سنوات؛ لأن الأصل وجوب قتال الكفار، وأبيح العهد في عشر سنوات تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية؛ والصحيح الأول؛ ويجاب عن عهد الحديبية بأن الحادثة لا تقتضي الزيادة؛ وأما المطلق فهو الذي لم يؤبد، ولم يحدد؛ وهو جائز على القول الراجح عند الحاجة إليه؛ فمتى وجد المسلمون الحاجة إليه عقدوه؛ وإذا زالت الحاجة عاملوا الكفار بما تقتضيه الحال؛ ولا حجة للكفار فيه؛ لأنه مطلق.

والمعاهدون من الكفار لهم ثلاث حالات؛ الحال الأولى: أن يستقيموا لنا؛ الحالة الثانية: أن يخونوا؛ الحال الثالثة: أن نخاف منهم الخيانة؛ فإن استقاموا لنا وجب علينا أن نستقيم لهم؛ ولا يمكن أن نخون أبداً؛ لقوله تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) [التوبة: 7]؛ وإن خانوا انقض عهدهم، ووجب قتالهم؛ لقوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) [التوبة: 12]؛ وإن خفنا منهم الخيانة وجب أن ننبذ إليهم عهدهم على سواء؛ لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58] : نخبرهم أن لا عهد بيننا ليكونوا على بصيرة؛ ومن العهد أيضاً ما يقع بين الإنسان وبين غيره من الالتزامات غير العقود، مثل الوعد؛ فإن الوعد من العهد؛ ولهذا اختلف أهل العلم هل يجب الوفاء بالوعد، أو لا يجب؛ والصحيح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجب الوفاء بالوعد؛ لأنه داخل في العهد، ولأن إخلاف الوعد من علامات النفاق؛ وإذا كان كذلك فلا يجوز للمؤمن أن يتحلى بأخلاق المنافقين.

17 ـ ومن فوائد الآية: أن الصبر من البر؛ وهو ثلاثة أنواع:

الأول: الصبر على طاعة الله ، بأن يتحمل الصبر على الطاعة من غير ضجر، ولا كراهة.

الثاني: الصبر عن معصية الله ، بأن يحمل نفسه على الكف عن معصية الله إذا دعته نفسه إليها.

الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة التي لا تلائم الطبيعة بأن لا يتسخط من المقدور، ولا يتضجر؛ بل يحبس نفسه عن ذلك: قال الله تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 ـ 157] .

وأعلى هذه الأنواع: الصبر على طاعة الله؛ لأن فيه تحملاً، ونوعاً من التعب بفعل الطاعة؛ ثم الصبر عن المعصية؛ لأن فيه تحملاً، وكفاً عن المعصية؛ والكف أهون من الفعل؛ ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة، لأنه على شيء لا اختيار للعبد فيه، ولهذا قيل: «إمّا أن تصبر صبر الكرام، وإمّا أن تسلوَ سلوّ البهائم».

18 ـ ومن فوائد الآية: أن ما ذُكر هو حقيقة الصدق مع الله، ومع الخلق؛ لقوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ فصدقهم مع الله، حيث قاموا بهذه الاعتقادات النافعة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين؛ وأنهم أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وبذلوا المحبوب في هذه الجهات؛ وأما صدقهم مع الخلق يدخل في قوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ وهذا من علامات الصدق؛ ولهذا قال تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ فصدقوا في اعتقاداتهم، وفي معاملاتهم مع الله، ومع الخلق.

19 ـ ومن فوائد الآية أن ما ذكر من تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { وأولئك هم المتقون }؛ وسبق أنها إذا جمعت مع البر صارت التقوى ترك المحرمات، وصار البر فعل المأمورات؛ وإذا افترقا دخل أحدهما في الآخر؛ وفي هذه الآية قال تعالى: { وأولئك هم المتقون } مع أنهم قائمون بالبر؛ فدل هذا على أن القيام بالبر من التقوى؛ لأن حقيقة الأمر أن القائم بالبر يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله.

20 ـ ومنها: أن هؤلاء فقط هم المتقون؛ ونفهم ذلك من الحصر وطريقه هنا أمران:

أ ـ تعريف طرفي الجملة.

ب ـ ضمير الفصل.

تنبيه:

ظاهر الآية الكريمة العموم في إتيان المال لهؤلاء المذكورين في الآية: القرابة، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب؛ فظاهر الآية العموم للمسلمين، والكافرين؛ لكنه غير مراد؛ بل هي خاصة بالمسلم؛ وأما الكافر فلا بأس من بره، والإحسان إليه بشرط أن يكون ممن لا يقاتلوننا في ديننا، ولم يخرجونا من ديارنا؛ لقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8] ؛ وعلى هذا فإذا كان الكافر يقاتلنا بنفسه بأن يكون هذا الرجل المعين مقاتلاً، أو يقاتلنا حكماً، مثل أن يكون من دولة تقاتل المسلمين فإنه لا يجوز بره، ولا إعطاؤه المال؛ لأنه مستعد حكماً للقتال: إذا أمرته دولته بقتال فإنه يلبي؛ وما دام حرباً للمسلمين فإنه يريد إعدام المسلمين، وليس أهلاً للإحسان إليه.



القرآن

{)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:178)

التفسير:

{ 178 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } سبق الكلام على ذكر فوائد تصدير الخطاب بالنداء بوصف الإيمان للمنادى.

قوله تعالى: { كتب عليكم }؛ أي فُرض، كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام }؛ وسمي الفرض مكتوباً؛ لأن الكتابة تثَبِّت الشيء، وتوثقه؛ قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282].

قوله تعالى: { القصاص } هذه نائب فاعل؛ والقصاص يشمل إزهاق النفس، وما دونها؛ قال الله تعالى في سورة المائدة: {والجروح قصاص} [المائدة: 45] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كسر الربيع سن جارية من الأنصار: «كتاب الله القصاص»(113)؛ ولكنه تعالى هنا قال: { في القتلى }؛ وفي سورة المائدة: في القتل، وفيما دونه: {أن النفس بالنفس والعين بالعين...} [المائدة: 45] إلخ.

و «قتلى» جمع قتيل، مثل «جرحى» جمع جريح؛ و«أسرى» جمع أسير؛ وقوله تعالى: { في القتلى } أي في شأن القتلى؛ وليس في القتلى أنفسهم؛ لأن القتيل مقتول؛ فلا قصاص؛ لكن في شأنهم؛ والذي يُقتص منه هو القاتل.

وبعد العموم في قوله تعالى: { القصاص في القتلى } بدأ بالتفصيل فقال تعالى: { الحر بالحر }؛ { الحر مبتدأ؛ و{ بالحر } خبر؛ يعني الحر يقتل بالحر؛ والباء هنا إما للبدلية؛ وإما للعوض؛ يعني الحر بدل الحر؛ أو الحر عوض الحر؛ و{ الحر } هو الذي ليس بمملوك.

قوله تعالى: { والعبد بالعبد } أي العبد يقتل بالعبد؛ و{ العبد } هو المملوك.

قوله تعالى: { والأنثى بالأنثى } أي الأنثى تقتل بالأنثى.

قوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف }؛ «مَن» هذه شرطية؛ والفاء عاطفة ومفرِّعة أيضاً، تفيد أن ما بعدها مفرَّع على ما قبلها.

وقوله تعالى: { فمن عفي له }: المعفو عنه القاتل؛ و{ من أخيه } المراد به المقتول ـ أي من دم أخيه فأيّ قاتل عفي له من دم أخيه شيء سقط القصاص؛ وحينئذ على العافي اتباع بالمعروف عند قبض الدية، بحيث لا يتبع عفوه منًّا، ولا أذًى؛ و{ شيء } نكرة في سياق الشرط؛ فتعم كل شيء قليلاً كان، أو كثيراً.

وقوله تعالى: { فاتباع } خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالواجب اتباع بالمعروف؛ والاتباع بالمعروف يكون على ورثة المقتول؛ يعني إذا عفوا فعليهم أن يَتَّبعوا القاتل بالمعروف.

قوله تعالى: { وأداء إليه } أي على القاتل إيصال إلى العافي عن القصاص؛ وهي معطوفة على «اتباع» ؛ والضمير في { إليه } يعود إلى العافي بإحسان؛ والمؤدَّى: ما وقع الاتفاق عليه.

قوله تعالى: { بإحسان } أي يكون الأداء بإحسان وافياً بدون مماطلة؛ والباء للمصاحبة - يعني أداءً مصحوباً بالإحسان - وإنما نص على «الإحسان» هنا؛ و «المعروف» هناك؛ لأن القاتل المعتدي لا يكفّر عنه إلا الإحسان ليكون في مقابلة إساءته؛ أما أولئك العافون فإنهم لم يجنوا؛ بل أحسنوا حين عدلوا عن القتل إلى الدية.

قوله تعالى: [ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة }: المشار إليه كل ما سبق من وجوب القصاص، ومن جواز العفو؛ تخفيف من الله في مقابل وجوب القصاص؛ وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن بني إسرائيل فرض الله عليهم القصاص فرضاً؛ وهذه الأمة خفف عنها؛ فلم يجب عليها القصاص؛ لأن الإنسان قد يكون لديه رحمة بالقاتل؛ وقد يكون القاتل من أقاربه؛ وقد يكون اعتبارات أخرى فلا يتمكن من تنفيذ القصاص في حقه؛ فخفف على هذه الأمة - ولله الحمد.

وقوله تعالى: { من ربكم }: «الرب» معناه الخالق المالك المدبر لخلقه كما يشاء على ما تقتضيه حكمته.

وقوله تعالى: [ ورحمة } أي بالجميع: بالقاتل - حيث سقط عنه القتل، وبأولياء المقتول - حيث أبيح لهم أن يأخذوا العوض؛ لأن من الجائز أن يكون الواجب إما القصاص؛ أو العفو مجاناً؛ لكن من رحمة الله أنه أباح هذا، وهذا؛ فهو رحمة بالجميع.

قوله تعالى: { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم }: { من } اسم شرط؛ وفعل الشرط:
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:30 am من طرف ahmadhamad
الاية 182 الي الاية 195

مَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:182)

التفسير:

{ 182 } قوله تعالى: { فمن خاف }: { من } شرطية؛ و{ خاف } فعل الشرط؛ وقوله تعالى: { فلا إثم عليه } جواب الشرط.

وقوله تعالى: { فمن خاف من موصٍ } أي من توقع، أو اطلع.

قوله تعالى: { جنفاً أو إثماً }: «الجنف» الميل عن غير قصد؛ و «الإثم» الميل عن قصد.

قوله تعالى: { فأصلح بينهم } أي فعَل صالحاً؛ أي حول الأمر إلى شيء صالح؛ وليس المعنى: أصلح الشقاق؛ لأنه قد لا يكون هناك شقاق؛ هذا القول وإن كان له وجهة نظر؛ لكن كلمة: { بينهم } تدل على أن المراد إصلاح الشقاق؛ إذ إن البينية لا تكون إلا بين شيئين؛ فعلى الوجه الأول يكون المراد بالإصلاح إزالة الفساد؛ وعلى الوجه الثاني يكون الإصلاح فيها إزالة الشقاق؛ لأن الغالب إذا أراد الوصي أن يغير الوصية بعد موت الموصي أن يحصل شقاق بينه، وبين الورثة؛ أو بينه، وبين الموصى له.

قوله تعالى: { فلا إثم عليه } أي فلا عقوبة؛ وهذا كالمستثنى من قوله تعالى: { فمن بدله بعد ما سمعه و{ لا } نافية للجنس تعم القليل، والكثير.

قوله تعالى: { إن الله غفور رحيم } جملة تعليلية للحكم؛ وقد سبق الكلام على هذين الاسمين الكريمين.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن من خاف جوراً أو معصية من موصٍ فإنه يصلح؛ وهذا يشمل ما إذا كان قبل موت الموصي، أو بعده؛ مثاله قبل موت الموصي: أن يستشهد الموصي، أو يستكتب شخصاً لوصيته، فيجد فيها جوراً، أو معصية، فيصلح ذلك؛ ومثاله بعد موته: أن يُطَّلع على وصية له تتضمن ما ذُكر فتُصْلح؛ مثال ذلك أن يوصي لوارث، فيُطَّلع على ذلك بعد موته، فتُصْلح الوصية إما باستحلال الوارث الرشيد؛ وإما بإلغائها إذا لم يمكن.

2 ـ ومن فوائد الآية: رفع الإثم عن الوصي إذا أصلح لخوفه جنفاً، أو إثماً.

3 ـ ومنها: فضيلة الإصلاح؛ لقوله تعالى: { فأصلح بينهم }؛ فإن في الإصلاح درء الإثم عن الموصي، وإزالة العداوة، والشحناء بين الموصى إليهم والورثة.

4 ـ ومنها: أنه قد يعبر بنفي الإثم، أو نفي الجناح دفعاً عن توهمه؛ وعليه فلا ينافي المشروعية، كما في قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوَّف بهما} [البقرة: 158ولما كان تبديل الوصية إثماً نفى الله الإثم عمن أصلح؛ ثم تعود المسألة إلى القواعد العامة التي مقتضاها وجوب الإصلاح، ورفع الجنف، والإثم.

5 ـ ومنها: أن تغيير الوصية لدفع الإثم جائز؛ بل هو واجب بدليل آخر؛ وأما تغيير الوصية لما هو أفضل ففيه خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إنه لا يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {فمن بدله بعد ما سمعه} [البقرة: 181] ؛ ولم يستثن إلا ما وقع في إثم فيبقى الأمر على ما هو عليه لا يغير؛ ومنهم من قال: بل يجوز تغييرها إلى ما هو أفضل؛ لأن الغرض من الوصية التقرب إلى الله عز وجل، ونفع الموصى له، فكلما كان أقرب إلى الله، وأنفع للموصى له كان أولى أيضاً؛ والموصي بشر قد يخفى عليه ما هو الأفضل؛ وقد يكون الأفضل في وقت ما غير الأفضل في وقت آخر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز تحويل النذر إلى ما هو أفضل مع وجوب الوفاء به؛ فالرجل الذي جاء إليه، وقال: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «صلِّ ها هنا» فأعاد عليه فقال: « صل ها هنا » فأعاد الثالثة فقال صلى الله عليه وسلم: «شأنك إذاً»(121)؛ والذي أرى في هذه المسألة أنه إذا كانت الوصية لمعين فإنه لا يجوز تغييرها، كما لو كانت الوصية لزيد فقط؛ أو وقف وقفاً على زيد فإنه لا يجوز أن يغير لتعلق حق الغير المعين به؛ أما إذا كانت لغير معين - كما لو كانت لمساجد، أو لفقراء - فلا حرج أن يصرفها لما هو أفضل.

6 ـ ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغفور» و «الرحيم» ؛ وما تضمناه من وصف، وحكم.



القرآن

{ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)

التفسير:

{ 183 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } سبق الكلام عليها.

قوله تعالى: { كتب عليكم الصيام } أي فُرض؛ والذي فَرضه هو الله سبحانه وتعالى؛ و{ الصيام } نائب فاعل مرفوع؛ وهو في اللغة الإمساك؛ ومنه قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم: 26] يعني إمساكاً عن الكلام بدليل قولها: {فلن أكلم اليوم إنسياً} [مريم: 26] ؛ وأما في الشرع فإنه التعبد لله بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

قوله تعالى: { كما كتب }؛ «ما» مصدرية؛ والكاف حرف جر؛ وتفيد التشبيه؛ وهو تشبيه للكتابة بالكتابة، وليس المكتوب بالمكتوب؛ والتشبيه بالفعل دون المفعول أمر مطرد، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر»(122): التشبيه هنا للرؤية بالرؤية؛ لا للمرئي بالمرئي؛ لأن الكاف دخلت على الفعل الذي يؤول إلى مصدر.

قوله تعالى: { على الذين من قبلكم } ـ أي من الأمم السابقة ـ يعم اليهود، والنصارى، ومن قبلهم؛ كلهم كتب عليهم الصيام؛ ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت، والمدة.

وهذا التشبيه فيه فائدتان:

الفائدة الأولى: التسلية لهذه الأمة حتى لا يقال: كلفنا بهذا العمل الشاق دون غيرنا؛ لقوله تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39] يعني لن يخفف عنكم العذابَ اشتراكُكم فيه - كما هي الحال في الدنيا: فإن الإنسان إذا شاركه غيره في أمر شاق هان عليه؛ ولهذا قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:

[ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي] [وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي] الفائدة الثانية: استكمال هذه الأمة للفضائل التي سبقت إليها الأمم السابقة؛ ولا ريب أن الصيام من أعظم الفضائل؛ فالإنسان يصبر عن طعامه، وشرابه، وشهوته لله عز وجل؛ ومن أجل هذا اختصه الله لنفسه، فقال تعالى: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي»(123).

قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ «لعل» للتعليل؛ ففيها بيان الحكمة من فرض الصوم؛ أي تتقون الله عز وجل؛ هذه هي الحكمة الشرعية التعبدية للصوم؛ وما جاء سوى ذلك من مصالح بدنية، أو مصالح اجتماعية، فإنها تبع.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أهمية الصيام؛ لأن الله تعالى صدره بالنداء؛ وأنه من مقتضيات الإيمان؛ لأنه وجه الخطاب إلى المؤمنين؛ وأنّ تركه مخل بالإيمان.

2 ـ ومنها: فرضية الصيام؛ لقوله تعالى: { كتب }.

3 ـ ومنها: فرض الصيام على من قبلنا من الأمم؛ لقوله تعالى: { كما كتب على الذين من قبلكم }.

4 ـ ومنها: تسلية الإنسان بما ألزم به غيره ليهون عليه القيام به؛ لقوله تعالى: { كما كتب على الذين من قبلكم}

5 ـ ومنها: استكمال هذه الأمة لفضائل من سبقها، حيث كتب الله عليها ما كتب على من قبلها لتترقى إلى درجة الكمال كما ترقى إليها من سبقها.

6 ـ ومنها: الحكمة في إيجاب الصيام؛ وهي تقوى الله؛ لقوله تعالى: { لعلكم تتقون }.

7 ـ ومنها: فضل التقوى، وأنه ينبغي سلوك الأسباب الموصلة إليها؛ لأن الله أوجب الصيام لهذه الغاية؛ إذاً هذه الغاية غاية عظيمة؛ ويدل على عظمها أنها وصية الله للأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131] .

ويتفرع على هذه الفائدة اعتبار الذرائع؛ يعني ما كان ذريعة إلى الشيء فإن له حكم ذلك الشيء؛ فلما كانت التقوى واجبة كانت وسائلها واجبة؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يبتعد عن مواطن الفتن: لا ينظر إلى المرأة الأجنبية؛ ولا يكلمها كلاماً يتمتع به معها؛ لأنه يؤدي إلى الفتنة، ويكون ذريعة إلى الفاحشة؛ فيجب اتقاء ذلك؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من سمع بالدجال أن يبتعد عنه حتى لا يقع في فتنته(124).

8- ومن فوائد الآية: حكمة الله سبحانه وتعالى بتنويع العبادات؛ لأننا إذا تدبرنا العبادات وجدنا أن العبادات متنوعة؛ منها ما هو مالي محض؛ ومنها ما هو بدني محض؛ ومنها ما هو مركب منهما: بدني، ومالي؛ ومنها ما هو كفّ ـ ليتم اختبار المكلف؛ لأن من الناس من يهون عليه العمل البدني دون بذل المال؛ ومنهم من يكون بالعكس؛ ومن الناس من يهون عليه بذل المحبوب؛ ويشق عليه الكف عن المحبوب ومنهم من يكون بالعكس؛ فمن ثَم نوَّع الله سبحانه وتعالى بحكمته العبادات؛ فالصوم كف عن المحبوب قد يكون عند بعض الناس أشق من بذل المحبوب؛ ومن العجائب في زمننا هذا أن من الناس من يصبر على الصيام، ويعظمه؛ ولكن لا يصبر على الصلاة، ولا يكون في قلبه من تعظيم الصلاة ما في قلبه من تعظيم الصيام؛ تجده يصوم رمضان لكن الصلاة لا يصلي إلا من رمضان إلى رمضان ـ إن صلى في رمضان؛ وهذا لا شك خطأ في التفكير؛ لكن الصلاة حيث إنها تتكرر كل يوم صار هيناً على هذا الإنسان تركها؛ والصوم يكون عنده تركه صعباً؛ ولهذا إذا أرادوا ذم إنسان قالوا: إنه لا يصوم، ولا يصلي ـ يبدؤون بالصوم.



القرآن

{)أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:184)

التفسير:

{ 184 } قوله تعالى: { أياماً } مفعول لقوله تعالى: {الصيام} [البقرة: 183] ؛ لأن الصيام مصدر يعمل عمل فعله ـ أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات؛ و{ أياماً }: نكرة؛ والنكرة تفيد القلة، وتفيد الكثرة، وتفيد العظمة، وتفيد الهون ـ بحسب السياق؛ لما قرنت هنا بقوله تعالى: { معدودات } أفادت القلة؛ يعني: هذا الصيام ليس أشهراً؛ ليس سنوات؛ ليس أسابيع؛ ولكنه أيام معدودات قليلة؛ و{ معدودات } من صيغ جمع القلة؛ لأن جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم من صيغ جمع القلة؛ يعني: فهي أيام قليلة.

قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } كالاستثناء من قوله تعالى: {كتب عليكم} [البقرة: 183] ؛ لأن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم} [البقرة: 183] يشمل المريض، والمسافر، والقادر، والعاجز.

و{ من } شرطية؛ و{ كان } فعل الشرط؛ وجملة: { فعدة من أيام أخر } جواب الشرط؛ و «عدة» مبتدأ، والخبر محذوف؛ والتقدير: فعليه عدة؛ ويجوز أن تكون «عدة» خبراً، والمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالواجب عدة؛ أو فالمكتوب عدة.

وقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً } يعني مرضاً يشق به الصوم؛ أو يتأخر به البرء؛ أو يفوت به العلاج، كما لو قال له الطبيب: خذ حبوباً كل أربع ساعات، وما أشبه ذلك؛ ودليل التخصيص بمرض يشق به الصوم ما يُفهم من العلة.

وقوله تعالى: { أو على سفر } أي السفر المبيح للفطر؛ والحكمة في التعبير بقوله: { على سفر } - والله أعلم أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام، ويباح له الفطر؛ لأنه على سفر، وليست نيته الإقامة، كما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فإنه أقام في مكة تسعة عشر يوماً وهو يقصر الصلاة(125)، وأفطر حتى انسلخ الشهر(126).

وقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر } أي أيام مغايرة.

قوله تعالى: { وعلى الذين يطيقونه } أي يستطيعونه، وقال بعض أهل العلم: { يطيقونه } أي يطوَّقونه؛ أي يتكلفونه، ويبلغ الطاقة منهم حتى يصبح شاقاً عليهم؛ وقال آخرون: إن في الآية حذفاً؛ والتقدير: وعلى الذين لا يطيقونه فدية؛ وكلاهما ضعيف؛ والثاني أضعف؛ لأن هذا القول يقتضي تفسير المثبت بالمنفي؛ وتفسير الشيء بضده لا يستقيم؛ وأما القول الأول منهما فله وجه؛ لكن ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع يدل على ضعفه: «أنه أول ما كتب الصيام كان الإنسان مخيراً بين أن يصوم؛ أو يفطر، ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن...}»(127)؛ وكذلك ظاهر الآية يدل على ضعفه؛ لأن قوله بآخرها: { وأن تصوموا خير لكم } يدل على أنهم يستطيعون الصيام، وأنه خوطب به من يستطيع فيكون ظاهر الآية مطابقاً لحديث سلمة؛ وهذا هو القول الراجح أن معنى { يطيقونه}: يستطيعونه.

قوله تعالى: { فدية } مبتدأ مؤخر خبره: { على الذين يطيقونه }؛ و{ فدية } أي فداء يفتدي به عن الصوم؛ والأصل أن الصوم لازم لك، وأنك مكلف به، فتفدي نفسك من هذا التكليف والإلزام بإطعام مسكين.

قوله تعالى: { طعام مسكين } عطف بيان لقوله تعالى: { فدية } أي عليهم لكل يوم طعام مسكين؛ وليس المعنى طعام مسكين لكل شهر؛ بل لكل يوم؛ ويدل لذلك القراءة الثانية في الآية: { طعام مساكين } بالجمع؛ فكما أن الأيام التي عليه جمع، فكذلك المساكين الذين يطعَمون لا بد أن يكونوا جمعاً.

وفي قوله تعالى: { فدية طعام مساكين } ثلاث قراءات؛ الأولى: { فديةُ طعامِ مساكينَ } بحذف التنوين في {فديةُ }؛ وبجر الميم في { طعام }؛ و{ مساكينَ } بالجمع، وفتح النون بلا تنوين؛ الثانية: { فديةٌ طعامُ مسكينٍ}؛ بتنوين { فديةٌ } مع الرفع؛ و{ طعامُ } بالرفع؛ و{ مسكينٍ } بالإفراد، وكسر النون المنونة؛ الثالثة: { فديةٌ طعامُ مساكينَ }؛ بتنوين { فديةٌ } مع الرفع؛ و{ طعامُ } بالرفع؛ و{ مساكينَ } بالجمع، وفتح النون بلا تنوين.

وقوله تعالى: { طعام مسكين }؛ المراد بالمسكين من لا يجد شيئاً يكفيه لمدة سنة؛ فيدخل في هذا التعريف الفقير؛ فإذا مر بك المسكين فهو شامل للفقير؛ وإذا مر بك الفقير فإنه شامل للمسكين؛ أما إذا جمعا فقد قال أهل العلم: إن بينهما فرقاً: فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة؛ وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة.

وقوله تعالى: { فمن تطوع خيراً }؛ { تطوع } فعل الشرط؛ وجوابه جملة: { فهو خير له }؛ وقوله تعالى: { خيراً } منصوب على أنه مفعول مطلق؛ والتقدير: فمن تطوع تطوعاً خيراً؛ أي فمن فعل الطاعة على وجه خير فهو خير له؛ ويحتمل أن تكون { خيراً } مفعولاً لأجله؛ والمعنى: فمن تطوع يريد خيراً؛ والمراد على كلا التقديرين واحد؛ يعني: فمن فعل الطاعة يقصد بها الخير فهو خير له؛ ومعلوم أن الفعل لا يكون طاعة إلا إذا كان موافقاً لمرضاة الله عز وجل بأن يكون خالصاً لوجهه موافقاً لشريعته؛ فإن لم يكن خالصاً لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ وإن كان خالصاً على غير الشريعة لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ لأن الأول شرك؛ والثاني بدعة.

قوله تعالى: { فهو خير له }: اختلف في { خير } هل نقول: هي للتفضيل؛ أي خير له من سواه؛ أو نقول: إن { خير } اسم دال على مجرد الخيرية بدون مفضل، ومفضل عليه - وهذا هو الأقرب - ويكون المراد أن من تطوع بالفدية فهو خير له؛ ومطابقة هذا المعنى لظاهر الآية واضح.

قوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم }: المراد بالخير هنا التفضيل؛ يعني أن تصوموا خير لكم من الفدية؛ وهذا يمثل به النحويون للمبتدأ المؤول: فإن قوله تعالى: { أن تصوموا } فعل مضارع مسبوك مع { أن المصدرية بمصدر؛ والتقدير: صومكم خير لكم - يعني من الفدية.

قوله تعالى: { إن كنتم تعلمون }؛ هذه جملة مستأنفة؛ والمعنى: إن كنتم من ذوي العلم فافهموا؛ و{ إن} ليست شرطية فيما قبلها - يعني ليست وصلية - كما يقولون؛ لأنه ليس المعنى: خيراً لنا إن علمنا؛ فإن لم نعلم فليس خيراً لنا؛ بل هو مستأنف؛ ولهذا ينبغي أن نقف على قوله تعالى: { خير لكم }.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: أن الصوم أيامه قليلة؛ لقوله تعالى: { أياماً معدودات ].

2 ـ ومنها: التعبير بكلمات يكون بها تهوين الأمر على المخاطب؛ لقوله تعالى: { أياماً معدودات }.

3 ـ ومنها: رحمة الله عز وجل بعباده؛ لقلة الأيام التي فرض عليهم صيامها.

4 ـ ومنها: أن المشقة تجلب التيسير؛ لقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ لأن المرض، والسفر مظنة المشقة.

5 ـ ومنها: جواز الفطر للمرض؛ ولكن هل المراد مطلق المرض - وإن لم يكن في الصوم مشقة عليه؛ أو المراد المرض الذي يشق معه الصوم، أو يتأخر معه البرء؟ الظاهر الثاني؛ وهو مذهب الجمهور؛ لأنه لا وجه لإباحة الفطر بمرض لا يشق معه الصوم، أو لا يتأخر معه البرء؛ هذا وللمريض حالات:

الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ فلا رخصة له في الفطر.

الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره؛ فالصوم في حقه مكروه؛ لأنه لا ينبغي العدول عن رخصة الله.

الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [النساء: 29] .

6 ـ ومن فوائد الآية: جواز الفطر في السفر؛ لقوله تعالى: { أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث:

الأولى: أن لا يكون فيه مشقة إطلاقاً؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل؛ وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر، كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ؛ وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة»(128)؛ ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أسهل عليه غالباً لكون الناس مشاركين له، وثقلِ القضاء غالباً؛ ولأنه يصادف شهر الصوم - وهو رمضان.

الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظُلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيام في السفر»(129)؛ فنفى النبي صلى الله عليه وسلم البر عن الصوم في السفر.

فإن قيل: إن من المتقرر في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وهذا يقتضي نفي البر عن الصوم في السفر مطلقاً؟.

فالجواب: أن معنى قولنا: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» يعني أن الحكم لا يختص بعين الذي ورد من أجله؛ وإنما يعم من كان مثل حاله؛ وقد نص على هذه القاعدة ابن دقيق العيد في شرح الحديث في العمدة؛ وهو واضح.

الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ ودليله: ما ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فشُكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ما يفعل؛ فدعا بماء بعد العصر، فشربه، والناس ينظرون؛ ثم جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل له: إن بعض الناس قد صام فقال صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة! أولئك العصاة!»(130)؛ والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم؛ أو ترك واجب.

7 ـ ومن فوائد الآية: أن السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف: فما عده الناس سفراً فهو سفر؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن تحديده بزمن، أو مسافة يحتاج إلى دليل.

8 ـ ومنها: أن المتهيئ للسفر كالخارج فيه ـ وإن كان في بلده؛ فإنه يجوز أن يفطر؛ وكان أنس بن مالك يفعل ذلك، ويقول: «السنة»(131)؛ لكن هذا الحديث فيه مقال؛ لكن على رأي من أثبته يقول: الإنسان إذا عزم على سفر أصبح مفطراً فقالوا: هذا من خير من كونه يصوم ثم يفطر لأنه لم يدخل في العبادة أصلاً لكن جمهور أهل العلم على خلاف هذا القول وعلى خلاف بينهم أيجوز لمن سافر في خلال اليوم أن يفطر الصحيح أنه يجوز لدلالة السنة على ذلك.

9 ـ ومن فوائد الآية: أن الظاهرية استدلوا بها على أن من صام في السفر لم يجزئه؛ لقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر }، فأوجب الله سبحانه وتعالى على المريض، والمسافر عدة من أيام أخر؛ فمن صام وهو مريض، أو مسافر صار كمن صام قبل دخول رمضان، وقالوا: «إن الآية ليست فيها شيء محذوف»؛ وهذا القول لولا أن السنة بينت جواز الصوم لكان له وجه قوي؛ لأن الأصل عدم الحذف؛ لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الحذف متعين، وتقدير الكلام: فمن كان مريضاً، أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في رمضان في السفر والصحابة معه منهم الصائم، ومنهم المفطر، ولم يعب أحد على أحد(132)؛ ولو كان الصوم حراماً ما صامه النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنكر المفطر على الصائم.

10 ـ ومن فوائد الآية: أنه لو صام عن أيام الصيف أيام الشتاء فإنه يجزئ؛ لقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر وجهه: أن { أيام } نكرة.

11 ـ ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى في التدرج بالتشريع، حيث كان الصيام أول الأمر يخير فيه الإنسان بين أن يصوم، ويطعم؛ ثم تعين الصيام كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

12 ـ ومنها: أن من عجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زواله فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى جعل الإطعام عديلاً للصيام حين التخيير بينهما؛ فإذا تعذر الصيام وجب عديله؛ ولهذا ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية في الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصيام، فيطعمان عن كل يوم مسكيناً(133).

13 ـ ومنها: أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله تعالى أطلق ذلك؛ والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف.

14 ـ ومنها: أنه لا فرق بين أن يملّك الفقير ما يطعمه، أو يجعله غداءً، أو عشاءً؛ لأن الكل إطعام؛ وكان أنس بن مالك حين كبر يطعم أدُماً، وخبزاً(134).

15 ـ ومنها: أن ظاهر الآية لا يشترط تمليك الفقير ما يطعم؛ وهو القول الراجح؛ وقال بعض أهل العلم: إنه يشترط تمليكه؛ فيعطى مداً من البر؛ أو نصف صاع من غيره؛ وقيل: يعطى نصف صاع من البر، وغيره؛ واستدل القائلون بالفرق بين البر وغيره بما قاله معاوية في زكاة الفطر: «أرى المد من هذه - يعني البر - يعدل مدين من الشعير»(135) فعدل به الناس، وجعلوا الفطرة من البر نصف صاع(136)؛ واستدل القائلون بوجوب نصف صاع من البر، وغيره بحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه حين أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بحلق رأسه وهو محرم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له مبيناً المجمل في قوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196] ، فقال في الصدقة: «أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع»(137)؛ ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين طعام وآخر.

16 ـ ومن فوائد الآية: أن طاعة الله ـ تبارك وتعالى ـ كلها خير؛ لقوله تعالى: { فمن تطوع خيراً فهو خير له }.

17 ـ ومنها: ثبوت تفاضل الأعمال؛ لقوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم }؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ فينبني على ذلك أن الناس يتفاضلون في الأعمال؛ وهو ما دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والواقع؛ قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاًّ وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] ، وقال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًّا وعد الله الحسنى وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة} [النساء: 95، 96] ؛ والنصوص في هذا كثيرة.

18 ـ ومن فوائد الآية: التنبيه على فضل العلم؛ لقوله تعالى: { إن كنتم تعلمون }.



القرآن

{)شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:185)

التفسير:

{ 185 } قوله تعالى: { شهر رمضان }؛ الشهر هو مدة ما بين الهلالين؛ وسمي بذلك لاشتهاره؛ ولهذا اختلف العلماء هل الهلال ما هلّ في الأفق - وإن لم يُرَ؛ أم الهلال ما رئي واشتهر؛ والصواب الثاني، وأن مجرد طلوعه في الأفق لا يترتب عليه حكم شرعي - حتى يرى، ويتبين، ويُشهد إلا أن يكون هناك مانع من غيم، أو نحوه؛ و{ شهر } مضاف؛ و{ رمضان } مضاف إليه ممنوع من الصرف بسبب العلمية وزيادة الألف، والنون؛ مأخوذ من الرَّمْض؛ واختلف لماذا سمي برمضان؛ فقيل: لأنه يرمض الذنوب - أي يحرقها؛ وقيل: لأنه أول ما سميت الشهور بأسمائها صادف أنه في وقت الحر والرمضاء؛ فسمي شهر رمضان؛ وهذا أقرب؛ لأن هذه التسمية كانت قبل الإسلام.

وقوله تعالى: { شهر رمضان } خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: هي - أي الأيام المعدودات - شهر رمضان.

قوله تعالى: { الذي أنزل فيه القرآن }؛ { الذي } صفة لـ{ شهر }؛ فمحلها الرفع؛ و{ أُنزل فيه القرآن } أي أنزله الله سبحانه وتعالى فيه؛ ومعروف أن النزول يكون من فوق؛ لأن القرآن كلام الله عز وجل؛ والله سبحانه وتعالى فوق السموات على العرش؛ و{ القرآن } مصدر مثل الغفران، والشكران؛ كلها مصادر؛ ولكن هل هو بمعنى اسم الفاعل؛ أو بمعنى اسم المفعول؟ قيل: إنه بمعنى اسم المفعول - أي المقروء؛ وقيل: بمعنى اسم الفاعل - أي القارئ؛ فالمعنى على الأول واضح؛ والمعنى على الثاني: أنه جامع لمعاني الكتب السابقة؛ أو جامع لخيري الدنيا، والآخرة؛ ولا يمتنع أن نقول: إنه بمعنى اسم الفاعل، واسم المفعول؛ وهل المراد بـ{ القرآن الجنس، فيشمل بعضه؛ أو المراد به العموم، فيشمل كله؟ قال بعض أهل العلم: إن «أل» للعموم فيشمل كل القرآن؛ وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين المتأخرين؛ وعلى هذا القول يشكل الواقع؛ لأن الواقع أن القرآن نزل في رمضان، وفي شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة... في جميع الشهور؛ ولكن أجابوا عن ذلك بأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في رمضان، وصار جبريل يأخذه من هذا البيت، فينزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم(138)؛ لكن هذا الأثر ضعيف؛ ولهذا الصحيح أن «أل» هنا للجنس؛ وليست للعموم؛ وأن معنى: { أنزل فيه القرآن } أي ابتدئ فيه إنزاله، كقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 3] ، وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] أي ابتدأنا إنزاله.

قوله تعالى: { هدًى للناس }؛ { هدًى }: مفعول من أجله؛ أو حال من { القرآن }؛ فإذا كانت مفعولاً من أجله فالمعنى: أنزل لهداية الناس؛ وإذا كانت حالاً فالمعنى: أنزل هادياً للناس ـ وهذا أقرب؛ و{ هدًى } من الهداية؛ وهي الدلالة؛ فالقرآن دلالة للناس يستدلون به على ما ينفعهم في دينهم، ودنياهم؛ و{ للناس } أصلها الأناس؛ ومنه قول الشاعر:

[وكل أناس سوف تدخل بينهم - دويهية تصفر منها الأنامل] لكن لكثرة استعمالها حذفت الهمزة تخفيفاً، كما حذفت من «خير» و«شر» اسمي تفضيل؛ والمراد بهم البشر؛ لأن بعضهم يأنس ببعض، ويستعين به؛ فقوله تعالى: { هدًى للناس } أي كل الناس يهتدون به ـ المؤمن، والكافر ـ الهداية العلمية؛ أما الهداية العملية فإنه هدًى للمتقين، كما في أول السورة؛ فهو للمتقين هداية علمية، وعملية؛ وللناس عموماً فهو هداية علمية.

قوله تعالى: { وبينات } صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: وآيات بينات، كما قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت: 49] ؛ والمعنى: أن القرآن اشتمل على الآيات البينات - أي الواضحات؛ فهو جامع بين الهداية، والبراهين الدالة على صدق ما جاء فيه من الأخبار، وعلى عدل ما جاء فيه من الأحكام.

قوله تعالى: { من الهدى } صفة لـ{ بينات } يعني أنها بينات من الدلالة والإرشاد.

قوله تعالى: { والفرقان }: مصدر، أو اسم مصدر؛ والمراد أنه يفرق بين الحق، والباطل؛ وبين الخير، والشر؛ وبين النافع، والضار؛ وبين حزب الله، وحرب الله؛ فرقان في كل شيء؛ ولهذا من وفق لهداية القرآن يجد الفرق العظيم في الأمور المشتبهة؛ وأما من في قلبه زيغ فتشتبه عليه الأمور؛ فلا يفرق بين الأشياء المفترقة الواضحة.

قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر }؛ { شهد } بمعنى شاهد؛ وقيل: بمعنى حضر؛ فعلى القول الأول يرد إشكال في قوله تعالى: { الشهر }؛ لأن الشهر مدة ما بين الهلالين؛ والمدة لا تشاهد؛ والجواب أن في الآية محذوفاً؛ والتقدير: فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه؛ والقول الثاني أصح: أن المراد بـ{ شهد } حضر؛ ويرجح هذا قوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر }؛ لأن قوله تعالى: { على سفر } يقابل الحضر.

قوله تعالى: { فليصمه } أي فليصم نهاره.

قوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ هذه الجملة سبقت؛ لكن لما ذكر سبحانه وتعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }، وكانت هذه الآية ناسخة لما قبلها قد يظن الظان أنه نسخ حتى فطر المريض والمسافر؛ فأعادها سبحانه وتعالى تأكيداً لبيان الرخصة، وأن الرخصة ـ حتى بعد أن تعين الصيام ـ باقية؛ وهذا من بلاغة القرآن؛ وعليه فليست هذه الجملة من الآية تكراراً محضاً؛ بل تكرار لفائدة؛ لأنه تعالى لو قال: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ولم يقل: { ومن كان.... } إلخ، لكان ناسخاً عاماً.

وقوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } تقدم الكلام عليها إعراباً، ومعنًى.

قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } تعليل لقوله تعالى: { ومن كان مريضاً أو على سفر} إلخ؛ و{ يريد } أي يحب؛ فالإرادة شرعية؛ والمعنى: يحب لكم اليسر؛ وليست الإرادة الكونية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد بنا اليسر كوناً ما تعسرت الأمور على أحد أبداً؛ فتعين أن يكون المراد بالإرادة هنا الشرعية؛ ولهذا لا تجد - والحمد لله - في هذه الشريعة عسراً أبداً.

قوله تعالى: { ولتكملوا العدة }؛ الواو عاطفة؛ واللام لام التعليل؛ لأنها مكسورة؛ ويكون العطف على قوله تعالى: { اليسر }؛ يعني يريد الله سبحانه وتعالى بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر؛ ويريد لتكملوا العدة؛ و«أراد» إذا تعدت باللام فإن اللام تكون زائدة من حيث المعنى؛ لكن لها فائدة؛ وذلك؛ لأن الفعل «أراد» يتعدى بنفسه، كقوله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27] ؛ وهنا: { لتكملوا العدة } يعني: وأن تكملوا العدة؛ أي: ويريد الله منا شرعاً أن نكمل العدة.

وقوله تعالى: { لتكملوا } فيها قراءتان؛ بتخفيف الميم؛ وتشديدها؛ وهما بمعنى واحد.

قوله تعالى: { ولتكبروا الله }؛ الواو للعطف؛ و{ لتكبروا } معطوفة على { لتكملوا } بإعادة حرف الجر؛ أي: ولتقولوا: الله أكبر؛ والتكبير يتضمن: الكِبَرَ بالعظمة،والكبرياءِ، والأمورِ المعنوية؛ والكِبَر في الأمور الذاتية؛ فإن السموات السبع، والأرض في كف الرحمن كحبة خردل في كف أحدنا؛ والله أكبر من كل شيء.

قوله تعالى: { على ما هداكم }؛ { على }: قيل: إنها للتعليل؛ وليست للاستعلاء؛ أي تكبروه لهدايتكم؛ وعبر بـ{ على } دون اللام إشارة - والله أعلم - إلى أن التكبير يكون في آخر الشهر؛ لأن أعلى كل شيء آخره؛ و{ ما هنا مصدرية تسبك هي، وما بعدها بمصدر؛ فيكون التقدير: على هدايتكم؛ وهذه الهداية تشمل: هداية العلم؛ وهداية العمل؛ وهي التي يعبر عنها أحياناً بهداية الإرشاد، وهداية التوفيق؛ فالإنسان إذا صام رمضان وأكمله، فقد منّ الله عليه بهدايتين: هداية العلم، وهداية العمل.

قوله تعالى: { ولعلكم تشكرون } أي تقومون بشكر الله عز وجل؛ و «لعل» هنا للتعليل؛ و{ تشكرون } على أمور أربعة؛ إرادة الله بنا اليسر؛ عدم إرادته العسر؛ إكمال العدة؛ التكبير على ما هدانا؛ هذه الأمور كلها نِعَم تحتاج منا أن نشكر الله عز وجل عليها؛ ولهذا قال تعالى: { ولعلكم تشكرون }؛ و «الشكر» هو القيام بطاعة المنعم بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: بيان الأيام المعدودات التي أبهمها الله عز وجل في الآيات السابقة؛ بأنها شهر رمضان.

2 ـ ومنها: فضيلة هذا الشهر، حيث إن الله سبحانه وتعالى فرض على عباده صومه.

3 ـ ومنها: أن الله تعالى أنزل القرآن في هذا الشهر؛ وقد سبق في التفسير هل هو ابتداء إنزاله؛ أو أنه نزل كاملاً؛ والظاهر أن المراد ابتداء إنزاله؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ يتكلم بالقرآن حين إنزاله؛ وقد أنزله جل وعلا مفرقاً؛ فيلزم من ذلك أن لا يكون القرآن كله نزل في هذا الشهر.

4 ـ ومنها: أن القرآن كلام الله عز وجل؛ لأن الذي أنزله هو الله، كما في آيات كثيرة أضاف الله سبحانه وتعالى إنزال القرآن إلى نفسه؛ والقرآن كلام لا يمكن أن يكون إلا بمتكلم؛ وعليه يكون القرآن كلام الله عز وجل؛ وهو كلامه سبحانه وتعالى لفظه، ومعناه.

5 ـ ومنها: ما تضمنه القرآن من الهداية لجميع الناس؛ لقوله تعالى: { هدًى للناس }.

6 ـ ومنها: أن القرآن الكريم متضمن لآيات بينات واضحة لا تخفى على أحد إلا على من طمس الله قلبه فلا فائدة في الآيات، كما قال عز وجل: { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [يونس: 101] .

7 ـ ومنها: أن القرآن الكريم فرقان يفرق بين الحق، والباطل؛ وبين النافع، والضار؛ وبين أولياء الله، وأعداء الله؛ وغير ذلك من الفرقان فيما تقتضي حكمته التفريق فيه.

8 ـ ومنها: وجوب الصوم متى ثبت دخول شهر رمضان؛ وشهر رمضان يثبت دخوله إما بإكمال شعبان ثلاثين يوماً، أو برؤية هلاله؛ وقد جاءت السنة بثبوت دخوله إذا رآه واحد يوثق بقوله(139).

9 ـ ومنها: لا يجب الصوم قبل ثبوت دخول رمضان.

ويتفرع على هذا أنه لو كان في ليلة الثلاثين من شعبان غيم، أو قتر يمنع من رؤية الهلال فإنه لا يصام ذلك اليوم؛ لأنه لم يثبت دخول شهر رمضان؛ وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم؛ بل ظاهر حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم(140): أي أن صيامه إثم.

10 ـ ومن فوائد الآية: التعبير بـ { شهر رمضان }؛ قال أهل العلم: «وهذا أولى»؛ ويجوز التعبير بـ «رمضان» - بإسقاط «شهر» ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً... ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً»(141)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة»(142)؛ ولا عبرة بقول من كره ذلك.

11 ـ ومن فوائد الآية: تيسير الله - تبارك وتعالى - على عباده، حيث رخص للمريض الذي يشق عليه الصوم، وللمسافر مطلقاً أن يفطرا، ويقضيا أياماً أخر.

12 ـ ومنها: إثبات الإرادة لله عز وجل؛ وإرادة الله تعالى تنقسم إلى قسمين:

إرادة كونية: وهي التي بمعنى المشيئة؛ ويلزم منها وقوع المراد سواء كان مما يحبه الله، أو مما لا يحبه الله؛ ومنها قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء} [الأنعام: 125] ؛ وهذه الآية، كقوله تعالى: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [الأنعام: 39] .

وإرادة شرعية: بمعنى المحبة؛ ولا يلزم منها وقوع المراد؛ ولا تتعلق إلا فيما يحبه الله عز وجل؛ ومنها قول الله تبارك وتعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً} [النساء: 27، 28] .

13 ـ ومن فوائد الآية: أن شريعة الله سبحانه وتعالى مبنية على اليسر، والسهولة؛ لأن ذلك مراد الله عز وجل في قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر }؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»(143)؛ وكان صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث، ويقول: «يسروا ولا تعسروا؛ وبشروا ولا تنفروا»(144)؛ «فإنما بعثتم ميسرين؛ ولم تبعثوا معسرين»(145).

14 ـ ومنها: انتفاء الحرج والمشقة والعسر في الشريعة؛ لقوله عز وجل: { ولا يريد بكم العسر }.

15 ـ ومنها: أنه إذا دار الأمر بين التحليل، والتحريم فيما ليس الأصل فيه التحريم فإنه يغلب جانب التحليل؛ لأنه الأيسر، والأحب إلى الله.

16 ـ ومنها: الأمر بإكمال العدة؛ أي بالإتيان بعدة أيام الصيام كاملاً.

17 ـ ومنها: مشروعية التكبير عند تكميل العدة؛ لقول الله تعالى: { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم }؛ والمشروع في هذا التكبير أن يقول الإنسان: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» ؛ وإن شاء أوتر فقال: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» ؛ وإن شاء أوتر باعتبار الجميع فقال: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» ؛ فالأمر في هذا واسع - ولله الحمد.

18 ـ من فوائد الآية: أن الله يشرع الشرائع لحكمة، وغاية حميدة؛ لقوله تعالى: { لعلكم تشكرون }.

19 ـ ومنها: الإشارة إلى أن القيام بطاعة الله من الشكر؛ ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله} ؛ وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً}»(146)؛ وهذا يدل على أن الشكر هو العمل الصالح.

20 ـ ومنها: أن من عصى الله عز وجل فإنه لم يقم بالشكر، ثم قد يكون الإخلال كبيراً؛ وقد يكون الإخلال صغيراً - حسب المعصية التي قام بها العبد.

تــنــبــيــه:

استنبط بعض الناس أن من كانوا في الأماكن التي ليس عندهم فيها شهور، مثل الذين في الدوائر القطبية، يصومون في وقت رمضان عند غيرهم عدة شهر؛ لأن الشهر غير موجود؛ وقال: إن هذا من آيات القرآن؛ فقد جاء التعبير صالحاً حتى لهذه الحال التي لم تكن معلومة عند الناس حين نزول القرآن؛ لقوله تعالى: { ولتكملوا العدة }

)يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:)189

التفسير:

{ 189 } قوله تعالى: { يسألونك عن الأهلة }؛ { الأهلة } جمع هلال؛ وهو القمر أول ما يكون شهراً؛ وسمي هلالاً لظهوره؛ ومنه: الاستهلال؛ والإهلال هو رفع الصوت، كما في حديث خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال»(165) يعني بالتلبية؛ ومنه قولهم: «استهل المولود» إذا صرخ بعد وضعه.

وقوله تعالى: { يسألونك عن الأهلة } يعني: الحكمة فيها بدليل الجواب: { قل هي مواقيت للناس والحج وأما ما ذكره أهل البلاغة من أنهم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن السبب في كون الهلال يبدو صغيراً، ثم يكبر؛ فأجاب الله سبحانه وتعالى ببيان الحكمة؛ وقالوا: إن هذا من أسلوب الحكيم أن يجاب السائل بغير ما يتوقع إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يُسأل عن هذا؛ فالصواب أنهم لم يسألوا الرسول عن هذا؛ ولكن سألوه عن الحكمة من الأهلة، وأن الله سبحانه وتعالى خلقها على هذا الوجه؛ والدليل: الجواب؛ لأن الأصل أن الجواب مطابق للسؤال إلا أن يثبت ذلك بنص صحيح.

قوله تعالى: { قل هي } أي الأهلة { مواقيت للناس } جمع ميقات ـ من الوقت ـ؛ أي يوقتون بها أعمالهم التي تحتاج إلى توقيت بالأشهر، كعدة الوفاة أربعة أشهر وعشر، وعدة المطلقة بعد الدخول إذا كانت لا تحيض ثلاثة أشهر، وآجال ديونهم، وإجاراتهم، وغير ذلك.

قوله تعالى: { والحج } يعني مواقيت للحج؛ لأن الحج أشهر معلومات تبتدئ بدخول شوال، وتنتهي بانتهاء ذي الحجة؛ ثلاثة أشهر؛ وكذلك هي مواقيت للصيام، كما قال تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] ؛ لكن سياق الآيات توطئة لبيان أشهر الحج؛ فلهذا قال تعالى: { مواقيت للناس والحج }؛ ولم يذكر الصيام؛ لأنه سبق.

قوله تعالى: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }؛ { البر } هو الخير الكثير؛ وسمي الخير براً لما فيه من السعة؛ ومنه في الاشتقاق «البَرّ» ـ الذي هو الخلاء: وهو ما سوى البنيان ـ لسعته.

وقوله تعالى: { بأن تأتوا }: الباء حرف جر زائد للتوكيد؛ يعني: وليس البر بإتيانكم البيوت من ظهورها؛ و{ البُيوت } بضم الباء؛ وفي قراءة بكسر الباء.

وقوله تعالى: { من ظهورها }؛ { من } بيانية؛ أي تأتوها من الخلف؛ وكانوا في الجاهلية من سفههم يأتون البيوت من ظهورها إذا أحرموا بحج، أو بعمرة إلا قريشاً؛ فإنهم يأتونها من أبوابها؛ أما غيرهم فيقولون: نحن أحرمنا؛ لا يمكن أن ندخل بيوتنا من أبوابها؛ هذا يبطل الإحرام؛ لا بد أن نأتي من الظهور لئلا يسترنا سقف البيت؛ فكانوا يتسلقون البيوت مع الجدران من الخلف، ويعتقدون أن ذلك بِرّ وقربة إلى الله عز وجل؛ فنفى الله هذا، وأبطله بقوله تعالى: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }؛ لما فيه من التعسير، ولما فيه من السفه ومخالفة الحكمة، فهو خلاف البر؛ ولهذا قال تعالى: { ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها }.

قوله تعالى: { ولكن البر من اتقى }؛ وفي قراءة: { ولكنِ البرُّ } بتخفيف النون في { لكنِ }؛ ورفع { البرُّ }؛ على أن تكون { لكن }مخففة من الثقيلة مهملة؛ و{ البر } مبتدأ؛ أما على قراءة التشديد فهي عاملة؛ و{ البر } اسمها؛ وقوله تعالى: { البر من اتقى }: { البر } اسم معنى؛ و{ من اتقى } اسم جثة؛ كيف يخبر بالجثة عن اسم المعنى؟

فالجواب أنه يخرج على واحد من أوجه ثلاثة:

الوجه الأول: أن يكون المصدر هنا بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ولكن البار.

الوجه الثاني: أن يكون المصدر على تقدير محذوف؛ أي: ولكن البر بر من اتقى.

الوجه الثالث: أن هذا على سبيل المبالغة أن يجعل { من اتقى } نفس البر، كما يصفون المصدر فيقولون: فلان عدل، ورضا.

وقوله تعالى: { من اتقى } أي اتقى الله عز وجل؛ لأن الاتقاء في مقام العبادة إنما يراد به اتقاء الله عز وجل؛ البر هو التقوى؛ هذا هو حقيقة البر؛ لا أن تتقي دخول البيت من بابه؛ ولهذا قال تعالى: { وأتوا البيوت من أبوابها } أي من جهة الباب فإن هذا هو الخير.

قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اجعلوا لكم وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.

قوله تعالى: { لعلكم تفلحون }؛ «لعل» للتعليل؛ أي لأجل أن تنالوا الفلاح؛ و «الفلاح» هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، وأنهم يسألون عن أمور الدين، وأمور الدنيا؛ لأن هذا مما يتعلق بالدنيا.

2 ـ ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، حيث يجيب عن الأسئلة الموجهة إليه؛ وهذا من معونة الله للرسول صلى الله عليه وسلم، وعنايته به.

3 ـ ومنها: بيان علم الله، وسمعه، ورحمته؛ لقوله تعالى: { يسألونك }؛ علم الله بسؤالهم، وسمعه، ورحمهم بالإجابة.

4 ـ ومنها: أن الحكمة من الأهلة أنها مواقيت للناس في شؤون دينهم، ودنياهم؛ لقوله تعالى: { مواقيت للناس }

5 ـ ومنها: أن ميقات الأمم كلها الميقات الذي وضعه الله لهم ـ وهو الأهلة ـ؛ فهو الميقات العالمي؛ لقوله تعالى: { مواقيت للناس }؛ وأما ما حدث أخيراً من التوقيت بالأشهر الإفرنجية فلا أصل له من محسوس، ولا معقول، ولا مشروع؛ ولهذا تجد بعض الشهور ثمانية وعشرين يوماً، وبعضها ثلاثين يوماً، وبعضها واحداً وثلاثين يوماً من غير أن يكون سبب معلوم أوجب هذا الفرق؛ ثم إنه ليس لهذه الأشهر علامة حسية يرجع الناس إليها في تحديد أوقاتهم ـ بخلاف الأشهر الهلالية فإن لها علامة حسية يعرفها كل أحد ـ.

6 ـ ومنها: أن الحج مقيد بالأشهر؛ لقوله تعالى: { والحج }.

7 ـ ومنها: أن البر يكون بالتزام ما شرعه الله، والحذر من معصيته؛ لقوله تعالى: { ولكن البر من اتقى }.

8 ـ ومنها: أن العادات لا تجعل غير المشروع مشروعاً؛ لقوله تعالى: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } مع أنهم اعتادوه، واعتقدوه من البر؛ فمن اعتاد شيئاً يعتقده براً عُرِض على شريعة الله.

9 ـ ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأتي الأمور من أبوابها؛ لقوله تعالى: { وأتوا البيوت من أبوابها }؛ فإن هذه الآية كما تناولت البيوت الحسية كذلك أيضاً تناولت الأمور المعنوية؛ فإذا أردت أن تخاطب مثلاً شخصاً كبير المنزلة فلا تخاطبه بما تخاطب سائر الناس؛ ولكن ائت من الأبواب؛ لا تتجشم الأمر تجشماً؛ لأنك قد لا تحصل المقصود؛ بل تأتي من بابه بالحكمة، والموعظة الحسنة حتى تتم لك الأمور.

10 ـ ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى إذا نهى عن شيء فتح لعباده من المأذون ما يقوم مقامه؛ فإنه لما نفى أن يكون إتيان البيوت من ظهورها من البر بيّن ما يقوم مقامه، فقال تعالى: { وأتوا البيوت من أبوابها }؛ وله نظائر منها قوله تعالى: {لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} [البقرة: 104] ؛ ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: «ما شاء الله وشئت»: «أجعلتني لله نداً؛ بل ما شاء الله وحده»(166)؛ والأمثلة في هذا كثيرة.

11 ـ ومنها: وجوب تقوى الله؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.

12 ـ ومنها: أن التقوى تسمى براً.

13 ـ ومنها: أن التقوى سبب للفلاح؛ لقوله تعالى: { لعلكم تفلحون }.



القرآن

{ )وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190)

التفسير:

{ 190 } قوله تعالى: { قاتلوا } فعل أمر؛ والمقاتلة مفاعلة من الجانبين؛ يعني اقتلوهم بمقاتلتهم إياكم؛ ولكن قال: { في سبيل الله } أي في دينه، وشرعه، ولأجله؛ فس
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:31 am من طرف ahmadhamad
الاية 196 الي الاية 202

{)وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:196)

التفسير:

{ 196 } قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامتين؛ وهذا يشمل كمال الأفعال في الزمن المحدد، وكذلك صفة الحج، والعمرة - أن تكون موافقة تمام الموافقة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به واللام في قوله تعالى: { لله } تفيد الإخلاص - يعني مخلصين لله عز وجل ممتثلين لأمره -.

قوله تعالى: { فإن أحصرتم } أي منعتم عن إتمامها { فما استيسر } أي فعليكم ما تيسر من الهدي؛ وزيادة الهمزة، والسين للمبالغة في تيسر الأمر؛ و{ من الهدي } أي الهدي الشرعي؛ فـ«أل» فيه للعهد الذهني؛ والهدي الشرعي هو ما كان ثنياً مما سوى الضأن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنَّة إلا إن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن»(176)؛ وهذا النهي يشمل كل ما ذبح تقرباً إلى الله عز وجل من هدي، أو أضحية، أو عقيقة.

قوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم } أي لا تزيلوها بالموسى { حتى يبلغ الهدي محله }: «محل» يحتمل أن تكون اسم زمان؛ والمعنى: حتى يصل إلى يوم حلوله - وهو يوم العيد -؛ وثبتت السنة بأن من قدّم الحلق على النحر فلا حرج عليه(177)؛ ويحتمل أن المعنى: حتى يذبح الهدي؛ وتكون الآية فيمن ساق الهدي؛ ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما بال الناس حلوا ولم تحل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر»(178).

قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً } أي واحتاج إلى حلق الرأس؛ { أو به أذًى من رأسه } وهو صحيح، كما لو كان الرأس محلاً للأذى، والقمل، وما أشبه ذلك؛ { ففدية } أي فعليه فدية يفدي بها نفسه من العذاب { من صيام أو صدقة أو نسك }؛ { أو } هنا للتخيير؛ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن «الصيام» ثلاثة أيام(179)، وأن «الصدقة» إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع(4)؛ وأما «النسك» فهو ذبح شاة(4)؛ وهذه الجملة قد حذف منها ما يدل عليه السياق؛ والتقدير: فمن كان منكم مريضاً، أو به أذًى من رأسه، فحلق رأسه فعليه فدية.

{ فإذا أمنتم } أي من العدو ـ يعني فأتموا الحج والعمرة ـ.

ثم فصّل الله عز وجل المناسك فقال: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } أي فمن أتى بالعمرة متمتعاً بحله منها بما أحل الله له من محظورات الإحرام { إلى الحج } أي إلى ابتداء زمن الحج؛ وهو اليوم الثامن من ذي الحجة { فما استيسر من الهدي } أي فعليه ما استيسر من الهدي شكراً لله على نعمة التحلل؛ ويقال في هذه الجملة ما قيل في الجملة التي سبقت في الإحصار.

قوله تعالى: { فمن لم يجد } أي فمن لم يجد الهدي، أو ثمنه { فصيام ثلاثة أيام } أي فعليه صيام ثلاثة أيام { في الحج } أي في أثناء الحج، وفي أشهره.

قوله تعالى: { وسبعة إذا رجعتم } أي إذا رجعتم من الحج بإكمال نسكه، أو إذا رجعتم إلى أهليكم.

قوله تعالى: { تلك عشرة كاملة } للتأكيد على أن هذه الأيام العشرة وإن كانت مفرقة فهي في حكم المتتابعة.

قوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }، أي ذلك التمتع الموجب للهدي.

وقوله تعالى: { أهله }: قيل: المراد به نفسه ـ أي لمن لم يكن حاضراً المسجد الحرام ـ؛ وقيل: المراد بـ «الأهل» سكنه الذي يسكن إليه من زوجة، وأب، وأم، وأولاد، وما أشبه ذلك؛ فيكون المعنى: ذلك لمن لم يكن سكنه حاضري المسجد الحرام؛ وهذا أصح؛ لأن التعبير بـ «الأهل» عن النفس بعيد؛ ولكن { أهله } أي الذين يسكن إليهم من زوجة، وأب، وأم، وأولاد هذا هو الواقع.

وقوله تعالى: { حاضري المسجد الحرام } المراد به مسجد مكة؛ و{ الحرام } صفة مشبهة بمعنى ذي الحرمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»(180)؛ وحرمة المسجد الحرام معروفة من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.

واختلف في المراد بـ{ حاضري المسجد الحرام } فقيل: هم أهل الحرم ـ يعني: من كانوا داخل حدود الحرم ـ؛ فمن كان خارج حدود الحرم فليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وروي هذا عن ابن عباس، وجماعة من السلف، والخلف؛ وقيل: حاضرو المسجد الحرام أهل المواقيت، ومن دونهم؛ وعلى هذا فأهل بدر من حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم دون المواقيت؛ وأهل جدة من حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم دون المواقيت؛ وقيل: حاضرو المسجد الحرام أهل مكة، ومن بينهم وبين مكة دون مسافة القصر؛ وهي يومان؛ وعلى هذا فأهل جدة، وأهل بدر ليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وأهل بحرة - وهي بلدة دون جدة - على هذا القول يكون أهلها من حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم داخل المسافة؛ وأهل الشرائع من حاضري المسجد الحرام؛ والأقرب القول الأول أن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم؛ وأما من كان من غير أهل الحرم فليسوا من حاضريه؛ بل هم من محل آخر؛ وهذا هو الذي ينضبط.

قوله تعالى: { واتقوا الله } أي الزموا تقوى الله عز وجل؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.

قوله تعالى: { واعلموا أن الله شديد العقاب } أي شديد المؤاخذة، والعقوبة لمن لم يتقه تبارك وتعالى؛ وسميت المؤاخذة عقاباً؛ لأنها تأتي عقب الذنب.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: وجوب إتمام الحج، والعمرة؛ وظاهر الآية أنه لا فرق بين الواجب منهما، وغير الواجب؛ ووجه هذا الظاهر: العموم في قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة }؛ فيكون شاملاً للفريضة، والنافلة؛ ويؤيده أن هذه الآية نزلت قبل فرض الحج؛ لأن الحج إنما فرض في السنة التاسعة في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران: 97] ؛ السنة التي يسميها العلماء سنة الوفود.

2 ـ ومن فوائد الآية: أن العمرة، والحج سواء في وجوب إتمامهما؛ لقوله تعالى: { الحج والعمرة }.

3 ـ ومنها: أنه لا تجوز الاستنابة في شيء من أفعال الحج، والعمرة؛ فلو أن أحداً استناب شخصاً في أن يطوف عنه، أو أن يسعى عنه، أو أن يقف عنه بعرفة، أو أن يقف عنه بمزدلفة، أو أن يرمي عنه الجمار، أو أن يبيت عنه في منى فإنه حرام؛ لأن الأمر بالإتمام للوجوب؛ فيكون في ذلك رد لقول من قال من أهل العلم: إنه تجوز الاستنابة في نفل الحج، وفي بعضه: أما الاستنابة في نفل الحج ـ كل النسك ـ فهذا له موضع آخر؛ وأما في بعضه فالآية تدل على أنها لا تصح.

4 ـ ومن فوائد الآية: الحذر مما يفعله بعض الناس الآن من التساهل في رمي الجمرات، حيث إنهم يوكلون من يرمي عنهم بدون عذر مخالفة لقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }؛ وعليه فلا يصح رمي الوكيل حينئذ؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم): «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(181) أي مردود عليه؛ أما إذا كان لعذر كالمريض، والخائف على نفسه من شدة الزحام إذا لم يكن وقت آخر للرمي يخف فيه الزحام فلا بأس أن يستنيب من يرمي عنه؛ ولولا ورود ذلك عن الصحابة لقلنا: إن العاجز عن الرمي بنفسه يسقط عنه الرمي كسائر الواجبات، حيث تسقط بالعجز؛ ويدل لعدم التهاون بالتوكيل في الرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسودة بنت زمعة أن توكل؛ بل أمرها أن تخرج من مزدلفة، وترمي قبل حطمة الناس(182)؛ ولو كان التوكيل جائزاً لمشقة الزحام لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبقيها معه حتى تدرك بقية ليلة المزدلفة، وتدرك صلاة الفجر فيها، وتدرك القيام للدعاء بعد الصلاة؛ ولا تُحْرَم من هذه الأفعال؛ فلما أذن لها في أن تدفع بليل عُلم بأن الاستنابة في الرمي في هذا الأمر لا يجوز؛ وكذلك لو كان جائزاً لأذن للرعاة أن يوكلوا، ولم يأذن لهم بأن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً.

5- ومن فوائد الآية: وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } يعني أتموها لله لا لغيره؛ لا تراعوا في ذلك جاهاً، ولا رتبة، ولا ثناءً من الناس.

6- ومنها: أن الحج، والعمرة يخالفان غيرهما في وجوب إتمام نفلهما؛ لقوله تعالى: { وأتموا }؛ والأمر للوجوب؛ ويدل على أنه للوجوب قوله تعالى: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }، حيث أوجب الهدي عند الإحصار؛ أما غيرهما من العبادات فإن النفل لا يجب إتمامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهله ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟ قالوا: نعم، حيس؛ قال: أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً؛ فأكل»(183)؛ لكن يكره قطع النفل إلا لغرض صحيح - كحاجة إلى قطعه، أو انتقال لما هو أفضل منه -.

7- ومن فوائد الآية: أنه إذا أحصر الإنسان عن إتمام الحج والعمرة فله أن يتحلل؛ ولكن عليه الهدي؛ لقوله تعالى: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى }.

8- ومنها: أن الله تعالى أطلق الإحصار، ولم يقيده؛ لقوله تعالى: { فإن أحصرتم }؛ لأن الفعل لو بُني للفاعل، وذُكر الفاعل اختص الحكم به؛ فإذا قلت مثلاً: «أقام زيد عمراً» صار المقيم زيداً؛ وإذا قلت: «أقيم عمرٌو» صار عاماً؛ فظاهر الآية شمول الإحصار لكل مانع من إتمام النسك؛ فكل ما يمنع من إتمام النسك فإنه يجوز التحلل به، وعليه الهدي؛ أما الإحصار بالعدو فأظنه محل إجماع فيتحلل بالنص، والإجماع؛ النص: تحلل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية(184)؛ والإجماع: لا نعلم في هذا مخالفاً؛ وأما الحصر بغير عدو، كمرض، أو كسر، أو ضياع نفقة، أو ما أشبه ذلك مما لا يستطيع معه إتمام الحج، والعمرة؛ فإن العلماء اختلفوا في ذلك؛ فمنهم من قال: إنه لا يتحلل، ويبقى محرماً حتى يزول المانع؛ ومنهم من قال: إنه يتحلل، كالحصر بالعدو؛ حجة الأولين: أن الله تعالى قال: { فإن أحصرتم }؛ والآية نزلت في شأن قضية الحديبية؛ وهم قد أحصروا بعدو؛ فيكون الحصر هنا خاصاً بالعدو؛ ودليل آخر: يقولون: ضباعة بنت الزبير لما جاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنها مريضة، وأنها تريد الحج قال لها: «حجي واشترطي»(185)؛ فلو كان الإحصار بالمرض مبيحاً للتحلل ما احتيج إلى اشتراط؛ فكانت تدخل في النسك، وإذا عجزت تحللت؛ وأجاب القائلون بأن الحصر عام بحصر العدو وغيره بأن الآية مطلقة: { فإن أحصرتم }؛ لم تقيد بحصر العدو؛ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن العلة في جواز التحلل بحصر العدو عدم القدرة على إتمام النسك؛ وهذا حاصل بالحصر بغير العدو؛ والشرع لا يفرق بين متماثلين؛ وأجابوا عن حديث ضباعة بأن يقال: إن الفائدة من حديث ضباعة أنه إذا حصل مرض يمنع من إتمام النسك فإنها تتحلل بلا شيء؛ وأما إذا لم تشترط فإنها لا تتحلل إلا بدم؛ وحينئذ تظهر فائدة اشتراط من خاف أن يعوقه مرض، أو نحوه عن إتمام النسك؛ والفائدة هي أنه لا يجب عليه الهدي لو تحلل بهذا الحصر؛ والصواب القول الثاني: أن الإحصار يكون بالعدو، وبغيره.

فإن قال قائل: إن قوله تعالى في سياق الآية: { فإذا أمنتم } يشير إلى أن الإحصار المذكور بعدو؟

فالجواب: أن ذكر بعض أفراد العام بحكم يوافق العام لا يقتضي التخصيص، كما هو قول المحققين من أهل أصول الفقه، وغيرهم؛ ونظير ذلك حديث جابر رضي الله عنه: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم؛ فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة»(186)؛ فإن قوله: «فإذا وقعت الحدود...» الخ لا يستلزم اختصاص الشفعة بما له حدود، وطرق؛ بل الشفعة ثابتة في كل مشترك على القول الراجح.

9- ومن فوائد الآية: وجوب الهدي على من أحصر؛ لقوله تعالى: { فما استيسر من الهدي }.

10- ومنها: أن من تعذر، أو تعسر عليه الهدي فلا شيء عليه؛ لقوله تعالى: { فما استيسر من الهدي}؛ ولم يذكر الله بديلاً عند العجز؛ وقال بعض أهل العلم: إنه إذا لم يجد هدياً صام عشرة أيام، ثم حلّ - قياساً على هدي التمتع -؛ ولكن هذا القياس ليس بصحيح من وجهين:

الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر الآية؛ لأن الله لم يذكر بديلاً للهدي.

الوجه الثاني: أن تحلل المتمتع تحلل اختياري؛ وأما المحصر فتحلله اضطراري.

11 ـ ومن فوائد الآية: أنه لا يجب على المحصر الحلق عند التحلل؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره؛ وهو أحد القولين في المسألة؛ والقول الثاني: وجوب الحلق؛ لثبوته بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وغضب على الصحابة حين تأخروا في تنفيذه(187)؛ ولا يغضب النبي صلى الله عليه وسلم لترك مستحب؛ لا يغضب إلا لترك واجب.

12 ـ ومنها: أن المحصر لا يجب عليه القضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره؛ ولو كان القضاء واجباً لذكره الله عز وجل؛ وهذا يشمل من حصر في فريضة؛ ومن حصر في نافلة؛ لكن الفريضة إذا حصر عن إتمامها يلزمه فعلها بالخطاب الأول؛ لا على أنه بدل عن هذه التي أحصر عنها؛ فمثلاً رجلاً شرع في حج الفريضة، ثم أحصر عن إتمامها، فذبح الهدي، وتحلل؛ فيجب الحج عليه بعد ذلك؛ لكن ليس على أنه قضاء؛ لكن على أنه مخاطب به في الأصل؛ وتسمية العمرة التي وقعت بعد صلح الحديبية عمرة القضاء ليست لأنها قضاء عما فات؛ ولكنها من «المقاضاة» ـ وهي المصالحة ـ؛ ولذلك لم يأت بها كل من تحلل من عمرة الحديبية.

13 ـ ومن فوائد الآية: أنه لا بد أن يكون هذا الهدي مما يصح أن يهدَى: بأن يكون بالغاً للسن المعتبر سالماً من العيوب المانعة من الإجزاء؛ لقوله تعالى: { من الهدي }؛ و «أل» هنا للعهد الذهني المعلوم للمخاطب؛ وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا إن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن»(188).

فإن قال قائل: هل يؤكل من هذا الهدي أم لا؟

فالجواب: يؤكل؛ كل شيء فيه: { فما استيسر } فهو يؤكل؛ وأما ما فيه: «فعليه» فإنه لا يؤكل؛ فجزاء الصيد لا يؤكل منه؛ وفدية الأذى لا يؤكل منها؛ لأن الله جعلها كفارة؛ أما ما استيسر من الهدي هنا، وفي التمتع فإنه يؤكل منه.

14 ـ ومن فوائد الآية: تحريم حلق الرأس على المحرم؛ لقوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم }؛ والنهي عام لكل الرأس، ولبعضه؛ إذاً لو حلق بعضه وقع في الإثم؛ لأن النهي يتناول جميع أجزاء المنهي عنه؛ فإذا قلت لك: «لا تأكل هذه الخبزة» وأكلت منها فإنك لم تمتثل.

15 ـ ومنها: أنه لا يحرم حلق شعر غير الرأس؛ لأن الله خص النهي بحلق الرأس فقط؛ وأما الشارب، والإبط، والعانة، والساق، والذراع، فلا يدخل في الآية الكريمة؛ لأنه ليس من الرأس؛ والأصل الحل؛ وهذا ما ذهب إليه أهل الظاهر؛ قالوا: لا يحرم على المحرم حلق شيء من الشعر المباح حلقه سوى الرأس؛ لأن الله سبحانه وتعالى خصه فقال: { ولا تحلقوا رؤوسكم }؛ ولأن حلقه يفوت به نسك بخلاف غيره من الشعور؛ ولكن أكثر أهل العلم ألحقوا به شعر بقية البدن؛ وقالوا: إنه يحرم على المحرم أن يحلق أيّ شعر من بدنه حتى العانة -قياساً على شعر الرأس؛ لأن العلة في تحريم حلق شعر الرأس الترفه، وإزالة الأذى؛ وهذا حاصل في حلق غيره من الشعور؛ وهذا القياس غير صحيح لوجهين:

الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر النص، أو صريحه.

الوجه الثاني: أن بين شعر الرأس وغيره فرقاً كثيراً: فإن حلق شعر الرأس يتعلق به التحلل من النسك؛ فهو عنوان التحلل؛ بخلاف غيره من الشعور.

وأما التعليل بأنه للترفه، ودفع الأذى ففيه نظر؛ ثم لو سلمنا ذلك فأين دفع الأذى في حلق شعر العانة، وشعر الساق، ونحو ذلك؟! وأين الدليل على منع المحرم من الترفه مع أنه يجوز له التنظف، والاغتسال، والتظلل من الشمس، واستعمال المكيفات؟!

وهل تلحق الأظافر بشعر الرأس؟

الجواب: لا تلحق؛ فالأظافر ليست شعراً؛ وليست في الرأس أيضاً؛ فهي أبعد من إلحاق شعر بقية البدن بشعر الرأس؛ ووجه البعد أنها ليست من نوع الشعر؛ صحيح أنها تشبه الشعر من حيث إنها جزء منفصل؛ لكنها ليست من نوع الشعر؛ ولذلك من لم ير تحريم حلق شعر بقية البدن فإنه لا يرى تحريم قص الأظافر من باب أولى؛ ولكن جمهور أهل العلم على أن تقليم الأظافر محرم على المحرِم قياساً على تحريم حلق شعر الرأس؛ والعلة: ما في ذلك من الترفه، والتنعم؛ ولكن هذه العلة غير مسلمة:

أولاً: لأن العرب في زمنهم لا يترفهون بحلق الرأس؛ بل الرفاهية عندهم إنما هي في إبقاء الرأس، وترجيله، وتسريحه، ودهنه، والعناية به؛ فليست العلة إذاً في حلق شعر الرأس: الترفه.

ثانياً: أن العلة لا بد أن تطَّرد في جميع معلولاتها؛ وإلا كانت باطلة؛ وهذه العلة لا تطرد بدليل أن المحرم لو ترفه، فتنظف، وتغسل، وأزال الوسخ عنه، ولبس إحراماً جديداً غير الذي أحرم به لم يحرم عليه ذلك.

وأقرب شيء للتعليل أن في حلق الرأس حال الإحرام إسقاطاً للنسك الذي هو حلْقُه عند التحلل؛ وهذا لا يساويه حلق بقية الشعر، أو تقليم الأظافر؛ ولكن نظراً لأن جمهور أهل العلم ألحقوا ذلك بشعر الرأس فالاحتياط تجنب ذلك مراعاة لقول الجمهور.

16 ـ ومن فوائد الآية: أن المحرَّم ما يسمى حلقاً؛ فأما أخذ شعرة، أو شعرتين، أو ثلاث شعرات من رأسه فلا يقال: إنه حلق؛ وهذه المسألة مما تنازع فيها أهل العلم؛ فقال بعضهم: إذا أخذ شعرة واحدة من رأسه فقد حلق؛ فعليه فدية إطعام مسكين؛ وإن أخذ شعرتين فإطعام مسكينين؛ وإذا أخذ ثلاث شعرات فدم؛ أو إطعام ستة مساكين: لكل مسكين نصف صاع؛ أو صيام ثلاثة أيام؛ وقال بعض العلماء: إن الحكم يتعلق بربع الرأس؛ فإن حلق دون الربع فلا شيء عليه؛ وهذا لا شك أنه تحكم لا دليل عليه؛ فلا يكن صحيحاً؛ بل هو ضعيف؛ وقال آخرون: تتعلق الفدية بما يماط به الأذى؛ ومعنى يماط: يزال؛ أي بما يحصل به إزالة الأذى؛ وهذا لا يكون إلا بجزء كبير من الرأس؛ قالوا: لأن الله تعالى قال: { فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية... }؛ فدل هذا على أن المحرَّم الذي تتعلق به الفدية هو ما يماط به الأذى؛ وهذا مذهب مالك؛ وهو صحيح من حيث أنَّ الفدية لا تجب إلا بما يماط به الأذى فقط؛ لكنه غير صحيح من كون التحريم يتعلق بما يماط به الأذى فقط؛ فالتحريم يتعلق بما يسمى حلقاً؛ والفدية تتعلق بما يماط به الأذى.

فإن قال قائل: ما هو دليلكم على هذا التقسيم؛ فالعلماء لم يقولوا هذا الكلام؟

فالجواب: أن نقول: دليلنا على هذا التقسيم الآية الكريمة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }؛ هذا عام لكل حلق؛ فكل ما يسمى حلقاً فإنه منهي عنه لهذه الآية؛ ثم قال تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية }؛ فأوجب الفدية فيما إذا حلق حلقاً يزول به الأذى؛ لقوله تعالى: { أو به أذًى }؛ فلو قدرنا محرِماً رأسه تؤذيه الهوام، فحلق منه شيئاً يسيراً لا يزول به الأذى فلا فدية عليه؛ لأن الله تعالى إنما أوجب الفدية بحلق ما يزول به الأذى؛ ويدل لذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: فقد احتجم وهو محرم في يافوخه في أعلى رأسه(189)؛ ومعلوم أن الحجامة تحتاج إلى حلق الشعر الذي يكون في موضع الحجامة؛ ولم ينقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم افتدى؛ فدل ذلك على أن ما تتعلق به الفدية هو ما يماط به الأذى دون الشيء اليسير.

17 ـ ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز الحلق إلا بعد النحر؛ لقوله تعالى: { حتى يبلغ الهدي محله }؛ وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي؛ فلا أحل حتى أنحر»(190)؛ وهؤلاء الذين قالوا به عندهم ظاهر الآية الكريمة؛ وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: «فلا أحل حتى أنحر» ؛ لكن قد وردت الأحاديث بجواز التقديم، والتأخير تيسيراً على الأمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في يوم العيد عن التقديم، والتأخير؛ فما سئل عن شيء قدِّم ولا أخِّر إلا قال صلى الله عليه وسلم: «افعل ولا حرج»(191).

18 ـ ومن فوائد الآية: جواز حلق الرأس للمرض، والأذى؛ لقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه... } إلخ.

19 ـ ومنها: وجوب الفدية على المحرم إذا حلق رأسه؛ وهي إما صيام ثلاثة أيام؛ وإما إطعام ستة مساكين: لكل مسكين نصف صاع؛ وإما ذبح شاة تفرق على الفقراء ـ كما بينت ذلك السنة ـ؛ والسنة تبين القرآن، كما قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ؛ والتبيين يشمل تبيين اللفظ، وتبيين المعنى.

20 ـ ومن فوائد الآية: أن هذه الفدية على التخيير؛ لأن هذا هو الأصل في معاني «أو».

21 ـ ومنها: التيسير على العباد؛ وذلك بوقوع الفدية على التخيير.

22 ـ ومنها: أن محل الإطعام والنسك في مكان فعل المحظور؛ لأن الفورية تقتضي ذلك؛ أما الصيام فالظاهر ما قاله العلماء ـ رحمهم الله ـ من كونه يصح في كل مكان؛ لكن الفورية فيه أفضل.

23 ـ ومنها: أن كفارات المعاصي فدًى للإنسان من العقوبة؛ لقوله تعالى: { ففدية من صيام أو صدقة... }.

24 ـ ومنها: أن محظورات الإحرام لا تفسده؛ لأن الله لم يوجب في حلق الرأس ـ مع أنه من محظورات الإحرام ـ إلا الفدية؛ ومقتضى ذلك أن النسك صحيح؛ وهذا مما يخالف الحجُّ، والعمرةُ فيه غيرَهما من العبادات؛ فإن المحظورات في العبادات تبطلها؛ وألحق العلماء بفدية حلق الرأس فدية جميع محظورات الإحرام ما عدا شيئين؛ وهما الجماع في الحج قبل التحلل الأول، وجزاء الصيد؛ فالجماع في الحج قبل التحلل الأول يجب فيه بدنة؛ وجزاء الصيد يجب فيه مثله؛ أو إطعام مساكين؛ أو عدل ذلك صياماً؛ وما عدا ذلك من المحظورات ففديتها كفدية حلق الرأس عند الفقهاء، أو كثير منهم.

25 ـ ومن فوائد الآية: جواز التمتع بالعمرة إلى الحج؛ أي أن يأتي الإنسان بالعمرة في أشهر الحج، ويتحلل منها؛ ويبقى حلاً إلى أن يأتي وقت الحج؛ وكانوا في الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور؛ ويقولون: «إذا انسلخ صفر، وبرأ الدَّبَر، وعفا الأثر، حلت العمرة لمن اعتمر»؛ لكن الله سبحانه وتعالى يسَّر وبيَّن أنه يجوز للإنسان القادم في أشهر الحج أن يتحلل بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج.

26 ـ ومنها: أنه إذا حل من عمرته حل الحل كله؛ لقوله تعالى: { فمن تمتع }؛ لأن إطلاق التمتع لا يكون إلا كذلك.

27 ـ ومنها: أن من لم يحل من عمرته لا يسمى متمتعاً؛ لقوله تعالى: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}؛ وعلى هذا فالقارن ليس بمتمتع؛ وهو كذلك عند الفقهاء أن القارن غير متمتع؛ لكن ذكر كثير من أهل العلم أن القارن يسمى متمتعاً في لسان الصحابة؛ وذلك؛ لأن بعض الصحابة عبر عن حج النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع، فقالوا: تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج(192)؛ ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه؛ ولهذا قال الإمام أحمد: «لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً؛ والمتعة أحب إليّ»؛ ولهذا كان وجوب الهدي على المتمتع بالإجماع؛ ووجوب الهدي على القارن فيه خلاف؛ وجمهور أهل العلم على وجوب الهدي عليه؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في العلة: هل هي حصول النسكين في سفر واحد؛ فيكون قد ترفه بسقوط أحد السفرين؛ أو العلة التمتع بالتحلل بين العمرة، والحج؛ فمن قال بالأول أوجب الهدي على القارن؛ ومن قال بالثاني لم يوجبه؛ لأنه لم يحصل للقارن تحلل بين النسكين.

28 ـ ومن فوائد الآية: أنه لا يجب على الإنسان أن يقترض للهدي إذا لم يكن معه ما يشتري به الهدي ـ ولو كان غنياً - لقوله تعالى: { فما استيسر من الهدي }.

29 ـ ومنها: تيسير الله على العباد؛ لقوله تعالى: { فما استيسر من الهدي }؛ والدين كله من أوله إلى آخره مبني على اليسر.

30 ـ ومنها: بلاغة القرآن؛ لقوله تعالى: { فمن لم يجد }؛ فحُذف المفعول للعموم ليشمل من لم يجد الهدي، أو ثمنه؛ فاستفيد زيادة المعنى مع اختصار اللفظ.

31 ـ ومنها: أن من لم يجد الهدي، أو ثمنه، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج: أولها من حين الإحرام بالعمرة؛ وآخرها آخر أيام التشريق؛ لكن لا يصوم يوم العيد؛ لتحريم صومه؛ ولا ينبغي أن يصوم يوم عرفة؛ ليتفرغ للدعاء والذكر وهو نشيط؛ وعلى هذا فيجوز لمن كان عادماً للهدي من متمتع أو قارن أن يصوم من حين إحرامه بالعمرة.

فإن قال قائل: هذا ظاهر في القارن؛ لأنه إذا صام من حين إحرامه فقد صام في الحج؛ لكنه في المتمتع فيه إشكال؛ لأن المتمتع يحل بين العمرة والحج؟

والجواب: عن هذا الإشكال أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت العمرة في الحج»(193)؛ ولأن المتمتع من حين إحرامه بالعمرة فقد نوى أن يحج.

32 ـ ومن فوائد الآية: أن صيام السبعة لا يجوز في أيام الحج؛ لقوله تعالى: { وسبعة إذا رجعتم }.

33 ـ ومنها: أنه يجوز التتابع، والتفريق بين الأيام الثلاثة، والأيام السبعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق، ولم يشترط التتابع؛ ولو كان التتابع واجباً لذكره الله، كما ذكر وجوب التتابع في صيام كفارة القتل، وصيام كفارة الظهار.

34 ـ ومنها: تيسير الله ـ تبارك وتعالى ـ على عباده، حيث جعل الأكثر من الصيام بعد رجوعه؛ لقوله تعالى: { وسبعة إذا رجعتم }.

35 ـ ومنها: أن الهدي، أو بدله من الصيام لا يجب على من كان حاضر المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }؛ وقد سبق أن الصحيح أنهم من كانوا داخل حدود الحرم؛ وعلى هذا إذا تمتع أهل جدة، أو الطائف، أو أهل الشرائع فعليهم الهدي؛ ولكن هل لحاضر المسجد الحرام التمتع؟

الجواب: نعم؛ لأن حاضر المسجد الحرام قد تدخل عليه أشهر الحج وهو خارج مكة، ثم يرجع إلى أهله في مكة في أشهر الحج، فيحرم بعمرة يتمتع بها إلى الحج.

فإن كان شخص في مكة للدراسة، لكن وطنه الرياض، أو المدينة، وتمتع فعليه الهدي؛ لأن أهله ليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وإقامته في مكة ليست إقامة استيطان؛ والمراد أن يكون مستوطناً في مكة.

وإذا كان له مَقَرَّان ـ في الطائف، وفي مكة ـ؛ يعني من أهل مكة والطائف، فهنا نقول: إن نظرنا إلى مقره في الطائف قلنا: ليس من حاضري المسجد الحرام؛ وإن نظرنا إلى مقره في مكة قلنا: هو من حاضري المسجد الحرام؛ فنعتبر الأكثر: إذا كان أكثر إقامته في الطائف فليس من أهل المسجد الحرام؛ وإذا كان أكثر إقامته في مكة فهو من حاضري المسجد الحرام.

36 ـ ومن فوائد الآية: فضيلة المسجد الحرام؛ لوصف الله سبحانه وتعالى له بأنه حرام ـ أي ذو حرمة ـ؛ ومن حرمته تحريم القتال فيه، وتحريم صيده، وشجره، وحشيشه، وأن من أراد الإلحاد فيه بظلم أذاقه الله من عذاب أليم؛ وبسط ذلك في المطولات.

37 ـ ومنها: وجوب تقوى الله عز وجل، وتهديد من خالف ذلك؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }.

38 ـ ومنها: أن العلم بشدة عقوبة الله من أهم العلوم؛ ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى به بخصوصه؛ لأنه يورث الخوف من الله، والهرب من معصيته.

39 ـ ومنها: أن العقوبة على الذنب لا تنافي الرحمة؛ إذ من المعلوم أن رحمة الله سبقت غضبه؛ لكن إذا عاقب من يستحق العقاب فإن ذلك من رحمة المعاقب؛ لأن هذه العقوبة إن كانت في الدنيا فهي كفارة له؛ وإن كانت في الآخرة فما دون الشرك أمره إلى الله: إن شاء عذب؛ وإن شاء غفر.

40 ـ ومنها: أن شدة العقاب من كمال المعاقِب، وبسط قوته، وسلطانه؛ ولا يوصف الله سبحانه وتعالى إلا بالكمال؛ بل أمَرَنا أن نعلم ذلك في قوله تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} [المائدة: 98] ؛ إذاً فإذا عاقبت ولدك بما يستحق، وكانت الجناية كبيرة، فأكبرت العقوبة فإنك تُحمَد، ولا تذم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر»(194)؛ لأنه إذا بلغ عشراً صار تركه إياها، والإخلال بها أعظم.

تنبيه:

كثير من الناس كلما رأوا مخالفة من شخص في الإحرام قالوا: «عليك دم»؛ لو قال: حككت رأسي فسقطت منه شعرة بدون اختيار ولا قصد قالوا: «عليك دم»؛ وهذا غلط:

أولاً: لأنه خلاف ما أمر الله به؛ والله أوجب واحدة من ثلاث: صيام؛ أو صدقة؛ أو نسك؛ فإلزامهم بواحدة معينة فيها تضييق عليهم، وإلزام لهم بما لا يلزمهم.

ثانياً: أن الدم في أوقات النحر في أيام منى غالبه يضيع هدراً؛ لا ينتفع به.

ثالثاً: أن فيه إخفاءً لحكم الله عز وجل؛ لأن الناس إذا كانوا لا يفدون إلا بالدم، كأنه ليس فيه فدية إلا هذا؛ وليس فيه إطعام، أو صيام! فالواجب على طالب العلم أن يختار واحداً من أمرين:

* إما أن يرى الأسهل، ويفتي بالأسهل.

* وإما أن يقول: عليك هذا، أو هذا، أو هذا؛ واختر لنفسك.

أما أن يذكر الأشد فقط، ويسكت فهذا خلاف ما ينبغي للمفتين.

القرآن

{ )الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة:197)

التفسير:

{ 197 } قوله تعالى: { الحج أشهر معلومات } يعني أن الحج يكون في أشهر معلومات؛ وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة؛ وقيل: العشر الأول من ذي الحجة؛ والأول أصح؛ وقد استُشكل كون الخبر { أشهر }؛ ووجه الإشكال: أن الحج عمل، والأشهر زمن؛ فكيف يصح أن يكون الزمن خبراً عن العمل؟ وأجيب بأن هذا على حذف مضاف؛ والتقدير: الحج ذو أشهر معلومات؛ فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه؛ وقيل: التقدير: الحج وقته أشهر معلومات؛ والتقدير الأول أقرب.

قوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث }؛ «مَن» اسم شرط؛ و{ فرض } فعل الشرط؛ { فيهن} الضمير يعود إلى أشهر الحج؛ وقد أجمع العلماء على أن الضمير في { فيهن } يرجع إلى بعضهن؛ لأنه لا يمكن أن يفرض الحج بعد طلوع الفجر يوم النحر؛ ويفرض الحج من أول ليلة من شوال إلى ما قبل طلوع الفجر يوم النحر بزمن يتمكن فيه من الوقوف بعرفة.

قوله تعالى: { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } جواب الشرط؛ وفيها قراءتان؛ إحداهما البناء على الفتح في { رفثَ }، و{ فسوقَ }؛ والثانية: التنوين فيهما؛ أما { جدالَ } فإنها بالبناء على الفتح على القراءتين.

قوله تعالى: { فلا رفث } نفي بمعنى النهي؛ و «الرفث» الجماع، ومقدماته.

قوله تعالى: { ولا فسوق } أي لا خروج عن طاعة الله بمعاصيه لا سيما ما يختص بالنسك، كمحظورات الإحرام.

قوله تعالى: { ولا جدال في الحج } يشمل الجدال فيه، وفي أحكامه، والمنازعات بين الناس في معاملاتهم؛ مثال الجدال فيه: أن يقال: «ما هو الحج؟»، فيحصل النزاع؛ أو «متى فُرض؟»، فيحصل النزاع فيه؛ ومثاله في أحكامه: النزاع في أركانه، وواجباته، ومحظوراته؛ ومثال النزاع بين الناس في معاملاتهم: أن يتنازع اثنان في العقود، فيقول أحدهما: «بعتك»، والثاني يقول: «لم تبعني»؛ أو يقول: «بعتك بكذا»، ويقول الثاني: «بل بكذا»؛ أو يتنازع اثنان عند أنابيب الماء في الشرب، أو الاستسقاء، أو عند الخباز.

قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }: لما نهى عن هذه الشرور انتقل إلى الأمر بالخير؛ وهذه الجملة شرطية: { ما } أداة الشرط؛ وفعل الشرط: { تفعلوا }؛ وجواب الشرط: { يعلمه الله }؛ ولهذا جزمت؛ و{ مِن } بيانية تبين المبهم من اللفظ؛ لأن { ما } شرطية مبهمة كالموصول؛ و{ خير } نكرة في سياق الشرط، فيشمل كل خير سواء كان قليلاً، أو كثيراً.

وقوله تعالى: { يعلمه الله }: أي يحيط به علماً.

قوله تعالى: { وتزودوا } أي اتخذوا زاداً لغذاء أجسامكم، وغذاء قلوبكم -وهذا أفضل النوعين - لقوله تعالى: { فإن خير الزاد التقوى } و«التقوى» اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ هذا أجمع ما قيل في التقوى.

لما رغب الله سبحانه وتعالى في التقوى أمر بها طلباً لخيرها فقال تعالى: { واتقون يا أولي الألباب }؛ و{اتقونِ } فعل أمر؛ والنون للوقاية؛ والياء المحذوفة للتخفيف مفعول به؛ و{ يا أولي الألباب } جمع لب؛ أي يا أصحاب العقول؛ ووجه الله تعالى الأمر إلى أصحاب العقول؛ لأنهم هم الذين يدركون فائدة التقوى، وثمرتها؛ أما السفهاء فلا يدركونها.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: تعظيم شأن الحج، حيث جعل الله له أشهراً مع أنه أيام ـ ستة أيام ـ؛ وقد جعل الله له أشهراً ثلاثة حتى يأمن الناس، ويتأهبوا لهذا الحج؛ ولهذا ما بعد الحج أقصر مما قبله؛ الذي قبله: شهران وسبعة أيام؛ والذي بعده: سبعة عشر يوماً فقط؛ لأنه إذا حج انتهى غرضه؛ فطُلب منه العودة؛ بخلاف ما إذا كان قبله.

2 ـ ومن فوائد الآية: أن أشهر الحج ثلاثة؛ لقوله تعالى: { أشهر }؛ وهي جمع قلة؛ والأصل في الجمع أن يكون ثلاثة فأكثر؛ هذا المعروف في اللغة العربية؛ ولا يطلق الجمع على اثنين، أو اثنين وبعض الثالث إلا بقرينة؛ وهنا لا قرينة تدل على ذلك؛ لأنهم إن جعلوا أعمال الحج في الشهرين وعشرة الأيام يرد عليه أن الحج لا يبدأ فعلاً إلا في اليوم الثامن من ذي الحجة؛ وينتهي في الثالث عشر؛ وليس العاشر؛ فلذلك كان القول الراجح أنه ثلاثة أشهر كاملة؛ وهو مذهب مالك؛ وهو الصحيح؛ لأنه موافق للجمع؛ وفائدته أنه لا يجوز تأخير أعمال الحج إلى ما بعد شهر ذي الحجة إلا لعذر؛ لو أخرت طواف الإفاضة مثلاً إلى شهر المحرم قلنا: هذا لا يجوز؛ لأنه ليس في أشهر الحج والله تعالى يقول: { الحج أشهر }؛ فلا بد أن يقع في أشهر الحج؛ ولو أخرت الحلق إلى المحرم فهذا لا يجوز؛ لأنه تعدى أشهر الحج.

وهل هذه الأشهر من الأشهر الحرم؟

الجواب: أن اثنين منها من أشهر الحرم، وهما ذو القعدة، وذو الحجة؛ وواحد ليس منها -وهو شوال كما أن «المحرم» من الأشهر الحرم، وليس من أشهر الحج؛ فرمضان شهر صيام؛ وشوال شهر حج؛ وذو القعدة شهر حج، ومن الحرم؛ وذو الحجة شهر حج، ومن الحرم؛ والمحرم من الحرم، وليس شهر حج.

3 ـ ومن فوائد الآية: الإحالة على المعلوم بشرط أن يكون معلوماً؛ لقوله تعالى: { معلومات }؛ وهذا يستعمله الفقهاء كثيراً يقولون: هذا معلوم بالضرورة من الدين؛ وأمر هذا معلوم؛ وما أشبه ذلك؛ فلا يقال: إنه لم يبين؛ لأنه ما دام الشيء مشهوراً بين الناس معروفاً بينهم يصح أن يعَرِّفه بأنه معلوم؛ ومن ذلك ما يفعله بعض الكتاب في الوثائق: يقول: «باع فلان على فلان كذا، وكذا» -وهو معلوم بين الطرفين -يجوز وإن لم تفصل ما دام معلوماً؛ فإضافة الشيء إلى العلم وهو معلوم يعتبر من البيان.

4 ـ ومنها: أن من تلبس بالحج، أو العمرة وجب عليه إتمامه، وصار فرضاً عليه؛ لقوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} [الحج: 29] ؛ فسمى الله تعالى أفعال الحج نذوراً؛ ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] ؛ فلم يبح الله تعالى الخروج من النسك إلا بالإحصار.

5 ـ ومنها: وجوب إتمام النفل في الحج؛ لقوله تعالى: { فمن فرض }؛ والفرض لا بد من إتمامه.

6 ـ ومنها: أن الإحرام بالحج قبل أشهره لا ينعقد؛ لقوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث }؛ فلم يرتب الله أحكام الإحرام إلا لمن فرضه في أشهر الحج؛ ومعلوم أنه إذا انتفت أحكام العمل فمعناه أنه لم يصح العمل، وهذا مذهب الشافعي -رحمه الله -أنه إذا أحرم بالحج قبل دخول أشهر الحج لم ينعقد إحرامه؛ ولكن هل يلغو، أو ينقلب عمرة؟ في هذا قولان عندهم؛ أما عندنا مذهب الحنابلة؛ فيقولون: إن الإحرام بالحج قبل أشهره ينعقد؛ ولكنه مكروه -يكره أن يحرم بالحج قبل أشهره - ومذهب الشافعي أقرب إلى ظاهر الآية الكريمة: أنه إذا أحرم بالحج قبل أشهره لا ينعقد حجاً؛ والظاهر أيضاً أنه لا ينعقد، ولا ينقلب عمرة؛ لأن العبادة لم تنعقد؛ وهو إنما دخل على أنها حج؛ فلا ينعقد لا حجاً، ولا عمرة.

7 ـ ومن فوائد الآية: أن المحظورات تحرم بمجرد عقد الإحرام - وإن لم يخلع ثيابه من قميص، وسراويل، وغيرها؛ لقوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث }؛ لأنه جواب الشرط؛ وجواب الشرط يكون تالياً لفعله؛ فبمجرد أن يفرض فريضة الحج تحرم عليه المحظورات.

8 ـ ومنها: أن الإحرام ينعقد بمجرد النية - أي نية الدخول إلى النسك؛ وتثبت بها الأحكام - وإن لم يلبّ؛ لقوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث }.

9 ـ ومنها: تحريم الجماع، ومقدماته بعد عقد الإحرام؛ لقوله تعالى: { فلا رفث }؛ وجواب الشرط يكون عقب الشرط؛ فبمجرده يحرم الرفث.

10 ـ ومنها: تحريم الفسوق؛ لقوله تعالى: { فلا فسوق }.

فإن قال قائل: الفسوق محرم في الإحرام، وغيره.

فالجواب: أنه يتأكد في الإحرام أكثر من غيره.

11 ـ ومنها: تحريم الجدال؛ لقوله تعالى: { ولا جدال في الحج }؛ والجدال إن كان لإثبات الحق، أو لإبطال الباطل فإنه واجب، وعلى هذا فيكون مستثنًى من هذا العموم؛ لقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] ؛ وأما الجدال لغير هذا الغرض فإنه محرم حال الإحرام؛ فإن قلت: أليس محرماً في هذا، وفي غيره لما يترتب عليه من العداوة، والبغضاء، وتشويش الفكر؟

فالجواب: أنه في حال الإحرام أوكد.

12 ـ ومنها: البعد حال الإحرام عن كل ما يشوش الفكر، ويشغل النفس؛ لقوله تعالى: { ولا جدال في الحج }؛ ومن ثم يتبين خطأ أولئك الذين يزاحمون على الحجر عند الطواف؛ لأنه يشوش الفكر، ويشغل النفس عما هو أهم من ذلك.

13 ـ ومنها: الحث على فعل الخير؛ لأن قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } يدل على أنه سيجازي على ذلك، ولا يضيعه؛ قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه: 112] .

14 ـ ومنها: أن الخير سواء قلّ، أو كثر، فإنه معلوم عند الله؛ لقوله تعالى: { من خير }؛ وهي نكرة في سياق الشرط؛ والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم.

15 ـ ومنها: عموم علم الله تعالى بكل شيء؛ لقوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }.

16 ـ ومنها: الحث على التزود من الخير؛ لقوله تعالى: { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى }.

17 ـ ومنها: أنه ينبغي للحاج أن يأخذ معه الزاد الحسيّ من طعام، وشراب، ونفقة، لئلا يحتاج في حجه، فيتكفف الناس؛ لقوله تعالى: { وتزودوا }.

18 ـ ومنها: أن التقوى خير زاد، كما أن لباسها خير لباس؛ فهي خير لباس؛ لقوله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف: 26] ؛ وهي خير زاد؛ لقوله تعالى: { فإن خير الزاد التقوى }.

19 ـ ومنها: وجوب تقوى الله؛ لقوله تعالى: { واتقون }.

20 ـ ومنها: أن أصحاب العقول هم أهل التقوى؛ لقوله تعالى: { واتقون يا أولي الألباب }.

21 ـ ومنها: أنه كلما نقص الإنسان من تقوى الله كان ذلك دليلاً على نقص عقله - عقل الرشد؛ بخلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل، ودين»(195)؛ فإن المراد بنقص العقل هنا عقل الإدراك؛ فإن مناط التكليف عقل الإدراك؛ ومناط المدح عقل الرشد؛ ولهذا نقول: إن هؤلاء الكفار الأذكياء الذين هم في التصرف من أحسن ما يكون؟ نقول: هم عقلاء عقول إدراك؛ لكنهم ليسوا عقلاء عقول رشد؛ ولهذا دائماً ينعى الله عليهم عدم عقلهم؛ والمراد عقل الرشد الذي به يرشدون.



القرآن

{ )لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة:198)

التفسير:

{ 198 } لما أمر الله بالتزود، وبيَّن أن خير الزاد التقوى، وأمر بالتقوى، قد يقول قائل: إذا اتجرت أثناء حجي صار عليّ في ذلك إثم؛ ولهذا تحرج الصحابة من الاتجار في الحج؛ فبين الله عزّ وجلّ أن ذلك لا يؤثر، وأنه ليس فيه إثم؛ فقال تعالى: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } أي أن تبتغوا الرزق، وتطلبوه بالتجارة؛ كقوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] .

قوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات }؛ أصل الإفاضة الاندفاع؛ ومنه إفاضة الماء؛ ومنه الإفاضة في الكلام، والاستمرار فيه؛ ومعنى { أفضتم }: دفعتم؛ والتعبير بـ{ أفضتم } يصور لك هذا المشهد كأن الناس أودية تندفع؛ و{ عرفات } على صيغ الجمع؛ وهي اسم لمكان واحد؛ وهو معروف؛ وسمي عرفات لعدة مناسبات:

قيل: لأن الناس يعترفون هناك بذنوبهم، ويسألون الله أن يغفرها لهم.

وقيل: لأن الناس يتعارفون بينهم؛ إذ إنه مكان واحد يجتمعون فيه في النهار؛ فيعرف بعضهم بعضاً.

وقيل: لأن جبريل لما علَّم آدم المناسك، ووصل إلى هذا قال: عرفت.

وقيل: لأن آدم لما أهبط إلى الأرض هو وزوجته تعارفا في هذا المكان.

وقيل: لأنها مرتفعة على غيرها؛ والشيء المرتفع يسمى عُرْفاً؛ ومنه: أهل الأعراف، كما قال تعالى: {ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} [الأعراف: 48] ؛ ومنه: عُرْف الديك؛ لأنه مرتفع؛ وكل شيء مرتفع يسمى بهذا الاسم.

وعندي - والله أعلم - أن هذا القول الأخير أقرب الأقوال؛ وكذلك الأول: أنه سمي عرفات؛ لأن الناس يعترفون فيه لله تعالى بالذنوب؛ ولأنه أعرف الأماكن التي حوله.

و{ عرفات } مشعر حلال خارج الحرم؛ ومع ذلك فهو الحج، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»(196)؛ والحكمة من الوقوف فيها أن يجمع الحاج في نسكه بين الحل والحرم؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تحرم بالعمرة من التنعيم(197)؛ لتجمع فيها بين الحل والحرم.

قوله تعالى: { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } الفاء هنا واقعة في جواب الشرط؛ وأداة الشرط: «إذا» ؛ وقوله تعالى: { فاذكروا الله } أي باللسان، والقلب، والجوارح؛ فيشمل كل ما فعل عند المشعر من عبادة؛ ومن ذلك صلاة المغرب، والعشاء، والفجر؛ و{ المشعر } مكان الشعيرة؛ فهي «مَفْعَل» اسم مكان؛ وهو المكان الذي تؤدى فيه شعيرة من شعائر الله عزّ وجلّ؛ و{ الحرام } أي ذي الحرمة؛ لأنه داخل حدود الحرم؛ وقال العلماء: إن هذا الوصف وصف قيدي؛ ليخرج المشعر الحلال ـ وهو عرفة ـ؛ وقالوا: إن المشعر مشعران: حلال ـ وهو عرفة ـ؛ وحرام ـ وهو مزدلفة ـ.

قوله تعالى: ( واذكروه كما هداكم }؛ أمر بالذكر مرة أخرى؛ لكن لأجل التعليل الذي بعده ـ وهو الهداية ـ؛ لهذا الكاف هنا للتعليل؛ و «ما» مصدرية تسبك، وما بعدها بمصدر؛ فيكون التقدير: واذكروه لهدايتكم؛ والكاف تأتي للتعليل، كما قال ابن مالك في الألفية:

(شبه بكاف وبها التعليل قد يعنى وزائداً لتوكيد ورد) ومن ذلك قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا...} [البقرة: 151] الآية؛ وكما في التشهد في قوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...» ، أي لأنك صليت على إبراهيم فصل على محمد؛ فهو توسل إلى الله تعالى بفعل سبق منه نظير ما سألته.

ويحتمل أن تكون الكاف للتشبيه؛ وعليه فيكون الأمر بذكره ثانية عائداً على الوصف ـ أي اذكروه على الصفة التي هداكم إليها ـ أي على حسب ما شرع؛ وعليه فلا تكرار؛ لأن الأمر بالذكر أولاً أمر بمطلق الذكر، والأمر به ثانية أمر بكونه على الصفة التي هدانا إليها.

وقوله تعالى: { هداكم } أي دلكم، ووفقكم.

قوله تعالى: { وإن كنتم من قبله لمن الضالين }؛ { إن } مخففة من الثقيلة؛ فهي للتوكيد بدليل وجود اللام الفارقة؛ والتقدير: وإنكم كنتم من قبله لمن الضالين؛ واسم { إن } ضمير الشأن محذوف؛ وهو مناسب للسياق؛ وبعض النحويين يقدر ضمير الشأن دائماً بضمير مفرد مذكر غائب فيكون التقدير: وإنه ـ أي الشأن والصواب القول الأول أنه يقدر بما يقتضيه السياق - يعني: وإنكم كنتم من قبله لمن الضالين -؛ وجملة: { كنتم من قبله لمن الضالين } خبر { إن } المخففة؛ والضمير في قوله تعالى: { من قبله } يعود على القرآن؛ أو يعود على الرسول؛ أو يعود على الهدى؛ كل ذلك محتمل؛ وكل ذلك متلازم؛ فالهدى جاء من القرآن، ومن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: { لمن الضالين }: يشمل الضال عن جهل؛ والضال عن علم؛ فالضال عن جهل: الذي لم يعلم بالحق أصلاً؛ والضال عن علم: الذي ترك الطريق الذي ينبغي أن يسلكه - وهو الرشد -؛ والعرب من قبل هذا الدين ضالون؛ منهم من كان ضالاً عن جهل؛ ومنهم من كان ضالاً عن علم؛ فمثلاً قريش لا تفيض من عرفة؛ وإنما تقف يوم عرفة في مزدلفة؛ قالوا: لأننا نحن أهل الحرم؛ فلا نخرج عنه؛ فكانوا يقفون في يوم عرفة في مزدلفة، ولا يفيضون من حيث أفاض الناس؛ وإذا جاء الناس وباتوا فيها خرجوا جميعاً إلى منى؛ وهذا من جهلهم، أو عنادهم.

الفوائد:

1 ـ من فوائد الآية: جواز الاتجار أثناء الحج بالبيع، والشراء، والتأجير ـ كالذي يؤجر سيارته التي يحج عليها في الحج؛ لقوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }.

2 ـ ومنها: أنه ينبغي للإنسان في حال بيعه، وشرائه أن يكون مترقباً لفضل الله لا معتمداً على قوته، وكسبه؛ لقوله تعالى: { أن تبتغوا فضلاً من ربكم }.

3 ـ ومنها: ظهور منة الله على عباده بما أباح لهم من المكاسب؛ وأن ذلك من مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى: { فضلاً من ربكم }.

4 ـ ومنها: مشروعية الوقوف بعرفة؛ لقوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات }؛ وهو ركن من أركان الحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»(198)؛ لو قال قائل: إن قوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات } ليس أمراً بالوقوف بها.

فالجواب: أنه لم يكن أمراً بها؛ لأنها قضية مسلمة؛ ولهذا قال تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات }.

5 ـ ومنها: أنه يشترط للوقوف بمزدلفة أن يكون بعد الوقوف بعرفة؛ لقوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام }؛ فلو أن أحداً مر
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:34 am من طرف ahmadhamad
الاية 203 الي الاية 209

{)وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة:203)

التفسير:

{ 203 } قوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ لما ذكر الله - تبارك وتعالى - أفعال الحج ذكر ما بعد انتهاء أفعال الحج؛ وهو ذكر الله تعالى في أيام معدودات؛ وهي أيام التشريق الثلاثة: الحادي عشر؛ والثاني عشر؛ والثالث عشر من شهر ذي الحجة؛ والذكر هنا يشمل كل ما يتقرب به إلى الله عزّ وجلّ من قول أو فعل في هذه الأيام؛ فيشمل التكبير في تلك الأيام مطلقاً، ومقيداً؛ والنحر من الضحايا، والهدايا؛ ورمي الجمار؛ والطواف، والسعي إذا وقعا في هذه الأيام؛ بل والصلاة المفروضة، والتطوع؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا، والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»(206)، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل، وشرب، وذكر لله عزّ وجلّ»(207).

قوله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أي من تعجل قبل تمام الأيام الثلاثة، وأنهى حجه فلا إثم عليه.

قوله تعالى: { ومن تأخر فلا إثم عليه }، أي من تأخر إلى اليوم الثالث في منى لرمي الجمرات فلا إثم عليه.

قوله تعالى: { لمن اتقى }: الظاهر أنها قيد للأمرين جميعاً للتعجل والتأخر، بحيث يحمل الإنسان تقوى الله عزّ وجلّ على التعجل أو التأخر.

قوله تعالى: { واتقوا الله }: ما أكثر ما يأمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى في كتابه العزيز؛ لأن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة.

قوله تعالى: { واعلموا أنكم إليه تحشرون } أي تجمعون إلى الله - تبارك وتعالى؛ وذلك يوم القيامة؛ وصدر هذا بقوله تعالى: { واعلموا } للتنبيه على أنه لا بد من الإيمان بهذا الحشر، والاستعداد له.



الفوائد:

1 من فوائد الآية: مزية الذكر في هذه الأيام المعدودات؛ لقوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ لأن ذكر الله على سبيل العموم في كل الوقت؛ لكن هذا على سبيل الخصوص.

2 ومنها: أنه يجوز في هذه الأيام الثلاثة التعجل، والتأخر؛ لقوله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه }.

3 ومنها: سعة فضل الله عزّ وجلّ، وتيسيره في أحكامه، حيث جعل الإنسان مخيراً أن يبقى ثلاثة أيام، أو يتعجل في اليومين.

4 ومنها: أنّه لا بد أن يكون خروجه من منى قبل أن تغرب الشمس؛ لأن { في } للظرفية؛ والظرف يحيط بالمظروف؛ فلا بد أن يكون التعجل في خلال اليومين بعد الرمي الواقع بعد الزوال.

5 ومنها: أنه لا يجوز التعجل في اليوم الحادي عشر؛ لأنه لو تعجل في اليوم الحادي عشر لكان تعجل في يوم لا في يومين؛ فكثير من العامة يظنون أن المراد باليومين: يوم العيد، واليوم الحادي عشر؛ وهذا ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى قال: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ وهي أيام التشريق؛ وأيام التشريق إنما تبتدئ من الحادي عشر.

6 ومنها: أن الأعمال المخير فيها إنما ينتفي الإثم عنها إذا فعلها الإنسان على سبيل التقوى لله عزّ وجلّ دون التهاون بأوامره؛ لقوله تعالى: { لمن اتقى }؛ فمن فعل ما يخير فيه على سبيل التقوى لله عزّ وجلّ والأخذ بتيسيره فهذا لا إثم عليه؛ وأما من فعلها على سبيل التهاون، وعدم المبالاة فإن عليه الإثم بترك التقوى، وتهاونه بأوامر الله.

تنبيه:

لا يستفاد من الآية جواز التأخر إلى اليوم الرابع عشر، والخامس عشر مع أن الله تعالى أطلق: { ... ومن تأخر }؛ لأن أصل الذكر في أيام معدودات؛ وهي ثلاثة أيام؛ فيكون المعنى؛ من تأخر في هذه الأيام المعدودات؛ وهي الأيام الثلاثة.

7 ومنها: وجوب التقوى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.

8 ومنها: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: { واعلموا أنكم إليه تحشرون }.

9 ومنها: قرن المواعظ بالتخويف؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون }؛ لأن الإنسان إذا علم أنه سيحشر إلى الله عزّ وجلّ، وأنه سيجازيه فإنه سوف يتقي الله، ويقوم بما أوجب الله، ويترك ما نهى الله عنه؛ وبهذا عرفنا الحكمة من كون الله عزّ وجلّ يقرن الإيمان باليوم الآخر في كثير من الآيات بالإيمان بالله دون بقية الأركان التي يؤمن بها؛ وذلك؛ لأن الإيمان باليوم الآخر يستلزم العمل لذلك اليوم؛ وهو القيام بطاعة الله ورسوله.



القرآن

{ )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) (البقرة:204)

التفسير:

{ 204 } فيما سبق من الآيات قسم الناس في الحج إلى قسمين؛ منهم من يقول: {ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} [البقرة: 200] ؛ ومنهم من يقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [البقرة: 201] ؛ وهؤلاء لهم نصيب مما كسبوا؛ هنا قسم الناس أيضاً إلى قسمين: إلى مؤمن؛ وإلى منافق؛ فقال تعالى في المنافق: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا }؛ { من } هنا للتبعيض؛ وهي بمعنى بعض الناس؛ ولهذا أعربها بعض النحويين على أنها مبتدأ؛ قال: لأنها حرف بمعنى الاسم؛ إذ إنها بمعنى بعض الناس؛ فيكون { من } مبتدأ، و{ من يعجبك } خبره؛ لكن المشهور أن { مِنْ } حرف جر؛ و{ من الناس} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ و{ من يعجبك } مبتدأ مؤخر؛ يعني: ومن الناس الذي يعجبك قوله، والخطاب في قوله تعالى: { يعجبك } إما للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإما لكل من يتأتى خطابه؛ والأولى الثاني.

وقوله تعالى: { من يعجبك قوله } ذكر بعض النحويين أنه إذا قيل: «أعجبني كذا» فهو لما يستحسن؛ وإذا قلت: «عجبت من كذا» فهو لما ينكر؛ فتقول مثلاً: «أعجبني قول فلان» إذا كان قولاً حسناً؛ و«عجبت من قوله» إذا كان قولاً سيئاً منكراً؛ فقوله تعالى: { من يعجبك قوله } أي من تستحسن قوله.

قوله تعالى: { في الحياة الدنيا } أي إذا تكلم فيما يتعلق بأمور الدنيا كأن يتكلم بشيء، ويتوصل به إلى نجاته من القتل، والسبي؛ لأن هذه الآية في المنافقين؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} [المنافقون: 4] من حسنه، وفصاحته؛ ولكنهم أهل غرور، وخداع، وكذب؛ فإن آية المنافق ثلاث؛ منها: إذا حدث كذب.

وقوله تعالى: { في الحياة الدنيا } متعلق بمحذوف حالاً من { قوله }؛ والتقدير: قوله حال كونه فيما يتعلق بالدنيا؛ لأنه لا يتكلم في أمور الدين؛ ويحتمل أن المعنى: القول الذي يعجب حتى في الدين؛ لكن لا ينتفع به في الآخرة؛ إنما ينتفع به في الدنيا فقط.

قوله تعالى: { ويشهد الله على ما في قلبه }؛ اختلف المفسرون في معناها على قولين: الأول: أن المعنى استمراره في النفاق؛ لأن الله - تبارك وتعالى - يعلم ما في قلبه من هذا النفاق؛ فاستمراره عليه إشهاد لله تعالى على ما في قلبه.

والقول الثاني: أن المعنى: أن يُقسم، ويحلف بالله أنه مؤمن مصدق، وأن الذي في قلبه هو هذا؛ فيشهد الله على ما في قلبه من محبة الإيمان، والتمسك به وهو كاذب في ذلك؛ ويدل لذلك قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] ، أي لكاذبون في دعواهم أنهم يشهدون بذلك؛ وعندي أن المعنيين لا يتنافيان؛ كلاهما حق؛ فهو منطوٍ على الكفر والنفاق؛ وهو أيضاً يُعلم الناس، ويُشهد الله على أنه مؤمن؛ أما حقيقته قال الله تعالى فيه: { وهو ألد الخصام } يعني: أعوجهم، وأكذبهم؛ و{ الخصام } يحتمل أن يكون مصدراً؛ ويحتمل أن يكون جمعاً؛ إن كان مصدراً ففعله: خاصم يخاصم، مثل: جادل يجادل؛ وقاتل يقاتل؛ وعلى هذا: { ألد الخصام } تكون الإضافة لفظية؛ لأنها صفة مشبهة مضافة إلى موصوفها - أي وخصامه ألد الخصام؛ وإن كان جمعاً فمفرده: خَصِم؛ فيكون المعنى أنه ألد الخصوم - أي أعوجهم، وأشدهم كذباً؛ ويكون أيضاً من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ لأنَّ المعنى؛ وهو من الخصوم الأشداء الأقوياء في خصومتهم؛ وهذا الرجل صار ألد الخصام؛ لأن قوله جيد، وبيِّن يعجبك قوله، فتجده لاعتماده على فصاحته، وبيانه ألد الخصام.

الفوائد:

1- من فوائد الآية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يغتر بظواهر الأحوال؛ لقوله تعالى: { ومن الناس من يعجبك قوله }؛ وكذلك من الناس من يعجبك فعله؛ ولكنه منطوٍ على الكفر - والعياذ بالله؛ ولكن لا شك أنه بالنسبة إلينا ليس لنا أن نحكم إلا بما يقتضيه الظاهر؛ لأن ما في القلوب لا نعلمه؛ ولا يمكن أن نحاسب الناس على ما في القلوب؛ وإنما نحاسبهم على حسب الظاهر.

2- ومنها: أن هذا الصنف من الناس يُشهد الله على ما في قلبه إما مما أظهره؛ وإما مما أبطنه - حسب ما سبق.

3- ومنها: الإشارة إلى ذم الجدل، والخصام؛ لقوله تعالى: { وهو ألد الخصام }؛ لأن الخصومات في الغالب لا يكون فيها بركة؛ وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»(208) أي الإنسان المخاصم المجادل بالباطل ليدحض به الحق؛ وما من إنسان في الغالب أعطي الجدل إلا حرم بركة العلم؛ لأن غالب من أوتي الجدل يريد بذلك نصرة قوله فقط؛ وبذلك يحرم بركة العلم؛ أما من أراد الحق فإن الحق سهل قريب لا يحتاج إلى مجادلات كبيرة؛ لأنه واضح؛ ولذلك تجد أهل البدع الذين يخاصمون في بدعهم علومهم ناقصة البركة لا خير فيها؛ وتجد أنهم يخاصمون، ويجادلون، وينتهون إلى لا شيء؛ لا ينتهون إلى الحق؛ لأنهم لم يقصدوا إلا أن ينصروا ما هم عليه؛ فكل إنسان جادل من أجل أن ينتصر قوله فإن الغالب أنه لا يوفق، ولا يجد بركة العلم؛ وأما من جادل ليصل إلى العلم، ولإثبات الحق، وإبطال الباطل فإن هذا مأمور به؛ لقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] .

4- ومنها: إثبات علم الله عزّ وجلّ بما في الصدور؛ لقوله تعالى: { ويشهد الله على ما في قلبه }؛ لأن ما في القلب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ.



القرآن

{ )وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205)

التفسير:

{205 } قوله تعالى: { وإذا تولى } أي عنك، وذهب { سعى في الأرض }: المراد بالسعي هنا مطلق الحركة؛ وليس المراد بالسعي الركض بالرِّجل؛ { ليفسد فيها } أي بالمعاصي، والكفر، والفتنة.

قوله تعالى: { ويهلك الحرث والنسل } أي يكون سبباً لإهلاكهما؛ لأن المعاصي سبب لذلك؛ لقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41] ، ولقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96] ؛ والمراد بـ{ الحرث } المحروث؛ وهو الزروع، كما يقال: «الغرس» يعني المغروس؛ والمراد بـ{ النسل } مثلها أيضاً يعني: المنسول؛ وهو الأولاد؛ يعني: يكون سعيه سبباً لفساد الحرث، والحيوانات.

قوله تعالى: { والله لا يحب الفساد } بيان أن عمله هذا مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد؛ وإذا كان لا يحب هذا الفعل فإنه لا يحب من اتصف به؛ ولهذا جاء في آية أخرى؛ {والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64] ؛ فالله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين؛ فالفساد نفسه مكروه إلى الله؛ والمفسدون أيضاً مَكروهون إليه لا يحبهم.

الفوائد:

1 من فوائد الآية: أن المعاصي سبب لهلاك الحرث، والنسل؛ لقوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} [البقرة: 205] ؛ وهذا كقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96] .

2 ومنها: إثبات محبة الله عزّ وجلّ للصلاح؛ لقوله تعالى { والله لا يحب الفساد }؛ فإن قيل: هذا نفي، وليس بإثبات؛ قلنا: إن نفيه محبة الفساد دليل على ثبوت أصل المحبة؛ ولو كان لا يحب أبداً لم يكن هناك فرق بين الفساد، والصلاح؛ فلما نفى المحبة عن الفساد علم أنه يحب الصلاح.

3 ومنها: التحذير من الفساد في الأرض؛ لقوله تعالى: { والله لا يحب الفساد }؛ ومعلوم أن كل إنسان يجب أن يكون حذراً من التعرض لأمر لا يحبه الله.



القرآن

{)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة:206)

التفسير:

{ 206 } قوله تعالى: { وإذا قيل له اتق الله } أي إذا قال له أهل العلم، والإيمان اتق الله أي اتخذ وقاية من عذاب الله بترك الكفر، والفساد؛ و{ أخذته العزة بالإثم } أي حملته على الإثم؛ و{ العزة } بمعنى الأنفة، والحمية، والترفع؛ والعزة قد تكون وصفاً محموداً؛ وقد تكون وصفاً مذموماً، فالمعتز بدينه محمود، كما قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] ؛ والمعتز بحسبه ونسبه حتى يكون عنده أنفة إذا أُمر بالدين والإصلاح مذموم.

والمراد بـ {الإثم} الذنب الموجب للعقوبة؛ فكل ذنب موجب للعقوبة فهو إثم.

قوله تعالى: { فحسبه جهنم } أي كافيه؛ وهو وعيد له بها - والعياذ بالله؛ و «الحسْب» بمعنى الكافي، كما قال الله تعالى: {فقل حسبي الله} [التوبة: 129] أي كافيني؛ وقال تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173] أي كافينا؛ فقوله تعالى؛ { فحسبه جهنم } أي كافيته؛ والمعنى: أنه يكون من أهلها - والعياذ بالله و{ جهنم } اسم من أسماء النار؛ قيل: إنها كلمة معربة، وأنها ليست من العربية الفصحى؛ وقيل: بل هي من اللغة الفصحى، وأن أصلها من الجهمة؛ وهي الظلمة؛ ولكن زيدت فيها النون للمبالغة؛ وعلى كلٍّ فإن { جهنم } اسم للنار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين؛ وسميت بذلك لبعد قعرها، وظلمتها - والعياذ بالله -.

قوله تعالى: { ولبئس المهاد }: اللام هنا للابتداء؛ أو موطئة للقسم - أي: وواللَّهِ لبئس المهاد - وهذا أقرب؛ و «بئس» فعل جامد لإنشاء الذم؛ وفاعلها { المهاد }؛ وهي من الأفعال التي تحتاج إلى مخصوص بالذم؛ والمخصوص محذوف؛ أي: ولبئس المهاد مهاده، حيث كانت جهنم.

الفوائد:

1- من فوائد الآية: أن هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات يأنف أن يؤمر بتقوى الله؛ لقوله تعالى: { أخذته العزة بالإثم } فهو يأنف، كأنه يقول في نفسه: أنا أرفع من أن تأمرني بتقوى الله عزّ وجلّ؛ وكأن هذا الجاهل تعامى عن قول الله تعالى لأتقى البشر: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] ؛ وقال تعالى في قصة زينب: {واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] .

2- ومنها: البلاغة التامة في حذف الفاعل في قوله تعالى: { وإذا قيل له اتق الله }؛ ليشمل كل من يقول له ذلك؛ فيكون رده لكراهة الحق.

3- ومنها: التحذير من رد الناصحين؛ لأن الله تعالى جعل هذا من أوصاف هؤلاء المنافقين؛ فمن رد آمراً بتقوى الله ففيه شبه من المنافقين؛ والواجب على المرء إذا قيل له: «اتق الله» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا» تعظيماً لتقوى الله.

4- ومنها: أن الأنفة قد تحمل صاحبها على الإثم؛ لقوله تعالى: { أخذته العزة بالإثم }.

5- ومنها: أن هذا العمل موجب لدخول النار؛ لقوله تعالى: { فحسبه جهنم }.

6- ومنها: القدح في النار، والذم لها؛ لقوله تعالى: { ولبئس المهاد }؛ ولا شك أن جهنم بئس المهاد.



القرآن

{ )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207)

التفسير:

لما ذكر الله حال المنافقين الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا وهم ألد الخصام؛ والذين إذا تولوا سعوا في الأرض فساداً ليهلكوا الحرث، والنسل - والله لا يحب الفساد - ذكر حال قوم على ضدهم؛ وهكذا القرآن مثاني تثَنَّى فيه الأمور؛ فيؤتى بذكر الجنة مع النار؛ وبذكر المتقين مع الفجار... لأجل أن يبقى الإنسان في روضة متنوعة؛ ثم ليبقى الإنسان بين الخوف، والرجاء - لا يغلب عليه الخوف فيقنط من رحمة الله -؛ ولا الرجاء فيأمن مكر الله؛ فإذا سمع ذكر النار، ووعيدها، وعقوبتها أوجب له ذلك الخوف؛ وإذا سمع ذكر الجنة، ونعيمها، وثوابها أوجب له ذلك الرجاء؛ فترتيب القرآن من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى؛ وهو الموافق لإصلاح القلوب؛ ولهذا نرى من الخطأ الفادح أن يؤلف أحد القرآن مرتباً على الأبواب والمسائل كما صنعه بعض الناس؛ فإن هذا مخالف لنظم القرآن، والبلاغة، وعمل السلف؛ فالقرآن ليس كتاب فقه؛ ولكنه كتاب تربية، وتهذيب للأخلاق؛ فلا ترتيب أحسن من ترتيب الله؛ ولهذا كان ترتيب الآيات توقيفياً لا مجال للاجتهاد فيه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت الآية قال: «ضعوا هذه الآية في مكان كذا من سورة كذا»(209).

{ 207 } قوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه }؛ هذا هو القسيم لقوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك...} [البقرة: 204] ؛ وعلى هذا تكون { مِن } للتبعيض؛ والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ و{ من يشري } مبتدأ مؤخر.

وقوله تعالى: { من الناس }: قال بعض المفسرين: إنها تعني شخصاً معيناً؛ وهو صهيب الرومي لما أراد أن يهاجر من مكة منعه كفارها، وقالوا: لا يمكنك أن تهاجر أبداً إلا أن تدع لنا جميع ما تملك؛ فوافق على ذلك، وأنقذ نفسه بالهجرة ابتغاء مرضاة الله؛ وقال بعض العلماء - وهم أكثر المفسرين -: بل هي عامة لكل المؤمنين المجاهدين في سبيل الله؛ قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} [التوبة: 111] ؛ وهذا القول أصح؛ وهو أنها للعموم حتى لو صح أن سبب نزولها قصة صهيب؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقوله تعالى: { من يشري نفسه } أي يبيعها؛ لأن «شرى» بمعنى باع، كقوله تعالى: {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] أي باعوه بثمن بخس؛ أما «اشترى» فهي بمعنى ابتاع؛ فإذا جاءت التاء فهي للمشتري الآخذ؛ وإذا حذفت التاء فهي للبائع المعطي؛ و{ نفسه } يعني ذاته.

قوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله } أي طلباً لمرضات الله؛ فهي مفعول لأجله؛ و{ مرضات الله } أي رضوانه أي يبيع نفسه في طلب رضا الله عزّ وجلّ -؛ فيكون قد باع نفسه مخلصاً لله في هذا البيع.

قوله تعالى: { والله رؤوف } أي ذو رأفة؛ و«الرأفة» قال العلماء: هي أرق الرحمة، وألطفها؛ و{ بالعباد } أي جميعهم.

وفي قوله تعالى: { رؤوف } قراءتان؛ إحداهما: مد الهمزة على وزن فعول؛ والثانية قصرها على وزن فعُل.

الفوائد:

1- من فوائد الآية: تقسيم الناس إلى قسمين؛ القسم الأول: {ومن الناس من يعجبك قوله} [البقرة: 204] ؛ والقسم الثاني: { ومن الناس من يشري نفسه }.

2- ومنها: بلاغة هذا القرآن حيث يجعل الأمور مثاني؛ إذا جاء الكلام عن شيء جاء الكلام عن ضده.

3- ومنها: فضل من باع نفسه لله؛ لقوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }.

4- ومنها: الإشارة إلى إخلاص النية؛ لقوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله }.

5- ومنها: إثبات الرضا لله؛ لقوله تعالى: { مرضات الله }؛ ورضا الله صفة حقيقية لله عزّ وجلّ متعلقة بمشيئته؛ وينكرها الأشاعرة وأشباههم من أهل التعطيل؛ ويحرفون المعنى إلى أن المراد برضا الله إما إثابته؛ أو إرادة الثواب.

6- ومنها: استحباب تقديم مرضاة الله على النفس؛ لأن الله ذكر ذلك في مقام المدح، والثناء.

7- ومنها: إثبات الرأفة لله؛ لقوله تعالى: { والله رؤوف بالعباد }.

8- ومنها: عموم رأفة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { بالعباد }؛ هذا إذا كان { العباد } بالمعنى العام؛ أما إذا قلنا بالمعنى الخاص فلا يستفاد ذلك؛ واعلم أن العبودية لها معنيان: خاص؛ وعام؛ والخاص له أخص؛ وهو خاص الخاص؛ فمن العام قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93]؛ وأما الخاص فمثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} [الفرقان: 63] ؛ المراد بهم عباد الرحمن المتصفون بهذه الصفات؛ فيخرج من لم يتصف بها؛ وأما الأخص مثل قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ؛ هذه عبودية الأخص - عبودية الرسالة -.



القرآن

{ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208)

التفسير:

{ 208 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: الخطاب للمؤمنين؛ وقد تَقدم أن الله تعالى إذا ابتدأ الحكم بالنداء فهو دليل على العناية به؛ لأن المقصود بالنداء تنبيه المخاطب؛ ولا يتطلب التنبيه إلا ما كان مهماً؛ فعندما أقول: «انتبه» يكون أقل مما لو قلت: «يا فلان انتبه»؛ ثم إذا كان الخطاب للذين آمنوا فإن في ذلك ثلاث فوائد سبق ذكرها(1).

قوله تعالى: { ادخلوا في السلم كافة }؛ { السلم } فيها قراءتان: بفتح السين؛ وبكسرها؛ والمراد به الإسلام؛ وهو الاستسلام لله - تعالى - ظاهراً، وباطناً.

فإن قال قائل: كيف يقول: { ادخلوا في السلم } ونحن قد عرفنا من قبل أن الإيمان أكمل من الإسلام؛ لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}؟ [الحجرات: 14]، قلنا: إن هذا الأمر مقيد بما بعد قوله: { في السلم }؛ وهو قوله تعالى: { كافة }؛ فيكون الأمر هنا منصباً على قوله تعالى: { كافة }؛ و{ كافة } اسم فاعل يطلق على من يكف غيره؛ فتكون التاء فيه للمبالغة، مثل: راوية، ساقية، علامة... وما أشبه ذلك؛ والتاء في هذه الأمثلة للمبالغة؛ فيكون { كافة } بمعنى كافاً؛ والتاء للمبالغة؛ قالوا: ومنه قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} [سبأ: 28]، أي كافاً لهم عمَّا يضرهم لتخرجهم من الظلمات إلى النور.

وتأتي «كافة» بمعنى جميع، مثل «عامة»، كقوله صلى الله عليه وسلم: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة»(2)؛ ووجه ارتباطها بالمعنى الأصلي - الذي هو الكف - أن الجماعة لها شوكة ومنعة تكف بجمعيتها من أرادها بسوء؛ وهنا قال تعالى: { ادخلوا في السلم كافة } هل المراد ادخلوا في السلم جميعه، فتكون { كافة } حالاً من { السلم }؛ أو ادخلوا أنتم جميعاً في السلم، وتكون { كافة } حالاً من الواو في قوله تعالى: { ادخلوا }؟ الأقرب: المعنى الأول؛ لأننا لو قلنا بالمعنى الثاني: ادخلوا جميعاً في السلم صار معنى ذلك أن بعض المؤمنين لم يدخل في الإسلام؛ وحينئذ فلا يصح أن يوجه إليه النداء بوصف الإيمان؛ فالمعنى الأول هو الصواب أن { كافة } حال من { السلم } يعني ادخلوا في الإسلام كله؛ أي نفذوا أحكام الإسلام جميعاً، ولا تدعوا شيئاً من شعائره، ولا تفرطوا في شيء منها؛ وهذا مقتضى الإيمان؛ فإن مقتضى الإيمان أن يقوم الإنسان بجميع شرائع الإسلام.

قوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }؛ نهي بعد أمر؛ لأن اتباع خطوات الشيطان يخالف الدخول في السلم كافة؛ و{ خطوات } جمع خُطوة؛ و«الخطوة» في الأصل هي ما بين القدمين عند مدِّهما في المشي.

قوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }: الجملة تعليلية مؤكدة بـ «إن» ؛ فتفيد شدة عداوة الشيطان لبني آدم؛ والعدو من يبتغي لك السوء؛ وهو ضد الوليّ؛ و{ مبين } أي بيِّن العداوة؛ ويجوز أن تكون بمعنى مظهر للعداوة؛ لأن «أبان» الرباعية تصلح للمعنيين؛ ولا شك أن الشيطان بيِّن العداوة؛ ومظهر لعداوته؛ ألا ترى إلى إبائه السجود لأبينا آدم مع أن الله أمره به في جملة الملائكة.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: فضل الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ لأن هذا النداء تشريف وتكريم.

2 - ومنها: أن الإيمان مقتض لامتثال الأمر؛ لأن الله صدَّر الأمر بهذا النداء؛ والحكم لا يقرن بوصف إلا كان لهذا الوصف أثر فيه؛ وهذه الفائدة مهمة؛ ولا شك أن الإيمان يقتضي امتثال أمر الله عزّ وجلّ.

3 - ومنها: وجوب تطبيق الشرع جملة، وتفصيلاً؛ لقوله تعالى: { ادخلوا في السلم كافة }.

4 - ومنها: أن الإنسان يؤمر بالشيء الذي هو متلبس به باعتبار استمراره عليه، وعدم الإخلال بشيء منه؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة }؛ ومثل هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله} [النساء: 136] يعني: استمروا على ذلك.

5 - ومنها: تحريم اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }؛ والمعنى: أن لا نتبع الشيطان في سيره؛ لأن الله بين في آية أخرى أن الشيطان يأمر بالفحشاء، والمنكر؛ وما كان كذلك فإنه لا يمكن لعاقل أن يتبعه؛ فلا يرضى أحد أن يتبع الفحشاء والمنكر؛ وأيضاً الشيطان لنا عدو، كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو} [فاطر: 6] ، ثم قال تعالى: { فاتخذوه عدواً }؛ ولا أحد من العقلاء يتبع عدوه؛ إذا كان الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، وكان عدواً لنا، فليس من العقل - فضلاً عن مقتضى الإيمان - أن يتابعه الإنسان في خطواته -؛ وخطوات الشيطان بيَّنها الله عزّ وجلّ: يأمر بـ «الفحشاء» - وهي عظائم الذنوب؛ و «المنكر» - وهو ما دونها من المعاصي؛ فكل معصية فهي من خطوات الشيطان؛ سواء كانت تلك المعصية من فعل المحظور، أو من ترك المأمور، فإنها من خطوات الشيطان؛ لكن هناك أشياء بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها من فعل الشيطان، ونص عليها بعينها، مثل: الأكل بالشمال(3)، والشرب بالشمال(4)، والأخذ بالشمال، والإعطاء بالشمال(5)؛ وكذلك الالتفات في الصلاة اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد(6)؛ فهذه المنصوص عليها بعينها واضحة؛ وغير المنصوص عليها يقال فيها: كل معصية فهي من خطوات الشيطان.

6 - ومن فوائد الآية: تحريم التشبه بالكفار؛ لأن أعمال الكفار من خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر؛ ولا أنكر من الكفر - والعياذ بالله -.

7 - ومنها: شدة عداوة الشيطان لبني آدم؛ لقوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }.

8 - ومنها: أنه لا يمكن أن يأمرنا الشيطان بخير أبداً؛ إذ إن عدوك يسره مساءتك، ويغمه سرورك؛ ولهذا قال تعالى في آية أخرى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} [فاطر: 6] .

9 - ومنها: قرن الحكم بعلته؛ لقوله تعالى: { لا تتبعوا خطوات الشيطان } ثم علل: { إنه لكم عدو مبين }.

ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي لمن أتى بالأحكام أن يقرنها بالعلل التي تطمئن إليها النفس؛ فإن كانت ذات دليل من الشرع قرنها بدليل من الشرع؛ وإن كانت ذات دليل من العقل، والقياس قرنها بدليل من العقل، والقياس؛ وفائدة ذكر العلة أنه يبين سمو الشريعة وكمالها؛ وأنه تزيد به الطمأنينة إلى الحكم؛ وأنه يمكن إلحاق ما وافق الحكم في تلك العلة.



القرآن

)فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:209)

التفسير:

{ 209 } قوله تعالى: { فإن زللتم } قال بعض العلماء: أي عدلتم؛ وقال آخرون: أي ملتم؛ والمعنى متقارب؛ لأن العادل عن الشيء زال عنه.

قوله تعالى: { من بعد ما جاءتكم البينات }؛ { البينات } صفة لموصوف محذوف - أي الآيات البينات -؛ وسمى الله ذلك زللاً؛ لأن في الميل، والعدول عن الحق هلكة، مثل لو زلّ الإنسان، وسقط في بئر مثلاً.

قوله تعالى: { فاعلموا أن الله عزيز حكيم }: هذا جواب الشرط؛ والمراد بالعلم أن نحذر ممن له العزة.

وذكر أهل العلم أن «العزيز» له ثلاثة معانٍ: عزة قدْر؛ وعزة قهر؛ وعزة امتناع؛ فعزة القدر - أي أنه عزّ وجلّ عظيم القدر -؛ لقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة...} [الزمر: 67] الآية؛ أما عزة القهر فمعناها الغلبة - أي أنه سبحانه وتعالى غالب لا يغلبه شيء -؛ وهذا أظهر معانيها؛ وأما عزة الامتناع فمعناها أنه يمتنع أن يناله السوء - مأخوذ من قولهم: «أرض عزاز» أي قوية صلبة لا تؤثر فيها الأقدام -؛ وأما «الحكيم» أي ذو الحكم، والحكمة.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الوعيد على من زلّ بعد قيام الحجة عليه؛ لقوله تعالى: { فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات }؛ فإن قيل: من أين يأتي الوعيد؟ قلنا: من قوله تعالى: { فاعلموا أن الله عزيز حكيم }؛ لأن من معاني «العزة» الغلبة، والقهر؛ و «الحكمة» : تنزيل الشيء في مواضعه؛ فإذا كان هناك غلبة وحكمة، فالمعنى: أنه سينزِّل بكم ما تتبين به عزته؛ لأن هذا هو مقتضى حكمته.

2 - ومنها: أن الله تعالى أقام البينات بالعباد؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءتكم البينات }.

3 - ومنها: أنه لا تقوم الحجة على الإنسان، ولا يستحق العقوبة إلا بعد قيام البينة؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءتكم البينات }؛ ولهذا شواهد كثيرة من الكتاب والسنة تدل على أن الإنسان لا حجة عليه حتى تقوم عليه البينة.

4 - ومنها: وجوب الإيمان بأسماء الله، وما تضمنته من صفات؛ لقوله تعالى: { فاعلموا } علم اعتراف، وإقرار، وقبول، وإذعان؛ فمجرد العلم لا يكفي؛ ولهذا فإن أبا طالب كان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه رسول الله؛ لكنه لم يقبل، ولم يذعن؛ فلهذا لم ينفعه إقراره؛ فالإيمان ليس مجرد اعتراف بدون قبول وإذعان.

5 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله - وهما «العزيز» ، و «الحكيم» -؛ وإثبات ما تضمناه من صفة - وهي العزة، والحُكم، والحكمة.
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:35 am من طرف ahmadhamad
الاية 210 الي الاية 216

)هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (البقرة:210)

التفسير:

{ 210 } قوله تعالى: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله }: الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ و{ ينظرون } بمعنى ينتظرون؛ أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون الذين زلوا بعد ما جاءتهم البينات؛ وتأتي بمعنى النظر بالعين؛ فإن عديت بـ«إلى» فهي للنظر بالعين؛ وإن لم تعدّ فهي بمعنى الانتظار؛ مثال المعداة بـ«إلى» قوله تعالى: {لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم} [آل عمران: 77] .

وقوله تعالى: { إلا أن يأتيهم الله } أي يأتيهم الله نفسه؛ هذا ظاهر الآية، ويجب المصير إليه؛ لأن كل فعل أضافه الله إليه فهو له نفسه؛ ولا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل من عند الله.

قوله تعالى: { في ظلل من الغمام }؛ { في } معناها «مع»؛ يعني يأتي مصاحباً لهذه الظلل؛ وإنما أخرجناها عن الأصل الذي هو الظرفية؛ لأنا لو أخذناها على أنها للظرفية صارت هذه الظلل محيطة بالله عزّ وجلّ؛ والله أعظم، وأجلّ من أن يحيط به شيء من مخلوقاته؛ ونظير ذلك أن نقول: جاء فلان في الجماعة الفلانية أي معهم -؛ وإن كان هذا التنظير ليس من كل وجه؛ لأن فلاناً يمكن أن تحيط به الجماعة؛ ولكن الله لا يمكن أن يحيط به الظلل؛ وهذا الغمام يأتي مقدمة بين يدي مجيء الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] ؛ فالسماء تشقق - لا تنشق - كأنها تنبعث من كل جانب؛ وقيل إن { في } بمعنى الباء؛ فتكون كقوله تعالى: {ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [التوبة: 52] ؛ وهذا قول باطل لمخالفته ظاهر الآية؛ و{ الغمام }: قالوا: إنه السحاب الأبيض الرقيق؛ لكن ليس كسحاب الدنيا؛ فالاسم هو الاسم؛ ولكن الحقيقة غير الحقيقة؛ لأن المسميات في الآخرة - وإن شاركت المسميات في الدنيا في الاسم - إلا أنها تختلف مثلما تختلف الدنيا عن الآخرة.

قوله تعالى: { والملائكة } بالرفع عطفاً على لفظ الجلالة؛ يعني: وتأتيهم الملائكة أيضاً محيطة بهم، كما قال الله تعالى: {كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً * وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 21، 22] ؛ وفي حديث الصور الطويل الذي ساقه ابن جرير، وغيره(7) أن السماء تشقق؛ فتشقق السماء الدنيا بالغمام، وتنزل الملائكة، فيحيطون بأهل الأرض، ثم السماء الثانية، والثالثة، والرابعة...؛ كل من وراء الآخر؛ ولهذا قال تعالى: {صفاً صفاً} [الفجر: 22] يعني صفاً بعد صف؛ ثم يأتي الرب عزّ وجلّ للقضاء بين عباده؛ ذلك الإتيان الذي يليق بعظمته وجلاله؛ ولا أحد يحيط علماً بكيفيته؛ لقوله تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] ؛ وقد تقدم الكلام على الملائكة عند قوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] ؛ وبيَّنا أن الملائكة عالم غيبي مخلوقون من نور خلقهم الله عزّ وجلّ لعبادته يسبحون الليل والنهار لا يفترون.

قوله تعالى: { وقضي الأمر }: اختلف فيها المعربون؛ فمنهم من قال: إنها معطوفة على: { أن يأتيهم فتكون في حيّز الأمر المنتظر بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؛ وإلا أن يقضى الأمر؛ ولكنه أتى بصيغة الماضي لتحقق وقوعه؛ وعلى هذا فيكون محل الجملة النصب؛ لأن «تأتيهم الملائكة» منصوبة - يعني: هل ينظرون إلا إتيانَ الله في ظلل من الغمام، وإتيانَ الملائكة، وانقضاءَ الأمر -؛ ومنهم من قال: إنها جملة مستأنفة؛ أي: وقد انتهى الأمر، ولا عذر لهم بعد ذلك، ولا حجة لهم؛ و{ الأمر } بمعنى الشأن؛ أي قضي شأن الخلائق، وانتهى كل شيء، وصار أهل النار إلى النار، وأهل الجنة إلى الجنة؛ ولهذا قال بعده: { وإلى الله ترجع الأمور }؛ وفي { ترجع } قراءتان؛ الأولى: بفتح التاء، وكسر الجيم؛ والثانية: بضم التاء، وفتح الجيم؛ والمتعلِّق هنا مقدم على المتعَلَّق به؛ لأن { إلى الله } متعلق بـ{ ترجع }؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر، والاختصاص؛ أي إلى الله وحده لا إلى غيره ترجع الأمور - أمور الدنيا والآخرة - أي شؤونهما كلها: الدينية، والدنيوية، والجزائية، وكل شيء، كما قال الله تعالى: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123] فالأمور كلها ترجع إلى الله عزّ وجلّ؛ ومنها أن الناس يرجعون يوم القيامة إلى ربهم، فيحاسبهم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: وعيد هؤلاء بيوم القيامة؛ لقوله تعالى: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام... } إلخ.

2 - ومنها: أن الله تعالى لا يعذب هذه الأمة بعذاب عام؛ لأن الله جعل وعيد المكذبين يوم القيامة؛ ويدل لذلك آيات، وأحاديث؛ منها قول الله - تبارك وتعالى -: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنه سأل ربه أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأجابه»(Cool.

3 - ومنها: إثبات إتيان الله عزّ وجلّ يوم القيامة للفصل بين عباده؛ وهو إتيان حقيقي يليق بجلاله لا تُعلَم كيفيته، ولا يسأل عنها - كسائر صفاته -؛ قال الإمام مالك - رحمه الله - وقد سئل عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» ؛ هذا وقد ذهب أهل التعطيل إلى أن المراد بإتيان الله: إتيان أمره؛ وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، وصرف للكلام عن ظاهره بلا دليل إلا ما زعموه دليلاً عقلياً وهو في الحقيقة وهمي، وليس عقلياً؛ فنحن نقول: الذي نسب فعل الإتيان إليه هو الله عزّ وجلّ؛ وهو أعلم بنفسه؛ وهو يريد أن يبين لعباده، كما قال تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176] ؛ وإذا كان يريد أن يبين، وهو أعلم بنفسه، وليس في كلامه عِيٌّ، وعجز عن التعبير بما أراد؛ وليس في كلامه نقص في البلاغة؛ إذاً فكلامه في غاية ما يكون من العلم؛ وغاية ما يكون من إرادة الهدى؛ وغاية ما يكون من الفصاحة، والبلاغة؛ وغاية ما يكون من الصدق؛ فهل بعد ذلك يمكن أن نقول: إنه لا يراد به ظاهره؟! كلا؛ لا يمكن هذا إلا إذا قال الله هو عن نفسه أنه لم يرد ظاهره؛ إذاً المراد إتيان الله نفسه؛ ولا يعارض ذلك أن الله قد يضيف الإتيان إلى أمره، مثل قوله تعالى: {أتى أمر الله} [النحل: 1] ، ومثل قوله تعالى: {أو يأتي أمر ربك} [النحل: 33] ؛ لأننا نقول: إن هذا من أمور الغيب؛ والصفات توقيفية؛ فنتوقف فيها على ما ورد؛ فالإتيان الذي أضافه الله إلى نفسه يكون المراد به إتيانه بنفسه؛ والإتيان الذي أضافه الله إلى أمره يكون المراد به إتيان أمره؛ لأنه ليس لنا أن نقول على الله ما لا نعلم؛ بل علينا أن نتوقف فيما ورد على حسب ما ورد.

4 - ومن فوائد الآية: إثبات الملائكة.

5 - ومنها: إثبات عظمة الله عزّ وجلّ في قوله تعالى: { في ظلل من الغمام }؛ فـ{ ظلل } نكرة تدل على أنها ظلل عظيمة، وكثيرة؛ ولهذا جاء في سورة الفرقان: {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] يعني تثور ثوراناً بهذا الغمام العظيم من كل جانب؛ كل هذا مقدمة لمجيء الجبار سبحانه وتعالى؛ وهذا يفيد عظمة الباري سبحانه وتعالى.

6 - ومنها: أن الملائكة أجسام خلافاً لمن زعم أن الملائكة قوى الخير، وأنهم أرواح بلا أجسام؛ والرد على هذا الزعم في القرآن والسنة كثير.

7 - ومنها: أن يوم القيامة به ينقضي كل شيء؛ فليس بعده شيء؛ إما إلى الجنة؛ وإما إلى النار؛ فلا أمل أن يستعتب الإنسان إذا كان من أهل النار ليكون من أهل الجنة؛ لكنه أتى بصيغة ما لم يسم فاعله لعظمة هذا الأمر؛ وهذا كقوله تعالى: {وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين} [هود: 44] .

8 - ومنها: أن الأمور كلها ترجع إلى الله وحده؛ لقوله تعالى: { وإلى الله ترجع الأمور } أي الأمور الكونية، والشرعية؛ قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10] ، وقال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} [يوسف: 40] ؛ فالأمور كلها مرجعها إلى الله - تبارك وتعالى -؛ وما ثبت فيه أنه يرجع فيه إلى الخلق فإنما ذلك بإذن الله؛ فالحكم بين الناس مرجعه القضاة؛ لكن كان القضاة مرجعاً للناس بإذن الله تعالى.

9 - ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله - أي أنه يحدث من أفعاله ما شاء -؛ لقوله تعالى: { إلا أن يأتيهم الله }؛ وهذا مذهب السلف الصالح خلافاً لأهل التحريف والتعطيل الذين ينكرون هذا النوع، ويحرفونه إلى معان قديمة لمنعهم قيام الأفعال الاختيارية بالله عزّ وجلّ؛ ومذهبهم باطل بالسمع، والعقل؛ فالنصوص المثبتة لذلك لا تكاد تحصى؛ والعقل يقتضي كمال من يفعل ما يشاء متى شاء، وكيف شاء.

10 - ومن فوائد الآية: عظمة الله، وتمام سلطانه، وملكه؛ لقوله تعالى: { وإلى الله ترجع الأمور }.



القرآن

)سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:211)

التفسير:

{ 211 } قوله تعالى: { سل } أصلها اسأل؛ فنقلت حركة الهمزة إلى السين، ثم حذفت تخفيفاً؛ ثم حذفت همزة الوصل لعدم الحاجة إليها؛ و{ كم } استفهامية علقت الفعل { سل } عن العمل؛ فصارت هي، وجملتها في محل نصب؛ وأصله سل فلاناً عن كذا، وكذا؛ فعلقت الفعل عن المفعول الثاني؛ و{ كم } تحتاج إلى مميِّز؛ لأن { كم } اسم مبهم تدل على عدد؛ والمعدود: قوله تعالى: { من آية بينة }؛ و {آتينا} أي أعطينا؛ وهي تنصب مفعولين؛ المفعول الأول: الهاء؛ والمفعول الثاني: محذوف؛ والتقدير: كم من آية بينة آتيناهموها؛ وعاد الضمير المحذوف إلى متأخر لفظاً؛ لأنه متقدم رتبة؛ إذ { من آية } كان حقها أن تكون بعد { كم }؛ وجملة: { ومن يبدل... } شرطية؛ و{ مَن } اسم شرط جازم؛ ولهذا جزمت الفعل؛ وجوابه مفهوم من قوله تعالى: { فإن الله شديد العقاب }؛ فالجملة هنا دالة على الجواب، وليست هي الجواب؛ لأن شدة عقاب الله ثابتة سواء بدلوا، أم لم يبدلوا.

قوله تعالى: { سل بني إسرائيل }؛ الخطاب هل هو للرسول وحده؛ أو لكل من يتأتى خطابه؟ مثل هذه الخطابات تارة يقوم الدليل على أنها خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون خاصة به؛ وتارة يقوم الدليل على أنها عامة له، ولغيره، فتكون عامة؛ وتارة لا يقوم الدليل على هذا، ولا على هذا؛ فالظاهر أنها عامة؛ لأن القرآن نزل للأمة إلى يوم القيامة؛ فمن أمثلة ما قام الدليل على أنها للرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 1 - 4]؛ ومثال الذي قام الدليل على أنها عامة قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] ؛ فقال تعالى: {يا أيها النبي} ؛ ولكن أمر بحكم عام، فقال تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن} ؛ وأما المحتمل فهو كثير في القرآن؛ ومنه هذه الآية.

وقوله تعالى: { سل }: أي سؤال توبيخ، وتبكيت؛ لإقامة الحجة عليهم ببيان نعم الله التي كان حقه عليهم أن يشكروها، ولكن بدلوها كفراً؛ وإلا فالظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم بما آتاهم الله من الآيات البينات؛ و{ بني إسرائيل } أي بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ والمراد من ينتمي إليه؛ لا أبناء صلبه خاصة.

قوله تعالى: { كم آتيناهم من آية بينة }؛ { كم } هذه تكثيرية - أي أعطيناهم آيات كثيرة -؛ والإيتاء هنا يشمل الإيتاء الشرعي، والإيتاء القدري الكوني؛ لأنهم أوتوا آيات بينات شرعية جاءت بها التوراة؛ وأوتوا آيات بينات كونية، كالعصا، واليد؛ و «الآية» بمعنى العلامة على الشيء؛ و{ بينة } أي ظاهرة في كونها آية.

قوله تعالى: { ومن يبدل نعمة الله } أي ومن يجعل بدلها؛ والمفعول الثاني محذوف؛ تقديره: كفراً، كما يدل لذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} [إبراهيم: 28] .

قوله تعالى: { فإن الله شديد العقاب } أي قوي الجزاء بالعقوبة؛ وسمي الجزاء عقوبة، وعقاباً؛ لأنه يقع عقب الذنب مؤاخذة به.

وقوله تعالى: { شديد العقاب } هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، مثل أن تقول: حسن الوجه - يعني: ذو الوجه الحسن -؛ فهي صفة مشبهة.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: بيان كثرة ما أعطاه الله بني إسرائيل من الآيات البينة الدالة على صدق رسله؛ لقوله تعالى: { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة }.

2 - ومنها: تقريع بني إسرائيل الذين كفروا بآيات الله، وتوبيخهم؛ لأن المراد بالسؤال هنا سؤال توبيخ.

3 - ومنها: أن الآيات من نعم الله؛ لأنها تحمل المرء على الإيمان؛ وفي الإيمان نجاته، وكرامته؛ لقوله تعالى: { ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته }.

4 - ومنها: أن الآيات مبينة لما أتت دالةً عليه.

5 - ومنها: التحذير من تبديل نعمة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته} [البقرة: 211] ؛ والمراد: تبديل الشكر بالكفر؛ لقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً }.

6 - ومنها: إثبات شدة العقاب من الله لمن بدل نعمته بالكفر؛ وهذا من تمام عدله وحكمته.



القرآن

)زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212)

التفسير:

{ 212 } قوله تعالى: { زين } مبني لما لم يسم فاعله؛ ونائب الفاعل { الحياة الدنيا }؛ والتزيين جعل الشيء بهياً في عين الإنسان، أو في سمعه، أو في مذاقه، أو في فكره؛ المهم أن أصل التزيين جعل الشيء بهياً جميلاً جذاباً؛ والمزَيِّن إما أن يكون الله، كما في قوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم} [النمل: 4] ؛ وإما أن يكون الشيطان؛ لقوله تعالى: {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} [النمل: 24] ؛ ولا منافاة بين الأمرين؛ فإن الله زين لهم سوء أعمالهم؛ لأنهم أساءوا، كما يفيده قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ؛ والتزيين من الله باعتبار التقدير؛ أما الذي باشر التزيين، ووسوس لهم بذلك فهو الشيطان.

قوله تعالى: { للذين كفروا }، وفي آية أخرى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة...} [آل عمران: 14] إلخ؛ فإما أن نحمل «الناس» على { الذين كفروا }، ونقول: هو عام أريد به الخاص؛ أو نقول: إن ذكر بعض ألفاظ العام لا يقتضي التخصيص؛ فيكون {زين للناس} عموماً؛ وهنا ذكر الله تعالى تزيينه لبعض أفراد هذا الجنس وهم «الذين كفروا» .

قوله تعالى: { الحياة الدنيا } يعني ما فيها من الشهوات، والملذات؛ وقد بين الله ذلك بقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران: 14] ؛ و{ الدنيا } فُعلى - يعني أنه اسم تفضيل مؤنث مأخوذة من الدنو الذي هو ضد العلو -؛ ووصفت هذه الحياة بالدنيا لوجهين: الأول: دنوّ مرتبتها؛ الثاني: سبقها على الآخرة؛ فهي أدنى منها لقربها، ودنوّ منزلتها؛ أما قربها وهو سبقها على الآخرة فظاهر معلوم لكل أحد؛ وأما دنوّ مرتبتها فلقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»(9)؛ وموضع السوط مقدار متر تقريباً.

قوله تعالى: { ويسخرون من الذين آمنوا }؛ هذه الجملة يقولون: إنها حالية؛ يعني: زينت لهم والحال أنهم يسخرون من الذين آمنوا؛ و{ يسخرون } يعني يجعلونهم محل سخرية، وازدراء، واحتقار؛ إما لِما يقومون به من الأعمال الصالحة؛ وإما لكونهم لم يؤتوا من الدنيا ما أوتي هؤلاء - على زعمهم -، كما قال تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 29 - 32] .

قوله تعالى: { والذين اتقوا } أي اتقوا ربهم عزّ وجلّ؛ و «التقوى» كثيراً ما ترد في القرآن الكريم؛ وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، عن علم وبصيرة.

قوله تعالى: { فوقهم يوم القيامة } أي فوقهم مرتبة، ومنزلة؛ وهذا ما أعاضهم الله به، حيث كان أولئك الذين كفروا يسخرون بهم في الدنيا، فجعلهم الله فوقهم يوم القيامة؛ وهذا كقوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون} [المطففين: 34، 35] .

قوله تعالى: { والله يرزق من يشاء بغير حساب } أي يعطي من يشاء من فضله بغير محاسبة على ذلك؛ فهم يأخذون أجرهم يوم القيامة مجاناً؛ لأن العوض قد سبق؛ ويحتمل أن المعنى بغير تقدير - أي لا يقدَّر لهم ذلك -؛ بل يعطون ما تشتهيه أنفسهم، كما قال تبارك وتعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} [الانشقاق: 25] أي غير مقطوع؛ لأن رزق الله لا نهاية له لا سيما الرزق في الآخرة.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: انخداع الكافرين بالحياة الدنيا؛ لقوله تعالى: { زين للذين كفروا الحياة الدنيا }.

2 - ومنها: أن الكفار عاشقون لها، وأنها هي همهم، وغرضهم؛ لأن ما زين للشخص فلا بد أن يكون الشخص مهتماً به طالباً له.

3 - ومنها: أن المؤمنين ليست الدنيا في أعينهم شيئاً؛ لقوله تعالى: { للذين كفروا }؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه في الدنيا يقول: «لبيك! إن العيش عيش الآخرة»(10) لتوجيه النفس إلى إجابة الله؛ لا إلى إجابة رغبتها، ثم يقنع النفس أيضاً: أني ما صددتك وأجبت الرب عزّ وجلّ إلا لخير؛ لأن العيش عيش الآخرة؛ والعجيب أن من طلب عيش الآخرة طاب له عيش الدنيا؛ ومن طلب عيش الدنيا ضاعت عليه الدنيا والآخرة؛ قال الله تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} [الزمر: 15] ؛ هذه هي الخسارة: خسروا أنفسهم؛ لأن مآلهم النار - والعياذ بالله -؛ وأهلوهم أيضاً الذين في النار لا يهتم بعضهم ببعض؛ كل - والعياذ بالله - شقيّ فيما هو فيه؛ والحاصل أنا نقول: ينبغي لكل إنسان حين يرى في الدنيا ما يعجبه أن يقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

4 - ومن فوائد الآية: حقارة الدنيا؛ لوصفها بالدنيا؛ وهي من الدنوّ زمناً، ورتبة؛ زمناً؛ لأنها قبل الآخرة؛ ورتبة؛ لأنها قليل بالنسبة للآخرة؛ ولهذا لا تجد في الدنيا حال سرور إلا مشوباً بتنغيص قبله، وبعده؛ لكن هذا التنغيص بالنسبة للمؤمن خير؛ لأن له فيه أجراً، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «عجباً للمؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له؛ وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له»(11)؛ والمؤمن إذا ابتلي بالبلاء الجسمي، أو النفسي يقول: هذه نعمة من الله يكفِّر الله بها عني سيئاتي؛ فإذا أحس هذا الإحساس صار هذا الألم نعمة؛ لأن الإنسان خطّاء دائماً؛ وهذه الأشياء لا شك أنها - والحمد لله - تكفير للسيئات؛ فإن صبر واحتسب صارت رفعة للدرجات؛ فالآلام، والبلايا، والهم، والغم، تكفير بكل حال؛ ولكن مع الصبر والاحتساب يكون عملاً صالحاً يثاب عليه، ويؤجر عليه.

5 - ومن فوائد الآية: أن لا نركن إلى هذه الحياة، ونطمئن إليها؛ بل نجعل همتنا منصرفة إلى الدار الآخرة؛ وهذا لا ينافي أن نتمتع وننعم بما أحل الله لنا مع الاستقامة في ديننا.

6 - ومنها: أن الكفار لا يزالون يسلطون أنفسهم على المؤمنين؛ لقوله تعالى: { ويسخرون } بالفعل المضارع؛ لأن المضارع يدل على الاستمرار، والحال، والاستقبال؛ فهم دائماً في سخرية من الذين آمنوا.

7 - ومنها: أن العبرة بكمال النهاية؛ لقوله تعالى: { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة }.

8 - ومنها: تثبيت المؤمنين، وترسيخ أقدامهم في إيمانهم؛ لقوله تعالى: { ويسخرون من الذين آمنوا } يعني: اصبروا؛ فإن هذا دأبهم وشأنهم أن يسخروا منكم؛ فما دمتم تعرفون أن هذه عادة الكفار فإن الإنسان يصبر؛ إذا عرف الإنسان أن هذا شيء لا بد منه يكون مستعداً له، وقابلاً له، وغير متأثر.

9 - ومنها: البشرى للمؤمنين الذين اتقوا أنهم فوق الكفار يوم القيامة.

10 - ومنها: إثبات أفعال الله سبحانه وتعالى المتعلقة بمشيئته؛ لقوله تعالى: { والله يرزق من يشاء } فتسمى هذه الأفعال في كتب العقائد الأفعال الاختيارية - يعني المتعلقة بمشيئة الله -؛ وهي ثابتة لله عزّ وجلّ على وجه الحقيقة؛ وأمثلتها في القرآن كثيرة.

11 - ومنها: إثبات المشيئة لله؛ وكل ما في الكون واقع بمشيئة الله؛ والمشيئة تختلف عن الإرادة بأنها لا تنقسم إلى كونية، وشرعية؛ بل هي كونية محضة؛ فما شاء الله كان؛ وما لم يشأ لم يكن سواء كان مما يحبه، أو مما لا يحبه؛ قوله تعالى: {من يشأ الله يضلله} [الأنعام: 39] ؛ فهذا لا يحبه؛ وقوله تعالى: {ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [الأنعام: 39] : فهذا يحبه؛ وكل فعل علقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة؛ ودليل ذلك سمعي، وعقلي؛ فمن السمع: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30]؛ فدل هذا على أن مشيئته مقرونة بالحكمة؛ وأما العقل فلأن الله سبحانه وتعالى سمى نفسه بأنه «حكيم» ؛ والحكيم لا يصدر منه شيء إلا وهو موافق للحكمة.

12 - ومن فوائد الآية: كثرة رزق الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { بغير حساب } بمعنى أنه يعطي عطاءً لا يبلغه الحساب، كما قال تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261] .



القرآن

)كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213)

التفسير:

{ 213 } قوله تعالى: { أمة } خبر { كان }؛ و{ مبشرين } حال من المفعول به؛ وهو { النبيين }.

قوله تعالى: { كان الناس أمة واحدة }؛ { أمة } هنا بمعنى طائفة؛ و{ كان } أي فيما مضى من قبل أن تبعث الرسل إليهم كانوا طائفة واحدة على دين واحد؛ وهذا الدين الواحد هو دين الإسلام؛ لأن آدم نبي موحًى إليه بشريعة يتعبد بها؛ فصار يتعبد بها، واتبعه أبناؤه على ذلك؛ ثم بعد مدة من الزمن كثر الناس، واختلفت الأهواء، فاختلفوا؛ فحينئذ صاروا بحاجة إلى بعث الرسل؛ فبعث الله الرسل مبشرين، ومنذرين.. إلخ.

قوله تعالى: { فبعث الله النبيين }: الفاء هنا عاطفة؛ والمعطوف عليه محذوف معلوم من السياق اللاحق، كقوله تعالى: { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } [يونس: 19] ؛ وعلى كل حال لا بد أن يكون المعنى أنهم اختلفوا؛ فبُعث الرسل؛ ونظير هذا من المحذوف الذي يعينه السياق قوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة} [البقرة: 185] : فالمريض والمسافر ليس عليهما العدة لو صاما؛ إذاً لا بد أن نقدر: فأفطر فعليه عدة؛ و «بعث» بمعنى أرسل، كقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} [الحديد: 25] ؛ والمراد بـ{ النبيين } هنا الرسل؛ لقوله تعالى: { مبشرين ومنذرين }.

وقوله تعالى: { مبشرين ومنذرين }: هذان حالان؛ لأن الرسل يأتون بالبشارة والنذارة في آن واحد؛ يعني: ليس بعض الرسل مبشراً، والآخر منذراً؛ بل كل واحد جامع بين التبشير، والإنذار؛ أي مبشرين بثواب الله عزّ وجلّ لمن استحقه؛ ومنذرين بعقاب الله من خالف أمره؛ قال الله - تبارك وتعالى -: {لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً} [الكهف: 2] ؛ فهنا بينت الآية المبشَّر، والمبشَّر به؛ فالمبشَّر: المؤمنون الذين يعملون الصالحات؛ والمبشَّر به: أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً؛ {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} [الكهف: 4، 5] ؛ فالمنذَر: هم الكفار؛ والمنذر به: العذاب.

قوله تعالى: { وأنزل معهم الكتاب }؛ المعية هنا للمصاحبة؛ والمعية كلما أطلقت فهي للمصاحبة؛ لكنها في كل موضع بحسبه؛ و{ الكتاب } هنا مفرد يراد به الجنس؛ فيعم كل كتاب؛ إذ لكل رسول كتاب؛ وقد زعم بعض المفسرين أن قوله تعالى: { أنزل معهم } أي مع بعضهم؛ وقال: ليس كل الرسل معهم كتاب؛ ولكن هذا خلاف ظاهر القرآن؛ وقد قال الله تعالى في سورة الحديد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] ؛ فظاهر الآية أن مع كل رسول كتاباً؛ وهذا هو مقتضى الحال حتى يكون هذا الكتاب الذي معه يبلغه إلى الناس؛ ولا يرد على هذا أن بعض الشرائع تتفق في مشروعاتها - وحتى في منهاجها -، ولا يكون فيها إلا اختلاف يسير، كما في شريعة التوراة والإنجيل؛ فإن هذا لا يضر؛ المهم أن كل رسول في ظاهر القرآن معه كتاب؛ و «كتاب» بمعنى مكتوب؛ فمنه ما نعلم أن الله كتبه؛ ومنه ما لا نعلم أن الله كتبه لكن تكلم به.

قوله تعالى: { بالحق } الباء للمصاحبة متعلقة بـ{ أنزل } أي ما جاءت به الكتب فهو حق؛ ويحتمل أن المعنى أن الكتب نفسها حق من عند الله؛ وليست مفتراة عليه؛ وكلا المعنيين صحيح؛ فهي حق من عند الله؛ وما جاءت به من الشرائع، والأخبار فهو حق؛ و «الحق» أي الثابت النافع؛ وضده الباطل الذي يزول، ولا ينفع؛ والحق الثابت في الكتب المنزلة من عند الله: بالنسبة للأخبار هو الصدق المطابق للواقع؛ وبالنسبة للأحكام فإنه العدل المصلح للخلق في معاشهم، ومعادهم، كما قال الله - تبارك وتعالى -: {وتمَّت كلمة ربك صدقاً وعدلًا } [الأنعام: 115] .

قوله تعالى: { ليحكم } الضمير يعود على الكتاب؛ أو على النبيين؛ أو على الله؛ يعني: ليحكم هو - أي الله -؛ أو ليحكم الكتاب باعتبار أنه وسيلة الحكم؛ أو ليحكم النبي باعتبار أنه الذي معه الكتاب؛ ولكن هنا إشكال: وهو أن { ليحكم } مفرد؛ و{ النبيين } جمع؛ لكن قالوا: لما كان النبيون جمعاً؛ والجمع له أفراد، صار { ليحكم } أي كل فرد منهم.

قوله تعالى: { بين الناس فيما اختلفوا فيه }؛ فبعضهم قال: الحق كذا؛ وبعضهم قال: الحق كذا؛ خصمان لا بد بينهما من حَكَم؛ وهو ما جاءت به الرسل؛ ولهذا قال تعالى: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه }؛ و «ما» اسم موصول؛ واسم الموصول من ألفاظ العموم؛ فيشمل كل ما اختلف فيه الناس من الدقيق والجليل، في مسائل الدين والدنيا.

قوله تعالى: { وما اختلف فيه } أي في الكتاب؛ { إلا الذين أوتوه }، { الذين } فاعل { اختلف }؛ لأن الاستثناء مفرغ. { اوتوه } أي أعطوه؛ والمراد بهم هنا الأمم؛ { من بعد ما جاءتهم } متعلقة بقوله تعالى: { وما اختلف } أي وما اختلف فيه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً إلا الذين أوتوه؛ أي من بعد ما جاءت هذه الأمم الذين اختلفوا؛ { البينات } أي الآيات البينات الدالة على صدق الرسل؛ وهذا كقوله تعالى: { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [البينة: 4] .

قوله تعالى: { بغياً بينهم } مفعول لأجله عامله { اختلف }؛ و «البغي» هو العدوان.

قوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا }: المراد بالهداية هنا: هداية التوفيق المسبوقة بهداية العلم، والإرشاد؛ لأن الجميع قد جاءتهم الرسل بالكتب، وبينت لهم؛ لكن لم يوفق منهم إلا من هداهم الله؛ و «الإيمان» في اللغة: التصديق؛ ولكنه في الشرع التصديق المستلزم للقبول، والإذعان؛ وليس مجرد التصديق إيماناً؛ إذ لو كان مجرد التصديق إيماناً لكان أبو طالب مؤمناً لأنه كان يقر بأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، ويقول:

(لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل) لكنه لم يَقبل، ولم يُذعن، فلم يكن مؤمناً.

قوله تعالى: { لما اختلفوا فيه } أي للذي اختلفوا فيه؛ والضمير في قوله تعالى: { اختلفوا } يعود إلى الذين أوتوا الكتاب؛ وعلى هذا فيكون قوله تعالى: { من الحق } في موضع نصب على الحال بياناً لـ «ما» التي هي اسم موصول؛ ويبين أن الجار والمجرور بيان لها أنك لو قلت: «فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلفوا فيه» يستقيم المعنى؛ ومن هنا نعرف أن { مِن } في قوله تعالى: { من الحق } ليس للتبعيض؛ ولكنها لبيان الإبهام الكائن في «ما» الموصولة؛ و{ بإذنه } أي بمشيئته، وإرادته؛ ولكنه سبحانه وتعالى لا يشاء شيئاً إلا لحكمة.

قوله تعالى: { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }: الهداية هنا بمعنى الدلالة، والتوفيق؛ فهي شاملة للنوعين؛ وقوله تعالى: { من يشاء } يعني ممن يستحق الهداية؛ لأن كل شيء علق بمشيئة الله فإنه تابع لحكمته؛ فهو سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إذا كان أهلاً للهداية؛ كما أنه سبحانه وتعالى يجعل الرسالة في أهلها فإنه يجعل الهداية في أهلها، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] ، كذلك هو أعلم حيث يجعل هدايته.

وقوله تعالى: { الصراط } فيها قراءتان: بالصاد، والسين؛ وهما سبعيتان؛ و{ الصراط } في اللغة هو الطريق الواسع؛ وسمي صراطاً - وقد يقال -: «زراطاً» بالزاي؛ لأنه يبتلع سالكه بسرعة دون ازدحام، ولا مشقة، كما أنك إذا بلعت اللقمة بسرعة يقال: «زرطها»؛ وقال بعضهم: هو الطريق الواسع المستقيم؛ لأن المعوج لا يحصل فيه العبور بسهولة؛ وجعل قوله تعالى: { مستقيم } صفة مؤكدة؛ وعلى كل حال «الصراط المستقيم» الذي ذكره عزّ وجلّ بينه سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة في قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضالين }؛ فهو الصراط الذي يجمع بين العلم، والعمل؛ وإن شئت فقل: بين الهدى، والرشد؛ بخلاف الطريق غير المستقيم الذي يحرم فيه السالك الهدى، كطريق النصارى؛ أو يحرم فيه الرشد، كطريق اليهود.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن دين الإسلام هو الفطرة؛ لقوله تعالى: { كان الناس أمة واحدة }؛ فقبل أن يحصل ما يفتنهم كانوا على دين واحد - دين الإسلام -.

2 - ومنها: الحكمة في إرسال الرسل؛ وهي التبشير، والإنذار؛ لقوله تعالى: { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين }.

3 - ومنها: أن النبوة لا تنال بالكسب؛ وإنما هي فضل من الله؛ لقوله تعالى: { فبعث الله النبيين }.

4 - ومنها: أن من يوصف بالتبشير إنما هم الرسل، وأتباعهم؛ وأما ما تسمى به دعاة النصرانية بكونهم مبشرين فهم بذلك كاذبون؛ إلا أن يراد أنهم مبشرون بالعذاب الأليم، كما قال تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } [آل عمران: 21] ؛ وأحق وصف يوصف به هؤلاء الدعاة أن يوصفوا بالمضللين، أو المنَصِّرين؛ وما نظير ذلك إلا نظير من اغتر بتسمية النصارى بالمسيحيين؛ لأن لازم ذلك أنك أقررت أنهم يتبعون المسيح، كما إذا قلت: «فلان تميمي»؛ إذاً هو من بني تميم؛ والمسيح ابن مريم يتبرأ من دينهم الذي هم عليه الآن كما قال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق...} [المائدة: 116] إلى قوله تعالى: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم...} [المائدة: 117] الآيتين؛ ولأنهم ردوا بشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكفروا بها؛ فكيف تصح نسبتهم إليه؟!! والحاصل أنه ينبغي للمؤمن أن يكون حذراً يقظاً لا يغتر بخداع المخادعين، فيجعل لهم من الأسماء، والألقاب ما لا يستحقون.

5 - ومنها: أن الشرائع التي جاءت بها الرسل تنقسم إلى أوامر، ونواهي؛ لقوله تعالى: { مبشرين ومنذرين}؛ لأن الإنذار: عن الوقوع في المخالفة؛ والبشارة: لمن امتثل، وأطاع.

6 - ومن فوائد الآية: أن الكتب نازلة من عند الله؛ لقوله تعالى: { وأنزل معهم الكتاب }.

7 - ومنها: علو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه إذا كانت الكتب نازلة من عنده لزم أن يكون هو عالياً؛ لأن النزول يكون من فوق إلى تحت.

8 - ومنها: أن الواجب الرجوع إلى الكتب السماوية عند النزاع؛ لقوله تعالى: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وإلا لضاعت فائدة الكتب المنزلة؛ ومن المعلوم أن الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الكتاب، ومهيمن عليه؛ فيجب الرجوع إليه وحده؛ لأن ما سبقه منسوخ به.

9 - ومنها: رحمة الله عزّ وجلّ بالعباد، حيث لم يكلهم إلى عقولهم؛ لأنهم لو وكِلوا إلى عقولهم لفسدت السموات والأرض، كما قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71] ؛ فكل إنسان يقول: العقل عندي؛ والصواب معي؛ ولكن الله تعالى بعث النبيين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

10 - ومنها: أن الناس لو رجعوا إلى الكتاب المنزل عليهم لحصل بينهم الاجتماع، والائتلاف.

11 - ومنها: أن الخلاف بين الناس كائن لا محالة؛ لقوله تعالى: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه }؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود: 118، 119] ، وقوله تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2] ؛ ولولا هذا ما قامت الدنيا؛ ولا الدين؛ ولا قام الجهاد؛ ولا قام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ ولم يمتحن الصادق من الكاذب.

12 - ومن فوائد الآية: أن أولئك الذين اختلفوا في الشرع كانوا قد أوتوا الكتاب؛ لقوله تعالى: { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم }.

ويتفرع على هذه الفائدة أن الحجة قد قامت عليهم؛ لقوله تعالى: { إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات

13 - ومن فوائد الآية: كمال التوبيخ واللوم على هؤلاء ما هو ظاهر؛ لأنه كان الواجب، والأحرى بهؤلاء الذين أوتوه ألا يختلفوا فيه؛ بل يتفقوا عليه؛ لكنهم اختلفوا فيه مع تفضل الله عليهم بإيتائه؛ لقوله تعالى: { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه }.

14 - ومنها: بيان ضعف ما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة»(12)؛ فالاختلاف ليس برحمة؛ ولهذا قال تعالى: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك} [هود: 118، 119] ؛ نعم، دخول المختلفين تحت عفو الله رحمة إذا اجتهدوا، حيث إن الله عزّ وجلّ لم يعذب المخطئ؛ فالمختلفون تسعهم الرحمة إذا كانوا مجتهدين؛ لأن من اجتهد فأصاب فله أجران؛ ومن اجتهد فأخطأ فله أجر؛ أما أن نقول: «إن الخلاف بين الأمة رحمة» فلا.

15 - ومنها: أن فعل الذين اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات إنما كان ذلك بغياً منهم؛ لقوله تعالى: { بغياً بينهم }؛ فالذين اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى إنما كان اختلافهم بغياً وعدواناً؛ لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ وكذلك الذين اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم من قريش كان كفرهم بغياً وعدواناً.

16 - ومنها: أن كل مخالف للحق بعد ما تبين له فهو باغٍ ضال - وإن قال: أنا لا أريد البغي، ولا أريد العدوان -.

17 - ومنها: أنه متى تبين الحق وجب اتباعه - ولو كان قد قال بخلافه من قبل -؛ فيدور مع الحق حيث دار.

18 - ومنها: رحمة الله عزّ وجلّ بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه }.

19 - ومنها: أن الإيمان سبب للهداية للحق.

20 - ومنها: أنه كلما قوي إيمان العبد كان أقرب إلى إصابة الحق؛ لقوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا... }؛ لأن الله علق الهداية على وصف الإيمان؛ وما علق على وصف فإنه يقوى بقوته، ويضعف بضعفه؛ ولهذا كان الصحابة أقرب إلى الحق ممن بعدهم لا في التفسير، ولا في أحكام أفعال المكلفين، ولا في العقائد أيضاً؛ لأن الهداية للحق علقت بالإيمان؛ ولا شك أن الصحابة أقوى الناس إيماناً؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»(13)، ولهذا ذهب الإمام أحمد - رحمه الله - إلى أن قول الصحابي حجة ما لم يخالف النص؛ فإن خالف نصاً فليس بحجة؛ أو يخالفه صحابي آخر؛ فإن خالفه صحابي آخر نظر في الترجيح أيهما أقرب إلى الصواب.

21 - ومن فوائد الآية: أنه يجب على المرء الذي هداه الله ألا يعجب بنفسه، وألا يظن أن ذلك من حوله، وقوته؛ لقوله تعالى: { فهدى الله }، ثم قال تعالى: { بإذنه } أي أمره الكوني القدري؛ ولولا ذلك لكانوا مثل هؤلاء الذين ردوا الحق بغياً وعدواناً.

22 - ومنها: الإيماء إلى أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الهداية من الله؛ لقوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا }.

23 - ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله؛ لقوله تعالى: { فهدى الله }، وكذلك لقوله تعالى: { بإذنه }.

24 - ومنها: أن أفعال العباد واقعة بإرادة الله وخلقه.

25 - ومنها: أن إذن الله نوعان: كوني، وشرعي؛ وسبق بيانهما في قوله تعالى: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97] .

26 - ومنها: إثبات مشيئة الله في أفعال العباد؛ لقوله تعالى: { والله يهدي من يشاء }.

27 - ومنها: أن كل ما سوى الشرع فهو طريق معوج؛ لقوله تعالى: { إلى صراط مستقيم }.

28 - ومنها: أن الشرع لا ضيق فيه، ولا اعوجاج، ولا تعب؛ لأنه صراط واسع، ومستقيم.

29 - ومنها: الإشارة إلى الطرق الثلاثة التي ذكرها الله تعالى في سورة الفاتحة؛ وهي طريق الذين أنعم الله عليهم؛ وطريق المغضوب عليهم؛ وطريق الضالين؛ الذين أنعم الله عليهم: هم الرسل، وأتباعهم؛ والمغضوب عليهم: اليهود، وأمثالهم؛ والضالون: النصارى، وأمثالهم؛ وهذا بالنسبة للنصارى قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أما لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذبوه صاروا من المغضوب عليهم كاليهود بالنسبة لدين المسيح؛ لأن اليهود كانوا مغضوباً عليهم، حيث جاءهم عيسى فكذبوه بعد أن علموا الحق؛ وبعد ما بعث عيسى واتبعه النصارى وطال الأمد، ابتدعوا ما ابتدعوا من الدين، فضلُّوا؛ فصاروا ضالين؛ لكن لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كذبوه، وأنكروه؛ فصاروا من المغضوب عليهم؛ لأنهم علموا الحق، وخالفوه.



القرآن

)أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)

التفسير:

{ 214 } قوله تعالى: { أم حسبتم }؛ { أم } من حروف العطف؛ وهي هنا منقطعة بمعنى «بل»؛ يقدر بعده همزة الاستفهام؛ أي: بل أحسبتم؛ فهي إذاً للإضراب الانتقالي؛ وهو الانتقال من كلام إلى آخر؛ و{ حسبتم } بمعنى ظننتم؛ وعلى هذا فتنصب المفعولين؛ قال بعض النحويين: إن { أنْ }، وما دخلت عليه تسد مسد المفعولين؛ وقال آخرون: بل إن { أنْ }، وما دخلت عليه تسد مسد المفعول الأول؛ ويكون المفعول الثاني محذوفاً دل عليه السياق؛ فإذا قلنا بالأول فالأمر واضح لا يحتاج إلى تقدير شيء آخر؛ وإذا قلنا بالثاني يكون التقدير: أم حسبتم دخولكم الجنة حاصلاً...

والخطاب في قوله تعالى: { أم حسبتم } يعود على كل من يتوجه إليه الخطاب: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى الصحابة، وإلى من بعدهم.

قوله تعالى: { أن تدخلوا الجنة }؛ «الجنة» في اللغة: البستان كثير الأشجار؛ وفي الشرع: هي الدار التي أعدها الله للمتقين فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

قوله تعالى: { ولما يأتكم }؛ { لما } حرف نفي، وجزم، وقلب؛ والفرق بينها وبين «لم» : أن «لما» للنفي مع توقع وقوع المنفي؛ و «لم» للنفي دون ترقب وقوعه؛ مثاله: إذا قلت: «لم يقم زيد» فقد نفيت قيامه من غير ترقب لوقوعه، ولو قلت: «لما يقم زيد» فقد نفيت قيامه مع ترقب وقوعه؛ ومنه قوله تعالى: {بل لما يذوقوا عذاب} [ص~: 8] .

وقوله تعالى: { مثل الذين خلوا من قبلكم } أي صفة ما وقع لهم؛ و«المثل» يكون بمعنى الصفة، مثل قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} [الرعد: 35] أي صفتها كذا، وكذا؛ ويكون بمعنى الشبه، كقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [البقرة: 17] أي شبههم كشبه الذي استوقد ناراً؛ و{ خلوا } بمعنى مضوا؛ فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: { من قبلكم } إذا كانت { خلوا } بمعنى مضوا؟ نقول: هذا من باب التوكيد؛ والتوكيد قد يأتي بالمعنى مع اختلاف اللفظ، كما في قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [البقرة: 60] ؛ فإن الإفساد هو العثو؛ ومع ذلك جاء حالاً من الواو؛ فهو مؤكد لعامله.

ولما كانت { مثل } مبهمة بيَّنها الله تعالى بقوله تعالى: { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا }؛ و«المس» هو مباشرة الشيء؛ تقول: مسسته بيدي، ومس ثوبه الأرض؛ فـ{ مستهم } يعني أصابتهم إصابة مباشرة؛ وهذه الجملة استئنافية لبيان المثل الذي ذكر في قوله تعالى: { مثل الذين خلوا من قبلكم }.

وقوله تعالى: { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا } هذه ثلاثة أشياء؛ { البأساء }: قالوا: إنها شدة الفقر مأخوذة من البؤس؛ وهو الفقر الشديد؛ و{ الضراء }: قالوا: إنها المرض، والمصائب البدنية؛ و{ زلزلوا }: «الزلزلة» هنا ليست زلزلة الأرض؛ لكنها زلزلة القلوب بالمخاوف، والقلق، والفتن العظيمة، والشبهات، والشهوات؛ فتكون الإصابات هنا في ثلاثة مواضع: في المال؛ والبدن؛ والنفس.

قوله تعالى: { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله }؛ في { يقول } قراءتان: النصب، والرفع؛ أما على قراءة الرفع فعلى إلغاء { حتى }؛ وأما على قراءة النصب فعلى إعمالها؛ وهي لا تعمل إلا في المستقبل؛ فإن قيل: ما وجه نصبها وهي حكاية عن شيء مضى؟

فالجواب: ما قاله المعربون: أنه نصب على حكاية الحال؛ وإذا قدرنا حكاية الحال الماضية صار {يقول } مستقبلاً بالنسبة لقوله تعالى: { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا }؛ و{ الرسول }: المراد به الجنس - أي حتى يقول الرسول من هؤلاء الذين زلزلوا، ومستهم البأساء، والضراء -؛ و{ معه } المصاحبة هنا في القول، والإيمان - أي يقولون معه وهم مؤمنون به -؛ { متى نصر الله }: الجملة مقول القول؛ والاستفهام فيها للاستعجال - أي استعجال النصر -؛ وليس للشك فيه.

قوله تعالى: { ألا إن نصر الله قريب }: يحتمل أن يكون هذا جواباً لقول الرسول، والذين آمنوا معه: متى نصر الله؛ ويحتمل أن يكون جملة استئنافية يخبر الله بها خبراً مؤكداً بمؤكدين: { ألا }؛ و{ إن }؛ وكلاهما صحيح.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: عناية الله عزّ وجلّ بهذه الأمة، حيث يسليها بما وقع بغيرها؛ لقوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم... } إلخ؛ وهكذا كما جاء في القرآن جاء في السنة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه أصحابه يشكون إليه بمكة فأخبرهم: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه، وعظمه؛ ما يصده ذلك عن دينه»(14) تثبيتاً للمؤمنين.

2 - ومن فوائد الآية: إثبات الجنة.

3 - ومنها: أن الإيمان ليس بالتمني، ولا بالتحلي؛ بل لا بد من نية صالحة، وصبر على ما يناله المؤمن من أذًى في الله عزّ وجلّ.

4 - ومنها: حكمة الله عزّ وجلّ، حيث يبتلي المؤمنين بمثل هذه المصائب العظيمة امتحاناً حتى يتبين الصادق من غيره، كما قال تعالى: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد: 31] ؛ فلا يُعرف زيف الذهب إلا إذا أذبناه بالنار؛ ولا يُعرف طيب العود إلا إذا أحرقناه بالنار؛ أيضاً لا يعرف المؤمن إلا بالابتلاء والامتحان؛ فعليك يا أخي بالصبر؛ قد تؤذى على دينك؛ قد يستهزأ بك؛ وربما تلاحَظ؛ وربما تراقَب؛ ولكن اصبر، واصدق، وانظر إلى ما حصل من أولي العزم من الرسل؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان ساجداً لله في آمن بقعة على الأرض - وهو المسجد الحرام -؛ فيأتي طغاة البشر بفرث الناقة، ودمها، وسلاها، يضعونها عليه وهو ساجد؛ هذا أمر عظيم لا يصبر عليه إلا أولو العزم من الرسل؛ ويبقى ساجداً حتى تأتي ابنته فاطمة وهي جويرية - أي صغيرة - تزيله عن ظهره فيبقى القوم يضحكون، ويقهقهون(15)؛ فاصبر، واحتسب؛ واعلم أنه مهما كان الأمر من الإيذاء فإن غاية ذلك الموت؛ وإذا مت على الصبر لله عزّ وجلّ انتقلت من دار إلى خير منها.

5 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان ألا يسأل النصر إلا من القادر عليه - وهو الله عزّ وجلّ -؛ لقوله تعالى: { متى نصر الله }.

6 - ومنها: أن المؤمنين بالرسل منهاجهم منهاج الرسل يقولون ما قالوا؛ لقوله تعالى: { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله }؛ يتفقون على هذه الكلمة استعجالاً للنصر.

7 - ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ألا إن نصر الله قريب }.

8 - ومنها: حكمة الله، حيث يمنع النصر لفترة معينة من الزمن - مع أنه قريب -.

9 - ومنها: أن الصبر على البلاء في ذات الله عزّ وجلّ من أسباب دخول الجنة؛ لأن معنى الآية: اصبروا حتى تدخلوا الجنة.

10 - ومنها: تبشير المؤمنين بالنصر ليتقووا على الاستمرار في الجهاد ترقباً للنصر المبشرين به.

11 - ومنها: الإشارة إلى ما جاء في الحديث الصحيح: «حفت الجنة بالمكاره»(16)؛ لأن هذه مكاره؛ ولكنها هي الطريق إلى الجنة.

12 - ومنها: أنه لا وصول إلى الكمال إلا بعد تجرع كأس الصبر؛ لقوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم... } إلخ.



القرآن

)يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:215)

التفسير:

{ 215 } قوله تعالى: { يسألونك } أي الصحابة رضي الله عنهم؛ والخطاب لل
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:36 am من طرف ahmadhamad
الاية 217 الي الاية 223

)يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)

التفسير:

{ 217 } قوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } أي يسألك الناس عن الشهر الحرام؛ والمراد به الجنس؛ فيشمل كل الأشهر الحرم؛ وهي أربعة: ذو القعدة؛ وذو الحجة؛ ومحرم؛ ورجب؛ و {قتال فيه} بدل اشتمال؛ فيكون السؤال عن القتال فيه.

قوله تعالى: { قل } يعني في جوابهم { قتال فيه كبير } أي في الشهر الحرام.

قوله تعالى: { وصد عن سبيل الله }: جملة استئنافية لبيان أن ما فعله هؤلاء الكفار من الصد عن سبيل الله، والكفر به، والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله؛ فهذه أربعة أشياء يفعلها المشركون الذين اعترضوا على القتال في الشهر الحرام أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام؛ و{ صد } يجوز أن تكون من الفعل اللازم - أي صدهم أنفسَهم عن سبيل الله -؛ ويجوز أن تكون من المتعدي - أي صدهم غيرهم عن سبيل الله -؛ وكلا الأمرين حاصل من هؤلاء المشركين؛ والمراد بـ{ سبيل الله } طريقه الموصل إليه - أي شريعته -.

قوله تعالى: { وكفر به } أي بالله عزّ وجلّ؛ { والمسجد الحرام } بالجر: يحتمل أن تكون معطوفة على الضمير في قوله تعالى: { به }؛ ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله تعالى: { عن سبيل الله }؛ فعلى الاحتمال الأول يكون المراد بالكفر بالمسجد الحرام: عدم احترامه، والقيامِ بتعظيمه؛ وعلى الاحتمال الثاني يكون المراد: وصد عن المسجد الحرام، كما قال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} [الفتح: 25] .

وقوله تعالى: { وإخراج أهله منه } يعني بـ{ أهله } النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين هاجروا من مكة إلى المدينة بسبب إيذاء المشركين لهم، وتضييقهم عليهم حتى خرجوا بإذن الله عزّ وجلّ من مكة إلى المدينة.

قوله تعالى: { أكبر عند الله } أي أعظم إثماً، وجرماً من القتال في الشهر الحرام.

قوله تعالى: { والفتنة أكبر من القتل } يعني بـ{ الفتنة } الصد عن سبيل الله، ومنع المؤمنين، وإيذاؤهم؛ و«الفتنة» بمعنى: «إيذاء المؤمنين» قد جاءت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} [البروج: 10] .

قوله تعالى: { ولا يزالون يقاتلونكم... } إلخ، أي لا يزال هؤلاء الكفار يقاتلونكم { حتى يردوكم عن دينكم } أي يرجعوكم عنه إلى الكفر { إن استطاعوا } يعني: ولن يستطيعوا ذلك؛ ومثل هذه الجملة الشرطية تأتي لبيان العجز عن الشيء، كقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33] ؛ ومن المعلوم أنهم لن يستطيعوا أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض.

قوله تعالى: { ومن يرتدد منكم عن دينه } أي من يرجع عن دين الإسلام إلى الكفر { فيمت وهو كافر } أي يموت على الكفر؛ فالجملة في قوله تعالى: { وهو كافر } في موضع نصب على الحال من فاعل { يمت }.

قوله تعالى: { فأولئك } أعاد اسم الإشارة بصيغة الجمع على اسم موصول صالح للمفرد، والجمع؛ لأن اسم الموصول العام يجوز عود الضمير، والإشارة إليه على وجه الإفراد باعتبار لفظه؛ وعلى وجه الجمع باعتبار معناه.

قوله تعالى: { حبطت } أي اضمحلت { أعمالهم } أي ما قدموه من عمل صالح في الدنيا والآخرة؛ فلا يستفيدون بأعمالهم شيئاً في الدنيا من قبول الحق، والانشراح به؛ ولا في الآخرة؛ لأن أعمالهم ضاعت عليهم بكفرهم.

قوله تعالى: { وأولئك أصحاب النار } أي أهلها الملازمون لها؛ { هم فيها خالدون }: كالتأكيد لقوله تعالى: { أولئك أصحاب النار }.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو مرجع الصحابة في العلم؛ لقوله تعالى: { يسألونك}.

2 - ومنها: اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بما يقع منهم من المخالفة؛ وأنهم يندمون، ويسألون عن حالهم في هذه المخالفة؛ لقوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه }.

3 - ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم كل الأحكام؛ بل لا يعلم إلا ما علمه الله عزّ وجلّ؛ ولهذا أجاب الله عن هذا السؤال: { قل قتال فيه كبير... }.

وينبني على هذه المسألة: هل للرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتهد، أو لا؟ والصواب أن له أن يجتهد؛ ثم إذا اجتهد فأقره الله صار اجتهاده بمنزلة الوحي.

4 - ومنها: أن القتال في الشهر الحرام من كبائر الذنوب؛ لقوله تعالى: { قل قتال فيه كبير }؛ وهل هذا الحكم منسوخ، أو باق؟ للعلماء في ذلك قولان؛ فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحكم منسوخ؛ وأن القتال في الأشهر الحرم كان محرماً، ثم نسخ؛ القول الثاني: أن الحكم باقٍ، وأن القتال في الأشهر الحرم حرام؛ دليل من قال: «إنه منسوخ» قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36] ، وقوله تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: 73] ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل ثقيفاً في شهر ذي القعدة(22)؛ وهو شهر حرام؛ وأن غزوة تبوك كانت في رجب(23)؛ وهو شهر حرام؛ والذي يظهر لي أن القتال في الأشهر الحرم باقٍ على تحريمه؛ ويجاب عن أدلة القائلين بالنسخ بأن الآيات العامة كغيرها من النصوص العامة التي تخصص؛ فهي مخصصة بقوله تعالى: { قل قتال فيه كبير }؛ وأما قتال الرسول صلى الله عليه وسلم أجيب عنه بأنه ليس قتال ابتداء؛ وإنما هو قتال مدافعة؛ وقتال المدافعة لا بأس به حتى في الأشهر الحرم؛ إذا قاتلونا نقاتلهم؛ فثقيف كانوا تجمعوا لرسول الله فخرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليغزوهم؛ وكذلك الروم في غزوة تبوك تجمعوا له فخرج إليهم ليدافعهم؛ فالصواب في هذه المسألة أن الحكم باقٍ، وأنه لا يجوز ابتداء الكفار بالقتال في الأشهر الحرم؛ لكن إن اعتدوا علينا نقاتلهم حتى في الشهر الحرام.

5 - ومنها: أن الأشهر قسمان: أشهر حرم؛ وأشهر غير حرم.

ويتفرع على هذه الفائدة: أن الله يختص من خلقه ما شاء؛ فهناك أماكن حرام، وأماكن غير حرام؛ وأزمنة حرام، وأزمنة غير حرام؛ وهناك رسل، وهناك مرسَل إليهم؛ وهناك صديقون، وهناك من دونهم؛ والله عزّ وجلّ كما يفاضل بين البشر يفاضل بين الأزمنة، والأمكنة.

6 - ومن فوائد الآية: أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: صغائر، وكبائر؛ وكل منهما درجات؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»(24)؛ وحدُّ الكبائر اختلف فيه أقوال الناس؛ فمنهم من قال: إن الكبائر معدودة؛ وذهب يتتبع كل نص قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا من الكبائر؛ وعدّها سرداً؛ ومنهم من قال: إن الكبائر محدودة؛ يعني أن لها حداً - أي ضابطاً يجمعها -؛ ليست معينة: هذه، وهذه، وهذه؛ ثم اختلفوا في الضابط، فقال بعضهم: كل ذنب لعن فاعله فهو كبيرة؛ وقال بعضهم: كل ذنب فيه حدّ في الدنيا فهو كبيرة؛ وقال بعضهم: كل ذنب فيه وعيد في الآخرة فهو كبيرة؛ لكن شيخ الإسلام رحمه الله قال في بعض كلام له: إن الكبيرة كل ما رتب عليه عقوبة خاصة سواء كانت لعنة؛ أو غضباً؛ أو حداً في الدنيا؛ أو نفي إيمان؛ أو تبرؤاً منه؛ أو غير ذلك؛ فالذنب إذا قيل: لا تفعل كذا؛ أو حرم عليك كذا؛ أو ما أشبه ذلك بدون أن يجعل عقوبة خاصة بهذا الذنب فهو صغيرة؛ أما إذا رتب عليه عقوبة - أيَّ عقوبة كانت - فإنه يكون من الكبائر -؛ فالغش مثلاً كبيرة؛ لأنه رتب عليه عقوبة خاصة - وهي البراءة منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من غش فليس مني»(25)؛ كون الإنسان لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه كبيرة؛ لأنه رتب عليه عقوبة خاصة؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(26)؛ وكون الإنسان لا يكرم جاره كبيرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»(27)؛ وعدوانه على جاره أكبر؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»(28)؛ وهذا الضابط أقرب الضوابط في تعريف الكبيرة؛ ولكن مع هذا لا نقول: إن هذه الكبائر سواء؛ بل من الكبائر ما يقرب أن يكون من الصغائر على حسب ما رتب عليه من العقوبة؛ فقطاع الطريق مثلاً أعظم جرماً من اللصوص.

7 - ومن فوائد الآية: أن الصد عن سبيل الله أعظم من القتال في الأشهر الحرم؛ لقوله تعالى: { وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله }؛ ويحتمل أن مجموع هذه الأفعال الأربعة أكبر عند الله من القتال؛ لا أن كل واحد منها أكبر عند الله.

8 - ومنها: أن أعظم الذنوب أن يصد الإنسان عن الحق؛ فكل من صد عن الخير فهو صاد عن سبيل الله؛ ولكن هذا الصد يختلف باختلاف ما صد عنه؛ من صد عن الإيمان فهو أعظم شيء - مثل مشركي قريش؛ ومن صد عن شيء أقل، كمن صد عن تطوع مثلاً فإنه أخف؛ ولكن لا شك أن هذا جرم؛ فالنهي عن المعروف من صفات المنافقين.

9 - ومنها: عظم الصد عن المسجد الحرام؛ ولذلك صور متعددة؛ فقد يكون بمنع الناس من الحج؛ ولكن لو قال وليّ الأمر: أنا لا أمنعهم؛ ولكنني أنظمهم؛ لأن الناس يقتل بعضهم بعضاً لو اجتمعوا جميعاً؛ فهل نقول: إن هذا من باب السياسة الجائزة، كمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من لا يصلح للجهاد من الجهاد(29)؟ أو نقول: إن في هذا نظراً؟ هذه المسألة تحتاج إلى نظر بعيد؛ وهل مراعاة المصالح بالنسبة للعموم تقضي على مراعاة المصالح بالنسبة للخصوص؛ أو لا؟.

وقد يكون الصد بإلهائهم، وإشغالهم عن فعل العبادات؛ وقد يكون بتحقير العبادات في أنفسهم؛ وقد يكون بإلقاء الشبهات في قلوب الناس حتى يشكوا في دينهم، ويدَعوه.

10 - ومن فوائد الآية: تقديم ما يفيد العليّة؛ لقوله تعالى: { عن الشهر الحرام قتال فيه }؛ المسؤول عنه القتال في الشهر الحرام؛ لكنه قدم الشهر الحرام؛ لأنه العلة في تحريم القتال؛ ومن ذلك قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذًى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222] ؛ فقدم العلة على الحكم لتنفر النفوس من الفعل قبل الحكم به؛ فيقع الحكم وقد تهيأت النفوس للاستعداد له، وقبوله.

11 - ومن فوائد الآية: تفاوت الذنوب؛ لقوله تعالى: { قل قتال فيه كبير } إلى قوله تعالى: { أكبر عند الله }؛ وبتفاوت الذنوب يتفاوت الإيمان؛ لأنه كلما كان الذنب أعظم كان نقص الإيمان به أكبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»(30)؛ فيكون في ذلك رد على من أنكروا زيادة الإيمان، ونقصانه؛ وللناس في ذلك ثلاثة أقوال؛ منهم من قال: إن الإيمان يزيد، وينقص؛ ومنهم من قال: إن الإيمان لا يزيد، ولا ينقص؛ ومنهم من قال: إن الإيمان يزيد، ولا ينقص؛ وبحث ذلك على وجه التفصيل، والترجيح في كتب العقائد؛ والراجح أن الإيمان يزيد، وينقص.

12 - ومن فوائد الآية: تسلية الله عزّ وجلّ للمؤمنين بما جرى من الكافرين مقابل فعل المؤمنين، حيث قاتلوا في الشهر الحرام.

13 - ومنها: أن من كان أقوم بطاعة الله فهو أحق الناس بالمسجد الحرام؛ لقوله تعالى: { وإخراج أهله منه}؛ فمع أن المشركين ساكنون في مكة؛ لكنهم ليسوا أهله، كما قال تعالى: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} [الأنفال: 34] .

14 - ومنها: التحذير من الفتنة؛ لقوله تعالى: { والفتنة أكبر من القتل }.

15 - ومنها: أن الفتنة - وهي صد الناس عن دينهم - أكبر من قتلهم؛ لأن غاية ما في قتلهم أن تفوتهم الحياة الدنيا؛ أما صدهم عن الإيمان لو صدوا عنه لفاتتهم الدنيا والآخرة؛ وكثير من الناس يأتون إلى مواضع الفتن وهم يرون أنهم لن يفتتنوا؛ ولكن لا يزال بهم الأمر حتى يقعوا في فتنة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزال به لما معه من الشبه حتى يتبعه»(31)؛ المهم أن الإنسان لا يعرض نفسه للفتن؛ فكم من إنسان وقع في مواقع الفتن وهو يرى نفسه أنه سيتخلص، ثم لا يتخلص.

16 - ومن فوائد الآية: حرص المشركين على ارتداد المؤمنين بكل وسيلة ولو أدى ذلك إلى القتال؛ لقوله تعالى: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا }؛ ولهذا كان الغزو الفكري، والغزو الأخلاقي أعظم من الغزو السلاحي؛ لأن هذا يدخل على الأمة من حيث لا تشعر؛ وأما ذاك فصدام مسلح ينفر الناس منه بالطبيعة؛ فلا يمكنون أحداً أن يقاتلهم؛ أما هذا فسلاح فتاك يفتك بالأمة من حيث لا تشعر؛ فانظر كيف أفسد الغزو الفكري والخلقي على الأمة الإسلامية أمور دينها، ودنياها؛ ومن تأمل التاريخ تبين له حقيقة الحال.

17 - ومن فوائد الآية: تيئيس الكافرين أن يردوا المؤمنين كلهم عن الدين؛ لقوله تعالى: { إن استطاعوا }؛ ولكن لن يستطيعوا حتى يأتي أمر الله، ويكون في آخر الزمان، فتهب ريح تقبض نفس كل مؤمن حتى لا يبقى إلا شرار الخلق.

18 - ومنها: الحذر من الكافرين؛ لقوله تعالى: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم }؛ وكلمة: { لا يزالون } تفيد الاستمرار، وأنه ليس في وقت دون وقت، وأن محاولتهم ارتداد المسلمين عن دينهم مستمرة.

19 - ومنها: أن الردة مبطلة للأعمال إذا مات عليها؛ لقوله تعالى: { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم }.

20 - ومنها: أن من ارتد عن دينه، ثم عاد إليه لم يبطل عمله السابق؛ لقوله تعالى: { فيمت وهو كافر }.

21 - ومنها: أن المرتد مخلد في النار؛ لقوله تعالى: { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.

22 - ومنها: أن المرتد لا يعامل في الدنيا بأحكام المؤمنين؛ لقوله تعالى: { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة }؛ فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، ولا يرث؛ وأما أن يورث فقد اختار شيخ الإسلام أنه يرثه أقاربه المسلمون؛ ولكن الصحيح أنه لا توارث؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم»(32).



القرآن

)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218)

التفسير:

{ 218 } قوله تعالى: { إن الذين آمنوا }؛ «الإيمان» في اللغة التصديق: قال تعالى عن إخوة يوسف قائلين لأبيهم: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} [يوسف: 17] ؛ وأما في الشرع فهو التصديق المستلزم للقبول والإذعان.

قوله تعالى: { والذين هاجروا } معطوفة على ما سبق من باب عطف الصفات، كقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 - 4] ؛ فهذه المعطوفات من باب عطف الصفات؛ لأن الموصوف بها واحد؛ و«الهجر» في اللغة الترك؛ ومنه: «هجرت فلاناً» إذا لم تكلمه؛ وفي الشرع له معنيان: عام، وخاص؛ فأما العام فهو هجر ما حرم الله عزّ وجلّ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»(33)؛ وأما الخاص فهو أن يهجر الإنسان بلده ووطنه لله ورسوله، بأن يكون هذا البلد بلد كفر لا يقيم فيه الإنسان دينه؛ فيهاجر من أجل إقامة دين الله، وحماية نفسة من الزيغ، كما جاء في الحديث الصحيح: «من كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»(34)؛ والمراد بالهجرة في الآية ما يشمل المعنيين: العام، والخاص.

قوله تعالى: { وجاهدوا في سبيل الله } معطوفة على الصلة في { الذين هاجروا }؛ ولم يعد الموصول؛ لأن الهجرة والجهاد عملان مبنيان على الإيمان؛ و «الجهاد في سبيل الله» هو قتال الكفار لتكون كلمة الله هي العليا؛ و «الجهاد» هو بَذْلُكَ الجهد لأمر مطلوب؛ والجهد معناه الطاقة، كما قال تعالى: {والذين لا يجدون إلا جهدهم} [التوبة: 79] يعني إلا طاقتهم؛ وهو يغلب على بذل الجهد في قتال الأعداء؛ وإلا فكل أمر شاق تبذل فيه الطاقة فإنه جهاد؛ ولهذا كان جهاد النفس يسمى جهاداً؛ ولكن لا صحة للحديث الذي يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما رجع من تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»(35) يعني: جهاد النفس؛ ولكن لا شك أن النفس تحتاج إلى مجاهدة لحملها على فعل الطاعة، وترك المعصية.

قوله تعالى: { أولئك يرجون رحمة الله }؛ هذه الجملة خبر { إن } في أول الآية؛ واسمها { الذين }؛ وجملة: {أولئك يرجون رحمة الله } الخبر؛ وهي جملة؛ لأن «أولاء» مبتدأ؛ و{ يرجون } جملة خبر المبتدأ الثاني؛ والجملة من المبتدأ الثاني، والخبر خبر { إن }؛ والإشارة بمبتدأ جديد تدل على رفعة مقامهم؛ ولا سيما وقد أتى باسم الإشارة؛ وتصدير خبر { إن } باسم الإشارة للبعيد يدل على علو همتهم؛ فيكون في ذلك تنويه بذكرهم من وجهين:

أولاً: الإشارة إليهم بما يدل على الرفعة والعلو.

ثانياً: أن تعدد المبتدأ يجعل الجملة الواحدة كالجملتين؛ فيكون في ذلك توكيد على توكيد.

و «الرجاء» الطمع في حصول ما هو قريب؛ ومعلوم أن الطمع بما هو قريب لا يكون قريباً إلا بفعل ما يكون قريباً به؛ وهؤلاء فعلوا ما تكون الرحمة قريبة منهم؛ والذي فعلوه: الإيمان، والهجرة، والجهاد؛ فإذا لم يرْجُ هؤلاء رحمة الله فمن الذي يرجوها؟!! فهؤلاء هم أهل الرجاء؛ فالرجاء لا بد له من أسباب؛ وحسن الظن لا بد له من أسباب.

والمراد بالرحمة هنا يحتمل أن تكون الرحمة التي هي صفته - أي أن يرحمهم -؛ ويحتمل أن يكون المراد ما كان من آثار رحمته؛ وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء»(36)؛ فجعل المخلوق رحمة له؛ لأنه من آثار رحمة الله؛ ولهذا قال: «أرحم بك» ؛ أما الرحمة التي هي وصفه فهي شيء آخر؛ فالآية محتملة للمعنيين؛ وكلاهما متلازمان؛ لأن الله إذا رحم عبداً أدخله الجنة التي هي رحمته.

قوله تعالى: { والله غفور رحيم }؛ قد يقول قائل: ما محل ذكر اسم الله «الغفور» هنا مع أن هؤلاء قاموا بأعمال صالحة؟ الجواب أن القائم بالأعمال الصالحة قد يحصل منه شيء من التفريط، والتقصير؛ ولذلك شرع للمصلي أن يستغفر الله ثلاثاً بعد السلام؛ وأما ذكر «الرحيم» فواضح مناسبته؛ لأن كل هذه الأعمال التي عملوها من آثار رحمته؛ وسبق الكلام على هذين الاسمين الكريمين.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، والهجرة؛ لقوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هاجروا } الآية.

2 - ومنها: أن الجهاد دون مرتبة الهجرة؛ لأنه جعل الجهاد معطوفاً على الهجرة؛ ولم يجعل له اسماً موصولاً مستقلاً.

3 - ومنها: مراعاة الإخلاص في الهجرة، والجهاد؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ وأما بدون الإخلاص فهجرته إلى ما هاجر إليه؛ واعلم أنه يقال: في كذا؛ ولكذا؛ وبكذا؛ تقول مثلاً: جاهدت لله؛ وجاهدت بالله؛ وجاهدت في الله؛ فـ«لله»: اللام لبيان القصد؛ فتدل على الإخلاص؛ و«بالله»: الباء للاستعانة؛ فتدل على أنك جاهدت مستعيناً بالله؛ و«في الله»: «في» للظرفية؛ فتدل على أن ذلك الجهاد على وفق شرع الله - لم يتعد فيه الحدود -.

4 - ومن فوائد الآية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يكون جازماً بقبول عمله؛ بل يكون راجياً؛ ولكنه يرجو رجاءً يصل به إلى حسن الظن بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { أولئك يرجون رحمة الله }؛ لأنهم لا يغترون بأعمالهم؛ ولا يُدْلُون بها على الله؛ وإنما يفعلونها وهم راجون رحمة الله.

5 - ومنها: إثبات اسمي «الغفور» ، و «الرحيم» لله عزّ وجلّ؛ وإثبات ما دلَّا عليه من المغفرة والرحمة؛ وما يترتب على ذلك من غفران الذنوب والرحمة؛ فبالمغفرة يزول المكروه من آثار الذنوب؛ وبالرحمة يحصل المطلوب.

6 - ومنها: كمال رحمة الله بالخلق؛ فلله على العامل عملاً صالحاً ثلاث نعم عظيمة:

الأولى: أنه بيّن له العمل الصالح من العمل غير الصالح؛ وذلك بما أنزله من الوحي على رسله؛ بل هي أعظم النعم.

الثانية: توفيقه لهذا العمل الصالح؛ لأن الله قد أضل أمماً عن العمل الصالح.

الثالثة: ثوابه على هذا العمل الصالح ثواباً مضاعفاً: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

وهذا مما يدل على كمال رحمة الله بالخلق: أنه ينعم، ثم يشكر المنعمَ عليه، كما قال تعالى: {إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً} [الإنسان: 22] .



القرآن

)يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة:219) )فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:220)

التفسير:

{ 219 } قوله تعالى: { يسألونك عن الخمر والميسر } أي يسألك الناس، أو الصحابة رضي الله عنهم، وسبب سؤالهم هو أن الإنسان العاقل إذا رأى ما يترتب على الخمر، والميسر من المضار التي تخالف الفطرة فلا بد أن يكون عنده إشكال في ذلك؛ ولهذا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمهما - لا عن معناهما -؛ لأن المعنى معلوم.

والسؤال إذا كان بمعنى طلب مال فإنه ينصب مفعولين؛ وإذا كان سؤال استفهام فإنه ينصب المفعول الأول، ويتعدى للثاني بـ«عن» كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {يسألونك عن المحيض} [البقرة: 222] ، وقوله تعالى: {يسألونك عن الساعة} [الأعراف: 187] ؛ وربما يُستغنى عن الثاني بجملة استفهامية، كما في السؤال بعده؛ والفرق بين الصيغتين - تعديه إلى جملة استفهامية، وتعديه إلى المفعول الثاني بحرف الجر - أنه إذا عدّي إلى الثاني بصيغة الاستفهام صارت هذه الصيغة نفس لفظ السائل بعينها؛ وإذا تعدى بـ«عن» فقد تكون هي لفظ السائل بعينه، وقد تكون غير ذلك.

والمراد بالخمر كل ما أسكر على وجه اللذة، والطرب.

وقد أنزل الله في الخمر أربع آيات: آية تبيحه - وهي قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} [النحل: 67] -؛ وآية تعرض بالتحريم - وهي هذه الآية -؛ وآية تمنعه في وقت دون آخر - وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] -؛ وآية تمنعه دائماً مطلقاً - وهي آية المائدة التي نزلت في السنة الثامنة من الهجرة -؛ وهي قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ...} [المائدة: 90] الآيات.

وقوله تعالى: { والميسر } المراد به القمار؛ وهو كل كسب عن طريق المخاطرة، والمغالبة؛ وضابطه: أن يكون فيه بين غانم، وغارم.

قوله تعالى: { قل } أي لمن سأل عن الخمر، والميسر؛ { فيهما } خبر مقدم؛ والضمير عائد على الخمر، والميسر؛ { إثم } أي عقوبة؛ أو كان سبباً للعقوبة، كما قال تعالى: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ويقال: «فلان آثم» أي مستحق للعقوبة.

وفي قوله تعالى: { كبير } قراءة: { كثير }؛ والفرق بينهما أن الكبر تعود إلى الكيفية؛ والكثرة تعود إلى الكمية؛ والمعنى أن فيهما إثماً كثيراً بحسب ما يتعامل بهما الإنسان؛ والإنسان المبتلى بذلك لا يكاد يقلع عنه؛ وهذا يستلزم تعدد الفعل منه؛ وتعدد الفعل يستلزم كثرة الإثم؛ أيضاً الإثم فيهما كبير - أي عظيم -؛ لأنهما يتضمنان مفاسد كثيرة في العقل، والبدن، والاجتماع، والسلوك؛ وقد ذكر محمد رشيد رضا - رحمه الله - في هذا المكان أضراراً كثيرة جداً؛ من قرأ هذه الأضرار عرف كيف عبر الله عن ذلك بقوله تعالى: { إثم كبير }، أو { إثم كثير }؛ وهاتان القراءتان لا تتنافيان؛ لأنهما جمعتا وصفين مختلفين جهة؛ فيكون الإثم كثيراً باعتبار آحاده؛ كبيراً باعتبار كيفيته.

قوله تعالى: { ومنافع للناس }؛ جمع منفعة؛ وهي من صيغة منتهى الجموع التي تدل على الكثرة؛ ففيهما منافع كثيرة عظيمة؛ فإن قلت: كيف قال الله عزّ وجلّ: { منافع للناس } بهذا الجمع الكثير؟ أليس هذا مما يستلزم أن يُقبل الناس عليهما؛ لأن الإثم ذكره مفرداً - وإن كان قد وصف بالكبر، أو بالكثرة -؛ لكن المنافع ذكرت بالجمع؟

فالجواب: أن يقال: إنه مع كثرة منافعهما فإن إثمهما أكبر، وأعظم؛ لأنه لو كانت منفعة واحدة لم يستغرب كون الإثم أكبر؛ لكن حتى وإن تعددت المنافع، وكثرت فإن الإثم أكبر، وأعظم؛ وتأمل قوله تعالى: { منافع للناس }؛ لأنها منافع مادية بحتة تصلح للناس من حيث هم أناس؛ وليست منافع ذات خير ينتفع بها المؤمنون.

قوله تعالى: { وإثمهما أكبر من نفعهما } يعني: ما يترتب عليهما من العقوبة أكبر من نفعهما؛ لأن العقوبة في الآخرة؛ وأما النفع ففي الدنيا؛ وعذاب الآخرة أشق، وأبقى.

قوله تعالى: { ويسألونك ماذا ينفقون }؛ هذا هو السؤال الثاني في الآية - أي أيّ شيء ينفقونه -؛ وفي إعرابها وجهان؛ الأول: أن { ماذا } مفعول مقدم لـ{ ينفقون }؛ وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير ضمير المفعول في: { ينفقون }؛ والثاني: أن «ما» اسم استفهام مبتدأ، و «ذا» اسم موصول بمعنى «الذي» خبر؛ وجملة: { ينفقون } صلة الموصول؛ والعائد محذوف؛ والتقدير: ماذا ينفقونه.

قوله تعالى: { قل العفو } فيها قراءتان: النصب، والرفع؛ فالرفع على تقدير «ما» اسمَ استفهام مبتدأ؛ و «ذا» اسمَ موصول خبراً؛ فيكون { العفو } خبراً لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: هو العفو؛ وأما النصب فعلى تقدير { ماذا } مفعولاً مقدماً؛ و{ العفو } منصوب بفعل محذوف؛ والتقدير: أنفقوا العفوَ؛ وإنما قلنا: الرفع، والنصب مبني على إعراب الجملة التي قبلها؛ لأن الجواب مبني على السؤال؛ فهنا كلمة: «ما» هذه - الموصولية، أو الاستفهامية - هي التي فُسِّرت بكلمة: { العفو }؛ فإذا كانت تفسيراً لها كان لها حكمها في الإعراب؛ إن نصبت { ماذا } فانصِب { العفو }؛ وإن رفعت { ماذا } فارفع { العفو }.

قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم الآيات }؛ المشار إليه ما سبق من بيان حكم الخمر، والميسر، وبيان ما ينفق؛ أي: مثلَ ذلك البيان يبين الله؛ و «البيان» بمعنى الإظهار؛ يقال: بينته، فتبين - أي ظهر -؛ و{ الآيات } جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمعلومها؛ والمعنى: أن الله يبين لعباده الأحكام الشرعية بياناً واضحاً.

قوله تعالى: { لعلكم تتفكرون }؛ «التفكر» إعمال الفكر للوصول إلى الغاية؛ و «لعل» للتعليل؛ واسمها: الكاف؛ وخبرها: جملة: { تتفكرون }.

{ 220 } قوله تعالى: { في الدنيا والآخرة } متعلق بـ{ تتفكرون } أي في شؤونهما، وأحوالهما.

قوله تعالى: { ويسألونك عن اليتامى } معطوفة بالواو، كأنها أسئلة متتابعة؛ سألوا أولاً عن الخمر، والميسر؛ ثم سألوا ماذا ينفقون؛ وجه الارتباط بين السؤالين واضح جداً؛ لأن في الخمر، والميسر إتلاف المال بدون فائدة؛ وفي الإنفاق بذل المال بفائدة؛ ثم قال تعالى: { ويسألونك عن اليتامى }؛ ووجه ارتباط السؤال الثالث بالسؤالين قبله أن الله عزّ وجلّ لما أنزل قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً} [النساء: 10] ، وقولَه تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الأنعام: 152] أشكل على الصحابة رضي الله عنهم، فصاروا يجعلون طعامهم على حدة، وطعام اليتامى على حدة؛ ثم ما جعلوه لليتامى إما أن يفسد، ولا يصلح للأكل؛ وإما أن يصلح للأكل، ولكن ليس على الوجه الأكمل؛ فتحرجوا من ذلك، وأشكل عليهم فيما لو خلطوا طعامهم بطعام اليتامى؛ فأجابهم الله عزّ وجلّ بجواب في غاية ما يكون من البلاغة، والاختصار، والوضوح؛ فقال تعالى: { قل إصلاح لهم خير }.

وقوله تعالى: { اليتامى } جمع يتيم؛ وهو الذي مات أبوه ولم يبلغ؛ مشتق من اليتم - وهو الانفراد؛ واليتيم بما أن أباه قد توفي يحتاج إلى عناية، ورعاية أكثر؛ ولهذا جاء في القرآن الكريم الوصاية به كثيراً.

قوله تعالى: { قل إصلاح لهم خير }؛ وكلمة: { إصلاح } تعني أن الإنسان يتبع ما هو أصلح لهم في جميع الشؤون سواء كان ذلك في التربية، أو في المال؛ وسواء كان ذلك بالإيجاب، أو السلب؛ فأيّ شيء يكون إصلاحاً لهم فهو خير؛ وحذف المفضل عليه للعموم، كقوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير} [النساء: 128] ؛ هذه الجملة في شمولها، وعمومها، ووضوحها كالجملة الأولى.

قوله تعالى: { وإن تخالطوهم فإخوانكم }؛ هذه الجملة الثانية مما تتضمنه الجواب؛ لأن الجواب تضمن جملتين؛ إحداهما: { قل إصلاح لهم خير }؛ والثانية: { وإن تخالطوهم فإخوانكم }؛ يعني: وإن خالطتموهم في الأكل، والشرب، وجعلتم طعامهم مع طعامكم فإنهم ليسوا أجانب منكم؛ بل هم إخوانكم في الدين؛ أو في النسب؛ أو فيهما جميعاً - على حسب حال اليتيم -.

قوله تعالى: { والله يعلم المفسد من المصلح }؛ العلم هنا علم معرفة؛ لأنه لم ينصب إلا مفعولاً واحداً؛ وكأنه ضمن «العلم» معنى التميز؛ يعني يعلمه، فيميز بين هذا، وهذا؛ ويجازي كل إنسان بما يستحق؛ لأن التمييز بين هذا، وهذا يقتضي أن يميز بينهما أيضاً في الثواب، والجزاء؛ ويشمل ذلك الإفساد الديني، والدنيوي؛ والإصلاح الديني، والدنيوي؛ ويشمل الذي وقع منه الإفساد، أو الصلاح.

قوله تعالى: { ولو شاء الله لأعنتكم }؛ { لو } شرطية؛ فعل الشرط: { شاء الله }؛ وجواب الشرط: { لأعنتكم }؛ واللام في جواب { لو } غالبة؛ وليست واجبة الوجود؛ ومن حذفها قوله تعالى: {لو نشاء جعلناه أجاجاً} [الواقعة: 70] ؛ وإلا فالأكثر وجود اللام في جوابها.

وقوله تعالى: { لأعنتكم } أي لشق عليكم فيما يشرعه لكم؛ ومن ذلك أن يشق عليكم في أمر اليتامى بأن لا تخالطوهم؛ وأن تقدروا غذاءهم تقديراً بالغاً، حيث لا يزيد عن حاجتهم، ولا ينقص عنها.

قوله تعالى: { إن الله عزيز حكيم } هذه الجملة تعليل لما سبق من قوله تعالى: { ولو شاء الله لأعنتكم كأنه قال: ولو شاء الله لأعنتكم؛ لأن له العزة، والحكم؛ و «العزيز» ، و «الحكيم» اسمان من أسماء الله تقدم معناهما، وأنواعهما.



الفوائد:

1 - من فوائد الآيتين: حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة أحكام الله سبحانه وتعالى فيما يفعلونه، ويأتونه من مآكل، ومشارب، وغيرها.

2 - ومنها: أن الدين الإسلامي جاء بتحصيل المصالح، ودرء المفاسد.

3 - ومنها: المقارنة في الأمور بين مصالحها، ومفاسدها.

4 - ومنها: ترجيح المصالح على المفاسد، أو المفاسد على المصالح حسب ما يترتب عليها.

5 - ومنها: أنه مهما كثرت المنافع في الخمر والميسر، فإن الإثم أكبر من منافعهما.

6 - ومنها: حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة ما يُبذل، ويُنفَق؛ لقوله تعالى: { ويسألونك ماذا ينفقون }.

7 - ومنها: أن الأفضل في الإنفاق أن ينفق الإنسان ما يزيد على حاجته.

8 - ومنها: أن دفع الحاجة أفضل من الإنفاق؛ لقوله تعالى: { قل العفو } أي ما زاد على حاجتكم، كما سبق بيانه.

9 - ومنها: أن الله - تبارك وتعالى - قد بين لعباده البيان التام في آياته الكونية، والشرعية.

10 - ومنها: إثبات الحكمة في أفعال الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { لعلكم تتفكرون }.

11 - ومنها: الحث على التفكر في آيات الله؛ لقوله تعالى: { لعلكم تتفكرون }.

12 - ومنها: أن التفكر لا يقتصر على أمور الدنيا؛ بل هو في أمور الدنيا، والآخرة؛ لقوله تعالى: { لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة }.

13 - ومنها: سؤال الصحابة رضي الله عنهم عن اليتامى كيف يعاملونهم؛ وهذا السؤال ناتج عن شدة خوف الصحابة رضي الله عنهم فيما يتعلق بأمور اليتامى؛ لأن الله تعالى توعد من يأكلون أموال اليتامى ظلماً، وقال تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن }.

14 - ومنها: مراعاة الإصلاح فيمن ولاه الله على أحد.

15 - ومنها: أن الإنسان إذا راعى ما يرى أنه أصلح، ثم لم يكن ذلك فإنه لا شيء عليه؛ لأن الإنسان إنما يؤاخذ بما يدركه؛ لا بما لا يدركه.

16 - ومنها: فضيلة الإصلاح في الولايات، وغيرها؛ لقوله تعالى: { قل إصلاح لهم خير }؛ فإن المقصود بهذه الجملة الحث على الإصلاح.

17 - ومنها: جواز مخالطة الأيتام في أموالهم؛ لقوله تعالى: { وإن تخالطوهم فإخوانكم }.

18 - ومنها: أنه يجب في المخالطة أن يعاملهم معاملة الإخوان؛ لقوله تعالى: { وإن تخالطوهم فإخوانكم }؛ ففي هذه الجملة الحث، والإغراء على ما فيه الخير لهم، كما يسعى لذلك الأخ لأخيه.

19 - ومنها: إطلاق الأخ على من هو دونه؛ لأن اليتيم دون من كان ولياً عليه؛ وهذه الأخوة أخوة الدين.

20 - ومنها: التحذير من الإفساد؛ لقوله تعالى: { والله يعلم المفسد من المصلح }.

21 - ومنها: عموم علم الله - تبارك وتعالى -، حيث يعلم كل دقيق، وجليل.

22 - ومنها: إثبات المشيئة لله؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله لأعنتكم }؛ وهذه المشيئة لما يفعله الله تعالى، ولما يفعله العباد؛ لقوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 28، 29] ، ولقوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253] .

23 - ومنها: أن الدين يسر، ولا حرج فيه، ولا مشقة؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله لأعنتكم }.

24 - ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين لله عزّ وجلّ؛ وهما «العزيز» ، و «الحكيم» ؛ وإثبات ما دلا عليه من صفة.





القرآن

)وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة:221)

التفسير:

{ 221 } قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات }؛ النكاح في الأصل الضم، والجمع؛ ومنه قول الشاعر:

(أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرُك اللَّهُ كيف يجتمعان) يعني: أيها المريد أن تجمع بين الثريا، وسهيل - وهما نجمان معروفان -؛ الأول في الشمال؛ والثاني في الجنوب؛ فقوله: «كيف يجتمعان» يدل على أن النكاح في الأصل الجمع، والضم؛ وأما في الشرع فهو عقد على مُحَلَّلة لقصد المصالح المترتبة على النكاح من تحصين الفرج، والولادة، والاستمتاع، وغير ذلك.

قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }؛ { تَنكحوا } بفتح التاء؛ أي لا تتزوجوا بهن حتى يؤمنَّ؛ و{ المشركات } جمع مشركة؛ والمشركة، أو المشرك، هو من جعل لله شريكاً فيما يختص به سواء كان ذلك في الربوبية، أو في الألوهية، أو في الأسماء، والصفات؛ فمن اتخذ إلهاً يعبده فهو مشرك - ولو آمن بأن الله خالق للكون -؛ ومن اعتقد أن مع الله خالقاً للكون، أو منفرداً بشيء في الكون، أو معيناً لله تعالى في خلق شيء من الكون فهو مشرك.

وقوله تعالى: { حتى يؤمن } أي يدخلن في دين الله؛ ودخولهن في دين الله يلزم منه التوحيد.

قوله تعالى: { ولأمة مؤمنة } أي امرأة مؤمنة { خير من مشركة ولو أعجبتكم }؛ هذه الجملة تعليل للنهي عن نكاح المشركات مؤكدة بلام الابتداء؛ وقوله تعالى: { خير من مشركة }: أطلق الخيرية ليعم كل ما كان مطلوباً في المرأة؛ { ولو أعجبتكم } أي سرتكم، ونالت إعجابكم في جمالها، وخلقها، ومالها، وحسبها، وغير ذلك من دواعي الإعجاب.

فإن قيل: كيف جاءت الآية بلفظ: { خير من مشركة } مع أن المشركة لا خير فيها؟ فالجواب من أحد وجهين:

الأول: أنه قد يرد اسم التفضيل بين شيئين، ويراد به التفضيل المطلق - وإن لم يكن في جانب المفضل عليه شيء منه -، كما قال تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلًا} [الفرقان: 24] .

الثاني: أن المشركة قد يكون فيها خير حسي من جمال، ونحوه؛ ولذلك قال تعالى: { ولو أعجبتكم }؛ فبين سبحانه وتعالى أن ما قد يعتقده ناكح المشركة من خير فيها فإن نكاح المؤمنة خير منه.

قوله تعالى: { ولا تُنكحوا المشركين } بضم التاء؛ أي لا تزوجوهم؛ { حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } سبق بيان ذلك عند قوله تعالى: { حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة }.

قوله تعالى: { أولئك يدعون إلى النار } هذه الجملة تعليل لما سبق؛ والمشار إليه فيها أهل الشرك - أي يدعون الناس إلى النار بأقوالهم، وأفعالهم، وأموالهم -؛ حتى إنهم يبنون المدارس، والمستشفيات، ويلاطفون الناس في معاملتهم خداعاً، ومكراً؛ ولكن قد بين الله نتيجة عملهم في قوله تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} [الأنفال: 36] .

قوله تعالى: { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه }، أي يدعو الناس إلى الجنة بالحث على الأعمال الصالحات؛ ومغفرة الذنوب بالحث على التوبة، والاستغفار؛ و{ بإذنه } أي إذن الله؛ والإذن على قسمين: إذن كوني - وهو ما يتعلق بالمخلوقات، والتقديرات -؛ وإذن شرعي - وهو ما يتعلق بالتشريعات -؛ فمن الأول قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255] ؛ ومن الثاني قوله تعالى: {ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] يعني شرع لكم؛ والظاهر أن الإذن في هذه الآية - والله أعلم - يشمل القسمين؛ لأن دخول الإنسان فيما يكون سبباً للجنة، والمغفرة كوني؛ وما يكون سبباً للجنة، والمغفرة هذا مما شرعه الله.

قوله تعالى: { ويبين آياته للناس } أي يظهرها، و «آيات» جمع آية؛ وهي العلامة القاطعة التي تستلزم العلم بمدلولها، كما قال تعالى: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} [يس: 41] .

قوله تعالى: { لعلهم يتذكرون } أي يتعظون؛ والجملة تعليلية.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أنه يحرم على المؤمن نكاح المشركات؛ لقوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }؛ ويستثنى من ذلك أهل الكتاب من اليهود، والنصارى؛ لقوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } [المائدة: 5] ، فإن هذه الآية: { اليوم أحل لكم الطيبات... } مخصِّصة لآية البقرة؛ و «أل» في قوله تعالى: { اليوم } للعهد الحضوري تفيد أن هذا الحكم ثبت في ذلك اليوم نفسه؛ والآية في سورة المائدة، ونزولها بعد نزول سورة البقرة؛ لكن مع كون ذلك مباحاً فإن الأولى أن لا يتزوج منهن؛ لأنها قد تؤثر على أولاده؛ وربما تؤثر عليه هو أيضاً: إذا أعجب بها لجمالها، أو ذكائها، أو علمها، أو خلقها، وسلبت عقله فربما تجره إلى أن يكفر.

2 - ومن فوائد الآية: أن الحكم يدور مع علته وجوداً، وعدماً؛ لقوله تعالى: { حتى يؤمن }؛ فدل ذلك على أنه متى زال الشرك حل النكاح؛ ومتى وجد الشرك حرم النكاح.

3 - ومنها: أن الزوج وليّ نفسه؛ لقوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات }؛ فوجه الخطاب للزوج.

4 - ومنها: أن المؤمن خير من المشرك؛ ولو كان في المشرك من الأوصاف ما يعجب؛ لقوله تعالى: { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم }؛ ومثله قوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة: 100] ؛ فلا تغتر بالكثرة؛ ولا تغتر بالمهارة؛ ولا بالجودة؛ ولا بالفصاحة؛ ولا بغير ذلك؛ ارجع إلى الأوصاف الشرعية المقصودة شرعاً.

5 - ومنها: تفاضل الناس في أحوالهم، وأنهم ليسوا على حد سواء؛ لقوله تعالى: { ولعبد مؤمن خير من مشرك }.

6 - ومنها: الرد على الذين قالوا: «إن دين الإسلام دين مساواة»؛ لأن التفضيل ينافي المساواة؛ والعجيب أنه لم يأت في الكتاب، ولا في السنة لفظة «المساواة» مثبتاً؛ ولا أن الله أمر بها؛ ولا رغب فيها؛ لأنك إذا قلت بالمساواة استوى الفاسق، والعدل؛ والكافر، والمؤمن؛ والذكر، والأنثى؛ وهذا هو الذي يريده أعداء الإسلام من المسلمين؛ لكن جاء دين الإسلام بكلمة هي خير من كلمة «المساواة»؛ وليس فيها احتمال أبداً، وهي «العدل» ، كما قال الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل: 90] ؛ وكلمة «العدل» تعني أن يسوى بين المتماثلين، ويفرق بين المفترقين؛ لأن «العدل» إعطاء كل شيء ما يستحقه؛ والحاصل: أن كلمة «المساواة» أدخلها أعداء الإسلام على المسلمين؛ وأكثر المسلمين - ولا سيما ذوو الثقافة العامة - ليس عندهم تحقيق، ولا تدقيق في الأمور، ولا تمييز بين العبارات؛ ولهذا تجد الواحد يظن هذه الكلمة كلمة نور تحمل على الرؤوس: «الإسلام دين مساواة»! ونقول: لو قلتم: «الإسلام دين العدل» لكان أولى، وأشد مطابقة لواقع الإسلام.



القرآن

)وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222)

التفسير:

{ 222 } قوله تعالى: { يسألونك } أي الناس، أو المسلمون؛ { عن المحيض }: يحتمل أن تكون مصدراً ميمياً فتكون بمعنى الحيض؛ أو تكون اسم مكان فيكون المراد به مكان الحيض؛ وهو الفَرْج؛ ولكن الأرجح الاحتمال الأول؛ لقوله تعالى: { قل هو أذًى }؛ فإنه لا يحتمل عوده إلى مكان الحيض.

قوله تعالى: { قل هو أذًى }: أي لكل من الزوج، والزوجة، وبيان ذلك عند الأطباء.

قوله تعالى: { فاعتزلوا النساء } أي اجتنبوا؛ والفاء هنا للتفريع، أو للسببية؛ أي فيتفرع على كونه أذًى توجيه الأمر إليكم باعتزال النساء؛ أو: فبسبب كونه أذًى اعتزلوا النساء في المحيض؛ والمقصود بـ{ النساء } هنا الحائضات؛ لقوله تعالى: { في المحيض }؛ والمراد بـ{ المحيض } هنا مكان الحيض - وهو الفرج -؛ فهي ظرف مكان؛ أي لا تجامعوهن في فروجهن؛ لأنه مكان الحيض.

قوله تعالى: { ولا تقربوهن }، أي لا تقربوا جماعهن كما يدل عليه ما قبله.

قوله تعالى: { حتى يطهرن } بسكون الطاء، وتخفيف الهاء - أي حتى يطهرن من المحيض بانقطاعه -؛ وفي قراءة { حتى يطّهرن } بتشديد الطاء، والهاء - أي يتطهرن من المحيض بالاغتسال -، كقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة: 6] أي اغتسلوا؛ وعلامة الطهر للمرأة القَصة البيضاء بأن لا تتغير القطنة إذا احتشت بها؛ وهذا هو الغالب في النساء؛ لكن بعض النساء لا ترى ذلك - تعرف الطهر بانقطاع الدم فقط ولا ترى القصة البيضاء.

قوله تعالى: { فإذا تطهرن }: جمهور أهل العلم على أن المراد اغتسلن؛ فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً؛ فهي كقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة: 6] ، أي اغتسلوا.

قوله تعالى: { فأتوهن من حيث أمركم الله }؛ الفاء رابطة لجواب الشرط؛ وهو قوله تعالى: { فإذا تطهرن }؛ والمراد بالإتيان الجماع - كني بالإتيان عن المجامعة -؛ والأمر هنا للإباحة؛ وقيل إن { مِن } بمعنى «في» أي فأتوهن في المكان الذي أمركم الله بإتيانه؛ وهو الفرج؛ وقيل: إن { مِن } للابتداء؛ فهي على بابها؛ أي فأتوهن من هذه الطريق من حيث أمركم الله؛ وهو أن تطؤوهن في الفروج؛ لقوله تعالى في الآية بعدها: {نساؤكم حرث لكم} [البقرة: 223] ؛ والحرث هو موضع الزرع؛ وموضع الزرع هو القبل؛ فيكون معنى قوله تعالى: { فأتوهن من حيث أمركم الله } أي من قُبُلهن؛ وليس من الدبر.

وقوله تعالى: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين }؛ هذا تعليل لما سبق من الأوامر؛ وهي اعتزال النساء في المحيض، وإتيانهن من حيث أمر الله بعد التطهر.

وقوله تعالى: { يحب التوابين ويحب المتطهرين }: المحبة معروفة؛ و{ التوابين } صيغة مبالغة تفيد الكثرة؛ فالتوابون كثيرو التوبة؛ و«التوبة» هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته؛ و{ المتطهرين } أي الذين يتطهرون من الأحداث، والأخباث؛ وجمع بين ذلك، وبين التوبة؛ لأن «التوبة» تطهير الباطن؛ و «التطهر» تطهير الظاهر.



الفوائد:

1 - من فوائد الآية: تتابع أسئلة الصحابة رضي الله عنهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 - ومنها: حرص الصحابة على العلم، حيث يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذه الأمور.

3 - ومنها: أنه لا ينبغي أن يستحيي الإنسان من سؤال العلم؛ لقوله تعالى: { ويسألونك عن المحيض }.

4 - ومنها: أن الله عزّ وجلّ قد يتولى الإجابة فيما سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى: { قل هو أذًى }.

5 - ومنها: أن المحيض - وهو الحيض - أذًى؛ لأنه قذر، ونجس؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله قليله، وكثيره؛ فقد كان النساء يصيب ثيابهن الحيض، فيسألن النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيأمرهن بحته، ثم قرصه بالماء، ثم نضحه(37) - أي غسله -.

6 - ومنها: تعليل الأحكام الشرعية؛ لقوله تعالى: { هو أذًى فاعتزلوا }.

ويتفرع على هذه الفائدة: إثبات الحكمة فيما شرعه الله عزّ وجلّ؛ لكن من الحكمة ما هو معلوم للخلق؛ ومنها ما ليس بمعلوم؛ لكننا نعلم أن جميع أحكام الله الشرعية والقدرية مقرونة بالحكمة.

7 - ومن فوائد الآية: تقديم علة الحكم عليه حتى تتهيأ النفوس لقبول الحكم، والطمأنينة إليه؛ ويكون قبوله فطرياً؛ لقوله تعالى: { قل هو أذًى فاعتزلوا النساء في المحي
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:37 am من طرف ahmadhamad
الاية 224 الي الاية 230
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:224)

التفسير:

{ 224 } قوله تعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس }، أي لا تصيروا الحلف بالله معترضاً بينكم، وبين البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس؛ فـ «البر» فعل الخيرات؛ و «التقوى» هنا اجتناب الشرور؛ و «الإصلاح بين الناس» التوفيق بين المتنازعين حتى يلتئم بعضهم إلى بعض، ويزول ما في أنفسهم.

قوله تعالى: { والله سميع عليم }، أي سميع لما يقال عليم بكل شيء.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: نهي الإنسان عن جعل اليمين مانعة له من فعل البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس؛ والنهي للتحريم إذا كانت مانعة له من واجب؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير»(42).

2 - ومنها: الحث على البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس؛ وجهه: أنه إذا كان الله نهانا أن نجعل اليمين مانعاً من فعل البر فما بالك إذا لم يكن هناك يمين.

3 - ومنها: فضيلة الإصلاح بين الناس؛ لقوله تعالى: { وتصلحوا بين الناس }؛ فنص عليه مع أنه من البر؛ والتنصيص على الشيء بعد التعميم يدل على العناية به، والاهتمام به؛ ولا ريب أن الإصلاح بين الناس من الأمور الهامة لما فيه من رأب الصدع، ولمّ الشعث، وجمع الشمل؛ وهذا خلاف من يفعلون ما يوجب القطيعة بين الناس، مثل النميمة - فهي توجب القطيعة بين الناس -؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام»(43).

4 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «السميع» و «العليم» ؛ وما تضمناه من صفة، وما تضمناه من حكم، وأثر.

5 - ومنها: تحذير الإنسان من المخالفة؛ وجهه: أنه إذا كان الله سميعاً عليماً فإياك أن تخالف ما أمرك به؛ فإنك إن خالفته بما يُسمَع سَمِعك؛ وبما يُعلَم عَلِمك؛ فاحذر الله عزّ وجلّ.



القرآن

)لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة:225)

التفسير:

{ 225 } قوله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم }؛ «يؤاخذ» لها معنيان؛ أحدهما: المؤاخذة بالعقوبة؛ والثاني: المؤاخذة بإلزام الكفارة؛ و «اللغو» في اللغة الشيء الساقط؛ والمراد به هنا اليمين التي لا يقصدها الحالف، كقول: «لا واللَّهِ»؛ «بلى والله» في عرض حديثه؛ ويبين ذلك قوله تعالى في سورة المائدة: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89] أي نويتم عقده؛ و «الأيمان» جمع يمين؛ وهو القسم؛ والقسم: تأكيد الشيء بذكر معظَّم بصيغة مخصوصة - هي الواو، والباء، والتاء -؛ مثل: «والله»، و«بالله»، و«تالله».

قوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }، يفسره قوله تعالى: {بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89] .

قوله تعالى: { والله غفور حليم }؛ لما ذكر اللغو من اليمين، والمنعقد منهما ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين؛ وسبق معنى «الغفور» ؛ و «الحليم» هو الذي يؤخر العقوبة عن مستحقها.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: عدم مؤاخذة العبد بما لم يقصده في لفظه؛ وهذه الفائدة قاعدة عظيمة يترتب عليها مسائل كثيرة؛ منها لو جرى لفظ الطلاق على لسانه بغير قصد لم تطلق امرأته؛ ولو طلق في حال غضب شديد لم تطلق امرأته؛ ولو قال كفراً في حال فرح شديد لم يكفر، كما في حديث: «للَّهُ أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم...»(44) الحديث؛ ولو أكره على كلمة الكفر فقالها وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر؛ وأمثلتها كثيرة.

2 - ومن فوائد الآية: أن المدار على ما في القلوب؛ لقوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }.

3 - ومنها: أن للقلوب كسباً، كما للجوارح؛ فأما ما حدَّث به الإنسان نفسه دون اطمئنان إليه فإنه لا يؤاخذ به؛ لأنه ليس بعمل؛ ولهذا جاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم»(45).

4 - ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين؛ وهما «الغفور» ، و «الحليم» ؛ وما تضمناه من وصف، وحكم.

5 - ومنها: الإشارة إلى أن من مغفرة الله وحلمه أن أسقط المؤاخذة باللغو في الأيمان.

6 - ومنها: أن لا نيأس من رحمة الله؛ لأنه غفور؛ وأن لا نأمن مكر الله؛ لأنه حليم؛ فيكون العبد سائراً إلى الله بين الرجاء والخوف.



القرآن

)لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:226) )وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:227)

التفسير:

{ 226 } قوله تعالى: { للذين } خبر مقدم؛ و{ تربص } مبتدأ مؤخر؛ وبعد هذا بين الله الحال بعد هذا التربص.

قوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم }: اللام يحتمل أن تكون للإباحة؛ ويحتمل أن تكون للتوقيت؛ يعني: أنه يباح للمولين أن يتربصوا أربعة أشهر؛ أو أن لهم وقتاً محدداً بأربعة أشهر؛ و{ يؤلون } أي يحلفون على ترك وطء زوجاتهم؛ و{ مِن }: قيل إنها بمعنى «عن»؛ يعني يحلفون عن وطء نسائهم؛ وقيل: إنها على بابها؛ فهي مبينة لموضع الإيلاء - يعني: الحلف -؛ و{ نسائهم } أي زوجاتهم.

قوله تعالى: { تربص } أي انتظار؛ وهو شبيه بـ«الصبر» لموافقته إياه في الحروف - وإن خالفه في الترتيب -؛ و«الصبر» بمعنى حبس النفس، وانتظارها؛ { أربعة أشهر } أي مدة أربعة أشهر؛ فينتظرون لمدة أربعة أشهر ابتداءً من إيلائهم.

قوله تعالى: { فإن فاءوا } أي رجعوا إلى نسائهم بعد أن آلوا منهن؛ { فإن الله غفور } أي يغفر لهم ما تجرؤوا عليه من الحلف على حرمان الزوجات من حقوقهن؛ لأن حلفهم على ألا يطؤوا لمدة أربعة أشهر اعتداء على حق المرأة؛ إذ إن الرجل يجب عليه أن يعاشر زوجته بالمعروف؛ وليس من العشرة بالمعروف أن يحلف الإنسان ألا يطأ زوجته مدة أربعة أشهر؛ فإن فعل فقد عرض نفسه للعقوبة؛ لكنه إذا رجع غفر الله له؛ و{ غفور } أي ذو مغفرة، كما قال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} [الرعد: 6] ؛ والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه مأخوذة من «المغفر»؛ وهو ما يوضع على الرأس عند الحرب لاتقاء السهام؛ وفي المغفر تغطية، ووقاية؛ و{ رحيم } أي ذو رحمة، كما قال تعالى: {وربك الغني ذو الرحمة} [الأنعام: 133] ؛ فهو مشتق من الرحمة المستلزمة للعطف، والحنوّ، والإحسان، ودفع النقم.

{ 227 } قوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق } أي قصدوه بعزيمة تامة؛ ويدل على أن العزم هنا بمعنى القصد أنه تعدى بنفسه إلى الطلاق؛ ولو كان العزم بمعناه الأصلي لتعدى بـ«على»؛ فإنك تقول: «عزم على كذا»؛ ولا تقول: «عزم كذا».

قوله تعالى: { فإن الله سميع عليم } أي سميع لأقوالهم - ومنها الطلاق -؛ عليم بأحوالهم - ومنها مفارقة زوجاتهم -.

الفوائد:

1 - من فوائد الآيتين: ثبوت حكم الإيلاء؛ لأن الله تعالى وقَّت له أربعة أشهر.

2 - ومنها: أن الإيلاء لا يصح من غير زوجة؛ لقوله تعالى: [ من نسائهم }؛ فلو حلف أن لا يطأ أمته لم يثبت له حكم الإيلاء؛ ولو حلف أن لا يطأ امرأة، ثم تزوجها، لم يكن له حكم الإيلاء - لكن لو جامع وجبت عليه كفارة يمين -.

3 - ومنها: أن المولي يضرب له مدة أربعة أشهر من إيلائه؛ لقوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر }؛ فيفيد أن ابتداء المدة من الإيلاء.

4 - ومنها: حكمة الله عزّ وجلّ، ورحمته بعباده في مراعاة حقوق الزوجة؛ وكما أنه حق للزوجة فهو من مصلحة الزوج أيضاً حتى لا يضيع حق المرأة على يده، فيكون ظالماً.

5 - ومنها: أن المولي يوقف عند مضي أربعة أشهر، ويقال له: إما أن تفيء؛ وإما أن تطلق؛ لقوله تعالى: { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم }.

6 - ومنها: أن الطلاق بيد الزوج؛ لقوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق }؛ والضمير يعود على «الذين يؤلون من نسائهم» .

7 - ومنها: صحة الإيلاء من غير المدخول بها؛ لقوله تعالى: { من نسائهم }؛ والمرأة تكون من نساء الإنسان بمجرد العقد الصحيح.

8 - ومنها: أن الإيلاء من أربعة أشهر فما فوق محرم؛ لقوله تعالى: { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم }؛ فإن المغفرة لا تكون إلا في مقابلة ذنب.

9 - ومنها: أن رجوع الإنسان عما هو عليه من المعصية سبب للمغفرة؛ لقوله تعالى: { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم }.

10 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لا يحب الطلاق؛ لقوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم

11 - ومنها: أن الطلاق لا يقع بمجرد تمام مدة الإيلاء؛ لقوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق }؛ فإن قيل: لو امتنع عن الفيئة، والطلاق فهل يجبر على أحدهما؟

فالجواب: نعم؛ يجبر على أحدهما إذا طالبت الزوجة بذلك؛ لأنه حق لها؛ فإن أبى فللحاكم أن يطلق، أو يفسخ النكاح؛ والفسخ أولى من الطلاق لئلا تحسب عليه طلقة، فيضيق عليه العدد - أي عدد الطلاق -.

مـسألة:

هل يصح الإيلاء من الصغير الذي لم يبلغ؟

الجواب: لا يصح؛ لقوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم }؛ والصبي لا تنعقد منه اليمين؛ لأنه غير مكلف.

12 - ومنها: إثبات أربعة أسماء من أسماء الله سبحانه وتعالى؛ وهي «الغفور» ، و «الرحيم» ، و «السميع» ، و «العليم» ؛ وما تتضمنه هذه الأسماء من الصفات، والأحكام.

13 - ومنها: الإشارة إلى أن الفيئة أحب إلى الله من الطلاق؛ لأن ذلك نوع من التهديد



القرآن

)وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:228)

التفسير:

{ 228 } قوله تعالى: { والمطلقات } أي اللاتي طلقهن أزواجهن؛ { يتربصن بأنفسهن } أي ينتظرن في العدة، ويَحبسن أنفسهن عن الزواج؛ لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح؛ فقيل لها: تربصي بنفسك؛ انتظري، مثلما أقول: ارفق بنفسك - أي هوِّن على نفسك -؛ وما أشبهها؛ وأما قول من قال: إن «أنفسهن» توكيد للفاعل في { يتربصن } زيدت فيه الباء، وجعل معنى الآية: يتربصن أنفسُهن؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن الأصل عدم الزيادة؛ ولأن مثل هذا التعبير شاذ في اللغة العربية؛ فلا يحمل كلام الله على الشاذ؛ وعلى هذا فالمعنى الصحيح: أن ينتظرن بأنفسهن فلا يعجلن.

قوله تعالى: { ثلاثة قروء } جمع قَرْء بفتح القاف؛ وهو الحيض على أرجح القولين؛ وهو رأي الجمهور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: «تجلس أيام أقرائها»(46) أي حيضها؛ فقوله تعالى: {ثلاثة قروء } أي ثلاث حيض.

قوله تعالى: { ولا يحل لهن أن يكتمن } أي يخفين { ما خلق الله في أرحامهن } أي من الحمل؛ فلا يحل لها أن تكتم الحمل؛ و{ أرحامهن } جمع رحم؛ وهو مقر الحمل؛ وسمي رحماً؛ لأنه ينضم على الجنين، ويحفظه؛ فهو كذوي الأرحام من انضمامهم على قريبهم، وحنوهم عليه، وعطفهم عليه.

قوله تعالى: { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } هذه الجملة فيها إغراء لالتزام الحكم السابق؛ وهي تشبه التحدي؛ يعني إن كن صادقات في الإيمان بالله، واليوم الآخر فلا يكتمن حملهن؛ والمراد بـ{ اليوم الآخر } يوم القيامة؛ وإنما سمي اليوم الآخر؛ لأنه لا يوم بعده؛ فالناس إذا بعثوا يوم القيامة فليس هناك موت؛ بل إما خلود في الجنة؛ وإما خلود في النار؛ وذكر اليوم الآخر؛ لأن الإيمان به يحمل الإنسان على فعل الطاعات، واجتناب المنهيات؛ لأنه يعلم أن أمامه يوماً يجازى فيه الإنسان على عمله؛ فتجده يحرص على فعل المأمور، وترك المحظور.

قوله تعالى: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك }؛ البعل هو الزوج، كما قال الله تعالى عن امرأة إبراهيم: {قالت ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً} [هود: 72] أي زوجي؛ وسمي بعلاً مع أنه مطلِّق؛ لأن الأحكام الزوجية في الرجعية باقية إلا ما استثني؛ و{ أحق } اسم تفضيل؛ واسم التفضيل لا بد فيه من مفضل، ومفضل عليه؛ يعني: أن بعولتهن أحق بردهن من أنفسهن؛ و «ذا» اسم إشارة؛ والمشار إليه التربص المفهوم من قوله تعالى: { يتربصن } - وهو مدة العدة -.

قوله تعالى: { إن أرادوا إصلاحاً } أي إن أراد بعولتهن إصلاحاً في ردهن؛ و{ إصلاحاً } أي ائتلافاً، والتئاماً بين الزوج، وزوجته، وإزالة لما وقع من الكسر بسبب الطلاق، وما أشبه ذلك.

قوله تعالى: { ولهن } أي للزوجات سواء كن مطلقات، أو ممسكات { مثل الذي عليهن بالمعروف }: فكما أن على الزوجة أن تتقي الله تعالى في حقوق زوجها، وأن تقوم بما فرض الله عليها؛ فلها أيضاً مثل الذي له في أنه يجب على الزوج أن يعاشرها بالمعروف، وأن يقوم بحقها الذي أوجب الله عليه.

ولما كانت المماثلة تقتضي المساواة أخرج ذلك بقوله تعالى: { وللرجال عليهن درجة } أي فضل في العقل، والحقوق؛ وهذا من باب الاحتراس حتى لا يذهب الذهن إلى تساوي المرأة، والرجل من كل وجه.

قوله تعالى: { والله عزيز } أي ذو عزة؛ وأظهر معانيها: الغلبة، كقوله تعالى: {وعزني في الخطاب} [ص: 23] ؛ و{ حكيم } أي ذو الحكم التام، والحكمة البالغة.



الفوائد:

1 - من فوائد الآية: وجوب اعتداد المطلقة بثلاث حيض؛ لقوله تعالى: { والمطلقات يتربصن }؛ وهي جملة خبرية بمعنى الأمر؛ قال البلاغيون: إذا جاء الأمر بصيغة الخبر كان ذلك توكيداً له؛ كأنه أمر واقع صح أن يخبر عنه.

2 - ومنها: قوة الداعي في المرأة للزواج؛ لقوله تعالى: { يتربصن بأنفسهن }؛ فكأن النفس تحثها على أن تنهي علاقتها بالأول، وتتزوج؛ فقيل: «تربصي بنفسك» أي انتظري؛ مثل أن تقول: تربصتُ بكذا، وكذا، وكذا.

3 - ومنها: وجوب العدة بثلاث حيض على كل مطلقة سواء كان طلاقها بائناً أم لا؛ لعموم قوله تعالى: {والمطلقات }.

ويستثنى من ذلك: من لا تحيض لصغر، أو إياس: فعدتها ثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق: 4] .

ويستثنى أيضاً من طلقت قبل الدخول، والخلوة: فليس عليها عدة؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب: 49] .

ويستثنى أيضاً الحامل؛ فعدتها إلى وضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] .

فهذه ثلاث مسائل مستثناة من عموم قوله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }.

4 - ومن فوائد الآية: أن من فارق الزوجة بغير طلاق فليس عليها أن تعتد بثلاث حيض، كالمختلعة؛ وعليه فيكفي أن تستبرئ بحيضة؛ وهذا هو القول الراجح.

5 - ومنها: أنه لو طلقها في أثناء الحيض لم يحتسب بالحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ وجهه: أن الحيض لا يتبعض؛ فتلغى بقية الحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ ولا بد لها من ثلاث حيض جديدة؛ وإلا يلزم على ذلك أن تكون عدتها ثلاثة قروء وبعض القرء؛ وهو خلاف النص؛ وهذا على القول بأن طلاق الحائض واقع؛ ولكن الصواب أن طلاق الحائض لا يقع؛ لحديث ابن عمر(47)؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(48)؛ ولنصوص أخرى دلت على عدم وقوع طلاق الحائض.

6 - ومن فوائد الآية: أن الطلاق لا يقع قبل النكاح منجزاً كان، أو معلقاً؛ معيناً كان، أو مطلقاً؛ فلو قال لامرأة: «إن تزوجتك فأنت طالق» فتزوجها لم تطلق؛ لقوله تعالى: { والمطلقات }؛ ولا طلاق إلا بعد قيد - وهو عقد النكاح -.

7 - ومنها: أنه يرجع إلى قول المرأة في عدتها؛ لقوله تعالى: { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن }؛ وجه ذلك أن الله جعل قولها معتبراً؛ ولو لم يكن معتبراً لم يكن لكتمها أيّ تأثير؛ فإذا ادعت أن عدتها انقضت، وكان ذلك في زمن ممكن فإنها تصدق؛ وهي مؤتمنة على ذلك؛ أما إذا ادعت أن عدتها انقضت في زمن لا يمكن فإن قولها مردود؛ لأن من شروط سماع الدعوى أن تكون ممكنة؛ ودعوى المستحيل غير مسموعة أصلاً.

8 - ومن فوائد الآية: أن المطلقة البائن عدتها ثلاثة قروء؛ لعموم قوله تعالى: { والمطلقات }؛ فيشمل حتى البوائن؛ وهو قول جمهور العلماء؛ حتى لو كانت بائناً بالثلاث؛ فإنها لا بد أن تعتدّ بثلاثة قروء؛ وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: إن كانت المسألة إجماعية فالإجماع معتبر، وهو حجة؛ وإن لم تكن إجماعية فإن القول بأن المبانة تعتد بحيضة واحدة قول وجيه؛ فعلق القول به على وجود مخالف؛ وقد وجد؛ ويؤيد هذا القول قوله تعالى: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك }؛ فإن هذا الحكم إنما هو للرجعيات؛ فيكون العموم مخصصاً بذكر الحكم المختص ببعض أفراده؛ وهذه المسألة فيها نزاع بين العلماء - وهي أنه إذا ورد لفظ عام، ثم فرع عليه حكم يتعلق ببعض أفراده فهل يكون ذلك مخصصاً لعمومه -؛ أو يقال: إن ذكر حكم يختص ببعض الأفراد لا يقتضي التخصيص؛ ومن أمثلته حديث جابر: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة»(49)؛ إذا نظرنا إلى أول الحديث: «في كل ما يقسم» وجدنا أن الشفعة تجري في كل شيء؛ وإذا نظرنا إلى آخره: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق» ، قلنا: إن الشفعة لا تجري إلا فيما كان له حدود، وطرق - وهو الأرض -.

و«الشفعة» أن ينتزع الشريك حصة شريكه التي باعها لطرف ثالث؛ مثال ذلك: زيد شريك لعمرو في أرض؛ فباع عمرو نصيبه لخالد؛ فلزيد أن يأخذ هذا النصيب من خالد بالثمن الذي يستقر عليه العقد؛ فإذا كان لشخصين سيارة واحدة، وباع أحدهما نصيبه من هذه السيارة لشخص ثالث فللشريك أن يأخذ هذا النصيب ممن اشتراه بثمنه على مقتضى أول الحديث العام؛ لكن قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق» يقتضي أن لا شفعة له في نصيب شريكه في السيارة؛ لأنه لا حدود، ولا طرق فيها؛ والمسألة ذات خلاف معروف في كتب الفقه.

9 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي ذكر ما يوجب القبول، والعمل؛ لقوله تعالى: { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر }.

10 - ومنها: أنه ينبغي تحذير المؤتمن الذي لا يعلم بأمانته إلا الله عزّ وجلّ من عذاب يوم الآخر إن هو لم يقم بواجب الأمانة؛ لقوله تعالى: { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر }.

11 - ومنها: إثبات اليوم الآخر.

12 - ومنها: أن الرجعية في حكم الزوجات؛ لقوله تعالى: { وبعولتهن أحق }؛ فأثبت أنه بعل.

فإن قال قائل: ألا يمكن أن يقال: { بعولتهن } فيما مضى؛ لأن الشيء قد يعبر عنه بعد انتهائه، كقوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] ؛ وهم لا يؤتونها إلا بعد زوال اليتم؛ كما أنه قد يعبر عن الشيء قبل وجوده، كقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36] ؛ وهو إنما يعصر عنباً ليكون خمراً؟

فالجواب: أن الأصل خلاف ذلك؛ ولا يصار إلى خلاف الأصل إلا بدليل؛ لأن الأصل أن الوصف متحقق في الموصوف حتى يتبين زوال الوصف عنه؛ ولهذا قال أهل العلم: إن الرجعية زوجة في حكم الزوجات؛ وينبني على ذلك أن كل ما يترتب على الزوجية فهو ثابت للرجعية إلا أنهم استثنوا بعض المسائل.

13 - ومن فوائد الآية: أنه لا حق للزوج في الرجعة إذا لم يرد الإصلاح؛ لقوله تعالى: { إن أرادوا إصلاحاً}؛ وقال بعض أهل العلم: «إن هذا ليس على سبيل الشرط؛ ولكنه على سبيل الإرشاد»؛ وهو خلاف ظاهر الآية؛ والواجب إبقاء الآية على ظاهرها؛ فليس له أن يراجع إلا بهذا الشرط.

14 - ومنها: أنه لا رجعة بعد انقضاء العدة؛ لقوله تعالى: { أحق بردهن في ذلك }.

15 - ومنها: أن للزوجة حقاً كما أن عليها حقاً؛ لقوله تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن }.

16 - ومنها: إثبات الرجوع إلى العرف؛ لقوله تعالى: { بالمعروف }؛ وهكذا كل ما جاء، ولم يحدد بالشرع فإن مرجعه إلى العرف.

17 - ومنها: استعمال الاحتراس؛ وأنه لا ينبغي الإطلاق في موضع يخشى فيه من التعميم؛ لقوله تعالى: { وللرجال عليهن درجة } أي حقوق الرجال أكثر من حقوق النساء؛ ولهذا كان على الزوجة أن تطيع زوجها؛ وليس على الزوج أن يطيع زوجته؛ لقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء: 34] ؛ وهذا من معنى الدرجة؛ ودرجة الرجال على النساء من وجوه متعددة؛ فالدرجة التي فضل بها الرجال على النساء في العقل، والجسم، والدين، والولاية، والإنفاق، والميراث، وعطية الأولاد.

الأمر الأول: العقل ؛ فالرجل عقله أكمل من عقل المرأة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن؛ قلن: ما نقصان العقل يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة الرجل بشهادة امرأتين؟ فذلك نقصان عقلها»(50).

الأمر الثاني: الجسم ؛ فإن الرجل أكمل من المرأة في الجسم؛ فهو أنشط من المرأة، وأقوى في الجسم.

الأمر الثالث: الدين ؛ فإن الرجل أكمل من المرأة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في المرأة: «إنها ناقصة في الدين» ؛ وفَسر ذلك بأنها إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصم ؛ ولهذا يجب على الرجل من الواجبات الدينية ما لا يجب على المرأة، كالجهاد مثلاً.

الأمر الرابع: الولاية ؛ فقد فضل الرجل على المرأة في الولاية؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل الرجل قواماً على المرأة؛ فالرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض؛ ولهذا لا يحل أن تتولى المرأة ولاية عامة أبداً - لا وزارة، ولا غير وزارة -؛ فالولاية العامة ليست من حقوق النساء أبداً، ولا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة.

الأمر الخامس: الإنفاق ؛ فالزوج هو الذي ينفق على المرأة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى»(51)؛ و «اليد العليا» : هي المعطية؛ و «السفلى» : الآخذة.

الأمر السادس: الميراث، وعطية الأولاد ؛ فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.

18 - ومن فوائد الآية: أن الذين لهم درجة على النساء هم الرجال الذين هم جديرون بهذا الوصف؛ وأما من جعل نفسه بمنزلة النسوة فهذا يكون شراً من المرأة؛ لأنه انتكس من الكمال إلى الدون؛ ومن ثم لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء؛ والمتشبهات من النساء بالرجال(52)؛ حتى لا يعتدي أحد على حق؛ أو على اختصاصات أحد.

19 - ومنها: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «العزيز» ، و «الحكيم» ؛ وما تضمناه من صفة - وهي العزة في «العزيز» -؛ والحكمة، والحكم في «الحكيم» ؛ وما يترتب على ذلك من أثر.



القرآن

)الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة:229)

التفسير:

{ 229 } قوله تعالى: { الطلاق مرتان } يعني أن الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان: بأن يطلق مرة، ثم يراجع، ثم يطلق مرة، ثم يراجع.

قوله تعالى: { فإمساك بمعروف } مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فعليكم إمساك بمعروف - أي بما يتعارفه الناس من العشرة الطيبة الحسنة -.

قوله تعالى: { أو تسريح بإحسان } أي إطلاق لهن؛ وهو كقوله تعالى في سورة الطلاق: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} [الطلاق: 2] ؛ والمراد بـ «الإحسان» هنا أن يمتعها بشيء يجبر كسرها، ويطيب قلبها.

قوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } أي أعطيتموهن؛ وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ، والخبر؛ فالمفعول الأول الهاء في قوله تعالى: { آتيتموهن }؛ والمفعول الثاني: محذوف؛ والتقدير: مما آتيتموهن إياه؛ وهو العائد على الموصول؛ أما { شيئاً } فهي مفعول: { تأخذوا }؛ وهي نكرة في سياق النفي، فتعم كل ما آتاها من مهر، وغيره.

قوله تعالى: { إلا أن يخافا } بمعنى يتوقعا، ويخشيا { ألا يقيما حدود الله } أي شرائع الله - بما يلزمهما لكل واحد على الآخر -؛ فإن خافت الزوجة ألا تقوم بحق الزوج؛ أو خاف الزوج إلا يقوم بحق الزوجة { فلا جناح عليهما فيما افتدت به }؛ هذا على قراءة { يَخافا } بالبناء للفاعل؛ وأما على قراءة { يُخافا} بالبناء للمفعول فالخائف هنا غير الزوجين؛ أي إلا أن يخشى غيرُهما ألا يقيما حدود الله؛ فالخوف يرجع هنا على ولي الأمر كالقاضي، أو الأمير؛ أو على أهل الزوجين؛ أو على كل من علم بحالهما ممن يمكنه إصلاح الحال: فله أن يتدخل، ويعرض الخلع؛ ولهذا قال تعالى: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما }؛ وهذا يؤيد القراءة التي بالبناء للمفعول؛ والخطاب في قوله تعالى: { فإن خفتم } وإن كان ظاهره أنه يعم جميع الأمة فالظاهر أن المراد به من له صلة بالزوجين من قرابة، أو غيرها.

قوله تعالى: { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } أي لا إثم على الزوجين فيما بذلته فداءً لنفسها عن المقام معه؛ فإن قيل: لماذا جاءت الآية بنفي الجناح عليهما؟ فالجواب أن طلب الفداء والطلاق حرام على الزوجة بدون سبب؛ وحرام على الزوج أيضاً أن يأخذ شيئاً مما آتاها بدون سبب.

قوله تعالى: { تلك حدود الله }؛ المشار إليه ما سبق من الأحكام، والشرائع؛ و{ حدود الله } أي شرائعه.

قوله تعالى: { فلا تعتدوها } أي لا تتجاوزوها؛ وقال العلماء: إذا كانت الحدود مما يجب فعله قال تعالى: { فلا تعتدوها }؛ وأما إذا كانت الحدود من المحرمات فإنه تعالى يقول: { فلا تقربوها }.

قوله تعالى: { ومن يتعد } أي يتجاوز { حدود الله } المراد بها هنا أوامره؛ والجملة: اسم الشرط، وفعل الشرط؛ وقوله تعالى: { فأولئك هم الظالمون }: جواب الشرط؛ ولم يذكر مفعول { الظالمون } ليفيد العموم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: حكمة الله عزّ وجلّ ورحمته في حصر الطلاق بالثلاث بأنه لا رجعة بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يطلِّق الإنسان زوجته عدة طلقات؛ فإذا قاربت انتهاء العدة راجع، ثم طلق، فتستأنف العدة؛ فإذا شارفت الانقضاء راجع، ثم طلق؛ فإذا شارفت الانقضاء راجع ثم طلق... وهكذا؛ فتبقى المرأة معذبة: لا مزوجة، ولا مطلقة؛ فتبقى معلقة؛ فجعل الله الأمر في ثلاث طلقات فقط.

2 - ومنها: اعتبار التكرار بالثلاث؛ وهذه لها نظائر كثيرة؛ فالسلام ثلاث؛ والاستئذان ثلاث؛ ورد الكلام إذا لم يفهم من أول مرة ثلاث؛ وفي الوضوء والعبادات أيضاً تكرار الثلاث كثير؛ فإذاً الثلاث تعتبر تكراراً يكتفى به في كثير من الأمور.

3 - ومنها: الإشارة إلى أن الطلاق المكرر بلفظ واحد ليس بطلاق؛ بمعنى أنه لا يتكرر به الطلاق؛ لأن قوله تعالى: { الطلاق مرتان } وصف يجب أن يكون معتبراً؛ فإذا طلقت امرأتك؛ فقلت: أنت طالق؛ فقد طلقت؛ فإذا قلت ثانية: «أنت طالق» فكيف تورد طلاقاً على مطلقة؛ لأن الطلاق لا يرد إلا على من كانت غير مطلقة حتى يقال: طلقت؛ وهنا قال تعالى: { الطلاق مرتان }؛ ولهذا قال الفقهاء - رحمهم الله -: لو أن الرجل طلق امرأته، وحاضت مرتين، ثم طلقها بعد الحيضة الثانية لا تستأنف عدة جديدة للطلقة الثانية؛ بل تبني على ما مضى؛ وإذا حاضت الثالثة، وطهرت انقضت عدتها؛ لأن الطلاق الثاني ليس له عدة؛ وهذا مما يؤيد اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الطلاق المكرر لا عبرة به إلا أن يصادف زوجة غير مطلقة؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال: { فطلقوهن لعدتهن }؛ والفقهاء الذين خالفوا في ذلك يقولون: إنه إذا كرر الطلاق في المرة الثانية لا تستأنف العدة؛ فإذاً هي مطلقة لغير عدة فلا يقع الطلاق؛ لأنه سيكون على خلاف ما أمر الله به؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(53)؛ وقد قال شيخنا عن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن من تأمله تبين له أنه لا يسوغ القول بخلافه»؛ لأنك إذا تأملت كلامه في أنه لا يقع طلاق على طلاق، وأنه لا يتكرر إلا على زوجة غير مطلقة فلا يمكن أن يتكرر الطلاق إلا إذا راجعها، أو عقد عليها عقداً جديداً؛ وهذا القول هو الراجح؛ وهو الذي أفتي به؛ وهو أنه لا طلاق على طلاق حتى لو قال ألف مرة: أنت طالق؛ فليس إلا مرة واحدة فقط؛ ويدل على هذا قوله تعالى: {الطلاق مرتان } أي مرة بعد مرة؛ فلا بد أن يقع على زوجة غير مطلقة.

4 - ومن فوائد الآية: أن الواجب على المرء الذي طلق زوجته أحد أمرين؛ إما إمساك بمعروف؛ أو تسريح بإحسان؛ وأما أن يردها مع الإيذاء، والمنة، والتقصير، أو يسرحها بجفوة وعدم إحسان فلا يجوز.

5 - ومنها: بيان حكمة الله في تشريعه سبحانه وتعالى؛ إذ قال تعالى في الإمساك: { بمعروف }؛ لأنه إذا ردها جبر قلبها بالرد؛ وقال تعالى في التسريح: { بإحسان }؛ لأنه سيفارقها، فيحتاج إلى زيادة في معاملتها بالتي هي أحسن حتى ينضم إلى الفراق الإحسانُ - والله أعلم -.

6 - ومنها: تحريم أخذ الزوج شيئاً مما أعطى زوجته من مهر، أو غيره؛ إلا أن يطلقها قبل الدخول والخلوة فله نصف المهر؛ لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] .

7 - ومنها: جواز افتداء المرأة نفسها من زوجها بعوض؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليهما فيما افتدت به }.

8 - ومنها: أن ذلك إنما يكون إذا خافا ألا يقيما حدود الله؛ أما مع استقامة الحال فلا يجوز طلب الخلع؛ وفي الحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة»(54).

9 - ومنها: أهمية النكاح، وبيان أنه راجع إلى الأسرة كلها؛ لقوله تعالى: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله }.

10 - ومنها: أن للوسائل أحكام المقاصد؛ يؤخذ ذلك من جواز أخذ الإنسان من امرأته ما آتاها، أو بعضه إذا خيفت المفسدة في البقاء على الزوجية.

11 - ومنها: اعتبار المفاسد، وسلوك الأهون لدفع الأشد؛ لأن الأخذ من مال الزوجة محرم بلا شك - كما قال تعالى -؛ لكن إذا أريد به دفع ما هو أعظم من تضييع حدود الله عزّ وجلّ صار ذلك جائزاً؛ وهذه القاعدة لها أصل في الشريعة؛ منه قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم} [الأنعام: 108] ؛ فإنّ سبّ آلهة المشركين واجب؛ ولكن إذا كان يخشى من ذلك أن يسبوا الله عدواً بغير علم صار سبّ آلهتهم ممنوعاً.

12 - ومنها: جواز الخلع بأكثر مما أعطاها؛ لعموم قوله تعالى: { فيما افتدت به }؛ فهو يشمل ما افتدت به من كثير، أو قليل؛ وقيل: إن هذا العموم عائد على قوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً}؛ فيكون المعنى: فيما افتدت به مما آتيتموهن؛ وعلى هذا فلا يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ ويمكن أن يقال: إن كانت هي التي أساءت، وطلبت الخلع فلا بأس أن يأخذ أكثر مما أعطاها؛ وإلا فلا.

13 - ومن فوائد الآية: أن المخالَعة ليست رجعية؛ بمعنى أن الفراق في الخلع فراق بائن فلا سبيل لإرجاعها إلا بعقد جديد؛ لقوله تعالى: { افتدت به }؛ فإذا كان فداءً فالفداء فيه عوض عن شيء؛ وإذا استلم الفداء لا يمكن أن يرجع المفدى عنه - وهو الزوجة - إلا بعقد جديد.

14 - ومنها: جواز تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها؛ لقوله تعالى: { فيما افتدت به }؛ فإن الزوجة تتصرف في مالها كما تشاء في الحدود الشرعية سواء وافق زوجها على هذا التصرف، أم لم يوافق؛ ما دامت امرأة حرة رشيدة فلا اعتراض للزوج عليها؛ وهذه الفائدة قد ينازع فيها.

15 - ومنها: عظم شأن النكاح، وما يتعلق به؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: { تلك حدود الله فلا تعتدوها }؛ فبين أن هذا من حدود الله، ونهى عن تعديه؛ وقد سبق الفرق بين قوله تعالى: { فلا تعتدوها }، وقوله تعالى: { فلا تقربوها }.

16 - ومنها: أن لله عزّ وجلّ أن يحكم في عباده بما شاء؛ لقوله تعالى: { تلك حدود الله }.

17 - ومنها: أنه لا حاكم للخلق، ولا مشرِّع، إلا الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { تلك حدود الله فلا تعتدوها }؛ ولو كان مشرع غيره لكان يمكن لكل إنسان أن يشرع لنفسه - ولو كان في ذلك تعدي حدود الله سبحانه وتعالى -.

18 - ومنها: أن الخلع لا بد فيه من رضا الزوجة؛ لقوله تعالى: { فيما افتدت به }؛ فإذا كانت الفدية منها فلا بد من رضاها؛ وأما إذا كانت الفدية من غيرها فإنه لا يشترط رضاها، كما لو أن أحداً من الناس رأى أن بقاء هذه المرأة مع زوجها فيه ضرر عليه في دينه؛ فذهب إليه، وأعطاه فدية ليخلع هذه المرأة، ويسلم من شرها؛ فهذا جائز - حتى وإن لم ترض بذلك -.

19 - ومنها: تحريم تعدي حدود الله؛ لقوله تعالى: { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون }؛ والظلم حرام.

20 - ومنها: أن التعدي لحدود الله ظلم عظيم؛ يؤخذ من حصر الظلم في تعديها، ومن الإتيان به في الجملة الاسمية الخبرية: { فأولئك هم الظالمون }.

21 - ومنها: جواز الطلاق الثلاث المتفرق؛ لقوله تعالى: { الطلاق مرتان } إلى أن قال: { فإن طلقها } يعني الثالثة؛ فهنا لا شك أن الطلاق متفرق؛ لأنه تعالى قال: { الطلاق مرتان }؛ ثم أدخل الفداء بينهما، وبين الطلاق الثالث؛ فدل هذا على أنه طلاق متفرق؛ وهذا جائز بالإجماع؛ أما إذا جمع الثلاث جميعاً في دفعة واحدة، مثل أن يقول: «أنت طالق ثلاثاً»، أو «أنت طالق طالق طالق» يريد الثلاث؛ أو «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق»؛ فقد اختلف أهل العلم في جواز ذلك؛ فمنهم من قال بإباحته، ونفوذه - فتبين به المرأة بينونة كبرى -؛ ومنهم من قال بتحريمه، ونفوذه؛ ومنهم من قال بتحريمه، ويقع واحدة؛ ومنهم من قال بتحريمه، وأنه لا يقع لا واحدة، ولا أكثر؛ فإذاً الأقوال أربعة؛ والصحيح أنه حرام، وأنه لا يقع إلا واحدة؛ وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وعليه يدل الكتاب، والسنة؛ لأنه لا تقع البينونة إلا إذا طلقها بعد طلاق مرتين؛ والطلاق مرتين لا يكون إلا إذا كان بينهما رجعة، أو عقد؛ أما أن يرسل طلاقاً بعد طلاق فهذا ليس بشيء.

القرآن

)فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (البقرة:230

التفسير:

{ 230 } قوله تعالى: { فإن طلقها } أي المرة الثالثة بعد المرتين؛ { فلا تحل له } أي فلا تحل المطلقة بعد الثالثة للزوج المطلق { حتى تنكح زوجاً غيره } أي يعقد عليها بنكاح صحيح؛ وقال بعض العلماء: أي حتى تطأ؛ وهذا لا شك لا يصح؛ لأن المرأة لا تطأ.

قوله تعالى: { فإن طلقها } أي الزوج الثاني؛ { فلا جناح عليهما } أي فلا إثم على الزوج الأول، وزوجته المطلقة من الزوج الثاني { أن يتراجعا } أي يرجع أحدهما إلى الآخر بعقد جديد؛ { إن ظنا } أي الزوج الأول، وزوجته؛ { أن يقيما حدود الله } أي ما أوجبه الله على كل منهما من المعاشرة بالمعروف.

قوله تعالى: { وتلك حدود الله }: المشار إليه ما سبق من الأحكام؛ و{ حدود الله } أي أحكامه التي حدها لعباده؛ { يبينها } أي يوضحها الله عزّ وجلّ، ويظهرها؛ فكل الحدود التي يريدها الله من العباد قد بينها بياناً كاملاً؛ والبيان يكون بالكتاب، ويكون بالسنة؛ فما لا يوجد في كلام الله يوجد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وما لا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً بعينه فإنه يوجد بمعناه؛ وذلك بالقياس الصحيح الذي يتساوى فيه الأصل، والفرع في العلة فيلحق هذا بهذا؛ فبيان الله تعالى للحدود متنوع.

قوله تعالى: { لقوم يعلمون } أي لقوم ذوي استعداد، وقبول للعلم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: تحريم المطلقة ثلاثاً على مطلقها حتى تتزوج؛ لقوله تعالى: { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }.

2 - ومنها: أن نكاح الزوج الثاني على وجه لا يصح لا تحل به للأول؛ لقوله تعالى: { حتى تنكح زوجاً غيره }؛ ولا يكون زوجاً إلا بعقد صحيح؛ ولذلك لو تزوجها الثاني بنية تحليلها للأول فنكاحه غير صحيح؛ فلا تحل به للأول.

3 - ومنها: حلها للزوج الأول بعد مفارقة الثاني لها؛ لقوله تعالى: { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا}؛ وظاهر الآية الكريمة أنها تحل للأول بمجرد عقد الثاني عليها، ومفارقته لها؛ لكن السنة بينت أنه لا بد من وطء الثاني وطأً تاماً بانتشار؛ وذلك أن امرأة رفاعة القرظي بانت منه بالثلاث؛ فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِير - بفتح الزاي، وكسر الباء -؛ ولم يكن يقدر على الجماع؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني، فَبَتَّ طلاقي، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ولم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب، وقالت بثوبها؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك»(55).

4 - ومن فوائد الآية: أن الزوجة المطلقة ثلاثاً لو وطئت بملك اليمين فإنها لا تحل للزوج الأول؛ لقوله تعالى: { حتى تنكح زوجاً غيره }؛ مثال ذلك: امرأة مملوكة لشخص وقد تزوجها شخص آخر، فطلقها الزوج الآخر، ثم انقضت عدتها، وجامعها سيدها بحكم ملك اليمين، ثم أراد زوجها الأول أن يتزوجها فلا يمكن أن يتزوجها؛ لقوله تعالى: { حتى تنكح زوجاً غيره }.

5 - ومنها: إطلاق المراجعة على عقد النكاح؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا }؛ والمعروف عند الفقهاء أن الرجعة إعادة مطلقة غير بائن إلى عصمة زوجها؛ هذه هي الرجعة عندهم؛ لكن هذا اصطلاح خاص؛ أما في القرآن فتطلق المراجعة على عقد النكاح؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا }؛ هذا وقد قسم بعض أهل العلم المراجعة شرعاً إلى ثلاثة أقسام؛ فقالوا: قد يراد بها العقد؛ وقد يراد بها إعادة المطلقة رجعياً إلى عصمة زوجها، كما في اصطلاح الفقهاء؛ وقد يراد بالمراجعة أن تعاد المرأة إلى عصمة زوجها بدون طلاق، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - حين طلق امرأته وهي حائض؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «مُرْه فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس»(56)؛ فالمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «فليراجعها» أن يردها إلى عصمته، ويلغي الطلاق، كما لو تبايع رجلان على عقد فاسد، وقلت لهما: «تراجعا» أي راجعا العقد، أو ألغياه؛ فالمراد بالمراجعة في حديث ابن عمر إلغاء الطلاق على القول الصحيح - وإن كان الجمهور على أنها مراجعة مطلقة حسب اصطلاح الفقهاء -.

6 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز أن يتراجع الزوجان حتى يغلب على ظنهما أن يقيما حدود الله؛ أي أن يقوم كل منهما بمعاشرة الآخر بما يجب عليه؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وجه ذلك: أنهما إذا تراجعا بغير هذا الشرط صار هذا العقد عبئاً، وعناءً، وتعباً، وخسارة مالية؛ لأنهما لا يضمنان أن يرجعا إلى الحال الأولى.

7 - ومنها: الاكتفاء بالظن في الأمور المستقبلة؛ لأن طلب اليقين في المستقبل من باب التكليف بما لا يطاق؛ لقوله تعالى: { إن ظنا أن يقيما حدود الله }؛ وقد قال الله - تبارك وتعالى -: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286] ، فقال: «قد فعلت»(57).

ويتفرع على هذه الفائدة فائدة مهمة: وهي إذا حلف الإنسان على المستقبل بناءً على غلبة الظن، فتبين بخلافه فلا كفارة فيه؛ لأنه يحلف على ما في نفسه، وعلى ظنه؛ وهذا القول هو الراجح؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

8 - ومن فوائد الآية: عناية الله سبحانه وتعالى بعباده في بيان ما يجب عليهم في عبادتهم، وفي معاملة بعضهم لبعض حتى لا تحصل الفوضى المؤدية إلى النزاع الذي قد يصل إلى القتال.

9 - ومنها: أنه إذا لزم من فعل المباح شيء محرم صار الشيء المباح حراماً؛ لأن رجوع الزوجة حلال في الأصل؛ فإذا لم يظن الإنسان أنه يقوم بالحدود صار حراماً؛ وهو في الأصل حلال؛ وعلى هذا فنقول: إذا استلزم العقد إبطالاً لواجب، أو وقوعاً في محرم صار ذلك حراماً؛ وهي في مسائل كثيرة؛ منها: لو تبايع رجلان تلزمهما الجمعة بعد ندائها الثاني: فالبيع حرام، والعقد باطل؛ لأنه وقوع فيما حرم الله عزّ وجلّ.

10 - ومنها: أنه لا يعرف هذه الحدود، ويتبينها إلا من كان من ذوي العلم؛ فكلما كان أعلم كانت الحدود في حقه أبين وأظهر؛ فطالب العلم يتعلم من اللفظ مسائل أخرى؛ فالعلم يغذي بعضه بعضاً؛ وطالب العلم رابح بكل حال؛ فهو ليس كطالب المال قد يشتري السلعة وهو يظن الربح، ثم يخسر؛ فطالب العلم أيّ مسألة يعلمها فإنها مفتاح له؛ ولهذا قال تعالى: { يبينها لقوم يعلمون }.

11 - ومن فوائد الآية: أنه لا شيء في دين الله يكون مجهولاً لكل أحد؛ لا من العبادات، ولا من المعاملات؛ فكل شيء مبيَّن؛ فإن قيل: هناك أشياء تشكل على أهل العلم، ولا يعرفون حكمها؟

فالجواب: أن الخلل هنا ليس في النص؛ ولكنه فيمن يستنبط الأحكام من النص؛ فقد يكون لنقص في علمه، أو قصور في فهمه، أو عدوان في قصده؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ مبلغ أوعى من سامع»(58)؛ وقد يكون الخلل في إعراض الإنسان عن التدبر، وبذْل الاجتهاد، وطلبِ الحق؛ وقد يكون عند الإنسان علم، وفهم، وجلد، وتدبر؛ لكن هناك ذنوباً تحول بينه، وبين وصوله للحق، كما في قوله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 13، 14] ؛ لأن المعاصي تُظلم القلب؛ وإذا أظلم القلب لا يستنير؛ وكيف يتبين له الحق وهو مظلم؟! ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء: 105] ، ثم قال تعالى: {واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 106أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أنه ينبغي لمن سئل عن علم أن يستغفر الله عزّ وجلّ حتى تزول عنه الذنوب باستغفاره، ويتبين له الحق؛ وعلى هذا فنقول: إن جميع الأحكام التي تتعلق بالعبادات، أو المعاملات قد بينها الله لكن العيب عيب المستدل؛ فالأدلة واضحة كافية؛ لكن المستدل قد تخفى عليه الأحكام للأسباب التي ذكرناها، وغيرها.

ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي غلط من قال: «إن النصوص لم تستوعب جميع الأحكام، وأننا محتاجون إلى العقول في الأحكام»؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: { يبينها لقوم يعلمون }؛ فالنصوص كافية من كل ناحية.

12 - ومن فوائد الآية: أن كل ما خالف شريعة الله فليس من أحكام الله؛ لقوله تعالى: { يبينها }.

13 - ومنها: أن الخلع ليس بطلاق؛ لقوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] ، ثم قال تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229] ، ثم قال تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له } الآية؛ ولو كان الخلع طلاقاً لكان قوله تعالى: { فإن طلقها } هي الطلقة الرابعة؛ وهذا خلاف إجماع المسلمين؛ لأن المرأة تبين بالطلاق الثلاث بإجماعهم؛ وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق صار طلاقاً؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الخلع فسخ بأي لفظ كان - ولو بلفظ الطلاق -، وقال: إن هذا هو ظاهر الآية؛ لأنه تعالى قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت} ؛ ولم يذكر صيغة معينة؛ لأنه إنما يعتبر في العقود بمعانيها لا بألفاظها؛ فما دام هذا الطلاق الذي وقع من الزوج إنما وقع بفداء من المرأة افتدت نفسها به - فهذا لا يمكن أن نعده طلاقاً ولو وقع بلفظ الطلاق؛ وما ذكره رحمه الله فإنه منظور فيه إلى المعنى؛ وما قاله غيره - من أنه إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقاً - فقد نظر فيه إلى اللفظ؛ ولا ريب أن من تأمل الشريعة وجد أنها تعتني بالمعنى أكثر من الاعتناء باللفظ؛ أما الألفاظ فهي قوالب للمعاني؛ وأنت إذا ألبست المرأة ثوب رجل لا تكون رجلاً؛ كما أنك إذا ألبست رجلاً ثوب امرأة لم يكن امرأة؛ فالألفاظ عبارة عن قوالب تدل على ما وراءها؛ فإذا صار المعنى هو التخلص من الزوج بهذا الفداء فكيف يحسب طلاقاً؟!

14 - ومن فوائد الآية: تعظيم شأن النكاح بأن الله ذكر له حدوداً في عقده، وفي حله؛ لأنه يترتب عليه مسائل كثيرة من المحرمية، والنسب، والميراث، وغير ذلك - كحقوق الزوجية -؛ ولهذا اشترط فيه أن يكون بِوَلي؛ فالمرأة تستطيع أن تبيع كل مالها؛ لكن لا تستطيع أن تزوج نفسها، كما اشترط فيه الإشهاد على رأي كثير من أهل العلم؛ وكل العقود لا يشترط فيها ذلك؛ وأيضاً اشترط فيه الإعلان على رأي بعض أهل العلم؛ والعقود الأخرى لا يشترط فيها ذلك؛ وأيضاً أنه لا يصلح العقد في بعض الأحوال، والأزمان؛ وهذا يشاركه فيه بعض العقود؛ وكل ذلك من باب الأهمية في هذا العقد العظيم الذي تترتب عليه هذه الأمور الكبيرة.

ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:39 am من طرف ahmadhamad
الاية 231 الي الاية 237



وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:231)



التفسير:

{ 231 } قوله تعالى: { وإذا طلقتم النساء }: الخطاب هنا لعامة الناس؛ أي إذا طلق الأزواج نساءهم؛ { فبلغن أجلهن }: قال بعض العلماء: المراد قاربن بلوغ أجلهن؛ لأنها إذا بلغت الأجل انتهت العدة؛ ولا إمساك حينئذ؛ ولكن الصحيح أن المراد ببلوغ أجلهن حقيقة بلوغ الأجل؛ وذلك بطهرها من الحيضة الثالثة؛ { فأمسكوهن بمعروف } أي ردوهن إلى عصمتكم - وهو مراجعة؛ { أو سرحوهن بمعروف } أي اتركوهن بدون مراجعة.

قوله تعالى: { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا }؛ { لا } ناهية؛ والفعل بعدها مجزوم بحذف النون؛ و{ ضراراً } مفعول لأجله؛ والمعنى: لا تمسكوهن لأجل الإضرار بهن؛ وقد مر أنهم كانوا في الجاهلية يراجعون الزوجات في العدة من أجل المضايقة؛ فحدد الله المراجعة باثنتين، وأنه بعد الثالثة لا رجوع حتى تنكح زوجاً غيره.

وقوله تعالى: { لتعتدوا }؛ اللام للعاقبة؛ والمعنى: لتقعوا في الاعتداء؛ أي أن عاقبة أمركم إذا أمسكتموهن ضراراً هي الاعتداء؛ واللام التي تعرف عند بعض النحويين بـ«لام كي» تارة يراد بها التعليل؛ وتارة تكون زائدة؛ وتارة تكون للعاقبة؛ فتكون للتعليل، كما في قوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا} [العنكبوت: 66] ؛ وتكون زائدة، كما في قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} [النساء: 26] ؛ فإذا جاءت بعد الإرادة فهي زائدة؛ لأن فعل الإرادة يتعدى بنفسه؛ وتأتي للعاقبة: وهي إذا علم بأن ما بعدها غير مقصود، مثل قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8] .

قوله تعالى: { ومن يفعل ذلك } جملة شرطية؛ وجوابها: قوله تعالى: { فقد ظلم نفسه }؛ وارتبط الجواب بالفاء؛ لأنه لا يصح أن يحل محل الشرط؛ وأضاف الظلم إلى نفسه - وإن كان ظلمه واقعاً على غيره -؛ لأنه جلب على نفسه الإثم، والعقوبة.

قوله تعالى: { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } أي لا تجعلوها مهزوءاً بها؛ أي موضع استهزاء بحيث لا تعملون بها استخفافاً بها.

قوله تعالى: { واذكروا نعمت الله عليكم } أي اذكروا باللسان، وبالقلب، وبالجوارح، نعمة الله عليكم حتى تقوموا بشكرها؛ فإن الغفلة عن ذكر النعم سبب لعدم الشكر، وقوله تعالى: { نعمة الله } مفرد مضاف؛ والمفرد المضاف يدل على العموم، كما في قوله تعالى: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [النحل: 18] ؛ ولو كان المراد بالنعمة مدلولها الإفرادي لكان إحصاؤها ممكناً؛ المهم أن نعمة الله هنا عامة؛ ونعم الله لا تحصى أجناسها فضلاً عن أفرادها؛ فقوله تعالى: { نعمة الله عليكم } يشمل كل النعم - وإن دقت؛ لأن الله عزّ وجلّ يقول: { وما بكم من نعمة فمن الله } [النحل: 53] .

قوله تعالى: { وما أنزل عليكم من الكتاب }؛ الواو حرف عطف؛ والجملة معطوفة على قوله تعالى: { نعمت الله عليكم }؛ وخصه بالذكر مع كونه من النعم للعناية به؛ والمراد بـ{ الكتاب } القرآن؛ { والحكمة } أي السنة النبوية.

قوله تعالى: { يعظكم به } أي يذكِّركم به ترغيباً، وترهيباً؛ والجملة في محل نصب حال من فاعل { أنزل }.

قوله تعالى: { واتقوا الله }: ما أكثر ما يأمر الله عزّ وجلّ بالتقوى؛ لأن بالتقوى صلاح القلوب، والأعمال؛ و «التقوى» فعل أوامر الله، واجتناب نواهيه تقرباً إليه، وخوفاً منه.

قوله تعالى: { واعلموا أن الله بكل شيء عليم }: أمر بالعلم بأن الله بكل شيء عليم؛ فلا يخفى عليه شيء، كما قال تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} [آل عمران: 5] .

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن لكل طلاق أجلاً؛ لقوله تعالى: { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن }؛ الأجل هنا مجمل؛ ولكنه مبين في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] ؛ وغيرها من الآيات الدالة على العدة.

ويتفرع على هذه الفائدة: أن القرآن يأتي مجملاً أحياناً، ومفصلاً أحياناً؛ ويدل لذلك قوله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود: 1] ؛ وفائدة الإتيان بالإجمال، ثم التفصيل: أنه إذا ورد النص مجملاً فإن النفس تتطلع إلى معرفة ذلك المجمل، وبيان ذلك المبهم؛ فيكون في ذلك شدة الاشتياق إلى العلم.

2 - ومن فوائد الآية: جواز المراجعة بعد تمام العدة قبل أن تغتسل؛ لقوله تعالى: { فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن }؛ وجه الدلالة أن قوله تعالى: { فأمسكوهن } جواب للشرط في قوله تعالى: { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن }؛ وهذا يقتضي أن يكون الإمساك، أو التسريح، بعد بلوغ الأجل ضرورة أن المشروط يقع بعد الشرط؛ وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم؛ فذهب الإمام أحمد - رحمه الله - إلى أن للزوج أن يراجع زوجته بعد طهرها من الحيضة الثالثة حتى تغتسل؛ فلو طهرت في الصباح بعد الفجر، ثم لم تغتسل إلا لصلاة الظهر، وراجعها زوجها فيما بين طهارتها، واغتسالها صحت المراجعة؛ وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه ينتهي وقت المراجعة بالطهارة من الحيضة الثالثة؛ وأوَّلوا قوله تعالى: { فبلغن أجلهن } أن المعنى: قاربن بلوغ أجلهن؛ وأنه لا رجعة بعد الطهر من الثالثة؛ والقول الأول أصح؛ لأنه هو ظاهر الآية؛ وهو الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم؛ ويكون هذا من باب التوسعة على الزوج؛ لأنه قد يندم فيرجع؛ وهو نظير ثبوت الخيار بين المتبايعين ما داما في المجلس؛ وإلا فالعقد قد تم بالإيجاب، والقبول؛ لكن لهما الخيار ما داما في المجلس توسعة عليهما؛ وهذا شيء معلوم في غريزة الإنسان، وطبيعته: إنه إذا منع من الشيء صار في شوق إليه؛ فإذا حصله فقد يزهد فيه.

3 - ومن فوائد الآية: أن الإمساك بمعروف، أو التسريح بمعروف واجب؛ لقوله تعالى: { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف }.

4 - ومنها: وجوب المعاشرة بالمعروف حتى بعد الطلاق؛ لقوله تعالى: { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } لئلا يؤذي الإنسان زوجته بالقول؛ أو بالفعل، أو بمنع الحقوق، أو ما أشبه ذلك؛ ومما هو معروف أن ما يجري بين الأزواج أحياناً من المشاحنة، وادعاء الزوج ما يكون لزوجته من الأمتعة التي أعطاها إياها في المهر، أو فيما بعد ذلك حتى يطالبها بالحلي الذي أعطاها؛ خلاف المعروف الذي أمر الله به.

5 - ومنها: عناية الله عزّ وجلّ بعباده في أن يتعاملوا بينهم بالمعروف سواء في حال الاتفاق، أو في حال الاختلاف؛ لأن ذلك هو الذي يقيم وحدة الأمة؛ فإن الأمة إذا لم تتعامل بالمعروف - بل بالمنكر، والإساءة - تفرقت، واختلفت؛ فالأمة الإسلامية أمة واحدة، كما قال الله تعالى: { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } [آل عمران: 103] .

6 - ومنها: تحريم إمساك المطلقة - أي مراجعتها - للإضرار بها؛ لقوله تعالى: { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا }.

7 - ومنها: أن كل من عامل أخاه ضراراً فهو معتدٍ؛ فلا يحل لأحد أن يعامل أخاه المسلم على وجه المضارة؛ وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من ضار ضار الله به، ومن شاق شق الله عليه»(59)؛ وجاء في حديث آخر: «لا ضرر ولا ضرار»(60)؛ فالمضارة بين المسلمين محرمة؛ لذلك قال تعالى: { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا }.

8 - ومنها: أن المضارة عدوان؛ لقوله تعالى: { لتعتدوا } سواء كانت اللام للعاقبة، أو للتعليل - أي سواء كان المقصود من المضارة الاعتداء؛ أو لم يقصد الاعتداء لكن حصل.

9 - ومنها: تحريم ظلم الإنسان لنفسه؛ لأن الله تعالى نهى عن هذه الأشياء، ثم قال تعالى: { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه }.

11 - ومنها: أن فعل المعاصي ظلم للنفس؛ فلا يقول الإنسان: «أنا حر أفعل ما أشاء، وأصبر على العذاب»؛ هذا خطأ؛ فأنت لا يحل لك أن تظلم نفسك؛ فظلم الغير عدوان، وحرام؛ وظلم النفس أيضاً عدوان، وحرام؛ وفي الحديث: «ولنفسك عليك حقاً»(61).

12 - ومنها: أن من ظلم غيره بعدوانه عليه فقد ظلم نفسه في الحقيقة؛ لأن المظلوم إذا لم يتخلص الظالم من مظلمته في الدنيا فسوف يؤخذ من حسناته للمظلوم في الآخرة؛ فإذا فنيت حسناته أُخذ من سيئات المظلوم؛ فطرحت عليه، ثم طرح في النار؛ ولذلك عبر الله عن الإضرار بالزوجة في إمساكها بقوله تعالى: { فقد ظلم نفسه } مع أنه ظالم للزوجة أيضاً.

13 - ومنها: إغراء المخاطب باجتناب ظلم غيره؛ لأن الظالم قد يظن أنه منتصر على المظلوم؛ فإذا علم أنه ظالم لنفسه تهيب ذلك، واستقام على العدل.

14 - ومنها: أن آيات الله تنقسم إلى قسمين: آيات شرعية؛ وهي ما جاءت به الرسل من الشرع؛ وآيات كونية؛ وهي هذه الكائنات التي نشاهدها في السموات، والأرض، والشمس، والقمر؛ أما كون ما جاءت به الرسل من الشرع آية فلأنها أمور لا يمكن أن يأتي البشر بمثلها - ولا سيما القرآن الكريم -؛ وأما كون هذه الكائنات آيات كونية فإن هذه المخلوقات لا يمكن لأحد أن يخلق مثلها؛ وقد تحدى الله عزّ وجلّ أولئك العابدين أن تخلق معبوداتهم شيئاً من هذه الكائنات، فقال عزّ وجلّ: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73] ؛ فهذه المخلوقات في انتظامها وحسنها، كلها آيات تدل على أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق؛ وعلى وحدانيته، وعلى قدرته، وتمام حكمته، كما قيل:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.

15 - ومن فوائد الآية: تحريم اتخاذ آيات الله هزواً سواء اتخذ الكل أم البعض؛ فمثال اتخاذ آيات الله الشرعية هزواً أن يهزأ الإنسان ويسخر من شرع الله عزّ وجلّ، سواء سخر بالشرع كله، أو بجزء منه؛ لأن الاستهزاء ببعض الشريعة استهزاء بجميع الشريعة؛ وهناك فرق بين من يدع العمل مع تعظيمه لشرع الله عزّ وجلّ؛ وبين من يسخر بالشرع، ويستهزئ به، ويرى أنه عبث، وأنه باطل، وما أشبه ذلك؛ فالأول له حكم العصاة؛ فإن كانت معصيته كبيرة تبلغ به الكفر فهو كافر؛ وإلا فهو فاسق؛ وإلا فهو دون الفاسق - كما لو كانت من صغائر الذنوب، ولم يصر عليها -؛ وأما الثاني المستهزئ الذي يرى أن الشرع عبث، أو أنه لأناس انقرضوا، ومضوا، وأن هذا العصر لا يصلح للعمل بهذا الشرع؛ فهذا لا شك أنه كافر؛ وإذا استهزأ مستهزئ بحامل الشريعة، أو العامل بها من أجل حمله الشريعة، أو عمله بها فهو كافر؛ لأنه استهزأ بشريعة من شرائع الله؛ ولهذا قال عزّ وجلّ في أولئك النفر الذين قالوا: «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون الرسول، وأصحابه - أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء»؛ قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66] ؛ أما الذين يقولون عن حملة الشرع، والعاملين به: «هؤلاء دراويش لا يعرفون المجتمع ولا الدنيا»، وما أشبه ذلك من الكلمات؛ فهؤلاء أيضاً كفار؛ لأن الله تعالى يقول: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 29 - 32] ؛ وفي معنى ذلك قولهم: «هؤلاء رجعيون»، وقد ذكر الله في آخر الآيات ما يدل على كفرهم في قوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} [المطففين: 34] ؛ فدل هذا على أن أولئك الذين يسخرون بالمؤمنين من أجل إيمانهم كفار.

ومثال اتخاذ الآيات الكونية هزواً: لو نزل المطر في أيام الصيف - وهذا لم تجر به العادة - فقال: «ما هذا التبديل! يوم أن يكون الناس محتاجين إلى المطر في الشتاء لا يجيء؛ والآن يأتي!» وهذا يمكن أن يوجد من بعض الفجرة الذين يقولون مثل هذا الكلام؛ أو مثلاً يُغْلَبُ قوميون من العرب - تغلبهم اليهود مثلاً، فيقول المستهزئ بآيات الله الكونية -: «ما هذا؟ كيف يكون النصر لليهود على العرب - على بني كنعان، وعدنان، وقحطان؛ كيف هذا وهم بنو إسرائيل؟!» وما أشبه ذلك؛ لكن المؤمن يستسلم لأمر الله عزّ وجلّ الكوني كما يستسلم لأمره الشرعي؛ ويرى أنه في غاية الحكمة، وفي غاية الإتقان، وأنه في مكانه، وأن ما حدث فهو واقع موقعه، وأن الحكمة تقتضي ذلك؛ لأن الله عزّ وجلّ حكيم؛ لا يصنع شيئاً إلا لحكمة؛ فالمهم أن الاستهزاء بالآية الكونية يمكن أن يكون؛ وقد نهى الله تعالى أن تتخذ آياته هزواً؛ وهو عام للكونية، والشرعية؛ لكن بما أن الآية في سياق الآية الشرعية تكون أخص بالآيات الشرعية منها بالآيات الكونية.

16 - ومن فوائد الآية: أن المخالفة نوع من الاستهزاء؛ لأنك إذا آمنت بأن الله عزّ وجلّ هو الرب العظيم الذي له الحكم، وإليه الحكم، ثم عصيته فكأنك تستهزئ بهذه العظمة؛ فلو أن ملكاً من الملوك - ولله المثل الأعلى - نهاك عن شيء، ثم إنك أمامه، وعلى عينه تخالف هذا الأمر، فسيقول لك: «أنت تستهزئ بي؛ لأني نهيتك، ففعلتَ ما نهيتك عنه أمامي»؛ فالمعصية نوع من الاستهزاء بالله عزّ وجلّ - وإن كانت ليست من النوع الذي يخرج به الإنسان من الإسلام -.

17 - ومن فوائد الآية: وجوب ذكر نعمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { واذكروا نعمت الله عليكم }؛ والذكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح؛ فذكرها باللسان أن تقول: أنعم الله عليّ بكذا، كما قال تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11] ؛ فتثني على الله عزّ وجلّ بها تقول: اللهم لك الحمد على ما أنعمت عليّ به من المال، أو الزوجة، أو الأولاد، أو ما أشبه ذلك؛ وذكرها بالقلب أن تستحضرها بقلبك معترفاً بأنها نعمة من الله؛ وذكرها بالجوارح أن تعمل بطاعة الله، وأن يُرى أثر نعمته عليك.

18 - ومن فوائد الآية: أن منة الله علينا بإنزال الكتاب والحكمة أعظم من كل منة؛ يؤخذ ذلك من تخصيصها بعد التعميم؛ لأن التخصيص بعد التعميم يدل على أهميتها.

19 - ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: { وما أنزل عليكم من الكتاب }؛ لأن ما أنزل الله إما أن يكون عيناً قائمة بنفسها؛ أو صفة قائمة بموصوفها؛ فأما الأول فمخلوق، كما في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماءً} [الأنعام: 99] ، وقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] ، وقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} [الحديد: 25] ؛ وأما الثاني فكقوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ، وكما في هذه الآية: { وما أنزل عليكم من الكتاب }؛ وهذا يكون صفة لله عزّ وجلّ غير مخلوقة.

20 - ومن فوائد الآية: أن شريعة الله عزّ وجلّ كلها حكمة؛ لقوله تعالى: { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة }.

ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي أنه لا حاجة إلى أن نتعب أنفسنا في طلب الحكمة، أو أن نتمحل حكمة بعيدة قد تكون مرادة لله، أو غير مرادة؛ لأننا نعلم أن كل ما شرعه الله فهو لحكمة؛ ومن الحكمة امتحان العبد بالامتثال فيما لا يعلم حكمته؛ ولهذا لما سئلت عائشة - رضي الله عنها -: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نقضي الصلاة»(62)؛ فجعلت الحكمة أمر الله، ورسوله؛ أما السؤال عن الحكمة من باب الاسترشاد فإن هذا لا بأس به؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكمة بعض الأشياء، كما في قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] ؛ والسؤال على هذا الوجه من باب طلب العلم الذي يزداد به المؤمن إيماناً، وعلماً؛ وأما السؤال عن الحكمة بحيث لا يستسلم الإنسان للحكم، ولا ينقاد إلا بمعرفتها فهذا ضلال، واستكبار عن الحق، واتباع للهوى، وجعل الشريعة تابعة لا متبوعة.

21 - ومن فوائد الآية: أن ما جاء في كتاب الله موعظة يتعظ بها العبد؛ و«الاتعاظ» معناه أن الإنسان يجتنب ما فيه مضرة إلى ما فيه منفعة؛ يقال: وعظته فاتعظ - أي انتفع، وترك ما فيه مضرته إلى ما فيه مصلحته؛ لقوله تعالى: {يعظكم به} [البقرة: 231] .

22 - ومنها: ثبوت رحمة الله عزّ وجلّ، وأن الله تعالى ذو رحمة واسعة؛ لقوله تعالى: { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به }؛ فرحمة الله تعرف بآثارها.

23 - ومنها: وجوب التقوى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.

24 - ومنها: عموم علم الله لكل شيء؛ لقوله تعالى: { أن الله بكل شيء عليم }.

25 - ومنها: تحذير المرء من المخالفة؛ لأنه إذا علم أن الله بكل شيء عليم حذر من مخالفته؛ ولهذا أعقبها بعد الأمر بالتقوى، وقال تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم }.

26 - ومنها: الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى تقع منهم؛ وهذا كان الغلاة يقولونه قديماً؛ قال شيخ الإسلام: «ومنكروه اليوم قليل»؛ والقدرية هم الذين يقولون: إن للعبد مشيئة، وقدرة مستقلتين عن الله عزّ وجلّ.



القرآن

)وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:232)

التفسير:

{ 232 } قوله تعالى: { وإذا طلقتم النساء } سبق معنى الطلاق؛ والخطاب للأزواج؛ والمراد بـ{ النساء } الزوجات.

قوله تعالى: { فبلغن أجلهن } أي انتهت عدتهن؛ { فلا تعضلوهن } أي تمنعوهن؛ والخطاب للأولياء؛ { أن ينكحن أزواجهن } جمع زوج؛ وسمي الزوج زوجاً؛ لأنه يجعل الفرد اثنين بالعقد؛ فالزوج يشفع زوجته؛ وهي كذلك؛ والمراد بـ «الأزواج» هنا الخاطبون لهن؛ وعبر عنهم بالأزواج باعتبار ما يكون؛ وقيل: الضمير في قوله تعالى: { ولا تعضلوهن } يعود للأزواج؛ وكانوا في الجاهلية إذا طلق الواحد منهم امرأته يستنكف أن يتزوجها أحد من بعده؛ فيمنعها من أن تتزوج بغيره إن استطاع؛ والأول أقرب؛ لكن لا مانع من حمل الآية على المعنيين.

وأضاف هنا النكاح إلى النساء؛ لأن المراد به العقد؛ والعقد حاصل من الطرفين؛ فيقال: نكحت المرأة الرجل؛ ونكح الرجل المرأة؛ وأما الوطء فيقال: نكح الرجل زوجته؛ ويقال: نكح بنت فلان - أي عقد عليها فإذا كان المراد بالنكاح العقدَ صح أن يطلق على الرجل، وعلى المرأة؛ وإذا كان الجماعَ فهو للرجل خاصة.

قوله تعالى: { إذا تراضوا } أي النساء، وأزواجهن؛ و{ تراضوا } صيغة مفاعلة - أي حصل الرضا من الطرفين -؛ و{ بينهم } أي بين الأزواج، والزوجات؛ و{ بالمعروف } الباء للمصاحبة؛ فالمعنى أن يكون الرضا بينهم مصاحباً للمعروف غير منكر شرعاً، ولا عرفاً.

قوله تعالى: { ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } المشار إليه ما سبق من الأحكام؛ والكاف للمخاطبة؛ والخطاب لكل من يصح خطابه؛ فإن قال قائل: لماذا لم يجئ الخطاب جمعاً مع قوله تعالى: { إذا طلقتم... فلا تعضلوهن }؟ فيقال: إن اسم الإشارة إذا خوطب به جماعة جاز أن يذكر مفرداً، ولو كانوا جماعة؛ وجاز أن يراعى في ذلك المخاطَب؛ فالكاف التي تتصل باسم الإشارة يجوز فيها لغة ثلاثة أوجه كما سبق في قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2] ؛ و{ يوعظ به } أي يذكَّر به، وينتفع؛ و{ اليوم الآخر } هو يوم القيامة؛ وصف بذلك؛ لأنه آخر مراحل الإنسان.

قوله تعالى: { ذلكم أزكى لكم وأطهر }: المشار إليه ما سبق من الأحكام؛ وأتى الخطاب مراعياً فيه المخاطب - وهم جمع -؛ و{ أزكى } اسم تفضيل من الزكاء؛ و«الزكاء» في الأصل النمو؛ ومنه الزكاة؛ لأنها تنمي المال بإحلال البركة فيه؛ وتنمي الأخلاق بخروج الإنسان عن طائفة البخلاء إلى طائفة الكرام؛ { أزكى لكم } أي في أعمالكم، ونموها، وكثرتها؛ لأنكم إذا اتعظتم بذلك أطعتم الله، ورسوله، فزادت الأعمال، وزاد الإيمان؛ لأن الإيمان يزداد بامتثال الأمر، واجتناب النهي لله عزّ وجلّ؛ و{ أطهر } أي أشد طهراً - يعني من الذنوب -.

قوله تعالى: { والله يعلم } أي ما فيه مصلحتكم، ونقاؤكم، وطهركم؛ وحذف المفعول لإفادة العموم؛ لأنه إذا حذف المفعول من الفعل المتعدي صار شاملاً لكل ما يحتمله؛ فهو يعلم الحاضر، والمستقبل، والماضي، وما يصلحكم، وما لا يصلحكم، ومن يمتثل منكم، ومن لا يمتثل؛ { وأنتم لا تعلمون } أي لا تعلمون ذلك؛ والجملة هنا اسمية في إسناد الله العلم إلى نفسه، وفي نفي العلم عن عباده.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أنه لا يحل عقد النكاح قبل انقضاء العدة؛ لقوله تعالى: { فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن }؛ فإن النكاح في العدة باطل إلا ممن كانت العدة له إذا لم يكن طلاقه بينونة كبرى.

2 - ومنها: تحريم منع الولي موليته أن تنكح من رضيته؛ لقوله تعالى: { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف }.

3 - ومنها: أن النكاح لا بد فيه من ولي؛ وأن المرأة لا تزوج نفسها؛ وجه ذلك أنه لو كانت تملك العقد لنفسها ما كان للعضل تأثير؛ فلولا أن عضلهم مؤثر ما قال الله تعالى: { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن}؛ لأنهم لو عضلوا، ولم يكن الولي شرطاً لزوجن أنفسهن؛ وربما ينازع منازع في دلالتها على ذلك؛ لأنه قد يقول: إن الله نهى عن منعهن؛ والإنسان قد يمنع بحسب العادة، أو العرف ابنته، أو موليته من أن تنكح زوجاً - وإن كان يمكنها أن تتزوج هي بنفسها -؛ لأنها لا تريد أن تخالفهم مخافة المعرة، واللوم من الناس؛ بمعنى أن الآية ليست صريحة واضحة في أنه لا يمكن النكاح إلا بولي؛ لأنه ممكن أن يكون لها حق تزويج نفسها لكن يمنعها أبوها، ويقول: إذا زوجتِ نفسك قاطعتك، أو هجرتك؛ وعلى فرض أنها لا تدل على ذلك فهناك أدلة أخرى تدل على اشتراط الولي، مثل قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي»(63).

4 - ومن فوائد الآية: إطلاق الشيء على ما مضى، أو ما يستقبل مع أنه في الحال لا يتصف به؛ وذلك قوله تعالى: { أن ينكحن أزواجهن }؛ لأنه إذا كان المراد من طلقت، ثم أراد زوجها أن يعود إليها، فهم أزواجهن باعتبار ما مضى؛ وإن كان المراد الخطّاب الذين يخطبونهن بعد انقضاء العدة فهم أزواجهن باعتبار المستقبل؛ وقد جاء التعبير عن الماضي، والمستقبل في القرآن، كقوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] مع أنهم حين إتيان المال قد بلغوا؛ فهذا تعبير عن الماضي؛ وقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36] وهو لا يعصر الخمر؛ ولكن يعصر عنباً يكون خمراً؛ فهذا تعبير عن المستقبل.

5 - ومن فوائد الآية: اعتبار الرضا في عقد النكاح سواء كان من الزوج، أو من الزوجة؛ لقوله تعالى: { إذا تراضوا بينهم بالمعروف }؛ فالرضا شرط لصحة النكاح سواء أكانت المرأة بكراً، أم ثيباً؛ وسواء أكان الولي أباها، أم غيره - على القول الراجح -؛ وأنه ليس للأب، ولا لغيره أن يجبر المرأة على النكاح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر؛ ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: كيف إذنها يا رسول الله؟ قال: أن تسكت»(64)؛ وورد في صحيح مسلم: «البكر يستأذنها أبوها»(65)؛ وهذا صريح في أنه لا يحل لأحد أن يزوج ابنته وهي كارهة؛ بل لا بد من رضاها؛ والمعنى يقتضيه أيضاً؛ لأنه إذا كان الأب لا يملك أن يبيع شيئاً من مالها إلا برضاها، فكيف يملك أن يزوجها بدون رضاها؟! فلو أن رجلاً أكره ابنته أن تشتري هذا البيت فالعقد غير صحيح مع أنه بإمكانها إذا اشترت البيت وهي كارهة أن تبيعه بعد يوم، أو يومين؛ فكيف يملك أن يكرهها على أن تتزوج برجل لا تريده؟! فالشريعة جاءت من لدن حكيم خبير؛ فالصواب بلا شك أنه لا يحل للإنسان أن يجبر ابنته على نكاح من لا تريد مهما كان؛ لكن إذا أرادت إنساناً ليس مرضياً في دينه، وخلقه فللولي أن يأبى - ولو بقيت لا تتزوج طوال عمرها -؛ فليس عليه شيء؛ لأنه مأمور بذلك؛ وما يترتب على المأمور فغير محظور؛ فإن قيل: يرد على ذلك تزويج أبي بكر عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم ولها ست سنين؟

فالجواب: أن يقال: لن يرد مثل هذه الصورة؛ لأننا نعلم علم اليقين أن عائشة سترضى برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا تبغي به بديلاً؛ ولذلك لما أمره الله عزّ وجلّ أن يخير نساءه فبدأ بها رضي الله عنها، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك؛ قالت: يا رسول الله، أفي هذا أستأمر أبوي؟! إنني أريد الله ورسوله والدار الآخرة»(66)؛ وعلى هذا لا يتم الاستدلال بها على تزويج المرأة بغير إذنها.

6 - ومن فوائد الآية: أن المرأة لو رضيت الزوج على وجه غير معروف - بل على وجه منكر لا يقره الشرع - فإنها لا تمكن من ذلك؛ لقوله تعالى: { بالمعروف }؛ فلو أن المرأة رضيت هذا الخاطب لفسقه، وانسلاخه من الدين - وإن لم يصل إلى حد الكفر - فلوليها أن يمنعها؛ لقوله تعالى: { إذا تراضوا بينهم بالمعروف }.

7 - ومنها: إثبات اليوم الآخر - وهو يوم القيامة -؛ لقوله تعالى: { من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما ذكر في ذلك اليوم من البعث، والحساب، والصراط، ودنوّ الشمس، والعرق، وغير ذلك مما ذكر في الكتاب والسنة مجملاً أحياناً، ومفصلاً أحياناً؛ بل قال شيخ الإسلام رحمه الله -: يدخل فيه الإيمان بكل ما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وعذابه، ونعيمه، وغير ذلك.

8 - ومنها: أن الاتعاظ بأحكام الله تزكية للنفس؛ لقوله تعالى: { ذلكم أزكى لكم }؛ فهو ينمي النفس، وينمي الإيمان، وينمي الأخلاق، وينمي الآداب؛ فكلما كان الإنسان أشد تطبيقاً لأحكام الله كان ذلك أزكى له.

9 - ومنها: أن تطبيق الأحكام أطهر للإنسان؛ يعني أطهر للقلب؛ لأن الأعمال الصالحة تطهر القلب من أرجاس المعاصي؛ ولذلك تجد عند الإنسان المؤمن من الحيوية، والنشاط، والسرور، والفرح ما ليس عند غيره؛ ويعرف ذلك في وجهه؛ فالإنسان صاحب المعاصي مظلم الوجه كاسف البال؛ ولو فرح بما فرح من زهرة الدنيا فهو فرح خاسر؛ لكن المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام، وامتلأ قلبه بنور الله وهدايته، ليس كذلك؛ وأسعد الناس في الدنيا أطهرهم قلباً.

10 - ومن فوائد الآية: الإشارة إلى نقص الإنسان في علمه؛ لقوله تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } فنفى عن الإنسان العلم - والمراد نفي كماله؛ لأن الإنسان له علم، كما قال الله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10] ، وقال تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور: 33] لكن لنقصان علمه نفى الله عنه العلم؛ وهنا قال تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون }؛ فإذا كان الله يعلم، ونحن لا نعلم فإن مقتضى ذلك أن نستسلم غاية الاستسلام لأحكامه سبحانه وتعالى، وأن لا نعارضها بعقولنا مهما كانت؛ ولهذا ينعى الله عزّ وجلّ على الكفار والمشركين عدم العقل؛ وكل ما خالف الشرع فليس بعقل.



القرآن

)وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:233)

التفسير:

{ 233 } قوله تعالى: { والوالدات } اسم فاعل - أي اللاتي ولدن؛ { يرضعن أولادهن }: الإرضاع معروف؛ والأولاد يشمل الذكور، والإناث، كما في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11] ؛ والجملة خبرية بمعنى الأمر؛ وإتيان الأمر بصيغة الخبر أبلغ من الأمر المحض؛ كأنه حين يأتي بصيغة الخبر أمر مستقر يتحدث عنه.

قوله تعالى: { حولين كاملين }: «الحول» بمعنى السنة؛ وهو اثنا عشر شهراً هلالياً؛ ثم أكد الله هذين الحولين بقوله تعالى: { كاملين } أي بدون نقص.

قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ الجار، والمجرور متعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: ذلك لمن أراد؛ فيكون المراد به: الوالدات المرضعات؛ وذَكَّر الضمير في { أراد } باعتبار لفظ «مَن» ؛ ويحتمل أن يكون متعلقاً بقوله تعالى: { يرضعن أولادهن }؛ فيكون المعنى: الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الأزواج؛ فهنا مرضِع، ومرضَع له؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6] ؛ ولو قيل: إن الآية تشمل هذا وهذا، لم يكن بعيداً.

وقوله تعالى: { أن يتم الرضاعة } أي أن يأتي بها على وجه التمام؛ فإنها لا تنقص عن حولين.

قوله تعالى: { وعلى المولود له }؛ { المولود } اسم جنس؛ أو أن «أل» اسم موصول؛ لأنها إذا اقترنت بمشتق صارت اسماً من الأسماء الموصولة المشتركة - أي الصالحة للواحد، ومن فوقه -؛ فحينئذ أفرد الضمير الراجع إليها - { له } - باعتبار اللفظ؛ وجُمع - { وإن أردتم } - باعتبار المعنى؛ وملاحظة المعنى، واللفظ في هذه الألفاظ المشتركة جاء بها القرآن مثل قوله تعالى: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً} [الطلاق: 11] ؛ {يدخله} باعتبار اللفظ: مفرد؛ و {خالدين} باعتبار المعنى: جمع.

قوله تعالى: { وعلى المولود } الجار والمجرور خبر مقدم؛ و{ له } متعلقة بـ{ المولود }؛ و{ رزقهن مبتدأ مؤخر.

قوله تعالى: { وعلى المولود له } أي على الزوج، أو السيد، أو الواطئ بشبهة { رزقهن } أي نفقتهن؛ { وكسوتهن } أي ما يكسو به الإنسان بدنه؛ { بالمعروف } أي رزقهن، وكسوتهن بما تعارف الناس بينهم عليه.

قوله تعالى: { لا تكلف نفس إلا وسعها }: التكليف معناه إلزام ما فيه مشقة؛ أي لا يلزم الله عزّ وجلّ نفساً إلا ما تقدر عليه.

قوله تعالى: { لا تضار والدة بولدها }: «المضارة» طلب ما يضر الغير؛ وفي الآية قراءتان: { لا تضارَّ } بفتح الراء؛ و{ لا تضارُّ } بضمها؛ فعلى قراءة الفتح تكون { لا } ناهية؛ و{ تضارَّ } فعل مضارع مجزوم بـ{ لا } الناهية؛ وحرك بالفتح لالتقاء الساكنين؛ فإذا قيل: لماذا لم يحرك بالكسرة لأن التحريك بالكسرة هو الغالب في التقاء الساكنين، كما قال تعالى: {لم يكنِ الذين كفروا} [البينة: 1] ؟ فالجواب أن الفتح أخف؛ أما على قراءة الرفع فإن { لا } نافية، و{ تضارُّ } فعل مضارع مرفوع؛ وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.

وقوله تعالى: { تضار } يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل، وأصله: «تضارِر» بكسر الراء الأولى، و{ والدة } فاعل؛ ويحتمل أن يكون مبنياً لما لم يسم فاعله، وأصله: «تضارَر» بفتح الراء الأولى، و{ والدة } نائب فاعل؛ وفاعل الإضرار المولود له - على هذا الاحتمال -.

قوله تعالى: { ولا مولود له بولده }: الواو حرف عطف؛ و{ لا } نافية؛ و{ مولود } معطوف على والدة.

قوله تعالى: { وعلى الوارث } خبر مقدم؛ و{ مثل ذلك } مبتدأ مؤخر؛ والمشار إليه الرزق، والكسوة؛ يعني أن على وارث المولود مثل ما على أبيه من النفقة، والكسوة.

قوله تعالى: { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما }؛ «الفصال» بمعنى الفطام؛ والفاعل في { أرادا } يعود على الوالدة، والمولود له؛ فلا بد من أن يقع هذا الفصال عن تراض منهما؛ لقوله تعالى: { عن تراض منهما }؛ و «التراضي» تفاعل من رضي؛ فلا بد أن يكون من الطرفين؛ فلو رضيت الأم دون الأب امتنع الفصال؛ ولو رضي الأب دون الأم امتنع الفصال؛ و «التشاور» تفاعل أيضاً؛ وأصله من: شار العسل - إذا استخلصه من الشمع -؛ والمراد به: تبادل الرأي بين المتشاورين لاستخلاص الأنفع، والأصوب؛ فلا بد من أن يقع التشاور من أجل مصلحة الطفل؛ فينظر هل من مصلحته أن يفطم قبل الحولين؛ أو من المصلحة أن يبقى حتى يتم الحولين؛ أو من المصلحة أن يبقى بعد الحولين أيضاً - فربما يكون محتاجاً إلى الرضاعة حتى بعد الحولين.

وقوله تعالى: { فلا جناح عليهما } أي لا إثم على الأبوين في فصاله قبل تمام الحولين.

قوله تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } أي: إن أردتم أن تطلبوا لأولادكم من يرضعهم؛ وتوجيه الخطاب للجماعة من باب الالتفات من الخطاب بالتثنية إلى الخطاب بالجمع؛ فهو موجه للعموم.

قوله تعالى: { فلا جناح عليكم } أي فلا إثم عليكم.

قوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم } أي إذا أعطيتم ما اتفقتم عليه في العقد على الإرضاع؛ { بالمعروف } أي بما عرف من حسن القضاء بحيث لا يكون نقص، ولا مماطلة فيما اتفق عليه.

وفي قوله تعالى: { آتيتم } قراءتان؛ أحدهما بمد الهمزة؛ والثانية بقصرها؛ والفرق بينهما أن «أتيتم» المقصور معناه جئتم؛ و «آتيتم» الممدود معناه أعطيتم.

قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره؛ وإن شئنا قلنا: إن «تصديق أخباره» داخل في فعل أوامره؛ لأن تصديق الأخبار من الواجبات.

قوله تعالى: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } جملة معطوفة على قوله تعالى: { واتقوا الله }؛ و{ بما تعملون } متعلق بـ{ بصير }؛ وقدم على عامله للمبادرة بالتحذير، والتأكيد على علمه بما نعمل؛ والعلم بأن الله بما نعمل بصير من تقوى الله عزّ وجلّ؛ لكن لما كان من تمام التقوى أن تعلم أن الله بما تعمل بصير نص عليه؛ لأنك متى علمت ذلك خفت من هذا الذي هو بصير بعملك أن يجدك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك؛ لأنه بصير بذلك.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: وجوب الإرضاع على الأم؛ لقوله تعالى: { والوالدات يرضعن }.

2 - ومنها: أن الله عزّ وجلّ أرحم بخلقه من الوالدة بولدها؛ لأنه أمرها أن ترضع مع أن فطرتها، وما جبلت عليه تستلزم الإرضاع؛ وهذا؛ لأن رحمة الله أعظم من رحمة الأم بولدها؛ ومثله قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] ؛ فلأن الله أرحم بأولادنا منا أوصانا فيهم.

3 - ومنها: أن الرضاع التام يكون حولين كاملين؛ لقوله تعالى: { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة

4 - ومنها: توكيد اللفظ لينتفي احتمال النقص؛ لقوله تعالى: { كاملين }؛ ومثله قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] : فأكدها بـ {كاملة} ؛ لئلا يتوهم واهم في تلك العشرة الكاملة أن تفريق الثلاثة والسبعة يقتضي أن يكون كل عدد منفرداً عن الآخر.

5 - ومنها: أنه ينبغي استعطاف المخاطب بما يقتضي عطفه على الشيء؛ لقوله تعالى: { يرضعن أولادهن حيث أضاف الأولاد إلى المرضعات.

6 - ومنها: أنه يجوز النقص عن الحولين؛ لكن ذلك بالتشاور، والتراضي؛ لقوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ لكن يجب أن نعلم أن الإتمام تارة يكون واجباً إذا ترتب على تركه إخلال بواجب، كقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا»(67)؛ وتارة يكون من باب الكمال، كما في هذه الآية: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ لأن الله تعالى قال: { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما... } إلخ؛ ولو كان الإتمام إتمام واجب لم يكن فيه خيار؛ فإن قيل: هل تجوز الزيادة على الحولين؟

فالجواب: أنه ينظر في حال الطفل إن بقي محتاجاً إلى اللبن زيد بقدره؛ وإن لم يكن محتاجاً فقد انتهت مدة رضاعته؛ وقوله تعالى: { الرضاعة } هي اسم مصدر بمعنى الإرضاع الذي يحتاجه الطفل.

7 - ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية في قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ والجبرية يسلبون الإنسان إرادته، وقدرته، واختياره، ويقولون: «الإنسان ليس له إرادة، ولا قدرة؛ إنما هو مجبر على عمله»؛ فلا يرون فرقاً بين الذي يتحرك ارتعاشاً، والذي يتحرك اختياراً.

8 - ومنها: أن الولد هبة للوالد؛ لقوله تعالى: { وعلى المولود له }؛ فبعض العلماء استنبط أن هذه الآية تدل على أن الوالد موهوب له؛ وعلى كل حال هذا شبيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»(68).

9 - ومنها: أنه قد يكون للشيء الواحد سببان؛ فالرزق، والكسوة هنا لهما سببان، كفقير غارم؛ وإذا تخلف أحد السببين بقي حكم السبب الآخر؛ فلو فرض أن امرأة ناشز لا تطيع زوجها فيما يجب عليها، وهي ترضع ولده كان لها الرزق، والكسوة لا بالزوجية - لأنها ناشز - ولكن بالرضاعة.

فإن قيل: إذا كان سبب الرزق، والكسوة الزوجية أصبح الرضاع عديم التأثير.

قلنا: لا؛ لأننا إذا قلنا: إن تخلف الإنفاق بالزوجية، وجب بالرضاع - هذه واحدة؛ ثانياً: أنه ربما يترتب لها من الطعام والكسوة إذا كانت ترضع ما لا يترتب لو كانت لا ترضع؛ فالمرضع ربما تحتاج إلى غسل ثيابها دائماً من الرضاعة، وتحتاج إلى زيادة طعام، وشراب.

10 - ومن فوائد الآية: اعتبار العرف بين الناس؛ لقوله تعالى: { بالمعروف }؛ وهذا ما لم يخالف الشرع؛ فإن خالفه رد إلى الشرع.

11 - ومنها: أنه يجب على المولود له رزقهن، وكسوتهن بالمعروف؛ فيرجع إلى العرف في نوع الرزق، وكميته، وكيفيته؛ وكذلك الكسوة.

12 - ومنها: وجوب الإنفاق على المولود له من زوج، أو غيره للمرضع؛ وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة في حباله، أو بائناً منه؛ فإن كانت في حباله فلوجوب الإنفاق عليها سببان: الزوجية، والإرضاع؛ وإن لم تكن في حباله فلها سبب واحد - وهو الإرضاع؛ ولا يمتنع أن يكون للحكم الواحد سببان - كما سبق - كما في الزوج يكون ابن عم، فيرث بالزوجية، والقرابة.

13 - ومنها: أن المعتبر حال الزوجة؛ لا حال الزوج؛ فيرجع تقدير الرزق والكسوة إلى حال الزوجة، فكأنه قال: الرزق الذي يصلح لمثلها، والكسوة التي تصلح لمثلها؛ وعلى هذا فإذا كان الزوج فقيراً وهي غنية يُلزَم بنفقة غني، وكسوة غني؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن المعتبر حال الزوج، واستدل بقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق: 7] ؛ وأجيب عن الآية بأن المراد: رزقهن من أمثالكم، وكسوتهن من أمثالكم؛ وبهذا تجتمع الآيتان؛ وقال بعض أهل العلم: بل نعمل بالآيتين جميعاً، فنقول: المعتبر حال الزوج، والزوجة جميعاً: إن كانا موسرين فنفقة الموسر؛ وإن كانا معسرين فنفقة المعسر؛ وإن كان أحدهما فقيراً، والآخر غنياً فنفقة المتوسط؛ والراجح أن المعتبر حال الزوج - وهو مذهب الشافعي -.

14 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ لا يكلف نفساً ما لا تطيق؛ لقوله تعالى: { لا تكلف نفس إلا وسعها }، أي طاقتها.

ويتفرع على هذه الفائدة: بيان رحمة الله عزّ وجلّ بعباده، وأن الله سبحانه وتعالى لا يكلفهم إلا ما يطيقون.

15 - ومن فوائد الآية: تحريم المضارة؛ لقوله تعالى: { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده }؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»(69)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من ضار ضار الله به»(70)؛ ولا فرق بين أن تكون المضارة من الوالدة للمولود له، أو بالعكس؛ لأن الآية تحتمل هذا، وهذا.

16 - ومنها: وجوب النفقة للمولود على الوارث؛ لقوله تعالى: { وعلى الوارث مثل ذلك }؛ وإيجاب النفقة للمرضع من أجل الرضيع دليل على وجوب الإنفاق على الرضيع نفسه.

17 - ومنها: أنه يجوز للأم أن تفطم الولد قبل تمام الحولين؛ لكن بشرط التراضي، والتشاور؛ لقوله تعالى: { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما }.

18 - ومنها: عناية الله عزّ وجلّ بالرضَّع؛ لأنه لم يبح فطامهم قبل الحولين إلا بعد التراضي بين الوالدة، والمولود له، والتشاور.

19 - ومنها: أنه لا يكفي المراضاة بين الزوجين في الفطام؛ بل لا بد أن يكون هذا بعد التشاور، والمراجعة في الأمر حتى إذا تبينت مصلحة الطفل جاز ذلك.

20 - ومنها: جواز استرضاع الإنسان لولده المراضع؛ لقوله تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم }؛ ولو أن الأم طلبت أن ترضعه، وقال الأب: ترضعه غيرها أجبر الأب على موافقة الأم؛ لقوله تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن }؛ فبدأ بـ{ الوالدات }؛ لأن الأم أشفق، ولبنها لطفلها أطيب؛ ولأن ذلك أدعى إلى التعاطف بين الأم، وولدها.

فإن قيل: لو طلبت عليه أجرة أكثر من غيرها فهل يلزمه إجابتها؟

فالجواب: إن كانت الزيادة يسيرة وجبت إجابتها؛ وإن كانت كثيرة لم تلزم إجابتها.

فإن قيل: هل للأم أن تطلب الأجرة إذا كانت مع المولود له؟

فالجواب: أن في ذلك قولين لأهل العلم؛ والراجح أنه ليس لها ذلك اكتفاءً بإنفاق الزوج عليها بالزوجية.

21 - ومن فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان تسليم العوض بالمعروف - أي بدون مماطلة، وبدون نقص -؛ لقوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف }.

22 - ومنها: أنه لا يجب للأجير إلا ما اتفق عليه في العقد؛ لقوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم }؛ فلو أن المستأجر طلب منه أن يزيد في الأجرة فإنه لا يلزمه؛ حتى ولو زادت المؤن فلا يلزمه شيء سوى ما اتفقا عليه.

23 - ومنها: وجوب تقوى الله؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.

24 - ومنها: وجوب الإيمان بأسماء الله، وما تضمنته من الصفات؛ لقوله تعالى: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير }.

25 - ومنها: التحذير من مخالفة أمر الله؛ لأنه سبحانه وتعالى بعد أن أمر بالتقوى قال: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } يحذرنا من مخالفة أمره بذلك.

26 - ومنها: عموم علم الله بكل ما نعمل؛ لقوله تعالى: { بما تعملون }؛ و{ ما } اسم موصول عام.

27 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { بما تعملون }، وقوله تعالى: { آتيتم }، وقوله تعالى: { وإن أردتم }؛ فهذه عدة شواهد تردّ على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله ليس له إرادة فيه.

28 - ومنها: إثبات بصر الله، وعلمه بما نعمل؛ لقوله تعالى: { بما تعملون بصير }.

29 - ومنها: أن وساوس القلوب لا يؤاخذ بها؛ لأنها ليست من الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم»(71).



القرآن

)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:234)

التفسير:

{ 234 } قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن }؛ { الذين } اسم موصول مبتدأ في محل رفع؛ وجملة: { يتوفون } صلة الموصول؛ وجملة { يتربصن } خبر { الذين }؛ وفيها أشكال، حيث لم يوجد رابط يربطها بالمبتدأ؛ لأن قوله تعالى: { يتربصن بأنفسهن } ليس فيها ضمير يعود على { الذين }؛ فاختلف الناس في كيفية الربط بين المبتدأ، والخبر؛ فقال بعضهم التقدير: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم؛ وعلى هذا يكون الضمير: في «بعدهم» هو الرابط الذي يربط بين المبتدأ، والخبر؛ وقال بعضهم: التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن؛ فقدر المبتدأ؛ هذان وجهان؛ ولكن الأول أيسر من الثاني، وأقرب.

وقوله تعالى: { يتوفون } بضم الياء - أي يتوفاهم الله -؛ وذلك بقبض أرواحهم عند الموت؛ وقد أضاف الله التوفي إليه تارة، كما في قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42] ؛ وإلى ملك الموت تارة، كما في قوله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [السجدة: 11] ؛ وإلى رسله - وهم الملائكة - تارة، كما في قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61] فإضافتها إلى الله؛ لأنها بأمره؛ وإلى ملك الموت؛ لأنه الذي يقبض الروح؛ وإلى الرسل؛ لأنهم يقبضونها من ملك الموت يصعدون بها إلى السماء؛ ولذلك بني الفعل في الآية لما لم يسم فاعله؛ ليشمل كل ذلك.

وقوله تعالى: { منكم }: الخطاب للناس جميعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [النساء: 174] ؛ فالخطابات بصيغة الجمع لجميع من نزل إليهم القرآن.

وقوله تعالى: { ويذرون أزواجاً } أي يتركون أزواجاً بعدهم؛ و{ أزواجاً } جمع زوج - وهو من عقد له النكاح من رجل، أو امرأة -؛ إلا أن الفرضيين - رحمهم الله - اصطلحوا على أن الرجل يقال له: زوج؛ والمرأة يقال لها زوجة من أجل التمييز بينهما في قسمة الميراث.

وقوله تعالى: { يتربصن بأنفسهن } أي ينتظرن، ويَحبسن أنفسهن عن الزواج؛ لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح؛ فقيل لها: تربصي بنفسك؛ انتظري، مثلما أقول: ارفق بنفسك - أي هوِّن على نفسك -؛ وما أشبهها؛ وأما قول من قال: إن «أنفسهن» توكيد للفاعل في { يتربصن } زيدت فيه الباء، وجعل معنى الآية: يتربصن أنفسُهن؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن الأصل عدم الزيادة؛ ولأن مثل هذا التعبير شاذ في اللغة العربية؛ فلا يحمل كلام الله على الشاذ؛ وعلى هذا فالمعنى الصحيح: أن ينتظرن بأنفسهن فلا يعجلن.

قوله تعالى: { أربعة أشهر وعشراً }؛ { أربعة } نائبة مناب الظرف؛ لأنها مضافة إليه؛ وهي متعلقة بـ{ يتربصن }.

قوله تعالى: { وعشراً } أي وعشر ليال؛ والمراد: عشرة أيام لكن يعبر عن الأيام بالليالي، كقوله
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:39 am من طرف ahmadhamad
الاية 238 الي الاية 244

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة:238) )فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة:239)

التفسير:

فإن قال قائل: ما وجه ارتباط هاتين الآيتين بما يتعلق بشأن العدة للنساء؟

فالجواب: أن ترتيب الآيات توقيفي ليس للعقل فيه مجال؛ والله أعلم بما أراد؛ وقد التمس بعض المفسرين حكمة لهذا؛ ولكن لما لم يتعين ما ذكره أحجمنا عن ذكرها؛ ونَكِلُ العلم إلى منزل هذا الكتاب العظيم، ونعلم أنه لابد أن يكون هناك حكمة، أو حِكَم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم.

{ 238 } قوله تعالى: { حافظوا على الصلوات }: «المحافظة» الاستمرار في حفظ الشيء مع العناية به؛ ولم يبين الله في هذه الآية كيفية المحافظة؛ لكن بينت في مواضع أخرى من الكتاب، والسنة؛ وهو أبلغ من قولك: «احفظ كذا»؛ بدليل أنك لو أعطيتني وديعة، وقلت: «حافظ عليها»، أو قلت: «هذه وديعة احفظها» لكان الأول أبلغ؛ فلهذا جاءت في الآية: { حافظوا على الصلوات }؛ و{ الصلوات } جمع صلاة؛ وهي في اللغة: الدعاء؛ وفي الشرع العبادة المعروفة.

قوله تعالى: { والصلاة الوسطى } أي الفضلى؛ وهي صلاة العصر، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(78)؛ ولا عبرة بما خالفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بمراد الله؛ وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] .

قوله تعالى: { وقوموا لله قانتين }: هذا أمر بالقيام؛ ولا إشكال فيه؛ وهل المراد بالقيام هنا المكث على الشيء، أو القيام على القدمين؟ هو المعنيان جميعاً؛ واللام في قوله تعالى: { لله } للإخلاص.

قوله تعالى: { قانتين } حال من الواو في { قوموا } أي حال كونكم قانتين؛ و «القنوت» يطلق على عدة معانٍ؛ منها: دوام العبادة، والطاعة؛ ومنه قوله تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12] ؛ ويطلق «القنوت» على «الخشوع» - وهو السكوت تعظيماً لمن قنت له؛ وعليه يدل سبب نزول الآية؛ فإنه كان أحدهم يكلم صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: { وقوموا لله قانتين } فأمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام؛(79) إذاً فـ «القنوت» خشوع القلب الذي يظهر فيه خشوع الجوارح؛ ومنها اللسان حتى لا يتكلم الإنسان مع الناس؛ ليتجه إلى صلاته؛ وكذلك لا يفعل إلا ما يتعلق بصلاته.

{ 239 } قوله تعالى: { فإن خفتم } أي خفتم حصول مكروه بالمحافظة على ما ذُكر بأن أخافكم عدو، أو حريق، أو سيل، أو ما أشبه ذلك مما يخاف منه الإنسان.

قوله تعالى: { فرجالاً } أي على الأرجل؛ وهي جمع راجل؛ و «الراجل» هو الذي يمشي على رجليه؛ لأنه قابله بقوله تعالى: { أو ركباناً } أي راكبين؛ و{ رجالاً } منصوبة على الحال على تأويل: راجلين؛ وعاملها، وصاحبها محذوفان؛ والتقدير: فصلوا رجالاً.

قوله تعالى: { أو ركباناً } جمع راكب.

قوله تعالى: { فإذا أمنتم } أي زال الخوف عنكم { فاذكروا الله } أي أقيموا الصلاة؛ وسماها ذكراً؛ لأنها هي ذكر، ومشتملة على ذكر؛ قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] قال بعض المفسرين: أي ولَما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء، والمنكر.

قوله تعالى: { فاذكروا الله كما علمكم }؛ الكاف هنا يحتمل أن تكون للتعليل، أو التشبيه؛ فعلى الأول يكون المعنى: اذكروا الله لتعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمون؛ وعلى الثاني يكون المعنى: اذكروا الله على الصفة التي بينها لكم - وهي أن تكون صلاة أمن لا صلاة خوف؛ والمعنيان لا منافاة بينهما؛ فتحمل الآية عليهما.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: وجوب المحافظة على الصلوات؛ لقوله تعالى: { حافظوا على الصلوات }؛ والأصل في الأمر الوجوب.

فإن قيل: إن النوافل لا تجب المحافظة عليها؟

فالجواب أنه لا مانع من استعمال المشترك في معنييه؛ فتكون المحافظة على الفرائض واجبة؛ وعلى النوافل سنة.

2 - ومن فوائد الآيتين: فضيلة صلاة العصر؛ لأن الله خصها بالذكر بعد التعميم؛ وهي أفضل الصلاتين المفضلتين - العصر، والفجر؛ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضلهما في أحاديث؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة»(80)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»(81).

3 - ومنها: وجوب القيام؛ لقوله تعالى: { وقوموا لله }.

4 - ومنها: وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: { لله }.

5 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا تعبد لله أن يستشعر أمر الله؛ لأنه أبلغ في الامتثال، والطاعة؛ وكذلك ينبغي أن يستحضر أنه متأسٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يشاهده رأي عين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»(82) - فتتم له المتابعة.

6 - ومنها: الأمر بالقنوت لله عزّ وجلّ؛ وهو خشوع القلب الذي يظهر منه سكون الجوارح؛ لقوله تعالى: { قانتين }.

7 - ومنها: تحريم الكلام في الصلاة - بناءً على سبب النزول؛ وهو أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية؛ فأمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام.

8 - ومنها: وجوب القيام في الصلاة؛ ويستثني من ذلك:

أ - صلاة النافلة؛ لدلالة السنة على جوازها من قاعد؛ هذا إذا جعلنا قوله تعالى: { الصلوات } عامة؛ وأما إذا جعلناها خاصة بالفرائض فلا استثناء.

ب - ويستثني أيضاً الخائف، مثل أن يصلي خلف الجدار إن قام علم به عدوه فمال عليه؛ وإن صلى جالساً سَلِم.

ج - ويستثني أيضاً العاجز؛ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] .

د - ويستثني أيضاً المأموم القادر على القيام إذا صلى إمامه العاجز عنه قاعداً من أول صلاته ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإمام: «إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون»(83)؛ أما إذا طرأ عليه العجز في أثناء الصلاة فإن المأمومين يتمونها قياماً؛ لقصة صلاة أبي بكر بالناس، حيث ابتدأ بهم الصلاة قائماً؛ فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة صلى جالساً، وأتموا خلفه قياماً(84).

9 - ومن فوائد الآيتين: سعة رحمة الله عزّ وجلّ، وأن هذا الدين يسر؛ لقوله تعالى: { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً }؛ لأن هذا من التيسير على العباد.

10 - ومنها: جواز الحركة الكثيرة في الصلاة للضرورة؛ لقوله تعالى: { فرجالاً }؛ لأن الراجل - وهو الماشي - يتحرك حركة كثيرة.

11 - ومنها: جواز الصلاة على الراحلة في حال الخوف؛ لقوله تعالى: { أو ركباناً }؛ أما في حال الأمن فلا تجوز الصلاة على الراحلة إلا النافلة؛ إلا إذا تمكن من الإتيان بالصلاة على وجه التمام فإنه يجوز؛ ولهذا جوزنا الصلاة في السفينة، وفي القطار، وما أشبه ذلك؛ لأنه سيأتي بها على وجه التمام بخلاف الراحلة من بعير، وسيارة، وطائرة إلا أن يكون في الطائرة مكان متسع يتمكن فيه من الإتيان بالصلاة كاملة: فتصح؛ لكن إذا خاف الإنسان خروج الوقت يصلي على أي حال - ولو مضطجعاً - في أيّ مكان.

12 - ومن فوائد الآيتين: أنه يجب على المرء القيام بالعبادة على التمام متى زال العذر؛ لقوله تعالى: { فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }.

13 - ومنها: أن الصلاة من الذكر؛ لقوله تعالى: { فاذكروا الله }؛ والكلام هنا في الصلاة.

14 - ومنها: بيان منة الله علينا بالعلم؛ لقوله تعالى: { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }.

15 - ومنها: بيان نقص الإنسان لكون الأصل فيه الجهل، حيث قال تعالى: { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }؛ فالأصل في الإنسان الجهل حتى يُعَلِّمَه الله عزّ وجلّ.

16 - ومنها: الرد على القدرية الذين يقولون: «إن الإنسان مستقل بعمله»؛ لقوله تعالى: { كما علمكم }؛ والرد على الجبرية أيضاً؛ لتوجيه الأوامر إلى الإنسان؛ لقوله تعالى: { حافظوا }، وقوله تعالى: { فاذكروا الله}، وما أشبههما؛ لأننا لو قلنا بأن العبد مجبر صار توجيه الخطاب إليه نوعاً من العبث؛ لأنه أمر بما لا يطاق، ولا يمكن تطبيقه.

القرآن

)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:240)

التفسير:

{ 240 } قوله تعالى: { وصية } فيها قراءتان: النصب، والرفع؛ وقوله تعالى: { الذين } مبتدأ؛ و{ وصية } بالرفع مبتدأ خبره محذوف؛ والتقدير: عليهم وصية؛ والجملة: خبر { الذين }؛ أما على قراءة النصب فإن خبر { الذين } جملة فعلية محذوفة؛ والتقدير: يوصُون وصيةً؛ أو نوصيهم وصية - على خلاف في ذلك: هل هي وصية من الله؛ أو منهم؛ فإن كانت من الله عزّ وجلّ فالتقدير: نوصيهم وصية؛ وإن كانت منهم فالتقدير: يوصُون وصية؛ والجملة المحذوفة خبر { الذين }؛ والرابط الضمير في الجملة المحذوفة سواء قلنا: «عليهم وصية»؛ أو قلنا: «نوصيهم وصية»، أو «يوصُون وصية».

قوله تعالى: { متاعاً إلى الحول }؛ { متاعاً } مصدر لفعل محذوف؛ والتقدير: يمتعونهن متاعاً إلى الحول؛ و{ غير إخراج } إما صفة لمصدر محذوف؛ أي متاعاً غير إخراج؛ أي متعة غير مخرجات فيها؛ أو أنها حال من الفاعل في الفعل المحذوف.

قوله تعالى: { فلا جناح عليكم }؛ هذه «لا» النافية للجنس، واسمها، وخبرها؛ وقوله تعالى: { من معروف } متعلق بـ{ فعلْن }؛ وباقي الآية إعرابها ظاهر، وواضح.

قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم } أي يُقبَضون؛ والمراد: الموت؛ و{ منكم } الخطاب لعموم الأمة؛ وليس خاصاً بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأن القرآن نزل للجميع إلى يوم القيامة؛ فالخطاب الموجود فيه عام لكل الأمة؛ إلا إذا دل دليل على الخصوصية، كما في قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًّا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] .

قوله تعالى: { ويذرون } أي يتركون؛ وهي معطوفة على قوله تعالى: { يتوفون }؛ و{ أزواجاً } أي زوجات لهم.

قوله تعالى: { وصية لأزواجهم } أي عهداً لأزواجهم؛ ولا تكون الوصية إلا في الأمر الذي له شأن، وبه اهتمام؛ { إلى الحول } أي إلى تمام الحول من موت الزوج؛ و{ غير إخراج } أي من الورثة الذين يرثون المال بعد الزوج؛ ومنه البيت الذي تسكن فيه الزوجة.

قوله تعالى: { فإن خرجن } أي خرج الزوجات من البيت قبل الحول؛ { فلا جناح عليكم } أي لا إثم عليكم { فيما فعلن في أنفسهن من معروف } أي مما يعرفه الشرع، والعرف، ولا ينكره.

قوله تعالى: { والله عزيز حكيم } أي ذو عزة، وحُكم، وحِكمة.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن الزوجة تبقى زوجيتها حتى بعد الموت؛ لقوله تعالى: { ويذرون أزواجاً }؛ ولا يقول قائل: إن المراد باعتبار ما كان؛ لأن هذا خلاف الأصل.

فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تحل لأحد بعده؟

قلنا: هي مقيدة بمدة العدة؛ ويدل على ذلك أن المرأة إذا مات زوجها جاز أن تغسله؛ ولو كانت أحكام الزوجية منقطعة ما جاز لها أن تغسِّل زوجها.

2 - ومنها: أنه يشرع للزوج أن يوصي لزوجته أن تبقى في بيته، وينفق عليها من تركته لمدة حول كامل؛ هذا ما تفيده الآية؛ فهل هذا الحكم منسوخ، أو محكم؟ على قولين للعلماء؛ أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234] ؛ ويؤيده ما في صحيح البخاري حينما سئل عثمان رضي الله عنه: لماذا أبقيت هذه الآية وهي منسوخة؛ ولماذا وضعتها بعد الآية الناسخة - وكان الأولى أن تكون المنسوخة قبل الآية الناسخة لمراعاة الترتيب؟ فأجاب عثمان رضي الله عنه بأنه لا يغير شيئاً من مكانه(85)؛ وذلك لأن الترتيب بين الآيات توقيفي؛ فهذه الآية توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تتلى في القرآن، وفي مكانها؛ ولا يمكن أن تغير؛ وعلى هذا فتكون هذه الآية منسوخة بالآية السابقة بالنسبة للعدة؛ وأما بالنسبة لما يوصي به الزوج من المال فهو منسوخ بآية المواريث - وهي قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم} [النساء: 12] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث»(86).

والقول الثاني: أن الآية محكمة؛ فتحمل على معنًى لا يعارض الآية الأخرى؛ فيقال: إن الآية الأخرى يخاطَب بها الزوجة: تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً؛ والآية الثانية يخاطَب بها الزوج ليوصي لزوجته بما ذُكر.

3 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ ذو رحمة واسعة حتى أوصى الزوج بأن يوصي لزوجته مع أن الزوج قد جعل الله فيه رحمة لزوجته حين قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21] ؛ ورحمة الله عزّ وجلّ لهذه الزوجة أعظم من رحمة الزوج لها.

4 - ومنها: أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها أن تبقى في البيت أن تخرج، ولا تنفذ وصيته؛ لقوله تعالى: { فإن خرجن فلا جناح عليكم }؛ لأن هذا شيء يتعلق بها، وليس لزوجها مصلحة فيه.

ويتفرع عليه لو أوصى الزوج الزوجة ألا تتزوج من بعده لا يلزمها؛ لأنه إذا كان لا يلزمها أن تبقى في البيت مدة الحول فلأن لا يلزمها أن تبقى غير متزوجة من باب أولى.

وكذلك يؤخذ منه قياساً كل من أوصى شخصاً بأمر يتعلق بالشخص الموصى له فإن الحق له في تنفيذ الوصية، وعدم تنفيذها.

5 - ومن فوائد الآية: أن المسؤولين عن النساء هم الرجال؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليكم }.

6 - ومنها: أن على الرجال الإثم فيما إذا خرجت المرأة عن المعروف شرعاً؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف }.

ويتفرع على هذا أن كل مسؤول عن شخص إذا تمكن من منعه عن المنكر فإنه يمنعه؛ ولا يعارض هذا قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] ؛ لأن الإنسان ما دام مسؤولاً فإنه إذا فرط في مسؤوليته كان وازراً، ووزره على نفسه.

7 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج عن المعروف في جميع أحوالها؛ و «المعروف» هو ما أقره الشرع والعرف جميعاً؛ فلو خرجت في لباسها، أو مشيتها، أو صوتها، عن المعروف شرعاً فهي آثمة؛ وعلينا أن نردعها عن الخروج على هذا الوجه.

8 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «العزيز» ، و «الحكيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من صفة سواء كان ذلك عن طريق اللزوم، أو المطابقة، أو التضمن؛ وهي العزة، والحكمة، والحُكم؛ وقد سبق تفسير ذلك.

9 - ومنها: إثبات العزة، والحكمة على سبيل الإطلاق، لأن الله سبحانه وتعالى أطلق: قال: { عزيز حكيم }؛ فيكون عزيزاً في كل حال؛ وحكيماً حاكماً في كل حال.


القرآن

)وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:241)

التفسير:

{241 } قوله تعالى: { وللمطلقات متاع بالمعروف }؛ الجملة مكونة من مبتدأ، وخبر؛ فالخبر مقدم: {للمطلقات}؛ والمبتدأ مؤخر؛ وهو قوله تعالى: { متاع بالمعروف }؛ ومن ثم جاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه يجوز الابتداء بالنكرة إذا تأخر المبتدأ.

وقوله تعالى: { وللمطلقات } من ألفاظ العموم؛ لأن «أل» فيها اسم موصول؛ فيشمل كل المطلقات بدون استثناء؛ وهن من فارقهن أزواجهن؛ وسمي طلاقاً؛ لأن الزوجة قبله في قيد النكاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان»(87) أي أسيرات؛ وقال تعالى عن امرأة العزيز: {وألفيا سيدها لدى الباب} [يوسف: 25] ؛ و {سيدها} : زوجها.

قوله تعالى: { متاع } أي ما تتمتع به من لباس، وغيره؛ وقوله تعالى: { بالمعروف } متعلق بـ{ متاع }؛ يعني: هذا المتاع مقيد بالمعروف - أي ما يعرفه الناس -؛ وهذا قد يكون مفسَّراً بقوله تعالى: {وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف} [البقرة: 236] ، أي المتاع على الموسر بقدر إيساره؛ وعلى المعسر بقدر إعساره.

قوله تعالى: { حقًّا } مصدر منصوب على المصدرية عامله محذوف؛ والتقدير: نحقه حقاً؛ و «الحق» هنا بمعنى الحتم الثابت؛ و{ على المتقين } أي ذوي التقوى؛ و «التقوى» هي القيام بطاعة الله على علم وبصيرة؛ وما أحسن ما قاله بعضهم: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله؛ ولا يعني قوله تعالى: { على المتقين } أنه لا يجب على غير المتقين؛ ولكن تقييده بالمتقين من باب الإغراء، والحث على لزومه؛ ويفيد أن التزامه من تقوى الله عزّ وجلّ؛ وأن من لم يلتزمه فقد نقصت تقواه.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: وجوب المتعة لكل مطلقة؛ لعموم قوله تعالى: { وللمطلقات }؛ ويستثنى من ذلك:

أ - من طلقت قبل الدخول وقد فرض لها المهر؛ لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] .

ب - من طلقت بعد الدخول فلها المهر: إن كان مسمًّى فهو ما سمي؛ وإن لم يكن مسمًّى فمهر المثل؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من طلقت بعد الدخول فلها المتعة على زوجها مطلقاً؛ لعموم الآية.

2 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي تأكيد الحقوق التي قد يتهاون الناس بها؛ لقوله تعالى: { حقًّا على المتقين }.

3 - ومنها: أنه ينبغي ذكر الأوصاف التي تحمل الإنسان على الامتثال فعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور؛ لقوله تعالى: { حقًّا على المتقين }؛ لأن عدم القيام به مخالف للتقوى؛ والقيام به من التقوى.

4 - ومنها: اعتبار العرف؛ لقوله تعالى: {متاعاً بالمعروف} [البقرة: 236] ؛ وهذا ما لم يكن العرف مخالفاً للشرع؛ فإن كان مخالفاً له وجب رده إلى الشرع.

5 - ومنها: أن التقوى تحمل على طاعة الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.


القرآن

)كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:242)

التفسير:

{ 242 } قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته }، أي مثلَ ذلك البيان السابق يبين الله لكم آياته؛ فالكاف في محل المفعول المطلق؛ ومعنى «البيان» التوضيح؛ أي أن الله يوضحه حتى لا يبقى فيه خفاء؛ و{ لكم} يحتمل أن تكون اللام لتعدية الفعل: { يبين }؛ ويحتمل أن تكون اللام للتعليل؛ أي يبين الآيات لأجلكم حتى تتبين لكم، وتتضح؛ و{ آياته } جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمدلولها؛ وتشمل الآيات الكونية والشرعية؛ فإن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا من آياته الكونية والشرعية ما لا يبقى معه أدنى شبهة في أن هذه الآيات علامات واضحة على وجود الله عزّ وجلّ، وعلى ما له من حكمة، ورحمة، وقدرة.

قوله تعالى: { لعلكم تعقلون }؛ «لعل» هنا للتعليل؛ أي لتكونوا من ذوي العقول الرشيدة.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: منة الله على عباده بتبيين الآيات؛ لقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}.

2 - ومنها: أن مسائل النكاح والطلاق، قد يخفى على الإنسان حكمتها؛ لأن الله جعل بيان ذلك إليه، فقال تعالى: { كذلك يبين الله لكم }.

3 - ومنها: الرد على المفوضة - أهل التجهيل؛ وعلى أهل التحريف - الذين يسمون أنفسهم بأهل التأويل؛ لقوله تعالى: { يبين الله لكم آياته }؛ لأن أهل التفويض يقولون: إن الله لم يبين ما أراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وأنها بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم معناها؛ وأهل التحريف يقولون: إن الله لم يبين المعنى المراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وإنما وكل ذلك إلى عقولنا؛ وإنما البيان بما ندركه نحن بعقولنا؛ فنقول: لو كان الأمر كما ذكرتم لكان الله سبحانه وتعالى يبيّنه؛ فلما لم يبين ما قلتم علم أنه ليس بمراد.

4 - ومن فوائد الآية: الثناء على العقل، حيث جعله الله غاية لأمر محمود - وهو تبيين الآيات؛ والمراد عقل الرشد السالم من الشبهات، والشهوات - أي الإرادات السيئة.

5 - ومنها: إثبات العلة لأفعال الله؛ لقوله تعالى: { لعلكم تعقلون }.

6 - ومنها: أنه لا يمكن أن يوجد في الشرع حكم غير مبين؛ لقوله تعالى: { يبين الله لكم آياته }؛ والآيات هنا جمع مضاف؛ فيعم.

فإن قال قائل: إننا نجد بعض النصوص تخفى علينا؟

فالجواب: أن ذلك إما لقصور في فهمنا؛ وإما لتقصير في تدبرنا؛ وإما لنقص في علومنا؛ أما أن النص نفسه لم يبين فهذا شيء مستحيل.

القرآن

)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (البقرة:243)

التفسير:

{ 243 } قوله تعالى: { ألم }: الاستفهام الداخل هنا على النفي يراد به التقرير، والتعجيب أيضاً: { تر } أي تنظر؛ والخطاب هنا إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أو لكل من يتأتى خطابه؛ والأخير أحسن؛ لأنه أعم؛ و «الرؤية» هنا رؤية الفكر؛ لا رؤية البصر.

قوله تعالى: { إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت }؛ لم يبين الله عزّ وجلّ من هؤلاء الذين خرجوا؛ فقيل: إنهم من بني إسرائيل؛ وقيل: إنهم من غيرهم؛ والمهم القصة، والقضية التي وقعت؛ و{ من ديارهم } أي من بيوتهم، وأحيائهم التي يأوون إليها؛ { وهم ألوف }: الجملة في موضع نصب على الحال من الواو في { خرجوا }؛ وكلمة: { ألوف } جمع ألف؛ وهو من صيغ جموع الكثرة؛ فقيل: إنهم ثمانية آلاف؛ وقيل: ثمانون ألفاً؛ وإذا نظرت إلى صيغة اللفظ - { وهم ألوف } - تجد أنها تدل على أنهم أكثر من ثمانية آلاف؛ وأنهم عالم كثير؛ و{ حذر الموت } مفعول لأجله؛ والعامل قوله تعالى: { خرجوا } يعني خرجوا خوفاً من الموت؛ وهل هذا الموت طبيعي؛ لأنه نزل في أرضهم وباء؛ أو الموت بالقتال في سبيل الله؟ في ذلك قولان لأهل العلم: فمنهم من يقول - وهم أكثر المفسرين -: إن المراد: خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت لوباء وقع في البلاد؛ فخرجوا فراراً من قدر الله؛ فأراد الله عزّ وجلّ أن يريهم أنه لا مفر منه إلا إليه؛ وقيل: إن المراد: خرجوا حذر الموت بالقتل؛ لأنهم دهمهم العدو؛ ولكنهم جبنوا، وخرجوا خوفاً من أن يقتلهم العدو؛ فالذين قالوا بالأول قالوا: لأنا إذا أخذنا الآية بظاهرها - { حذر الموت } - تبين أنه نزل في أرضهم وباء، فخرجوا من ديارهم خوفاً من الوباء؛ والذين قالوا بالثاني قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى قال بعدها: {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 244] ؛ فكأن الله عرض قصة هؤلاء الذين جبنوا، وهربوا توطئة لأمرنا بالقتال في سبيل الله، وأن نصبر.

قوله تعالى: { فقال لهم الله موتوا } أي قال لهم قولاً كونياً، كقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] .

قوله تعالى: { ثم أحياهم }؛ «ثم» تدل على التراخي، وأن الله سبحانه وتعالى أحياهم بعد مدة؛ وقيل: إنه أحياهم لسبب؛ وهو أن نبياً من الأنبياء مرّ بهم وهم ألوف مؤلفة جثث هامدة؛ فدعا الله أن يحييهم؛ فأحياهم الله؛ وقال بعض المفسرين: إن الله أحياهم بدون دعوة نبي؛ وهذا هو ظاهر اللفظ؛ وأما الأول فلا دلالة عليه؛ وعليه فنقول: إن الله أحياهم ليُري العباد آياته.

قوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }: اللام هنا للتوكيد؛ و «ذو» بمعنى صاحب؛ و «الفضل» بمعنى العطاء، والتفضل.

قوله تعالى: { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } أي لا يقومون بشكر الله عزّ وجلّ حين يتفضل عليهم؛ و «الشكر» طاعة المتفضل.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أنه لا فرار من قدر الله؛ لقوله تعالى: { حذر الموت فقال لهم الله موتوا }؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الطاعون: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه»(88).

2 - ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ بإماتة الحيّ، وإحياء الميت؛ لقوله تعالى: { موتوا }؛ فماتوا بدليل قوله تعالى: { ثم أحياهم }.

3 - ومنها: أن فيها دلالة على البعث؛ وجهه: أن الله أحياهم بعد أن أماتهم.

4 - ومنها: أن بيان الله عزّ وجلّ آياته للناس، وإنقاذهم من الهلاك من فضله؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }.

5 - ومنها: أن لله نعمة على الكافر؛ لعموم قوله تعالى: { على الناس }؛ ولكن نعمة الله على الكافر ليست كنعمته على المؤمن؛ لأن نعمته على المؤمن نعمة متصلة بالدنيا والآخرة؛ وأما على الكافر فنعمة في الدنيا فقط.

6 - ومنها: أن الشاكر من الناس قليل؛ لقوله تعالى: { ولكن أكثر الناس لا يشكرون }.

7 - ومنها: أن العقل يدل على وجوب شكر المنعم؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون }؛ وهذا على سبيل الذم؛ فيكون من لا يشكر مذموماً عقلاً، وشرعاً.

8 - ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { موتوا }؛ فيكون فيه رد على من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه.

9 - ومنها: أن معنى قوله تعالى: {إذا أراد شيئاً أن يقول له كن} [يس: 82] أن الله عزّ وجلّ يتكلم بما أراد؛ لا أن يقول: {كن} فقط؛ بل يتكلم بما أراد: كن كذا؛ كن كذا؛ لأن الكلام بكلمة {كن} مجمل؛ ولما قال الله للقلم: «اكتب قال: رب ماذا أكتب؟»(89)؛ فيصير معنى {كن} أي الأمر المستفاد من هذه الصيغة؛ ولكنه يكون أمراً خاصاً؛ فلو كان الله سبحانه وتعالى يريد أن ينزل مطراً؛ لا يقول: {كن} فقط؛ بل يكون بالصيغة التي أراد الله عزّ وجلّ.

10 - ومن فوائد الآية: جواز حذف ما كان معلوماً، وأنه لا ينافي البلاغة؛ وهو ما يسمى عند البلاغيين بإيجاز الحذف؛ لقوله تعالى: { موتوا ثم أحياهم }؛ والتقدير: «فماتوا ثم أحياهم»؛ وهذا كثير في القرآن، وكلام العرب.

11 - ومنها: أنه سبحانه وتعالى يمدح نفسه بما أنعم به على عباده؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أحب إليه المدح من الله»(90)؛ فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُمدح، ويُحمد؛ لأن ذلك صدق، وحق؛ فإنه سبحانه وتعالى أحق من يُثنى عليه، وأحق من يُحمَد؛ وهو سبحانه وتعالى يحب الحق.

12 - ومنها: أن من طبيعة البشر الفرار من الموت؛ لقوله تعالى: { خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت }.

ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يستعد للذي يحذر منه وهو لا يدري متى يفجؤه.

القرآن

)وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:244)

التفسير:

{244 } قوله تعالى: { وقاتلوا } فعل أمر حذف مفعوله للعلم به؛ والتقدير: قاتلوا في سبيل الله الكفار الذين يقاتلونكم، كما في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] .

قوله تعالى: { في سبيل الله } أي في الطريقة الموصلة إليه - وهي شريعته -؛ وهذا يشمل النية، والعمل؛ أما النية فأن يكون الإنسان قاصداً بقتاله أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه؛ أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»(91)؛ وأما العمل فأن يكون جهاده على وفق الشرع.

قوله تعالى: { واعلموا أن الله سميع عليم } أي سميع لأقوالكم؛ عليم بأحوالكم؛ وختم الله هذه الآية بالأمر بعلمنا بأن الله سميع عليم تحذيراً من المخالفة، وترغيباً في الموافقة؛ فنقوم بما أوجب علينا، ونجتنب ما حرم علينا.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الأمر بقتال الكافرين؛ وهو إما فرض عين، أو فرض كفاية، أو مستحب على حسب ما قرره العلماء؛ وقد سبق الكلام عليه عند قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [البقرة: 190] .

2 - ومنها: الأمر بالقتال على وجه الإخلاص لله تعالى بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ لقوله تعالى: { وقاتلوا في سبيل الله }.

3 - ومنها: أنه يحرم على الإنسان أن يقاتل حمية، أو أن يقاتل شجاعة، أو أن يقاتل رياءً؛ لأن إيجاب الإخلاص في القتال يقتضي تحريم القتال لغير ذلك؛ اللهم إلا أن يكون دفاعاً عن النفس فهو مباح؛ بل قد يجب.

فإن قيل: لو قاتل دفاعاً عن وطنه لأنه بلد إسلامي؛ فيقاتل دفاعاً عنه لهذا الغرض؛ فهل يكون قتالاً في سبيل الله؟

فالجواب: نعم؛ لأن نيته أن لا يفرق بين وطنه وغيره إذا كان ذلك لحماية الإسلام.

4 - ومن فوائد الآية: وجوب التمشي في الجهاد على ما تقتضيه الشريعة من طاعة الأمير، والصبر عند اللقاء، ومعاملة الأسرى، وغير ذلك.

5 - ومنها: التحذير من مخالفة الشريعة؛ لقوله تعالى: { واعلموا أن الله سميع عليم }؛ فإن مقتضى ذلك أن نحذر من مخالفته؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.

6 - ومنها: الترغيب في موافقة الشرع؛ فإن ذلك لا يضيع عند الله؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.

7 - ومنها: إثبات هذين الاسمين لله تعالى؛ وهما «السميع» ، و «العليم» ؛ وما تضمناه من صفة، وحُكم؛ وقد سبق تفصيل «السمع» الذي وصف الله عزّ وجلّ به نفسه.
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:41 am من طرف ahmadhamad
الاية 245 الي الاية 251
)مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:245)

التفسير:

{ 245 } قوله تعالى: { فيضاعفه } فيها أربع قراءات؛ الأولى: «يضاعفُه» بمدّ الضاد مع رفع الفاء؛ والثانية؛ بمدّ الضاد مع فتح الفاء؛ والثالثة: «يضَعِّفُه» حذف المد مع تشديد العين، وضم الفاء؛ والرابعة: حذف المد مع تشديد العين، وفتح الفاء؛ ولهذا جاء الرسم صالحاً للقراءات الأربع؛ لأن القرآن أول ما كُتب ليس فيه حركات؛ أما على قراءة فتح الفاء فوجهه أن الفاء السابقة للفعل للسببية؛ والفعل منصوب بـ«أنْ» بعد الفاء السببية؛ لأنه جواب الاستفهام؛ وأما على قراءة الرفع فالفاء السابقة للفعل للاستئناف؛ والفعل مرفوع لتجرده من الناصب والجازم.

قوله تعالى: { من ذا } اسم استفهام؛ أو { من } اسم استفهام، و{ ذا } ملغاة؛ و{ الذي } خبر المبتدأ؛ والمبتدأ { من }؛ وهذا الاستفهام بمعنى التشويق، والحث؛ يعني: أين الذي يقرض الله، فليتقدم.

قوله تعالى: { يقرض الله }؛ «القرض» في اللغة: القطع؛ ومنه: المقراض - وهو المقص قاطع الثياب؛ ومعنى «أقرضت فلاناً» اقتطعت له جزءاً من مالي فأعطيته إياه؛ { يقرض الله } أي يعبده؛ وسميت العبادة قرضاً للمجازاة عليها؛ ويحتمل: أن الله أراد بالإقراض إنفاق المال في سبيله؛ لأنه تعالى لما قال: {قاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 244] - والقتال يكون بالنفس، والمال - قال الله سبحانه وتعالى: { من ذا الذي يقرض الله }؛ وهذا جهاد بالمال.

قوله تعالى: { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة }؛ { أضعافاً } مصدر مبين للنوع؛ لأن مطلق الضعف يكون بواحدة؛ لكن إذا قال تعالى: { أضعافاً } صار أكثر من واحد؛ فيكون مصدراً مبيناً للنوع؛ وقد بيّن الله سبحانه وتعالى هذه الأضعاف بقوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261] .

قوله تعالى: { والله يقبض ويبسط }؛ فيها قراءتان: بالسين؛ وبالصاد؛ و «القبض» هو التضييق؛ وهو ضد البسط؛ و «البسط» هو التوسيع؛ فهو الذي بيده القبض، والبسط؛ ويعم كل شيء؛ فيقبض في الرزق ويبسط؛ وفي العلم؛ وفي العمر؛ وفي كل ما يتعلق في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة.

قوله تعالى: { وإليه ترجعون }: تقديم المعمول: «إليه» له فائدتان؛ فائدة لفظية؛ وفائدة معنوية؛ أما الفائدة اللفظية: فهي توافق رؤوس الآيات؛ وأما الفائدة المعنوية: فهي الحصر - فالمرجع كله إلى الله عزّ وجلّ -؛ لا إلى غيره، كما أن المبدأ كله من الله سبحانه وتعالى.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { من ذا الذي }؛ والاستفهام هنا للحث، والتشويق.

2 - ومنها: أن الجزاء على العمل مضمون كضمان القرض لمقرضه.

3 - ومنها: ملاحظة الإخلاص بأن يكون الإنسان منفقاً ماله لله عزّ وجلّ على سبيل الإخلاص، وطيب النفس، والمال الحلال، ولا يتبع إنفاقه منًّا، ولا أذًى؛ لقوله تعالى: { قرضاً حسناً }؛ فالقرض الحسن هو ما وافق الشرع بأن يكون:

أولاً: خالصاً لله؛ فإن كان رياءً وسمعة، فليس قرضاً حسناً؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»(92).

ثانياً: من مال حلال؛ فإن كان من مال حرام فليس بقرض حسن؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

ثالثاً: نفسه طيبة به؛ لا متكرهاً، ولا معتقداً أنه غُرْم وضريبة، كما يظن بعض الناس أن الزكاة ضريبة - حتى إن بعض الكُتّاب يعبرون بقولهم: ضريبة الزكاة - والعياذ بالله.

رابعاً: أن يكون في محله؛ بأن يتصدق على فقير، أو مسكين، أو في مصالح عامة؛ أما لو أنفقها فيما يغضب الله فإن ذلك ليس قرضاً حسناً.

خامساً: أن لا يتبع ما أنفق منًّا ولا أذًى؛ فإن أتبعه بذلك بطل ثوابه، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .

4 - ومن فوائد الآية: أن فضل الله وعطاءه واسع؛ وأن جزاءه للمحسن جزاء فضل؛ لقوله تعالى: { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } مع أن أصل توفيقه للعمل الصالح فضل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء الأنصار حين ذكروا له فضل الأغنياء عليهم في الصدقات، والعتق: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»(93)؛ وعلى هذا فيكون لله تعالى في توفيق العبد للعمل الصالح فضلان: فضل سابق على العمل الصالح؛ وفضل لاحق - وهو الثواب عليه أضعافاً مضاعفة -؛ وأما جزؤاه للعصاة فهو دائر بين العدل والفضل؛ إن كانت المعصية كفراً فجزاؤها عدل؛ وإن كانت دون ذلك فجزاؤها دائر بين الفضل، والعدل؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] .

5 - ومن فوائد الآية: تمام ربوبية الله عزّ وجلّ، وكمالها؛ لقوله تعالى: { والله يقبض ويبسط }.

6 - ومنها: الإشارة إلى أن الإنفاق ليس هو سبب الإقتار، والفقر؛ لأن ذكر هذه الجملة بعد الحث على الإنفاق يشير إلى أن الإنفاق لا يستلزم الإعدام، أو التضييق؛ لأن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نقصت صدقة من مال»(94)؛ وكم من إنسان أمسك، ولم ينفق في سبيل الله، فسلط الله على ماله آفات في نفس المال، كالضياع، والاحتراق، والسرقة، وما أشبه ذلك؛ أو آفات تلحق هذا الرجل ببدنه، أو بأهله يحتاج معها إلى أموال كثيرة؛ وقد يتصدق الإنسان، وينفق، ويوسع الله له في الرزق.

7 - ومن فوائد الآية: إثبات المعاد، والبعث؛ لقوله تعالى: { وإليه ترجعون }.

8 - ومنها: ترهيب المرء من المخالفة، وترغيبه في طاعة الله؛ لقوله تعالى: { وإليه ترجعون }؛ لأن الإنسان إذا علم أنه راجع إلى ربه لا محالة فإنه لا بد أن يكون فاعلاً لما أُمِر به تاركاً لما نُهي عنه؛ لأنه يخاف من هذا الرجوع.

القرآن

)أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246)

التفسير:

{ 246 } قوله تعالى: { ألم تر }: الخطاب هنا إما للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وخطاب زعيم الأمة خطاب له، وللأمة؛ لأنها تبع له؛ وإما أنه خطاب لكل من يتوجه له الخطاب؛ فيكون عاماً في أصل وضعه؛ الفرق بين المعنيين أن الأول عام باعتبار التبعية للمخاطب به أولاً - وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والثاني عام باعتبار وضعه - يعني: ألم تر أيها المخاطب؛ و{ تر } : هل المراد تنظر؛ أو تسمع؛ أو تعلم؟ الفعل هنا عدِّي بـ{ إلى }؛ وإذا عدِّي بـ«إلى» تعين أن يكون من رؤية العين؛ ولو عدِّي بنفسه لأمكن أن يكون المراد بالرؤية العلم؛ فإذا كان كذلك فإنه يلزم أن يكون المعنى: ألم تر إلى شأن بني إسرائيل؛ لأن من المعلوم أننا نحن - بل والرسول صلى الله عليه وسلم - لم نشاهده؛ ويمكن أن نقول: إنها عديت بـ{ إلى }؛ وهي بمعنى النظر؛ لأن الإخبار بها جاء من عند الله؛ وما كان من عند الله فهو كالمرئي بالعين؛ بل أشد، وأبلغ.

والاستفهام هنا الظاهر أنه للتشويق - يعني يشوقنا أن ننظر إلى هذه القصة لنعتبر بها -؛ لأن التقرير إنما يكون في أمر كان معلوماً للمخاطب؛ فيُقَرَّر به، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] ؛ وأما هذا فهو أمر ليس معلوماً للمخاطب إلا بعد أن يخبر به؛ فيكون هنا للتشويق، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} [الصف: 10] ، وقوله تعالى: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1] ، وما أشبهها؛ أما لو كان يخاطب من كان عالماً بها لقلنا: إن الاستفهام للتقرير.

قوله تعالى: { الملأ من بني إسرائيل } أي الأشراف منهم؛ { من بعد موسى }: لما بين قبيلتهم ذكر زمنهم، وأنهم بعد موسى - وهو نبي الله موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم -؛ وهو أفضل أنبياء بني إسرائيل.

قوله تعالى: { إذ قالوا لنبي لهم }؛ «إذ» ظرف مبني على السكون في محل نصب؛ أي حين قالوا لنبي لهم؛ وفي «نبي» قراءتان: بالهمز، وبالياء المشددة؛ وسبق توجيههما؛ ومعنى النبوة.

إذا قال قائل: من هذا النبي؟ قلنا: إن الله سبحانه وتعالى أبهمه؛ ولو كان في معرفة اسمه فائدة لكان الله عزّ وجلّ يبيّن اسمه لنا؛ لكن ليس لنا في ذكر اسمه فائدة؛ المهم أنه نبي من الأنبياء.

قوله تعالى: { ابعث لنا ملكاً } أي مُرْ لنا بملك، أو أقم لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ وكان أمرهم في ذلك الوقت فوضوي ليس عندهم ملك يدبر أمورهم، ويدبر شؤونهم؛ والناس إذا كان ليس لهم ولي أمر صار أمرهم فوضى، كما قيل:

(لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم .............)

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم القوم إذا سافروا أن يؤمِّروا أحدهم عليهم(95) حتى لا تكون أمورهم فوضى.

قوله تعالى: { نقاتل في سبيل الله }؛ «نقاتل» بالجزم جواباً للأمر «ابعث» ؛ وهذا يدل على عزمهم على القتال إذا بعَث إليهم ملكاً؛ وسبق معنى «في سبيل الله»، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرها بأحسن تفسير؛ وهو «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا»(96).

فقال لهم نبيهم يريد أن يختبرهم، وينظر عزيمتهم: { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا }؛ «عسيتم» فيها قراءتان: بفتح السين، وكسرها؛ وهي هنا للتوقع؛ فيكون المعنى: هل يتوقع منكم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟

وقوله تعالى: { إن كتب عليكم } جملة شرطية معترضة بين اسم «عسى»، وخبرها؛ فاسم «عسى» الضمير: التاء؛ و{ ألا تقاتلوا } خبرها؛ وجملة { إن كتب عليكم القتال } الشرطية جوابها محذوف؛ وقد نقول: إنها لا تحتاج إلى جواب لعلمه من السياق.

وقوله تعالى: { إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا }، أي إن فرض عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ فكان جوابهم أن قالوا: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }.

قوله تعالى: { وما لنا ألا نقاتل }؛ «أن» مصدرية؛ والمعنى: أي مانع لنا يمنعنا من القتال في سبيل الله وقد وجِد مقتضي ذلك؛ وهو قولهم: { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ والإنسان إذا أُخرج من داره، وبنيه فلا بد أن يقاتل لتحرير البلاد، وفكّ الأسرى.

وقوله تعالى: { وقد أخرجنا ... } جملة حالية في محل نصب.

قوله تعالى: { فلما كتب عليهم القتال تولوا }: هم طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله، ولما استثبت نبيهم منهم قالوا: إنا عازمون على ذلك، وثابتون عليه؛ ولكن لما كتب عليهم القتال، وفرض عليهم { تولوا }، فصار ما توقعه نبيهم حقاً أنهم لن يقاتلوا؛ و{ تولوا } أي أعرضوا عن هذا الغرض، ولم يقوموا به.

قوله تعالى: { إلا قليلًا منهم }: «القليل» ما دون الثلث؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الثلث كثير»(97)؛ وهي منصوبة على الاستثناء.

قوله تعالى: { والله عليم بالظالمين }؛ ومقتضى علمه بهم أن يجازيهم على ظلمهم؛ والظلم هنا ليس لفعل محرم؛ ولكنه لترك واجب؛ لأن ترك الواجب كفعل المحرم؛ فيه ظلم للنفس، ونقص من حقها.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الحث على النظر، والاعتبار؛ لقوله تعالى: { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل }.

2 - ومنها: أن في هذه القصة عبراً لهذه الأمة، حيث إن هؤلاء القوم الذين كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم.

3 - ومنها: تحذير هذه الأمة عن التولي عن القتال إذا كتب عليهم.

4 - ومنها: أنه لا بد للجيوش من قائد يتولى قيادتها؛ لقولهم: { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله }.

5 - ومنها: أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الملك؛ لقولهم: { ابعث لنا ملكاً } يخاطبون النبي؛ فالنبي له السلطة أن يبعث لهم ملكاً يتولى أمورهم ويدبرهم.

6 - ومنها: إذا طلب الإنسان شيئاً من غيره أن يذكر ما يشجعه على إجابة الطلب؛ لقولهم: { نقاتل في سبيل الله }؛ فإن هذا يبعث النبي ويشجعه على أن يبعث لهم الملك.

7 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }.

8 - ومنها: امتحان المخاطَب بما طلب فعله، أو إيجادَه من غيره: هل يقوم بما يجب عليه نحوه، أم لا؛ لقوله تعالى: { هل عسيتم إن كتب القتال ألا تقاتلوا }.

9 - ومنها: أن الإنسان بفطرته يكون مستعداً لقتال من قاتله؛ لقولهم: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ ولهذا تجد الجبان إذا حُصر يأتي بما عنده من الشجاعة، ويكون عنده قوة للمدافعة.

10 - ومنها: أن من مبيحات القتال إخراج الإنسان من بلده، وأهله ليرفع ظلم الظالمين؛ لقولهم: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ لكن لو كان إخراجهم بحق - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بني النضير(98) - فلا حق لهم في المقاتلة، أو المطالبة - ولو أسلموا -؛ لأن الله أورث المسلمين أرضهم، وديارهم، وأموالهم؛ والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين؛ قال الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] .

11 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان قد يظن أنه يستطيع الصبر على ترك المحظور، أو القيام بالمأمور؛ فإذا ابتُلي نكص؛ لقوله تعالى: { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم } مع أنهم كانوا في الأول متشجعين على القتال.

12 - ومنها: الإشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية؛ فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»(99)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينأ عنه؛ فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات»(100)؛ ويشبه هذا أن بعض الناس ينذرون النذر وهم يظنون أنهم يوفون به؛ ثم لا يوفون به، كما في قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين*فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [التوبة: 7، 76] .

13 - ومن فوائد الآية: أن البلاء موكل بالمنطق؛ لأنه قال لهم: { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا}؛ فكان ما توقعه نبيهم واقعاً؛ فإنهم لما كتب عليهم القتال تولوا.

14 - ومنها: أن بعض السؤال يكون نكبة على السائل، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101] .

15 - ومنها: وجوب القتال دفاعاً عن النفس؛ لأنهم لما قالوا: { وقد أخرجنا } قال تعالى: { فلما كتب عليهم القتال } أي فرض عليهم؛ ليدافعوا عن أنفسهم، ويحرروا بلادهم من عدوهم؛ وكذلك أبناءهم من السبي.

16 - ومنها: تحذير الظالم من الظلم - أيَّ ظلم كان -؛ لقوله تعالى: { والله عليم بالظالمين }؛ فإن هذه الجملة تفيد الوعيد والتهديد للظالم.

17 - ومنها: تحريم الظلم لوقوع التهديد عليه.

18 - ومنها: أن ترك الواجب من الظلم؛ لقوله تعالى: { تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين } أي المتولين الذين فرض عليهم القتال، ولم يقوموا به؛ فدل ذلك على أن الظلم ينقسم إلى قسمين: إما فعل محرم؛ وإما ترك واجب.

القرآن

)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:247)

التفسير:

{ 247 } قوله تعالى: { وقال لهم نبيهم } بتشديد الياء؛ وفي قراءة: «نبيئهم» بالهمز.

قوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً }؛ { طالوت } علَم على المبعوث؛ و{ ملكاً } حال من { طالوت }؛ و «الملِك» هو الذي له التدبير الذي لا ينازَع فيه؛ ولكنه بالنسبة للمخلوق بحسب ما تقتضيه الولاية الشرعية، أو العرفية.

قوله تعالى: { قالوا } أي معترضين على هذا { أنى } بمعنى الاستفهام الإنكاري { يكون له الملك علينا }.

ثم قالوا معززين لاستبعادهم هذا الشيء: { ونحن أحق بالملك منه }؛ كأنهم يرون أن الملِك لا يكون إلا كابراً عن كابر، وأن هذا لم يسبق لأحد من آبائه أنه تولى الملْك بخلافنا نحن؛ فإن الملوك كانوا منا؛ فكيف جاءه الملك؟! أيضاً { ولم يؤت سعة من المال }: فهو فقير؛ وقد يقال: إنه ليس بفقير؛ لكن ليس عنده مال واسع؛ وفرق بين الفقير المعدم، وبين من يجد، ولكن ليس ذا سعة - يعني ليس غنياً ننتفع بماله -، ويدبرنا بماله، ويحصّل الجيوش، والجنود بماله؛ فذكروا علتين؛ إحداهما: من حيث التوسط في مجتمعه؛ والثانية: من حيث المال؛ إذاً فَقَدَ القوة الحسبية، والقوة المالية؛ قالوا: هذا الرجل ليس عنده حسب؛ فليس من أبناء الملوك؛ وليس عنده مال؛ فليس من الأثرياء الذين يُخضعون الناس بأموالهم.

وجملة: { ونحن أحق بالملك منه } في موضع نصب على الحال؛ وتأمل قول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم طالوت } حيث عبر باللام الدالة على أنه هذا الملِك بُعث لمصلحتهم؛ وبين قولهم: { أنى يكون له الملك علينا } حيث أومؤوا إلى أن بعثه للسيطرة عليهم.

جواب نبيهم: { قال إن الله اصطفاه عليكم }؛ أي اختاره عليكم؛ وأصلها من: الصفوة؛ فيكون أصل «اصطفاه» اصتفاه - بتاء الافتعال؛ ولكنها قلبت طاءً لعلة تصريفية.

وقوله هنا: { اصطفاه عليكم }؛ وفي الأول قال: { إن الله قد بعث لكم } إشارة إلى أنه تعالى فضَّله عليهم، فاختاره؛ لأنه أفضل منهم؛ فهو مفضل عليهم لما أعطاه الله مما سيُذكر.

قوله تعالى: { وزاده بسطة } أي سعة، كقوله تعالى: {والله يقبض ويبسط} [البقرة: 245] ، وقوله تعالى: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26] .

قوله تعالى: { في العلم والجسم }؛ المراد بـ { العلم } علم تدبير الملْك؛ فعنده الحنكة، والرأي ما جعله مختاراً عليهم من قبل الله عزّ وجلّ؛ أيضاً زاده بسطة في الجسم؛ وهي القوة، والضخامة، والشجاعة؛ فاجتمع في حقه القوتان: المعنوية - وهي العلم؛ والحسية - وهي أن الله زاده بسطة في الجسم.

قوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشاء } أي يعطي ملكه من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته، كما قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26] .

قوله تعالى: { والله واسع } أي ذو سعة في جميع صفاته؛ واسع في علمه، وفضله، وكرمه، وقدرته، وقوته، وإحاطته بكل شيء، وجميع صفاته، وأفعاله؛ و{ عليم } أي ذو علم بكل شيء؛ ومنه العلم بمن يستحق أن يكون ملكاً، أو غيرَه من الفضل الذي يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن نبيهم وافقهم على أن يبعث إليهم ملِكاً ليقاتلوا في سبيل الله؛ فدعا الله عزّ وجلّ، فاستجاب له.

2 - ومنها: كمال تعظيم الأنبياء لله تعالى، وحسن الأدب معه؛ لقول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً }؛ ولم يقل: إني بعثت.

3 - ومنها: أن أفعال العباد مخلوقة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم }.

4 - ومنها: إسناد الفضل إلى أهله؛ لقوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم }.

5 - ومنها: أن الله قد يعطي المُلك من لا يترقبه - لكونه غير وجيه، ولا من سلالة الملوك.

6 - ومنها: اختيار الألفاظ التي يكون بها إقناع المخاطَب، وتسليمه للأمر الواقع؛ لقول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم }؛ فإنه أبلغ في الإقناع، والتسليم من قوله: إني بعثت لكم.

7 - ومنها: أن المعترض يذكر وجه اعتراضه لمخاطبه؛ لقولهم: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال }.

8 - ومنها: أن استفهام هؤلاء القوم يحتمل أن يكون المراد به الاعتراض؛ ويحتمل أن يراد به الاستكشاف، والبحث عن السبب بدون اعتراض: كيف كان ملكاً ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ فإن كان الأول فإن حالهم تقتضي الذم؛ لأنهم كيف يعترضون وهم الذين طلبوا أن يبعث لهم ملكاً!!! وإن كان الثاني فلا اعتراض عليهم، ولا لوم عليهم.

9 - ومنها: أن المجيب يختار ما يكون به الإقناع بادئاً بالأهم فالأهم؛ لقول نبيهم في جوابه: { إن الله اصطفاه عليكم... } إلخ؛ فبدأ بذكر ما لا جدال فيه - وهو اصطفاء الله عليهم -؛ ثم ذكر بقية المؤهلات: وهي أن الله زاده بسطة في العلم، وتدبير الأمة، والحروب، وغير ذلك، وأن الله زاده بسطة في الجسم: ويشمل القوة، والطول...؛ وأن الله عزّ وجلّ هو الذي يؤتي ملكه من يشاء، وفعله هذا لابد وأن يكون مقروناً بالحكمة: فلولا أن الحكمة تقتضي أن يكون طالوت هو الملك ما أعطاه الله عزّ وجلّ الملك؛ وأن الله واسع عليم: فهو ذو الفضل الذي يمده إلى من يشاء من عباده؛ فله أن يتفضل على من يشاء؛ الله أعلم حيث يجعل رسالته؛ والله أعلم أيضاً حيث يجعل ولايته.

10 - ومن فوائد الآية: أن الملك تتوطد أركانه إذا كان للإنسان مزية في حسبه، أو نسبه، أو علمه، أو قوته؛ يؤخذ هذا أولاً من قولهم: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال }؛ وثانياً من قوله: { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم }.

11 - ومنها: بيان أن تقدير الله عزّ وجلّ فوق كل تصور؛ لقوله تعالى: { إن الله اصطفاه عليكم } مع أنهم قَدَحوا فيه من وجهين: أنهم أحق بالملك منه، وأنه فقير؛ فبيّن نبيهم أن الله اصطفاه عليكم بما تقتضيه الحكمة.

12 - ومنها: أنه كلما كان ولي الأمر ذا بسطة في العلم، وتدبير الأمور، والجسم، والقوة كان أقوَم لملكه، وأتم لإمرته؛ لقوله تعالى: { وزاده بسطة في العلم والجسم }.

13 - ومنها: أن ملك بني آدم مُلك لله؛ لقوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشاء }؛ فهذا المَلِك في مملكته هو في الحقيقة ما مَلَكَ إلا بإذن الله عزّ وجلّ؛ فالمُلْك لله سبحانه وتعالى وحده يؤتيه من يشاء.

14 - ومنها: أن ملكنا لما نملكه ليس ملكاً مطلقاً نتصرف فيه كما نشاء؛ بل هو مقيد بما أذن الله به؛ ولهذا لا نتصرف فيما نملك إلا على حسب ما شرعه الله؛ فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ملكه كما يشاء - يتلفه ويحرقه، ويعذبه إذا كان حيواناً - فليس له ذلك؛ لأن ملكه تابع لملك الله سبحانه وتعالى.

15 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { من يشاء }؛ ومشيئته تعالى تابعة لحكمته؛ لقوله عزّ وجلّ: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .

16 - ومنها: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تقع بمشيئته لا مكره له؛ لأنه المهيمن على كل شيء.

17 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله - وهما { واسع }، و{ عليم }، وما تضمناه من وصف، أو حكم.

18 - ومنها: إثبات سعة الله عزّ وجلّ في إحاطته، وصفاته، وأفعاله.

القرآن

)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:248)

التفسير:

{ 248 } قوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت }؛ { آية } يعني علامة، كما قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197] يعني علامة تدل على أنه حق.

قوله تعالى: { أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم }؛ { أنْ }، وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر { إنّ}؛ و{ التابوت } شيء من الخشب، أو من العاج يشبه الصندوق؛ ينزل، ويصطحبونه معهم، وفيه السكينة - يعني أنه كالشيء الذي يسكنهم، ويطمئنون إليه -؛ وهذا من آيات الله.

قوله تعالى: { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } وهم الأنبياء تركوا العلم، والحكمة؛ لأن الأنبياء لم يورِّثوا درهماً، ولا ديناراً؛ وإنما ورثوا العلم؛ فهذا التابوت كان مفقوداً، وجاء به هذا الملِك الذي بعثه الله لهم، وصار معهم يصطحبونه في غزواتهم فيه السكينة من الله سبحانه وتعالى: أنهم إذا رأوا هذا التابوت سكنت قلوبهم، وانشرحت صدورهم؛ وفيه أيضاً مما ترك آل موسى، وآل هارون - عليهما الصلاة والسلام - من العلم، والحكمة.

وقوله تعالى: { آل موسى وآل هارون }؛ خص موسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -، لأنهما جاءا برسالة واحدة.

وقوله تعالى: { تحمله الملائكة }: الجملة حال من { التابوت }؛ و{ الملائكة } عالم غيبي خلقوا من نور؛ وسبق الكلام مبسوطاً في أحوالهم(101).

قوله تعالى: { إن في ذلك لآية } بالنصب اسم { إن } مؤخراً؛ والمشار إليه: «التابوت تحمله الملائكة، وفيه سكينة من الله، وبقية مما ترك آل موسى، وآل هارون».

قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين } أي ذوي إيمان.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث يؤيد الأمور بالآيات لتقوم الحجة؛ لقوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه }؛ ولو شاء الله عزّ وجلّ لفعل ما يفعل بدون آية، وانتقم من المكذبين، والمستكبرين؛ ولكن من رحمته عزّ وجلّ أنه يبعث بالآيات حتى تطمئن القلوب، وحتى تقوم الحجة؛ ولهذا ما من رسول أرسل إلا أوتي ما على مثله يؤمن البشر؛ وحصول الآيات حكمة ظاهرة؛ لأنه لو خرج رجل من بيننا، وقال: أنا رسول الله إليكم: «افعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه؛ وإلا فإن دماءكم وأموالكم حلال لي»؛ فإنه لا يطاع؛ ولكن من رحمة الله عزّ وجلّ، وحكمته أن جعل للرسل آيات حتى تقوم الحجة، ويستجيب الناس.

2 - ومن فوائد الآية: ما في التابوت من الآيات العظيمة، حيث كان هذا التابوت مشتملاً على ما تركه آل موسى، وآل هارون من العلم، والحكمة من وجه؛ وكان أيضاً سكينة للقوم تسكن إليه نفوسهم، وقلوبهم، ويزدادون قوة في مطالبهم.

3 - ومنها: أن للسكينة تأثيراً على القلوب؛ لقوله تعالى: { فيه سكينة من ربكم }؛ وتأمل كيف أضافه إلى ربوبيته إشارة إلى أن في ذلك عناية خاصة لهؤلاء القوم؛ والسكينة إذا نزلت في القلب اطمأن الإنسان، وارتاح، وانشرح صدره لأوامر الشريعة، وقَبِلها قبولاً تاماً.

4 - ومنها: إثبات الملائكة؛ لقوله تعالى: { تحمله الملائكة }؛ وفي قوله تعالى: { الملائكة } دليل على أن التابوت كبير.

5 - ومنها: أن الآيات إنما ينتفع بها المؤمن؛ لقوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }.

6 - ومنها: تأكيد الشيء بأدوات التأكيد، والتكرار؛ وهنا في هذه الآية اجتمع التكرار، والأدوات؛ فقوله تعالى: { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت }، ثم قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم }: فهذا أكد بالتكرار؛ وأكد أيضاً بـ{ إن }، واللام: { إن في ذلك لآية لكم }: فهذا أكد بالأدوات.

7 - ومنها: فضيلة الإيمان، وأن الإيمان أكبر ما يكون تأثيراً في الانتفاع بآيات الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }.

8 - ومنها: أن الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم.

9 - ومنها: أن الملائكة أجسام؛ لقوله تعالى: { تحمله الملائكة }؛ وأما قول من يقول: إنهم عقول فقط؛ أو أنهم أرواح، وليس لهم أجسام فقول ضعيف؛ بل باطل؛ لأن الله تعالى يقول: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [فاطر: 1] ؛ والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على خلقته - أو على صورته - التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق(102).

القرآن

)فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249)



التفسير:

{ 249 } قوله تعالى: { فلما فصل طالوت بالجنود } أي مشى بهم، وانفصل عن مكانه؛ و «الجنود» جمع «جند»؛ وهم الجيش المقاتلون؛ وكان طالوت رجلاً ذكياً عاقلاً؛ لأن الله زاده بسطة في العلم، والجسم؛ وكان عنده علم بأحوالهم من قبل؛ وأنه لما كُتب عليهم القتال بين لهم أن الله مبتليهم بنهر؛ والنهر هو الماء الجاري الكثير؛ فابتلاهم الله عزّ وجلّ بهذا النهر؛ أولاً: ليعلم من يصبر، ومن لا يصبر؛ لأن الجهاد يحتاج إلى معاناة، وصبر؛ ثانياً: ليعلم من يطيع ممن لا يطيع؛ ولهذا قال لهم الملك طالوت: { إن الله مبتليكم بنهر } أي مختبركم به.

قوله تعالى: { فمن شرب منه } أي كثيراً { فليس مني } أي فإني منه بريء؛ لأنه ليس على منهجي؛ {ومن لم يطعمه } أي لم يشرب منه شيئاً { فإنه مني } أي على طريقي، ومنهجي؛ { إلا من اغترف غرفة بيده } أي شرب قليلاً مغترفاً بيده - لا بيديه -.

قوله تعالى: { فشربوا منه } أي شرباً كثيراً { إلا قليلاً منهم } فلم يشرب كثيراً؛ وقد قيل: إن عددهم ثمانون ألفاً؛ شرب منهم ستة وسبعون ألفاً؛ فالله أعلم.

قوله تعالى: { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } أي فلما تعداه طالوت، والذين آمنوا معه؛ ولا يلزم أن يكونوا عبروا من فوقه؛ { قالوا } أي الذين جاوزوه؛ والمراد بعضهم بدليل قوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله... } إلخ؛ { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } أي لا قدرة لنا؛ و «أل» للعهد الحضوري - أي: هذا اليوم -؛ يعنون به اليوم الذي شاهدوا فيه عدوهم؛ { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} أي يوقنون بذلك؛ لأن «الظن» يراد به اليقين أحياناً، كما في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 45، 46] أي يوقنون به.

قوله تعالى: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة }: { كم } للتكثير، أي ما أكثر ما تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة.

قوله تعالى: { بإذن الله } أي بقدره؛ { والله مع الصابرين } أي بالنصر، والتأييد.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أنه ينبغي للقائد أن يتفقد جنوده؛ لقوله تعالى: { فصل طالوت بالجنود } أي مشى بهم، وتدبر أحوالهم، ورتبهم.

2 - ومنها: أنه يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب سواء كان مخذلاً، أو مرجفاً، أو ملحداً؛ لقوله تعالى: { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده }؛ والفرق بين المخذل، والمرجف، أن المخذِّل هو الذي يخذل الجيش، ويقول: ما أنتم بمنتصرين؛ والمرجف هو الذي يخوف من العدو، فيقول: العدو أكثر عدداً، وأقوى استعداداً... وما أشبه ذلك.

3 - ومنها: أن من الحكمة اختيار الجند؛ ليظهر من هو أهل للقتال، ومن ليس بأهل؛ ويشبه هذا ما يصنع اليوم، ويسمى بالمناورات الحربية؛ فإنها عبارة عن تدريب، واختيار للجند، والسلاح: كيف ينفذون الخطة التي تعلَّموها؛ فيجب أن نختبر قدرة الجند على التحمل، والثبات، والطاعة؛ والأساليب الحربية مأخوذة من هذا؛ ولكنها متطورة حسب الزمان.

4 - ومنها: أن طالوت امتحنهم على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: من شرب من النهر كثيراً؛ فهذا قد تبرأ منه.

الوجه الثاني: من لم يشرب شيئاً؛ فهذا من طالوت - أي من جنوده المقربين -.

الوجه الثالث: من شرب منه غرفة بيده؛ فهذا لم يتبرأ منه؛ وظاهر الآية أنه مثل الوجه الثاني.

وهذا الابتلاء أولاً ليعلم به من يصبر على المشقة ممن لا يصبر؛ فهو كالترويض والتمرين على الصبر؛ ثانياً: ليعلم به من يمتثل أوامر القائد، ومن لا يمتثل.

5 - ومن فوائد الآية: أن أكثر عباد الله لا ينفذ أمر الله؛ لقوله تعالى: { فشربوا منه إلا قليلاً منهم }؛ وهذا أمر يشهد به الحال. قال الله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] ؛ وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116] ؛ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من بني آدم تسعُمائة وتسعةٌ وتسعون من الألف(103)؛ فالطائع قليل، والمعاند كثير.

6 - ومنها: جواز إخبار الإنسان بالواقع إذا لم يترتب عليه مفسدة؛ لأنهم قالوا: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ وقد يقال: إن هذا لا تدل عليه الآية؛ وأن فيها دليلاً على أن الجبان في ذُعر دائم، ورعب؛ لقولهم: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }.

7 - ومنها: أن الإيمان موجب للصبر، والتحمل؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }.

8 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده إما بفوات محبوب؛ أو حصول مكروه؛ ليعلم سبحانه وتعالى صبرهم؛ ولهذا نظائر؛ منها ما قصه سبحانه عن بني إسرائيل حين حرم عليهم صيد الحوت في يوم السبت؛ فكانت الحيتان تأتي يوم السبت شُرَّعاً؛ وفي غير يوم السبت لا يرون شيئاً؛ فصنعوا حيلة؛ وهي أنهم وضعوا شباكاً في يوم الجمعة؛ فإذا جاءت الحيتان يوم السبت دخلت في هذا الشباك، ثم نشبت فيه؛ فإذا كان يوم الأحد استخرجوها منه؛ فكان في ذلك حيلة على محارم الله؛ ولهذا انتقم الله منهم؛ ووقع ذلك أيضاً للصحابة - رضوان الله عليهم - وهم في حال الإحرام: فابتلاهم الله بصيد تناله أيديهم، ورماحهم؛ ولكنهم رضي الله عنهم امتنعوا عن ذلك؛ وهؤلاء - أعني أصحاب طالوت - ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بهذا النهر، وكانوا عطاشاً، فقال لهم نبيهم: { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده }.

9 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ عند الابتلاء يرحم الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم؛ لقوله تعالى هنا: { إلا من اغترف غرفة بيده }؛ لأنهم لا بد أن يشربوا للنجاة من الموت.

10 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { فمن شرب }، وقوله تعالى: { إلا من اغترف }، حيث أضاف الفعل إليهم.

11 - ومنها: أن القليل من الناس هم الذين يصبرون عند البلوى؛ لقوله تعالى: { فشربوا منه إلا قليلاً منهم}.

12 - ومنها: أن من الناس من يكون مرجفاً، أو مخذِّلاً؛ لقوله تعالى: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ هؤلاء مخذِّلون؛ وفي نفس الوقت أيضاً مرجفون.

13 - ومنها: أن اليقين يحمل الإنسان على الصبر، والتحمل، والأمل، والرجاء؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }؛ مع اليقين قالوا هذا القول لغيرهم لما قال أولئك: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ فردوا عليهم.

14 - ومنها: إثبات ملاقاة الله؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله }، كما قال تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6] .

15 - ومنها: أن الظن يأتي في محل اليقين؛ بمعنى أنه يستعمل الظن استعمال اليقين؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله }.

16 - ومنها: أنه قد تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة بإذن الله؛ وهذا قد وقع فيما سبق من الأمم، ووقع في هذه الأمة مثل غزوة «بدر»؛ وقد تُغلَب الفئة الكثيرة، وإن كان الحق معها، كما في غزوة «حنين»؛ لكن لسبب.

17 - ومنها: أن الوقائع، والحوادث لا تكون إلا بإذن الله؛ وهذا يشمل ما كان من فعله تعالى؛ وفعل مخلوقاته؛ لقوله تعالى: { بإذن الله }.

18 - ومنها: إثبات الإذن لله سبحانه وتعالى؛ وهو ينقسم إلى قسمين: إذن كوني؛ وإذن شرعي؛ ففي هذه الآية: إذن كوني؛ وفي قوله تعالى: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] : هذا شرعي؛ وفي قوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21] هذا شرعي أيضاً.

19 - ومنها : فضيلة الصبر؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }.

20 - ومنها: إثبات المعية لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }؛ فإن قلت: هذه الآية ظاهرها تخصيص معية الله بالصابرين مع أنه في آيات أخرى أثبت معيته لعموم الناس؛ فقال تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] ؛ هذا عام، وقال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7] ؛ فالجواب: أن هذه المعية خاصة تقتضي الإثابة، والنصر، والتأييد؛ وتلك معية عامة تقتضي الإحاطة بالخلق علماً، وسمعاً، وبصراً، وسلطاناً، وغير ذلك من معاني ربوبيته؛ والمعية التي أضافها الله إلى نفسه منها ما يقتضي التهديد؛ ومنها ما يقتضي التأييد؛ ومنها ما هو لبيان الإحاطة، والشمول؛ فمثال الذي يقتضي التأييد قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ، وقوله تعالى لموسى، وهارون: {إني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] ، وقوله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] ؛ ومثال الذي يقتضي التهديد قوله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [النساء: 108] ؛ ومثال ما يقتضي الإحاطة قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] .

فإن قلت: ما الجمع بين إثبات المعية لله عزّ وجلّ، وإثبات العلوّ له؟.

فالجواب: أنه لا تناقض بينهما؛ إذ لا يلزم من كونه معنا أن يكون حالاًّ في الأمكنة التي نحن فيها؛ بل هو معنا وهو في السماء، كما نقول: القمر معنا، والقطب معنا، والثريا معنا، وما أشبه ذلك مع أنها في السماء.

21 - ومن فوائد الآية: الترغيب في الصبر؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }؛ والصبر ثلاثة أنواع:

الأول: صبر على طاعة الله : بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة، فيقوم بها من غير ملل، ولا ضجر.

الثاني: الصبر عن محارم الله: بأن يحبس نفسه عما حرم الله عليه من قول، أو عمل.

الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: بأن يحبس نفسه عن التسخط على ما يقدره الله من المصائب العامة، والخاصة.

وأعلاها الأول، ثم الثاني، ثم الثالث.



القرآن

)وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:250)

التفسير:

{ 250 } قوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده } أي ظهر طالوت، وجنوده؛ مأخوذ من «البراز» - وهي الأرض الواسعة البارزة الظاهرة.

قوله تعالى: { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً }: إفراغ الشيء على الشيء يدل على عمومه له؛ والمعنى املأ قلوبنا، وأجسادنا صبراً حتى نثبت.

قوله تعالى: { وثبت أقدامنا } يعني اجعلها ثابتة لا تزول: فلا نفر، ولا نهرب؛ وربما يراد بـ «الأقدام» ما هو أعم من ذلك؛ وهو تثبيت القلوب أيضاً.

قوله تعالى: { وانصرنا على القوم الكافرين } أي قوِّنا عليهم حتى نغلبهم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن من تمام العبودية أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد؛ لقوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً }.

2 - ومنها: أن التجاء الإنسان إلى الله عند الشدائد سبب لنجاته، وإجابة دعوته، لقوله تعالى بعد ذلك: { فهزموهم بإذن الله } [البقرة: 251] ؛ وأما اعتماد الإنسان على نفسه، واعتداده بها فسبب لخذلانه، كما قال تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} [التوبة: 25] ؛ وهذا مشهد عظيم في الواقع؛ فإن كثيراً من الناس إذا أعطاه الله سبحانه وتعالى نعمة في بدنه، أو ماله، أو أهله يرى أن ذلك من حوله، وقوته، وكسبه؛ وهذا خطأ عظيم؛ بل هو من عند الله؛ هو الذي منّ به عليك؛ فانظر إلى الأصل - لا إلى الفرع -؛ والنظر إلى الفرع، وإهمال الأصل سفه في العقل، وضلال في الدين؛ ولهذا يجب عليك إذا أنعم الله عليك بنعمة أن تثني على الله بها بلسانك، وتعترف له بها في قلبك، وتقوم بطاعته بجوارحك.

3 - ومن فوائد الآية: اضطرار الإنسان إلى ربه في تثبيت قدمه على طاعة الله؛ لقوله تعالى: { وثبت أقدامنا}.

4 - ومنها: ذكر ما يكون سبباً للإباحة؛ لقوله تعالى: { وانصرنا على القوم الكافرين }؛ لم يقولوا: على أعدائنا؛ كأنهم يقولون: انصرنا عليهم من أجل كفرهم؛ وهذا في غاية ما يكون من البعد عن العصبية، والحمية؛ يعني ما طلبنا أن تنصرنا عليهم إلا لأنهم كافرون.

القرآن

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251)

التفسير:

{ 251 } قوله تعالى: { فهزموهم } أي غلبوهم { بإذن الله } أي بتقديره؛ فالإذن هنا كوني.

قوله تعالى: { وقتل داود جالوت }؛ داود كان من جنود طالوت؛ لكنه عليه الصلاة والسلام كان قوياً شجاعاً؛ يقال: إن جالوت طلب البراز؛ لأن جالوت قائد جبار عنيد قوي؛ فخرج إليه داود، فقتله؛ وقد ذكروا في كيفية قتله ما لا حاجة إلى ذكره، ولا سند صحيح في إثباته؛ وليس لنا في كيفية قتله كبير فائدة؛ ولذا لم يصف الله تعالى لنا القتل؛ فالمقصود قتله، وقد حصل؛ وإذا قُتل - وهو القائد - انهزم الجنود.

قوله تعالى: { وآتاه الله } ضمير المفعول به يعود إلى { داود }؛ أي أعطاه الله { الملك } فصار ملكاً؛ وآتاه { الحكمة } فصار رسولاً؛ واجتمع له ما به صلاح الدين، والدنيا: الشرع، والإمارة.

قوله تعالى: { وعلمه مما يشاء } أي من الذي يشاؤه؛ ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80] .

قوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }؛ { دفع } بفتح الدال، وإسكان الفاء؛ وفي قراءة: «دفاع» بكسر الدال، وفتح الفاء، وألف بعدها؛ وهما سبعيتان؛ و{ دفع } مصدر مضاف إلى فاعله؛ و{ الناس } مفعول به؛ و{ بعضهم } بدل منه؛ و{ ببعض } متعلق بـ{ دفع }؛ وخبر المبتدأ محذوف تقديره: موجود؛ يعني: لولا أن دفع الله الناس بعضهم ببعض موجود لفسدت الأرض.

وقوله تعالى: { لفسدت الأرض } جواب «لولا»؛ و «الفساد» ضد «الصلاح»؛ ومن أنواعه ما ذكره الله تعالى بقوله: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40] .

قوله تعالى: { ولكن الله ذو فضل على العالمين } أي صاحب فضل؛ و «الفضل» هو العطاء الزائد الواسع الكثير؛ { على العالمين } أي جميع الخلق؛ وسموا عالماً؛ لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن مَنْ صَدَق اللجوء إلى الله، وأحسن الظن به أجاب الله دعاءه.

2 - ومنها: أنه يجب على المرء إذا اشتدت به الأمور أن يرجع إلى الله عزّ وجلّ.

3 - ومنها: إضافة الحوادث إلى الله عزّ وجلّ - وإن كان من فعل الإنسان؛ لقوله تعالى: { فهزموهم }: هذا فعلهم - لكن { بإذن الله }؛ فالله هو الذي أذن بانتصار هؤلاء، وخذلان هؤلاء.

4 - ومنها: شجاعة داود - عليه الصلاة والسلام -، حيث قتل جالوت حين برز لهم؛ والشجاعة عند المبارزة لها أهمية عظيمة؛ لأنه إذا قُتِل المبارِز أمام جنده فلا شك أنه سيجعل في قلوبهم الوهن، والرعب؛ ويجوز في هذه الحال أن يخدع الإنسان من بارزه؛ لأن المقام مقام حرب؛ وكل منهما يريد أن يقتل صاحبه؛ فلا حرج أن يخدعه؛ ويُذكر أن عمرو بن ودّ لما خرج لمبارزة علي بن أبي طالب صاح به عليّ، وقال: «ما خرجت لأبارز رجلين»؛ فظن عمرو أن أحداً قد لحقه، فالتفت، فضربه علي(104)؛ هذه خدعة؛ ولكنها جائزة؛ لأن المقام مقام حرب؛ هو يريد أن يقتله بكل وسيلة.

5 - ومن فوائد الآية: أن داود - عليه الصلاة والسلام - أوتي الملك، والنبوة؛ لقوله تعالى: { وآتاه الله الملك والحكمة }.

6 - ومنها: أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ليس عندهم من العلم إلا ما علمهم الله؛ لقوله تعالى: {وعلمه مما يشاء}؛ فالنبي نفسه لا يعلم الغيب، ولا يعلم الشرع إلا ما آتاه الله سبحانه وتعالى؛ ومثل ذلك قول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء: 113] .

7 - ومنها: إثبات المشيئة لله؛ لقوله تعالى: { وعلمه مما يشاء }؛ ولكن اعلم أن مشيئة الله تابعة لحكمته، كما قال الله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 29، 30] .

8 - ومنها: أن الله عزّ وجلّ يدفع الناس بعضهم ببعض لتصلح الأرض، ومن عليها؛ لقوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }؛ وفساد الأرض يكون بالمعاصي، وترك الواجبات؛ لقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 40] ، وقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] .

9 - ومنها: إثبات حكمة الله، حيث جعل الناس يدفع بعضهم بعضاً ليقوم دين الله، فدفعَ الكافرين بجهاد المؤمنين؛ لأنه لو جعل السلطة لقوم معينين لأفسدوا الأرض؛ لأنه لا معارض لهم؛ ولكن الله عزّ وجلّ يعارض هذا بهذا.

10 - ومنها: أن من الفساد في الأرض هدم بيوت العبادة؛ لقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:42 am من طرف ahmadhamad
الاية 252 الي الاية 258


)تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (البقرة:252)

التفسير:

{ 252 } قوله تعالى: { تلك } الإشارة إلى ما سبق ذكره؛ أو إلى القرآن كله؛ { آيات الله } جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمدلولها؛ { نتلوها عليك }: نقرؤها عليك؛ والمراد تلاوة جبريل، كما قال تعالى: {نزل به الروح الأمين* على قلبك} [الشعراء: 193، 194] ؛ و{ بالحق }: الحق في الأخبار: هو الصدق؛ وفي الأحكام: هو العدل؛ والباء إما للمصاحبة؛ أو لبيان ما جاءت به هذه الآيات؛ والمعنى أن هذه الآيات حق؛ وما جاءت به حق.

قوله تعالى: { وإنك لمن المرسلين }: الجملة مؤكدة بـ{ إن }، واللام؛ لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: إثبات آيات الله سبحانه وتعالى الشرعية؛ لأن المراد بـ «الآيات» هنا: الشرعية - وهي القرآن -.

2 - ومنها: أن الله تعالى يتلو على نبيه ما أوحاه إليه؛ لقوله عزّ وجلّ: { نتلوها عليك بالحق }؛ ولكن هل الذي يتلو ذلك هو الله، أو جبريل؟ اقرأ في آية القيامة: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 16 - 18] ؛ يعني إذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه؛ فجبريل يتلوه على النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلقاه من الله سبحانه وتعالى.

3 - ومنها: أن القرآن كله حق من الله، ونازل بالحق؛ لأن الباء في قوله تعالى: { بالحق } للمصاحبة، والملابسة أيضاً؛ فهو نازل من عند الله حقاً؛ وهو كذلك مشتمل على الحق؛ وليس فيه كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه؛ بل أحكامه كلها عدل؛ وأخباره كلها صدق.

4 - ومنها: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { وإنك لمن المرسلين }.

5 - ومنها: أن هناك رسلاً آخرين غير الرسول؛ لقوله تعالى: { لمن المرسلين }؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم كان خاتم النبيين؛ إذ لا نبي بعده.

القرآن

)تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)

التفسير:

{ 253 } قوله تعالى: { تلك } التاء هنا اسم إشارة؛ وأشار إلى «الرسل» بإشارة المؤنث؛ لأنه جمع تكسير؛ وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في تأنيث فعله، والإشارة إليه، كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14] ؛ و «الأعراب» مذكر، لكن لما جُمع جَمع تكسير صح تأنيثه؛ وتأنيثه لفظي؛ لأنه مؤول بالجماعة؛ والمشار إليه هم المرسل الذين دلّ عليهم قوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين} [البقرة: 252] .

قوله تعالى: { فضلنا بعضهم على بعض }؛ يعني جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي؛ وفي الأتباع؛ وفي الدرجات؛ والمراتب عند الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: { منهم } أي من الرسل { من كلم الله } أي من كلمه الله عزّ وجلّ؛ فالعائد محذوف، وذلك مثل موسى، ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ وهذه الجملة استئنافية لبيان وجه من أوجه التفضيل.

قوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات } معطوف على { فضلنا }، لكن فيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب.

وقوله: { ورفع بعضهم درجات } أي على بعض؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة؛ وهي أعلى درجة في الجنة، ولا تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأرجو أن أكون أنا هو»(105)؛ وفي المعراج وجد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم في السماء السابعة؛ وموسى في السادسة؛ وهارون في الخامسة؛ وإدريس في الرابعة(106)؛ وهكذا؛ وهذا من رفع الدرجات.

قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الآيات البينات الدالة على رسالته، ويراد بها الإنجيل، وما جرى على يديه من إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله، ونحو ذلك.

قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } أي قويناه؛ وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: { بروح القدس} ما المراد بها؟ فقيل: المراد بها: ما معه من العلم المطهر الآتي من عند الله؛ والعلم، أو الوحي يسمى روحاً، كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] ؛ وقيل: المراد بـ «روح القدس» جبريل، كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102] ؛ فـ «روح القدس» هو جبريل؛ أيد الله عيسى به، حيث كان يقويه في مهام أموره عندما يحتاج إلى تقوية؛ والآية صالحة للأمرين، فتفسر بهما كما قررناه غير مرة.

قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جاءتهم البينات }؛ «لو» شرطية؛ فعل الشرط فيها { شاء الله }؛ وجوابه { ما اقتتل الذين ... }؛ ومفعول { شاء } محذوف دلّ عليه جواب الشرط؛ والتقدير: ولو شاء الله أن لا يقتتل الذين من بعدهم ما اقتتلوا؛ إما لاتفاقهم على الإيمان؛ وإما لاتفاقهم على المهادنة، وإن كفر بعضهم.

وقوله تعالى: { من بعدهم } أي من بعد الرسل؛ { من بعدما جاءتهم البينات } أي هذا القتال حصل بعدما زال اللبس، واتضح الأمر، ووجدت البينات الدالة على صدق الرسل؛ ومع ذلك فإن الكفار استمروا على كفرهم، ورخصت عليهم رقابهم، ونفوسهم في نصرة الطاغوت؛ وقاتلوا المؤمنين أولياء الله عزّ وجلّ؛ كل ذلك من أجل العناد، والاستكبار؛ و{ البينات } أي الآيات البينات؛ وهو الوحي الذي جاءت به الرسل، وغيره من الآيات الدالة على رسالتهم.

قوله تعالى: { ولكن اختلفوا } أي الذين جاءتهم البينات؛ ثم بيّن كيفية اختلافهم فقال تعالى: { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } وقوله تعالى: { ولكن اختلفوا } معطوف على قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين... }.

قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } هذه الجملة توكيد لما سبق؛ يعني لو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا؛ وعلى هذا فالمفعول هنا كما سبق.

قوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }؛ هذا استدراك على قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } ليبين أن ما وقع من الاختلاف والاقتتال كان بإرادته؛ والإرادة في قوله تعالى: { ما يريد } كونية.

تنبيه :

قوله تعالى: { ولكن اختلفوا } بعد قوله عزّ وجلّ: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } بيان لسبب الاقتتال الواقع منهم؛ وقوله تعالى في الجملة الثانية: { ولكن الله يفعل ما يريد } بيان لكونه بإرادته كقوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يشاء }.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن الرسل عليهم السلام يتفاضلون؛ لقوله تعالى: { فضلنا بعضهم على بعض }.

2 - ومنها: أن فضل الله يؤتيه من يشاء؛ حتى خواص عباده يفضل بعضهم على بعض؛ لأن الرسل هم أعلى أصناف بني آدم، ومع ذلك يقع التفاضل بينهم بتفضيل الله.

ويتفرع عليها فائدة أخرى: أن الله يفضل أتباع الرسل بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني»(107)؛ كما أن من كان من الأمم أخلص لله، وأتبع لرسله فهو أفضل ممن دونه من أمته؛ لأن الرسل إذا كانوا يتفاضلون فأتباعهم كذلك يتفاضلون؛ فإن قلت: كيف نجمع بين هذه الآية المثبتة للتفاضل بين الرسل؛ وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على موسى»(108)، ونهيه صلى الله عليه وسلم أن يفاضل بين الأنبياء؟

فالجواب: أن يقال: في هذا عدة أوجه من الجمع؛ أحسنها أن النهي فيما إذا كان على سبيل الافتخار والتعلِّي: بأن يفتخر أتباع محمد صلى الله عليه وسلم على غيرهم، فيقولوا: «محمد أفضل من موسى» مثلاً؛ أفضل من عيسى؛ وما أشبه ذلك؛ فهذا منهي عنه؛ أما إذا كان على سبيل الخبر فهذا لا بأس به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»(109).

3 - ومن فوائد الآية: إثبات الكلام لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { منهم من كلم الله }؛ وكلام الله عزّ وجلّ عند أهل السنة، والجماعة من صفاته الذاتية الفعلية؛ فباعتبار أصله من الصفات الذاتية؛ لأنه صفة كمال؛ والله عزّ وجلّ موصوف بالكمال أزلاً، وأبداً؛ أما باعتبار آحاده - أنه يتكلم إذا شاء - فهو من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته. قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ، وقال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} [الأعراف: 143] ؛ حصل الكلام بعد مجيئه لميقات الله؛ ولهذا حصل بينهما مناجاة: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143] ؛ فقال تعالى: {لن تراني} بعد أن قال موسى: {رب أرني أنظر إليك} ؛ هذا هو الحق في هذه المسألة؛ وزعمت الأشاعرة أن كلام الله عزّ وجلّ هو المعنى النفسي - أي المعنى القائم بنفسه -؛ وأما ما يسمعه المخاطب به فهو أصوات مخلوقة خلقها الله عزّ وجلّ لتعبر عما في نفسه؛ وقد أبطل شيخ الإسلام هذا القول من تسعين وجهاً في كتاب يسمى بـ «التسعينية».

4 - ومن فوائد الآية: أن كلام الله للإنسان يعتبر رفعة له؛ لأن الله تعالى ساق قوله: { منهم من كلم الله } على سبيل الثناء، والمدح.

ومنه يؤخذ علوّ مقام المصلي؛ لأنه يخاطب الله عزّ وجلّ، ويناجيه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا قال المصلي: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: «حمدني عبدي»؛ وإذا قال المصلي: {الرحمن الرحيم} قال الله: «أثنى عليّ عبدي»(110) إلى آخر الحديث؛ فالله تعالى يناجي المصلي، وإن كان المصلي لا يسمعه؛ لكن أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

6 - ومن فوائد الآية: أن الفضائل مراتب، ودرجات؛ لقوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات }؛ وهذا يشمل الدرجات الحسية، والدرجات المعنوية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم له الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأرجو أن أكون أنا هو»(111)؛ كذلك مراتب أهل الجنة درجات: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف من فوقهم - يعني العالية - كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم؛ قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين»(112).

7 - ومن فوائد الآية: إثبات أن عيسى نبي من أنبياء الله؛ لقوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات }؛ والله عزّ وجلّ أعطاه آيات ليؤمن الناس به؛ ومن الآيات الحسية لعيسى ابن مريم إحياء الموتى بإذن الله؛ وإخراجهم من القبور؛ وإبراء الأكمه، والأبرص؛ وأن يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً يطير بالفعل بإذن الله؛ وهناك آيات شرعية مستفادة من قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } على أحد التفسيرين السابقين.

8 - ومنها: أن البشر مهما كانوا فهم في حاجة إلى من يؤيدهم، ويقويهم؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس}.

9 - ومنها: الرد على النصارى في زعمهم أن عيسى إله؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }؛ أي قويناه؛ ولازم ذلك أنه يحتاج إلى تقوية؛ والذي يحتاج إلى تقوية لا يصلح أن يكون ربًّا، وإلهاً.

10 - ومنها: الثناء على جبريل عليه السلام حيث وصف بأنه روح القدس؛ ومن وجه آخر: حيث كان مؤيِّداً للرسل بإذن الله؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }.

11 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم }.

12 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل }؛ لأن القدرية يقولون: إن فعل العبد ليس بمشيئة الله؛ وإنما العبد مستقل بعمله؛ وهذه الآية صريحة في أن أفعال الإنسان بمشيئة الله.

13 - ومنها: أن قتال الكفار للمؤمنين كان عن عناد، واستكبار؛ لا عن جهل؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءتهم البينات }.

14 - ومنها: لطف الله بالعباد، حيث كان لا يبعث رسولاً إلا ببينة تشهد بأنه رسول؛ وشهادة الله عزّ وجلّ لأنبيائه بالرسالة تكون بالقول، وبالفعل؛ مثالها بالقول: قوله تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً} [النساء: 166] ؛ ومثالها بالفعل: تأييد الله للرسول، ونصره إياه، وتمكينه من قتل أعدائه.

15 - ومنها: بيان حكمة الله عزّ وجلّ في انقسام الناس إلى مؤمن، وكافر؛ لقوله تعالى: { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر }؛ ولولا هذا ما استقام الجهاد، ولا حصل الامتحان.

16 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { آمن }، و{ كفر }، حيث أضاف الفعل إلى العبد؛ وهم يرون أن الإنسان مجبر على عمله، ولا ينسب إليه الفعل إلا على سبيل المجاز كما يقال: أحرقت النار الخشب؛ وهذه الآية ترد عليهم.

17 - ومنها: إثبات أن الله سبحانه وتعالى هو خالق أفعال العباد؛ لقوله تعالى: { يفعل ما يريد }؛ مع أن الفعل فعل العبد: فالاقتتال فعل العبد؛ والاختلاف فعل العبد؛ لكن لما كان صادراً بمشيئة الله عزّ وجلّ وبخلقه، أضافه الله عزّ وجلّ إلى نفسه.

18 - ومنها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }؛ والإرادة التي اتصف الله بها نوعان: كونية، وشرعية؛ والفرق بينهما من حيث المعنى؛ ومن حيث المتعلق؛ ومن حيث الأثر؛ من حيث المعنى: «الإرادة الشرعية» بمعنى المحبة؛ و«الإرادة الكونية» بمعنى المشيئة؛ ومن حيث المتعلق: «الإرادة الكونية» تتعلق فيما يحبه الله، وفيما لا يحبه؛ فإذا قيل: هل أراد الله الكفر؟ نقول: بالإرادة الكونية: نعم؛ وبالشرعية: لا؛ لأن «الإرادة الكونية» تشمل ما يحبه الله، وما لا يحبه؛ و«الإرادة الشرعية» لا تتعلق إلا فيما يحبه الله؛ ومن حيث الأثر: «الإرادة الكونية» لا بد فيها من وقوع المراد؛ و«الإرادة الشرعية» قد يقع المراد، وقد لا يقع؛ فمثلاً: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27] : الإرادة هنا شرعية؛ لو كانت كونية لكان الله يتوب على كل الناس؛ لكن الإرادة شرعية: يحب أن يتوب علينا بأن نفعل أسباب التوبة.

فإن قيل: ما تقولون في إيمان أبي بكر ؛ هل هو مراد بالإرادة الشرعية، أو بالإرادة الكونية؟ قلنا: مراد بالإرادتين كلتيهما؛ وما تقولون في إيمان أبي طالب؟ قلنا: مراد شرعاً؛ غير مراد كوناً؛ ولذلك لم يقع؛ وما تقولون في فسق الفاسق؟

قلنا: مراد كوناً لا شرعاً؛ إذاً نقول: قد تجتمع الإرادتان، كإيمان أبي بكر ؛ وقد تنتفيان، مثل كفر المسلم؛ وقد توجد الإرادة الكونية دون الشرعية، مثل كفر الكافر؛ وقد توجد الشرعية دون الكونية، كإيمان الكافر.



القرآن

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة:254)

التفسير:

تقدم مراراً، وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهمية المطلوب؛ لأن النداء يقتضي التنبيه؛ ولا يكون التنبيه إلا في الأمور الهامة.

وتوجيه النداء للمؤمنين يدل على أن التزام ما ذكر من مقتضيات الإيمان سواء كان أمراً، أو نهياً؛ وعلى أن عدم امتثاله نقص في الإيمان؛ وعلى الحث، والإغراء، كأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا، وكذا، مثل ما تقول للحث، والإغراء: يا رجل افعل كذا، وكذا؛ أي لأن ذلك من مقتضى الرجولة.

{ 254 } قوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم } الإنفاق بمعنى البذل؛ والمراد به هنا بذل المال في طاعة الله؛ و{ مما رزقناكم } أي مما أعطيناكم؛ «من» يحتمل أن تكون بيانية؛ أو تبعيضية؛ والفرق بينهما أن البيانية لا تمنع من إنفاق جميع المال؛ لأنها بيان لموضع الإنفاق؛ والتبعيضية تمنع من إنفاق جميع المال؛ وبناءً على ذلك لا يمكن أن يتوارد المعنيان على شيء واحد لتناقض الحكمين.

قوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم } المراد به يوم القيامة؛ { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }؛ ثلاثة أشياء منتفية؛ وهي «البيع»؛ وهو تبادل الأشياء؛ و «الخلة» ؛ وهي أعلى المحبة؛ و «الشفاعة» ؛ وهي الوساطة لدفع الضرر، أو جلب المنفعة؛ وفي الآية قراءتان؛ إحداهما ما في المصحف: بالضم، والتنوين: { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }؛ و{ لا } على هذه القراءة ملغاة إعراباً؛ لأنها متكررة؛ والقراءة الثانية البناء على الفتح؛ وعلى هذه القراءة تكون { لا } عاملة عمل «إنّ»؛ لكن بالبناء على الفتح؛ لا بالتنوين.

وإنما قال سبحانه وتعالى: { لا بيع }؛ لأن عادة الإنسان أن ينتفع بالشيء عن طريق البيع، والشراء؛ فيشتري ما ينفعه، ويبيع ما يضره؛ لكن يوم القيامة ليس فيه بيع.

وقوله تعالى: { ولا خلة }؛ هذا من جهة أخرى: قد ينتفع الإنسان بالشيء بواسطة الصداقة؛ و«الخُلة» بالضم: أعلى المحبة؛ وهي مشتقة من قول الشاعر:

(قد تخللتِ مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلاً)

يعني أن حبها دخل إلى مسالك الروح، فامتزج بروحه، فصار له كالحياة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر»(113)؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم) اتخذه حبيباً. قيل له: من أحب النساء إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عائشة» ؛ قيل: ومن الرجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أبوها»(114)؛ فأثبت المحبة؛ وكان أسامة بن زيد يسمى «حِب رسول الله» أي حبيبه؛ إذاً الخلة أعلى من المحبة.

فانتفت المعاوضة في هذا اليوم؛ وانتفت المحاباة بواسطة الصداقة؛ وانتفى شيء آخر: الشفاعة؛ وهي الإحسان المحض من الشافع للمشفوع له - وإن لم يكن بينهما صداقة -؛ فقال تعالى: { ولا شفاعة }؛ فنفى الله سبحانه وتعالى كل الوسائل التي يمكن أن ينتفع بها في هذا اليوم.

قوله تعالى: { والكافرون هم الظالمون }؛ أي أن الكافرين بالله هم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم، وحصر الظلم فيهم لعظم ظلمهم، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] ؛ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن أعظم الظلم أن تجعل لله نداً وهو خلقك(115).

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: فضيلة الإنفاق مما أعطانا الله؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} ، حيث صدرها بالنداء.

2 - ومنها: أن الإنفاق من مقتضى الإيمان، وأن البخل نقص في الإيمان؛ ولهذا لا يكون المؤمن بخيلاً؛ المؤمن جواد بعلمه؛ جواد بجاهه؛ جواد بماله؛ جواد ببدنه.

3 - ومنها: بيان منة الله علينا في الرزق؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ ثم للأمر بالإنفاق في سبيله، والإثابة عليه؛ لقوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم }.

4 - ومنها: التنبيه على أن الإنسان لا يحصل الرزق بمجرد كسبه؛ الكسب سبب؛ لكن المسبِّب هو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ فلا ينبغي أن يعجب الإنسان بنفسه حتى يجعل ما اكتسبه من رزق من كسبه، وعمله، كما في قول القائل: إنما أوتيته على علم عندي.

5 - ومنها: الإشارة إلى أنه لا منة للعبد على الله مما أنفقه في سبيله؛ لأن ما أنفقه من رزق الله له.

6 - ومنها: أن الميت إذا مات فكأنما قامت القيامة في حقه؛ لقوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه... } إلخ.

7 - ومنها: أن ذلك اليوم ليس فيه إمكان أن يصل إلى مطلوبه بأي سبب من أسباب الوصول إلى المطلوب في الدنيا، كالبيع، والصداقة، والشفاعة؛ وإنما يصل إلى مطلوبه بطاعة الله.

8 - ومنها: أن الكافرين لا تنفعهم الشفاعة؛ لأنه تعالى أعقب قوله: { ولا شفاعة } بقوله تعالى: { والكافرون هم الظالمون }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] .

9 - ومنها: أن الكفر أعظم الظلم؛ ووجه الدلالة منه: حصر الظلم في الكافرين؛ وطريق الحصر هنا ضمير الفصل: { هم }.

10 - ومنها: أن الإنسان لا ينتفع بماله بعد موته؛ لقوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم }؛ لكن هذا مقيد بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية؛ أو علم ينتفع به؛ أو ولد صالح يدعو له»(116).

11 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { أنفقوا }، حيث أضاف الفعل إلى المنفقين؛ والجبرية يقولون: إن الإنسان لا يفعل باختياره؛ وهذا القول يرد عليه السمع، والعقل - كما هو مقرر في كتب العقيدة -.

12 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ لأننا نعلم أن رزق الله يأتي بالكسب؛ ويأتي بسبب لا كسب للإنسان فيه؛ فإذا أمطرت السماء وأنت عطشان، وشربت فهذا رزق لا كسب لك فيه، ولا اختيار، لكن إذا بعت، واشتريت، واكتسبت المال فهذا لك فيه كسب؛ والله عز وجل هو الذي أعطاك إياه؛ لو شاء الله لسلبك القدرة؛ ولو شاء لسلبك الإرادة؛ ولو شاء ما جلب لك الرزق.

13 - ومنها: أن إنفاق جميع المال لا بأس به؛ وهذا على تقدير { من } بيانية؛ بشرط أن يكون الإنسان واثقاً من نفسه بالتكسب، وصِدق التوكل على الله.

مـسألة:

ظاهر الآية الكريمة أن الإنفاق مطلق في أي وجه من وجوه الخير؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد في آيات أُخر، مثل قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [البقرة: 261] ، ومثل قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله} [البقرة: 195] ؛ وعلى هذا فيكون إطلاق الآية هنا مقيداً بالآيات الأُخر التي تدل على أن الإنفاق المأمور به ما كان في سبيل الله - أي في شرعه -.

مسألة ثانية:

ظاهر الآية نفي الشفاعة مطلقاً؛ وحينئذ نحتاج إلى الجمع بين هذه الآية وبين النصوص الأخرى الدالة على إثبات الشفاعة في ذلك اليوم؛ فيقال: الجمع أن يحمل مطلق هذه الآية على المقيد بالنصوص الأخرى، ويقال؛ إن النصوص الأخرى دلت على أن هناك شفاعة؛ لكن لها ثلاثة شروط: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ وإذنه في الشفاعة.


القرآن

)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)



التفسير:

هذه الآية أعظم آية في كتاب الله كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبيّ بن كعب، وقال: «أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي؛ فضرب على صدره، وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر»(117)؛ ولهذا من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح؛ وهي مشتملة على عشر جمل؛ كل جملة لها معنى عظيم جداً.

{ 255 } قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو }: الاسم الكريم مبتدأ؛ وجملة: { لا إله إلا هو } خبر؛ وما بعده: إما أخبار ثانية؛ وإما معطوفة؛ و{ إله } بمعنى مألوه؛ و«المألوه» بمعنى المعبود حباً، وتعظيماً؛ ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله سبحانه وتعالى؛ والآلهة المعبودة في الأرض، أو المعبودة وهي في السماء - كالملائكة - كلها لا تستحق العبادة؛ وهي تسمى آلهة؛ لكنها لا تستحق ذلك؛ الذي يستحقه رب العالمين، كما قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] ، وقال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] .

و{ إله } اسم لا؛ و{ لا } هنا نافية للجنس؛ ولا النافية للجنس تدل على النفي المطلق العام لجميع أفراده؛ وهي نص في العموم؛ فـ{ لا إله } نفي عام محض شامل لجميع أفراده؛ وقوله تعالى: { إلا هو } بدل من خبر { لا } المحذوف؛ لأن التقدير: لا إله حق إلا هو؛ والبدل في الحقيقة هو المقصود بالحكم، كما قال ابن مالك:

(التابع المقصود بالحكم بلا واسطة هو المسمى بدلاً) وهذه الجملة العظيمة تدل على نفي الألوهية الحق نفياً عاماً قاطعاً إلا لله تعالى وحده.

وقوله تعالى: { الحي القيوم } هذان اسمان من أسمائه تعالى؛ وهما جامعان لكمال الأوصاف، والأفعال؛ فكمال الأوصاف في { الحي }؛ وكمال الأفعال في { القيوم }؛ لأن معنى { الحي } ذو الحياة الكاملة؛ ويدل على ذلك «أل» المفيدة للاستغراق؛ وكمال حياته تعالى: من حيث الوجود، والعدم؛ ومن حيث الكمال، والنقص؛ فحياته من حيث الوجود، والعدم؛ أزلية أبدية - لم يزل، ولا يزال حياً؛ ومن حيث الكمال، والنقص: كاملة من جميع أوصاف الكمال - فعلمه كامل؛ وقدرته كاملة؛ وسمعه، وبصره، وسائر صفاته كاملة؛ و{ القيوم }: أصلها من القيام؛ ووزن «قيوم» فيعول؛ وهي صيغة مبالغة؛ فهو القائم على نفسه فلا يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.

قوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم } أي لا يعتريه نعاس، ولا نوم؛ فالنوم معروف؛ والنعاس مقدمته.

قوله تعالى في الجملة الثالثة: { له ما في السموات وما في الأرض } أي له وحده؛ ففي الجملة حصر لتقديم الخبر على المبتدأ؛ و{ السموات } جمعت؛ و{ الأرض } أفردت؛ لكنها بمعنى الجمع؛ لأن المراد بها الجنس.

قوله تعالى في الجملة الرابعة: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }؛ { من } اسم استفهام مبتدأ؛ و{ ذا} ملغاة إعراباً؛ ويأتي بها العرب في مثل هذا لتحسين اللفظ؛ و{ الذي } اسم موصول خبر { من }؛ والمراد بالاستفهام هنا النفي بدليل الإثبات بعده، حيث قال تعالى: { إلا بإذنه }.

و«الشفاعة» في اللغة: جعل الوتر شفعاً؛ وفي الاصطلاح: التوسط للغير لجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعدما يلحقهم من الهمّ، والغمّ ما لا يطيقون(118): شفاعة لدفع مضرة؛ وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة(119): شفاعة في جلب منفعة.

وقوله تعالى: { إلا بإذنه } أي الكوني؛ يعني: إلا إذا أذن في هذه الشفاعة - حتى أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بإذن الله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة - وهو أعظم الناس جاهاً عند الله؛ ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله لكمال سلطانه جلّ وعلا، وهيبته؛ وكلما كمل السلطان صار أهيب للملِك، وأعظم؛ حتى إن الناس لا يتكلمون في مجلسه إلا إذا تكلم؛ وانظر وصف رسولِ قريشٍ النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حيث وصفهم بأنه إذا تكلم سكتوا؛ كل ذلك من باب التعظيم.

قوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ هذه هي الجملة السادسة؛ و«العلم» عند الأصوليين: إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً؛ فعدم الإدراك: جهل؛ والإدراك على وجه لا جزم فيه: شك؛ والإدراك على وجه جازم غير مطابق: جهل مركب؛ فلو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «لا أدري» فهذا جهل؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «إما في الثانية؛ أو في الثالثة» فهذا شك؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «في السنة الخامسة» فهذا جهل مركب؛ والله عز وجل يعلم الأشياء علماً تاماً شاملاً لها جملة، وتفصيلاً؛ وعلمه ليس كعلم العباد؛ ولذلك قال تعالى: { يعلم ما بين أيديهم } أي المستقبل؛ { وما خلفهم} أي الماضي؛ وقد قيل بعكس هذا القول؛ ولكنه بعيد؛ فاللفظ لا يساعد عليه؛ و{ ما } من صيغ العموم؛ فهي شاملة لكل شيء سواء كان دقيقاً أم جليلاً؛ وسواء كان من أفعال الله أم من أفعال العباد.

قوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } لها معنيان؛ المعنى الأول: لا يحيطون بشيء من علم نفسه؛ أي لا يعلمون عن الله سبحانه وتعالى من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه؛ المعنى الثاني: ولا يحيطون بشيء من معلومه - أي مما يعلمه في السموات، والأرض - إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه؛ وقوله تعالى: { إلا بما شاء } استثناء بدل من قوله تعالى: { شيء }؛ لكنه بإعادة العامل؛ وهي الباء؛ و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية؛ أي: إلا بمشيئته؛ ويحتمل أن تكون موصولة؛ أي: إلا بالذي شاء؛ وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفاً؛ والتقدير: إلا بما شاءه.

قوله تعالى: { وسع كرسيه السماوات والأرض }؛ أي شمل، وأحاط، كما يقول القائل: وسعني المكان؛ أي شملني، وأحاط بي؛ و «الكرسي» هو موضع قدمي الله عز وجل؛ وهو بين يدي العرش كالمقدمة له؛ وقد صح ذلك عن ابن عباس موقوفاً(120)، ومثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه؛ وما قيل من أن ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ عن بني إسرائيل فلا صحة له؛ بل الذي صح عنه في البخاري(121) أنه كان ينهى عن الأخذ عن بني إسرائيل؛ فأهل السنّة والجماعة عامتهم على أن الكرسي موضع قدمي الله عز وجل؛ وبهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من أهل العلم، وأئمة التحقيق؛ وقد قيل: إن «الكرسي» هو العرش؛ ولكن ليس بصحيح؛ فإن «العرش» أعظم، وأوسع، وأبلغ إحاطة من الكرسي؛ وروي عن ابن عباس أن { كرسيه }: علمه؛ ولكن هذه الرواية أظنها لا تصح عن ابن عباس(122)؛ لأنه لا يعرف هذا المعنى لهذه الكلمة في اللغة العربية، ولا في الحقيقة الشرعية؛ فهو بعيد جداً من أن يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فالكرسي موضع القدمين؛ وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما السموات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة»(123)؛ وهذا يدل على سعة هذه المخلوقات العظيمة التي هي بالنسبة لنا من عالم الغيب؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} [ق~: 6] ؛ ولم يقل: أفلم ينظروا إلى الكرسي؛ أو إلى العرش؛ لأن ذلك ليس مرئياً لنا؛ ولولا أن الله أخبرنا به ما علمنا به.

قوله تعالى: { ولا يؤوده }؛ أي لا يثقله، ويشق عليه { حفظهما }؛ أي حفظ السموات، والأرض؛ وهذه الصفة صفة منفية.

قوله تعالى: { وهو العلي العظيم }: مثل هذه الجملة التي طرفاها معرفتان تفيد الحصر؛ فهو وحده العلي؛ أي ذو العلو المطلق، وهو الارتفاع فوق كل شيء؛ و{ العظيم } أي ذو العظمة في ذاته، وسلطانه، وصفاته.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: إثبات هذه الأسماء الخمسة؛ وهي { الله }؛ { الحي }؛ { القيوم }؛ { العلي }؛ { العظيم }؛ وما تضمنته من الصفات.

2 - ومنها: إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية في قوله تعالى: { لا إله إلا هو }.

3 - ومنها: إبطال طريق المشركين الذين أشركوا بالله، وجعلوا معه آلهة.

4 - ومنها: إثبات صفة الحياة لله عز وجل؛ وهي حياة كاملة: لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا توصف بنقص، كما قال تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3] ، وقال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] ، وقال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] .

5 - ومنها: إثبات القيومية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { القيوم }؛ وهذا الوصف لا يكون لمخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وهو محتاج إلى غيره: فنحن محتاجون إلى العمال، والعمال محتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى النساء، والنساء محتاجة إلينا؛ ونحن محتاجون إلى الأولاد، والأولاد يحتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى المال، والمال محتاج إلينا من جهة حفظه، وتنميته؛ والكل محتاج إلى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر: 15] ؛ وما من أحد يكون قائماً على غيره في جميع الأحوال؛ بل في دائرة ضيقة؛ ولهذا قال الله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33] ؛ يعني الله؛ فلا أحد سواه قائم على كل نفس بما كسبت.

6 - ومن فوائد الآية: أن الله تعالى غني عما سواه؛ وأن كل شيء مفتقر إليه تعالى؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] ، وقوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40] ؛ فأثبت أنه يُنصر؟

فالجواب: أن المراد بنصره تعالى نصر دينه.

7 - ومنها: تضمن الآية لاسم الله الأعظم الثابت في قوله تعالى: { الحي القيوم }؛ وقد ذكر هذان الاسمان الكريمان في ثلاثة مواضع من القرآن: في «البقرة»؛ و«آل عمران»؛ و«طه»؛ في «البقرة»: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] ؛ وفي «آل عمران»: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }؛ وفي «طه»: {وعنت الوجوه للحي القيوم} [طه: 111] ؛ قال أهل العلم: وإنما كان الاسم الأعظم في اجتماع هذين الاسمين؛ لأنهما تضمنا جميع الأسماء الحسنى؛ فصفة الكمال في { الحي }؛ وصفة الإحسان، والسلطان في { القيوم }.

8 - ومن فوائد الآية: امتناع السِّنَة والنوم لله عز وجل؛ وذلك لكمال حياته، وقيوميته، بحيث لا يعتريهما أدنى نقص؛ لقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }؛ وهذه من الصفات المنفية؛ والإيمان بالصفات المنفية يتضمن شيئين؛ أحدهما: الإيمان بانتفاء الصفة المذكورة؛ والثاني: إثبات كمال ضدها؛ لأن الكمال قد يطلق باعتبار الأغلب الأكثر، وإن كان يرد عليه النقص من بعض الوجوه؛ لكن إذا نفي النقص فمعناه أن الكمال كمال مطلق لا يرد عليه نقصٌ أبداً بوجه من الوجوه؛ مثال ذلك: إذا قيل: «فلان كريم» فقد يراد به أنه كريم في الأغلب الأكثر؛ فإذا قيل: «فلان كريم لا يبخل» عُلم أن المراد كمال كرمه، بحيث لا يحصل منه بخل؛ وهنا النفي حصل بقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }؛ فدل على كمال حياته، وقيوميته.

9 - ومن فوائد الآية: إثبات الصفات المنفية؛ لقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }، وقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }؛ و«الصفات المنفية» ما نفاه الله عن نفسه؛ وهي متضمنة لثبوت كمال ضدها.

10 - ومنها: عموم ملك الله؛ لقوله تعالى: { له ما في السموات وما في الأرض }.

ويتفرع على كون الملك لله ألا نتصرف في ملكه إلا بما يرضاه.

11 - ومنها: أن الحكم الشرعي بين الناس، والفصل بينهم يجب أن يكون مستنداً على حكم الله؛ وأن اعتماد الإنسان على حكم المخلوقين، والقوانين الوضعية نوع من الإشراك بالله عز وجل؛ لأن الملك لله عز وجل.

12 - ومنها: تسلية الإنسان على المصائب، ورضاه بقضاء الله عز وجل، وقدره؛ لأنه متى علم أن الملك لله وحده رضي بقضائه، وسلّم؛ ولهذا كان في تعزية النبي صلى الله عليه وسلم لابنته أنه قال: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى»(124).

13 - ومنها: عدم إعجاب الإنسان بما حصل بفعله؛ لأن هذا من الله؛ والملك له.

14 - ومنها: اختصاص الله تعالى بهذا الملك؛ يؤخذ من تقديم الخبر: { له ما في السموات }؛ لأن الخبر حقه التأخير؛ فإذا قُدِّم أفاد الحصر.

15 - ومنها: إثبات أن السموات عدد؛ لقوله تعالى: { السموات }؛ وأما كونها سبعاً، أو أقل، أو أكثر، فمن دليل آخر.

16 - ومنها: كمال سلطان الله لقوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }؛ وهذا غير عموم الملك؛ لكن إذا انضمت قوة السلطان إلى عموم الملك صار ذلك أكمل، وأعلى.

17 - ومنها: إثبات الشفاعة بإذن الله؛ لقوله تعالى: { إلا بإذنه }؛ وإلا لما صح الاستثناء.

18 - ومنها: إثبات الإذن - وهو الأمر -؛ لقوله تعالى: { إلا بإذنه }؛ وشروط إذن الله في الشفاعة: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ لقوله تعالى: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26] ، وقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28] .

19 - ومنها: إثبات علم الله، وأنه عام في الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ لقوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }.

20 - ومنها: الرد على القدرية الغلاة؛ لقوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ فإثبات عموم العلم يرد عليهم؛ لأن القدرية الغلاة أنكروا علم الله بأفعال خلقه إلا إذا وقعت.

21 - ومنها: الرد على الخوارج والمعتزلة في إثبات الشفاعة؛ لأن الخوارج، والمعتزلة ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأن مذهبهما أن فاعل الكبيرة مخلد في النار لا تنفع فيه الشفاعة.

22 - ومنها: أن الله عز وجل لا يحاط به علماً كما لا يحاط به سمعاً، ولا بصراً؛ قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ، وقال تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] .

23 - ومنها: أننا لا نعلم شيئاً عن معلوماته إلا ما أعلمنا به؛ لقوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } على أحد الوجهين في تفسيرها.

24 - ومنها: تحريم تكييف صفات الله؛ لأن الله ما أعلمنا بكيفية صفاته؛ فإذا ادعينا علمه فقد قلنا على الله بلا علم.

25 - ومنها: الرد على الممثلة؛ لأن ذلك قول على الله بلا علم؛ بل بما يعلم خلافه؛ لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] .

26 - ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله: { إلا بما شاء }.

27 - ومنها: عظم الكرسي؛ لقوله تعالى: { وسع كرسيه السموات والأرض }.

28 - ومنها: عظمة خالق الكرسي؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظمة الخالق.

29 - ومنها: كفر من أنكر السموات، والأرض؛ لأنه يستلزم تكذيب خبر الله؛ أما الأرض فلا أظن أحداً ينكرها؛ لكن السماء أنكرها من أنكرها، وقالوا: ما فوقنا فضاء لا نهاية له، ولا حدود؛ وإنما هي سدوم، ونجوم، وما أشبه ذلك؛ وهذا لا شك أنه كفر بالله العظيم سواء اعتقده الإنسان بنفسه، ووهمه؛ أو صدَّق من قال به ممن يعظمهم إذا كان عالماً بما دل عليه الكتاب والسنّة.

30 - ومنها: إثبات قوة الله؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }.

31 - ومنها: أنه سبحانه وتعالى لا يثقل عليه حفظ السموات، والأرض؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما}؛ وهذه من الصفات المنفية؛ فهي كقوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق~: 38] .

32 - ومنها: إثبات ما تتضمنه هذه الجملة: { ولا يؤوده حفظهما }؛ وهي العلم، والقدرة، والحياة، والرحمة، والحكمة، والقوة.

33 - ومنها: أن السموات، والأرض تحتاج إلى حفظ؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }؛ ولولا حفظ الله لفسدتا؛ لقوله تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} [فاطر: 41] .

34 - ومنها: إثبات علو الله سبحانه وتعالى أزلاً، وأبداً؛ لقوله تعالى: { وهو العلي }؛ و{ العلي } صفة مشبهة تدل على الثبوت، والاستمرار؛ وعلوّ الله عند أهل السنة، والجماعة ينقسم إلى قسمين؛ الأول: علو الذات؛ بمعنى أنه سبحانه نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ وتفصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ وخالفهم في ذلك طائفتان؛ الأولى: من قالوا: إنه نفسه في كل مكان في السماء، والأرض؛ وهؤلاء حلولية الجهمية، ومن وافقهم؛ وقولهم باطل بالكتاب، والسنّة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ الطائفة الثانية: قالوا: إنه لا يوصف بعلوّ، ولا غيره؛ فهو ليس فوق العالم، ولا تحته، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا متصل، ولا منفصل؛ وهذا قول يكفي تصوره في رده؛ لأنه يَؤول إلى القول بالعدم المحض؛ إذ ما من موجود إلا وهو فوق، أو تحت، أو عن يمين، أو شمال، أو متصل، أو منفصل؛ فالحمد لله الذي هدانا للحق؛ ونسأل الله أن يثبتنا عليه؛ والقسم الثاني: علو الصفة: وهو أنه كامل الصفات من كل وجه لا يساميه أحد في ذلك؛ وهذا متفق عليه بين فرق الأمة، وإن اختلفوا في تفسير الكمال.

35 - ومن فوائد الآية: الرد على الحلولية، وعلى المعطلة النفاة؛ فالحلولية قالوا: إنه ليس بعالٍ؛ بل هو في كل مكان؛ والمعطلة النفاة قالوا: لا يوصف بعلو، ولا سفل، ولا يمين، ولا شمال، ولا اتصال، ولا انفصال.

36 - ومنها: التحذير من الطغيان على الغير؛ لقوله تعالى: { وهو العلي العظيم }؛ ولهذا قال الله في سورة النساء: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً} [النساء: 34] ؛ فإذا كنت متعالياً في نفسك فاذكر علو الله عز وجل؛ وإذا كنت عظيماً في نفسك فاذكر عظمة الله؛ وإذا كنت كبيراً في نفسك فاذكر كبرياء الله.

37 - ومنها: إثبات العظمة لله؛ لقوله تعالى: { العظيم }.

38 - ومنها: إثبات صفة كمال حصلت باجتماع الوصفين؛ وهما العلوّ، والعظمة.



القرآن

)لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256)

التفسير:

{ 256 } قوله تعالى: { لا إكراه في الدين }؛ هذه الجملة نفي؛ لكن هل هي بمعنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحداً على الدين؛ أو بمعنى النفي؛ أي أنه لن يدخل أحد دين الإسلام مكرَهاً؛ بل عن اختيار؛ لقوله تعالى بعد ذلك: { قد تبين الرشد من الغي }؟ الجواب: تحتمل وجهين؛ و «الإكراه» الإرغام على الشيء.

وقوله تعالى: { في الدين }؛ «الدين» يطلق على العمل؛ ويطلق على الجزاء؛ أما إطلاقه على العمل ففي مثل قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3] ، وقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] ؛ وأمّا إطلاقه على الجزاء فمثل قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18] أي يوم الجزاء؛ وقد قيل: «كما تدين تدان»؛ أي كما تعمل تجازى؛ والمراد بـ «الدين» هنا العمل؛ والمراد به دين الإسلام بلا شك؛ فـ «أل» هنا للعهد الذهني؛ يعني الدين المفهوم عندكم أيها المؤمنون؛ وهو دين الإسلام.

قوله تعالى: { قد تبين الرشد من الغي }؛ { تبين } هنا ضمنت معنى «تميَّز»؛ وكلما جاءت «مِن» بعد «تبين» فإنها مضمنة معنى التميز؛ أي تميز هذا من هذا.

وقوله تعالى: { الرشد من الغي }: هناك رشد، وغيّ؛ وهدى، وضلال؛ فـ؛ «الرشد» معناه حسن المسلك، وحسن التصرف: بأن يتصرف الإنسان تصرفاً يحمد عليه؛ وذلك بأن يسلك الطريق الذي به النجاة؛ ويقابل بـ «الغي» كما هنا؛ والمراد بـ{ الرشد } هنا الإسلام؛ وأما «الغي» فهو سوء المسلك: بأن يسلك الإنسان ما لا يحمد عليه لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ والمراد به هنا الكفر.

وتَبَيُّن الرشد من الغي بعدة طرق:

أولاً: بالكتاب ؛ فإن الله سبحانه وتعالى فرَّق في هذا الكتاب العظيم بين الحق، والباطل؛ والصلاح، والفساد؛ والرشد، والغي، كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [النحل: 89] ؛ فهذا من أقوى طرق البيان.

ثانياً: بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنها بينت القرآن، ووضحته؛ ففسرت ألفاظه التي تشكل، ولا تعرف إلا بنص؛ وكذلك وضحت مجملاته، ومبهماته؛ وكذلك بينت ما فيه من تكميلات يكون القرآن أشار إليها، وتكملها السنة، كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44] .الطريق الثالث: هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وسلوكه في عبادته، ومعاملته، ودعوته؛ فإنه بهذه الطريقة العظيمة تبين للكفار، وغير الكفار حسن الإسلام؛ وتبين الرشد من الغيّ.

الطريق الرابع: سلوك الخلفاء الراشدين؛ وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ؛ فإن بطريقتهم بان الإسلام، واتضح؛ وكذلك من كان في عصرهم من الصحابة على سبيل الجملة لا التفصيل؛ فإنه قد تبين بسلوكهم الرشد من الغي.

هذه الطرق الأربع تبين فيها الرشد من الغي؛ فمن دخل في الدين في ذلك الوقت فقد دخل من هذا الباب؛ ولم يصب من قال: إن الدين انتشر بالسيف، والرمح.

قوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى }؛ «الكفر» في اللغة مأخوذ من الستر؛ ومنه سمي «الكُفُرَّى» لوعاء طلع النخل؛ لأن الإنسان الكافر ستر نعمة الله عليه، وستر ما تقتضيه الفطرة من توحيد الله عز وجل؛ { فمن يكفر بالطاغوت } أي من ينكره، ويتبرأ منه؛ و «الطاغوت» فسره ابن القيم بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع؛ مشتق من «الطغيان»؛ وهو تجاوز الحد: قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] ؛ لأن الماء الذي أغرق الله به الكفار بنوح تجاوز الحد حتى وصل إلى ما فوق قمم الجبال؛ فالمعبود كالأصنام طاغوت؛ لأن الإنسان تجاوز بها حده في العبادة؛ و المتبوع كالأحبار، والرهبان الضالين طاغوت؛ لأن الإنسان تجاوز بهم الحد في تحليل ما حرم الله عز وجل، أو تحريم ما أحل الله عز وجل؛ والمطاع كالأمراء ذوي الجور والضلال الذين يأمرون بسلطتهم التنفيذية - لا التشريعية - طاغوت؛ إذاً { فمن يكفر بالطاغوت } من كفر بالأصنام؛ ومن كفر بأحبار، ورهبان السوء؛ ومن كفر بأمراء السوء الذين يأمرون بمعصية الله، ويلزمون بخلاف شرع الله عز وجل.

ولا يكفي الكفر بالطاغوت؛ لأن الكفر تخلٍّ، وعدم؛ ولا بد من إيجاد؛ الإيجاد: قوله تعالى: { ويؤمن بالله } بالجزم عطفاً على { يكفر }؛ والإيمان بالله متضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته إيماناً يستلزم القبول، والإذعان - القبول للخبر، والإذعان للطلب سواء كان أمراً، أو نهياً؛ فصار الإيمان بالله مركباً من أربعة أمور مستلزمة لأمرين؛ ثم اعلم أن معنى قولنا: الإيمان بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته المراد الإيمان بانفراده بهذه الأشياء: بالألوهية؛ والربوبية؛ والأسماء، والصفات؛ وبالوجود الواجب - فهو سبحانه وتعالى منفرد بهذا بأنه واجب الوجود.

قوله تعالى: { فقد استمسك بالعروة الوثقى } جواب { من } الشرطية؛ { استمسك } أي تمسك تمسكاً بالغاً { بالعروة الوثقى } أي المقبض القوي الذي ينجو به؛ والمراد به هنا الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لأن به النجاة من النار.

قوله تعالى: { لا انفصام لها } أي لا انقطاع، ولا انفكاك لها؛ لأنها محكمة قوية.

قوله تعالى: { والله سميع عليم }: سبق الكلام عليها مفصلاً.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أنه لا يكره أحد على الدين لوضوح الرشد من الغي؛ لقوله تعالى: { لا إكراه في الدين}؛ هذا على القول بأنها خبرية؛ أما على القول بأنها إنشائية فإنه يستفاد منها أنه لا يجوز أن يكره أحد على الدين
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:43 am من طرف ahmadhamad
الاية 259 الي الاية 265

)أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:259)

التفسير:

{ 259 } قوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }؛ { أو }: حرف عطف؛ والكاف: قيل إنها زائدة للتوكيد؛ وقيل: إنها اسم بمعنى «مثل»؛ وعلى كلا القولين فهي معطوفة على { الذي } في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] ؛ يعني: أو ألم تر إلى مثل الذي مر - إذا جعلنا الكاف بمعنى «مثل»؛ فإن جعلنا الكاف زائدة، فالتقدير: أو ألم تر إلى الذي مر على قرية... إلخ.

وفي قوله تعالى: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } تقديم المفعول على الفاعل؛ لأن { هذه } مفعول مقدم؛ ولفظ الجلالة فاعل مؤخر.

قوله تعالى: { مائة } منصوبة على أنها نائبة مناب الظرف؛ لأنها مضافة إليه؛ والظرف هي كلمة { عام }؛ وهي متعلقة بـ {أماته} ؛ وقيل: متعلقة بفعل محذوف؛ والتقدير: فأبقاه مائة عام؛ قالوا: لأن الموت لا يتأجل؛ الموت موت؛ ولكن الذي تأجل هو بقاؤه ميتاً مائة عام.

قوله تعالى: { كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم قال بل لبثتَ }: اختلفت الحركة في التاء باعتبار من ترجع إليه؛ و{ كم } مفعول مقدم لـ { لبثت }؛ يعني: كم مدة لبثت.

قوله تعالى: { لم يتسنه } فيها قراءتان: { لم يتسنَّه } بالهاء الساكنة؛ و{ لم يتسنَّ } بحذفها عند الوصل؛ فالقراءتان تختلفان في حال الوصل؛ لا في حال الوقف؛ في حال الوقف: بالهاء الساكنة على القراءتين: { لم يتسنَّه }؛ وفي حال الوصل: بحذف الهاء في قراءة سبعية: { لم يتسنَّ وانظر }.

قوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس }؛ الواو حرف عطف؛ والمعطوف عليه محذوف دل عليه السياق؛ والتقدير؛ لتعلم قدرة الله، ولنجعلك آية للناس.

قوله تعالى: { أعلم } بفتح الهمزة على أنه فعل مضارع؛ فالجملة خبرية؛ والقراءة الثانية «اعْلمْ» بهمزة الوصل على أنه فعل أمر؛ وعلى هاتين القراءتين يختلف عود الضمير في { قال }؛ فعلى القراءة الأولى مرجعه { الذي مر على قرية } ؛ وعلى الثانية يرجع إلى الله.

وقد اختلف المفسرون في تعيين القرية، والذي مر بها؛ وهو اختلاف لا طائل تحته؛ إذ لم يثبت فيه شيء عن معصوم؛ والمقصود العبرة بما في هذه القصة - لا تعيين الرجل، ولا القرية - ومثل هذا الذي يأتي مبهماً، ولم يعين عن معصوم، طريقنا فيه أن نبهمه كما أبهمه الله عز وجل.

قوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }: «القرية» مأخوذة من القَرْي؛ وهي الجمع؛ وتطلق على الناس المجتمعين في البلد؛ وتطلق على البلد نفسها - حسب السياق - فمثلاً في قوله تعالى: {قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية} [العنكبوت: 31] المراد بـ «القرية» هنا المساكن؛ لأنه تعالى قال: {أهل هذه القرية} ؛ وأما في قوله تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة} فالمراد بـ «القرية» هنا أهلها؛ والدليل قوله تعالى: {أهلكناها} ، وقوله تعالى: {وهي ظالمة} : وهذا لا يوصف به البلد.

فتبين أن القرية يراد بها أحياناً البلد التي هي محل مجتمع الناس؛ ويراد بها القوم المجتمعون - على حسب السياق؛ وكما قال أولاد يعقوب لأبيهم: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} [يوسف: 82] : فالمراد بـ «القرية» هنا أهلها؛ والدليل قوله تعالى: {واسأل القرية} ؛ لأن السؤال لا يمكن أن يوجه إلى القرية التي هي البناء؛ وإذا كانت «القرية» تطلق على أهل القرية بنص القرآن فلا حاجة إلى أن نقول: هذا مجاز أصله: واسأل أهل القرية؛ لأنا رأينا في القرآن الكريم أن «القرية» يراد بها الساكنون.

قوله تعالى: { وهي خاوية على عروشها } جملة حالية في محل نصب؛ ومعناها أنه ساقط بعضها على بعض ليس فيها ساكن.

قوله تعالى: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }؛ { أنى } اسم استفهام للاستبعاد؛ وسياق الآية يرجحه؛ أي أنه استبعد حسب تصوره أن الله سبحانه وتعالى يعيد إلى هذه القرية ما كان سابقاً، وقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؛ وقال بعضهم: إنه للاستعجال، والتمني؛ كأنه يقول: متى يحيي الله هذه القرية بعد موتها وقد كانت بالأمس قرية مزدهرة بالسكان، والتجارة، وغير ذلك؛ فمتى يعود عليها ما كان قبل.

قوله تعالى: { فأماته الله } أي قبض روحه.

قوله تعالى: { مائة } فيها ألف بين الميم، والهمزة؛ والميم مكسورة، والألف عليها دائرة إشارة إلى أن الألف هذه تكتب، ولا ينطق بها؛ وبهذا نعرف خطأ من ينطقون بها: «مَائة» بميم مفتوحة؛ ومن قرأ بها في القرآن فقد لحن لحناً يجب عليه أن يعدله؛ وبعض الكتاب المعاصرين يكتبها بدون ألف كـ «فِئة» يعني: ميم، وهمزة، وتاء؛ وهذا أحسن إلا في رسم المصحف؛ فيتبع الرسم العثماني؛ وإلا إذا أضيف إليها عدد كـ «ثلاثمائة» و«أربعمائة»؛ فتكتب الألف، ولا ينطق بها.

قوله تعالى: { عام } مشتقة من العوم؛ وهو السباحة؛ لأن الشمس تسبح فيه على الفصول الأربعة؛ وهي الربيع؛ الصيف؛ الخريف؛ الشتاء؛ كل واحد من هذه الفصول له ثلاثة من البروج المذكورة في قوله:

(حملٌ فثور فجوزاء فسرطان فأسد سنبلة ميزان فعقرب قوس فجدي فكذا دلو وذي آخرها الحيتان) هذه اثنا عشر برجاً للفصول الأربعة؛ كل واحد من الفصول له ثلاثة؛ وقيل: إن كلمة { عام } غير مشتقة؛ فهي مثل كلمة «باب» و«ساج» و«سنة»؛ وما أشبه ذلك من الكلمات التي ليس لها اشتقاق؛ وأياً كان فالمعنى معروف.

قوله تعالى: { ثم بعثه } أي أحياه؛ ولعل قائلاً يقول: إن المتوقع أن يقول: «ثم أحياه» ليقابل { أماته}؛ لكن «البعث» أبلغ؛ لأن «البعث» فيه سرعة؛ ولهذا نقول: انبعث الغبار بالريح، وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على أن الشيء يأتي بسرعة، واندفاع؛ فهذا الرجل بعثه الله بكلمة واحدة؛ قال مثلاً: «كن حياً»، فكان حياً.

قوله تعالى: { قال كم لبثت }؛ القائل هو الله عز وجل؛ يعني كم لبثت من مدة؛ والمدة مائة عام.

قوله تعالى: { قال لبثت يوماً أو بعض يوم }؛ { أو } للشك؛ قال العلماء: وإنما قال ذلك؛ لأن الله أماته في أول النهار، وأحياه في آخر النهار؛ فقال: لبثت يوماً إن كان هذا هو اليوم الثاني من موته؛ أو بعض يوم إن كان هو اليوم الذي مات فيه.

قوله تعالى: { بل لبثت مائة عام }؛ { بل } هذه للإضراب الإبطالي؛ يعني لم تلبث يوماً، أو بعض يوم؛ بل لبثت مائة عام.

قوله تعالى: { فانظر } أي بعينك { إلى طعامك }: أبهمه الله عز وجل فلم يبين من أي نوع هو؛ و «الطعام» كل ما له طعم من مأكول، ومشروب؛ لكنه إذا قرن بالشراب صار المراد به المأكول.

قوله تعالى: { وشرابك }: لم يبين نوع الشراب؛ { لم يتسنه } أي لم يتغير.

قوله تعالى: { وانظر إلى حمارك } أي انظر إليه بعينك؛ فنظر إلى حماره تلوح عظامه ليس فيه لحم، ولا عصب، ولا جلد.

قوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس } أي لنصيِّرك علامة للناس على قدرتنا.

قوله تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها }؛ وفي قراءة: «ننشرها» بالراء؛ { ننشزها } بالزاي يعني: نركب بعضها على بعض؛ من النشَز؛ وهو الارتفاع، كقوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً} [النساء: 128] ؛ فـ { ننشزها } يعني: نعلي بعضها على بعض؛ فنظر إلى العظام يأتي العظم، ويركب على العظم الثاني في مكانه حتى صار الحمار عظاماً؛ كل عظم منها راكب على الآخر في مكانه، ثم بعد ذلك كسا الله العظام لحماً بعد أن أنشز بعضها ببعض بالعصب؛ أما قراءة «ننشرها» بالراء فمعناها: نحييها؛ لأن العظام قد يبست، وصارت كالرميم ليس فيها أيّ مادة للحياة، ثم أحييت بحيث صارت قابلة لأن يركب بعضها على بعض.

قوله تعالى: { ثم نكسوها لحماً } أي نسترها باللحم؛ فشاهد ذلك بعينه، فاجتمع عنده آيتان من آيات الله؛ إبقاء ما يتغير على حاله - وهو طعامه، وشرابه؛ وإحياء ما كان ميتاً - وهو حماره.

قوله تعالى: { فلما تبين له } أي تبين لهذا الرجل - الذي مر على القرية، واستبعد أن يحييها الله بعد موتها؛ أو استبطأ أن الله سبحانه وتعالى يحييها بعد موتها، وحصل ما حصل من آيات الله عز وجل بالنسبة له، ولحماره، ولطعامه، وشرابه - تبين له الأمر الذي تحقق به قدرة الله عز وجل.

قوله تعالى: { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }؛ وفي قراءة: { اعلم أن الله على كل شيء قدير }؛ والفائدة من القراءتين: كأنه أُمر أن يعلم، فعلم، وأقر؛ و«العلم» - كما سبق - هو إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً لما هو عليه؛ وعدم الإدراك هو الجهل البسيط؛ وإدراك الشيء على غير ما هو عليه: هو الجهل المركب؛ وعدم الجزم: شك؛ أو ظن؛ أو وهم؛ فإن تساوى الأمران فهو شك؛ وإن ترجح أحدهما فالراجح ظن؛ والمرجوح وهم.

و«القدرة» صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44] : لما نفى أن يعجزه شيء قال تعالى: {إنه كان عليماً قديراً} فلما نفى العجز، ذكر القدرة، والعلم مقابلها.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث ينوع الأدلة، والبراهين على الأمور العظيمة؛ لقوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }؛ فهذه الآية وما قبلها، وما بعدها كلها في سياق قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى.

2 - ومنها: الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يهتم الإنسان بأعيان أصحاب القصة؛ إذ لو كان هذا من الأمور المهمة لكان الله يبين ذلك: يقول: فلان؛ ويبين القرية.

3 - ومنها: أن العبرة بالمعاني والمقاصد دون الأشخاص.

4 - ومنها: إطلاق القرية على المساكن؛ لقوله تعالى: { وهي خاوية على عروشها } مع أنه يحتمل أن يراد بهذه الآية المساكن، والساكن؛ لأن كونها خاوية على عروشها يدل على أن أهلها أيضاً مفقودون، وأنهم هالكون.

5 - ومنها: قصور نظر الإنسان، وأنه ينظر إلى الأمور بمعيار المشاهَد المنظور لديه؛ لقول هذا الرجل: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }؛ فكونك ترى أشياء متغيرة لا تستبعد أن الله عز وجل يزيل هذا التغيير؛ وكم من أشياء قدَّر الناس فيها أنها لن تزول، ثم تزول؛ كم من أناس أمَّلوا دوام الغنى، ودوام الأمن، ودوام السرور، ثم أعقبه ضد ذلك؛ وكم من أناس كانوا على شدة من العيش، والخوف، والهموم، والغموم، ثم أبدلهم الله سبحانه وتعالى بضد ذلك.

6 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا استبعد وقوع الشيء - ولكنه لم يشك في قدرة الله - لا يكفر بهذا.

7 - ومنها: بيان قدرة الله عز وجل في إماتة هذا الرجل لمدة معينة، ثم إحيائه؛ لقوله تعالى: { فأماته الله مائة عام ثم بعثه }.

8 - ومنها: إثبات الكلام لله عز وجل، والقول، وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { قال كم لبثت}؛ والأولى الأخذ بظاهر القرآن، وأن القائل هو الله عز وجل.

9 - ومنها: جواز امتحان العبد في معلوماته؛ لقوله تعالى: { كم لبثت }.

10 - ومنها: الرد على الأشاعرة الذين قالوا: «إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن هذه الأصوات التي سمعها موسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - وغيرهما ممن كلمه الله هي أصوات خلقها الله عز وجل لتعبر عما في نفسه»؛ وأن هذا القول مقتضاه إنكار القول من الله عز وجل.

11 - ومنها: بيان حكمة الله، حيث أمات هذا الرجل، ثم بعثه ليتبين له قدرة الله عز وجل.

12 - ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه، وأنه إذا خالف الواقع لا يعد مخطئاً؛ لقوله تعالى: { قال لبثت يوماً أو بعض يوم } مع أنه لبث مائة عام.

13 - ومنها: أن الله قد يمنّ على عبده بأن يريه من آياته ما يزداد به يقينه؛ لقوله تعالى: { فانظر إلى طعامك... } إلخ.

14 - ومنها: أن قدرة الله فوق ما هو معتاد من طبيعة الأمور، حيث بقي هذا الطعام والشراب مائة سنة لم يتغير.

15 - ومنها: الرد على أهل الطبيعة الذين يقولون: إن السنن الكونية لا تتغير؛ لقوله تعالى: { لم يتسنه }: لكون هذا الطعام، والشراب لم يتغير لمدة مائة سنة، والرياح تمر به، والشمس، والحر.

16 - ومنها: جواز الانتفاع بالحُمُرِ؛ لقوله تعالى: { وانظر إلى حمارك }.

17 - ومنها: ثبوت الملكية فيها: لأن الله أضاف الحمار إلى صاحبه؛ فقال تعالى: { حمارك }؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه»(138)؛ وإثبات الملكية يقتضي حل الثمن؟

فالجواب: أنها إذا بيعت للأكل فهو حرام؛ لأنه هو المحرم؛ وأما إذا بيعت للانتفاع فهذا حلال؛ لأن الانتفاع بها حلال؛ إذاً فهذا لا يعارض الحديث؛ فإذا اشترى الحمار للأكل فالثمن حرام؛ وإن اشتراه للمنفعة فالمنفعة حلال، وثمنها حلال.

18 - ومن فوائد الآية: أن الله يحدث للعبد ما يكون عبرة لغيره؛ لقوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس }؛ ومثل ذلك قوله تعالى في عيسى بن مريم، وأمه: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] .

19 - ومنها: أنه ينبغي التفكر فيما خلقه الله عز وجل، وأحدثه في الكون؛ لأن ذلك يزيد الإيمان، حيث إن هذا الشيء آية من آيات الله.

20 - ومنها: أنه ينبغي النظر إلى الآيات على وجه الإجمال، والتفصيل؛ لقوله تعالى: { وانظر إلى حمارك}: مطلق؛ ثم قال تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها... } إلخ؛ فيقتضي أن نتأمل أولاً في الكون من حيث العموم، ثم من حيث التفصيل؛ فإن ذلك أيضاً يزيدنا في الإيمان.

21 - ومنها: أن الله عز وجل جعل اللحم على العظام كالكسوة؛ بل هو كسوة في الواقع؛ لقوله تعالى: { ثم نكسوها لحماً }، وقال تعالى: { فكسونا العظام لحماً } [المؤمنون: 14] ؛ ولهذا تجد اللحم يقي العظام من الكسر والضرر؛ لأن الضرر في العظام أشد من الضرر في اللحم.

22 - ومنها: أن الإنسان بالتدبر، والتأمل، والنظر يتبين له من آيات الله ما لا يتبين لو غفل؛ لقوله تعالى: { فلما تبين له... } إلخ.

23 - ومنها: بيان عموم قدرة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { على كل شيء قدير }.

24 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { على كل شيء قدير }؛ لأن من الأشياء فعل العبد؛ والله سبحانه وتعالى قادر على فعل العبد؛ وعند القدرية المعتزلة أن الله ليس بقادر على أفعال العبد؛ لأن العبد عندهم مستقل خالق لفعله، وأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعاله.

25 - ومنها: الرد على منكري قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل؛ لقوله تعالى: { فأماته الله... ثم بعثه }؛ وهذه أفعال متعلقة بمشيئته، واختياره: متى شاء فعل، ومتى شاء لم يفعل؛ متى شاء خلق، ومتى شاء أمات؛ ومتى شاء أذل، متى شاء أعز.

26 - ومنها: أن كلام الله عز وجل بحروف، وأصوات مسموعة؛ لقوله تعالى: { كم لبثت }، وقوله تعالى: { بل لبثت مائة عام }؛ فإن مقول القول حروف بصوت سمعه المخاطَب، وأجاب عليه بقوله: { لبثت يوماً أو بعض يوم }؛ ولكن الصوت المسموع من كلام الله عز وجل ليس كصوت المخلوقين؛ الحروف هي الحروف التي يعبر بها الناس؛ لكن الصوت: لا؛ لأن الصوت صفة الرب عز وجل؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] .

27 - ومنها: أنه يلزم من النظر في الآيات العلم، واليقين؛ لقوله تعالى: { فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }.

28 - ومنها: أنه يمكن الرد على الجبرية على قراءة: «اعلم» ؛ لأنه لو كان الإنسان مجبوراً لكان توجه الخطاب إليه بالأمر والتكليف، لغواً وعبثاً.

29 - ومنها: ثبوت كرامات الأولياء؛ وهي كل أمر خارق للعادة يجريه الله عز وجل على يد أحد أوليائه تكريماً له، وشهادةً بصدق الشريعة التي كان عليها؛ ولهذا قيل: كل كرامة لوليّ فهي آية للنبي الذي اتبعه؛ و«الولي» كل مؤمن تقي؛ لقوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62، 63] .

30 - ومنها: وجوب العلم بأن الله على كل شيء قدير.



القرآن

)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260)

التفسير:

في { إبراهيم } قراءتان؛ { إبراهيم } بكسر الهاء، وياء بعدها؛ و {إبراهام} بفتح الهاء، وألف بعدها؛ وكذلك في { أرني } قراءتان: {أرِني} بكسر الراء؛ و {أرْني} بسكونها؛ وفي { فصرهن } قراءتان أيضاً: {فصُرهن} بضم الصاد؛ و {فصِرهن} بكسرها؛ وفي { جزءاً } قراءتان أيضاً: {جزْءاً} بسكون الزاي؛ و {جزُءاً} بضمها؛ وكل هذه القراءات سبعية.

{ 260 } قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني } { إذ } : مفعول فعل محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ قال؛ و{ أرني }: الرؤية هنا بصرية، فتنصب مفعولاً واحد؛ لكن لما دخلت عليها همزة التعدية صارت تنصب مفعولين؛ الأول: الياء؛ والثاني: جملة: { كيف تحيي الموتى }.

قوله تعالى: { أو لم تؤمن } فيها إعرابان مشهوران؛ أحدهما: أن الهمزة دخلت على مقدر عُطف عليها قوله تعالى: { ولم تؤمن }؛ وهذا المقدر يكون بحسب السياق؛ وعلى هذا فالهمزة في محلها؛ الثاني: أن الواو حرف عطف على ما سبق؛ والهمزة للاستفهام؛ وأصل محلها بعد الواو؛ والتقدير: «وألم تؤمن»؛ والثاني أسهل، وأسلم؛ لأن الإنسان ربما يقدر فعلاً ليس هو المراد؛ وأسهل؛ لئلا يُتعب الإنسان نفسه في طلب فعل يكون مناسباً.

قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم }؛ إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو الأب الثالث للأنبياء؛ فالأول: آدم؛ والثاني: نوح؛ والثالث: إبراهيم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78] ، وقال تعالى في نوح: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77] ؛ وآدم معلوم أنه أبو البشر: قال الله تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف: 26] .

قوله تعالى: { رب }: منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ وحرف النداء محذوف للعلم به.

قوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى } أي اجعلني أنظر، وأرى بعيني؛ والسؤال هنا عن الكيفية لا عن الإمكان؛ لأن إبراهيم لم يشك في القدرة؛ ولا عن معنى الإحياء؛ لأن معنى الإحياء عنده معلوم؛ لكن أراد أن يعلم الكيفية: كيف يحيي الله الموتى بعد أن أماتهم، وصاروا تراباً وعظاماً.

وقوله تعالى: { الموتى }: هل مراد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أيّ موتى يكونون؛ أو أن المراد به الموتى من بني آدم، فضرب الله له مثلاً بالطيور الأربعة؟ إذا نظرنا إلى لفظ { الموتى } وجدناه عاماً؛ يعني أيّ شيء يحييه الله أمامه فقد أراه؛ فيترجح الاحتمال الأول.

قوله تعالى: { قال أو لم تؤمن }: هذا الاستفهام للتقرير؛ وليس للإنكار، ولا للنفي؛ فهو كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] ؛ يعني: قد شرحنا لك؛ فمعنى { أو لم تؤمن }: ألست قد آمنت؛ لتقرير إيمان إبراهيم (صلى الله عليه وسلم).

وقد فسر كثير من الناس الإيمان في اللغة بـ«التصديق»؛ وهذا التفسير ليس بدقيق؛ لكنه تفسير بما يقارب؛ كتفسيرهم «الريب» بالشك؛ وتفسيرهم «الرهن» بالحبس؛ وتفسير قوله تعالى: {أن تبسل نفس} [الأنعام: 70] أي تحبس؛ وما أشبه ذلك مما يفسرونه بالمعنى المقارِب الذي يَقرُب للفهم؛ وإلا فإن بين الإيمان، والتصديق فرقاً؛ وقد سبق بيان ذلك.

قوله تعالى: { بلى } حرف يجاب بها النفي المقرون بالاستفهام لإثباته؛ فإذا قلت: ألست حاضراً معنا في الدرس؟ فالجواب: «بلى» - إن كنت حاضراً؛ و«نعم» - إن لم تكن حاضراً.

قوله تعالى: { ولكن ليطمئن قلبي } أي ليزداد طمأنينة؛ وإلا فقد كان مطمئناً؛ و«الطمأنينة» هي الاستقرار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اركع حتى تطمئن راكعاً... اسجد حتى تطمئن ساجداً»(139)، أي تستقر؛ فأراه الله سبحانه وتعالى الآية: قال تعالى: { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً }.

قوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير }: لم يعينها الله عز وجل؛ ولهذا تعتبر محاولة تعيينهن لا فائدة منها؛ لأنه لا يهمنا أكانت هذه الطيور إوَزًّا، أم حماماً، أم غرباناً، أم أيَّ نوع من أنواع الطيور؛ لأن الله لم يبينها لنا؛ ولو كان في تبيينها فائدة لبيَّنها الله عز وجل.

قوله تعالى: { فصرهن إليك } بكسر الصاد من صار يصير؛ وبضمها من صار يصور؛ أي أملهن إليك؛ و«الصُّور» الميل؛ ومنه الرجل الأصور - التي مالت عينه إلى جانب من جفنه؛ ويسمى «الأحول»؛ فمعنى { صرهن } أي أملهن، واضممهن إليك.

قوله تعالى: { ثم اجعل على كل جبل }، أي من الجبال التي حولك { منهن جزءاً } أي من مجموعهن؛ والله أعلم بالحكمة من تعيين العدد، والجبال.

قوله تعالى: { ثم ادعهن }؛ ففعل عليه الصلاة والسلام فجمع الأربعة، وذبحهن، وقطعهن أجزاءً، وجعل على كل جبل جزءاً؛ ثم دعاهن فأقبلن.

قوله تعالى: { يأتينك سعياً } قيل: إنها جواب لفعل الأمر في قوله تعالى: { ادعهن }؛ وقيل: إنها جواب لفعل شرط مقدر؛ والتقدير: «إن تدعهن يأتينك»؛ فعلى القول الأول يكون جواباً لقوله: { ادعهن }؛ لأن من لازم أمر الله إياه بدعائهن أن يدعوَهن؛ فكأن الشرط معلوم من الأمر؛ وعلى القول الثاني لا إشكال إذا جعلت { يأتينك } جواباً لفعل شرط محذوف - يعني: إن تدعهن يأتينك؛ و{ يأتينك } مبنية على السكون في محل جزم؛ وإنما بنيت على السكون لاتصالها بنون النسوة.

وقوله تعالى: { سعياً } مصدر؛ لكن هل هو مصدر عامله محذوف، والتقدير: يسعَين سعياً؛ أو هو مصدر في موضع الحال، فيكون بمعنى: ساعيات؟ يحتمل هذا، وهذا؛ والثاني أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير؛ والقاعدة أنه إذا دار الأمر بين أن يكون الكلام محذوفاً منه، أو غير محذوف فهو غير محذوف منه.

وقوله تعالى: { سعياً }؛ هل نفسر السعي في كل موضع بحسبه؛ أو نقول: سعياً على الأرجل؟ في هذا قولان للمفسرين؛ أحدهما أن السعي هنا بمعنى الطيران؛ فالمعنى: يأتينك طيراناً لا نقص فيهن؛ لأن سعي كل شيء بحسبه؛ وسعي الطيور هو الطيران؛ الثاني: أن المراد بالسعي المشي بسرعة على الأرجل؛ ولكن الأولى - فيما يظهر لنا - هو الطيران؛ لأن كونهن يمشين على الأرجل لا يدل على كمالهن؛ إذ إن الطائر إذا كُسر جناحه صار يمشي؛ لكن كونهن يطرن أبلغ؛ لأنه كأنهن أتين على أكمل الحياة، والوجوه.

قوله تعالى: { واعلم أن الله عزيز حكيم }: الخطاب لإبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فإذا علمت ذلك علمت كمالَ قدرته عز وجل لكمال عزته، وكمالَ حكمته؛ لأنه حكيم؛ والله سبحانه وتعالى يقرن كثيراً بين هذين الاسمين: «العزيز» و «الحكيم» ؛ لأن العزيز من المخلوقين قد تفوته الحكمة لعزته: يرى نفسه عزيزاً غالباً، فيتهور في تصرفاته، ويتصرف بدون حكمة؛ والحكيم من المخلوقين قد لا يكون عزيزاً؛ فإذا اقترنت حكمته بعزة صار له سلطان وقوة، ولم تفته الأمور؛ فجمع الله لنفسه بين العزة، والحكمة؛ وسبق الكلام عليهما مفصلاً.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن التوسل إلى الله بربوبيته من آداب الدعاء التي يتوسل بها الرسل؛ لقوله تعالى: {رب}؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية؛ إذ إنه فعل؛ وكل ما يتعلق بأفعال الرب فهو من مقتضيات الربوبية؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الرجل يطيل السفر يمد يديه إلى السماء: «يقول: يا رب! يا رب!»(140)؛ ولو تأملت أكثر أدعية القرآن لوجدتها مصدرة بـ«الرب»؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية.

2 - ومنها: أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب ما يزداد به يقينه، لقوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى}؛ لأنه إذا رأى بعينه ازداد يقينه.

3 - ومنها: أن عين اليقين أقوى من خبر اليقين؛ لقوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى }؛ لأن إبراهيم عليه السلام عنده خبر اليقين بأن الله قادر؛ لكن يريد عين اليقين؛ ولهذا جاء في الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة»(141)؛ وقد ذكر العلماء أن اليقين ثلاث درجات: علم؛ وعين؛ وحق؛ كلها موجودة في القرآن؛ مثال «علم اليقين» قوله تعالى: {كلا لو تعلمون علم اليقين} [التكاثر: 5] ؛ ومثال «عين اليقين» قوله تعالى: {ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 7] ؛ ومثال «حق اليقين» قوله تعالى: {إن هذا لهو حق اليقين} [الواقعة: 56] ؛ نضرب مثالاً يوضح الأمر: قلت: إن معي تفاحة حلوة - وأنا عندك ثقة؛ فهذا علم اليقين: فإنك علمت الآن أن معي تفاحة حلوة؛ فأخرجتُها من جيبي، وقلت: هذه التفاحة؛ فهذا عين اليقين؛ ثم أعطيتك إياها، وأكلتَها وإذا هي حلوة؛ هذا حق اليقين.

4 - ومن فوائد الآية: إثبات أفعال الله الاختيارية؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى له أفعال تتعلق بمشيئته؛ لقوله تعالى: { تحيي الموتى }.

5 - ومنها: تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بإحياء الموتى؛ وقد قرر الله ذلك في آيات كثيرة.

6 - ومنها: إثبات الكلام لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { قال أو لم تؤمن }، وقوله تعالى: { قال فخذ أربعة }؛ والله سبحانه وتعالى؛ يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء؛ بما شاء: من القول؛ متى شاء: في الزمن؛ كيف شاء: في الكيفية.

7 - ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف، وأصوات مسموعة؛ لوقوع التحاور بين الله عز وجل، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم.

8 - ومنها: إثبات أن إبراهيم مؤمن بقدرة الله عز وجل على إحياء الموتى؛ لقوله تعالى: { قال أو لم تؤمن قال بلى }؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»(142)؛ فأثبت شكاً فينا، وفي إبراهيم، وأننا أحق بالشك من إبراهيم؟ فالجواب أن الحديث لا يراد به هذا المعنى؛ لأن هذا معنًى يخالف الواقع؛ فليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم شك في إحياء الموتى؛ وإنما المعنى أن إبراهيم لم يشك؛ فلو قدر أنه يشك فنحن أحق بالشك منه؛ وما دام الشك منتفياً في حقنا فهو في حقه أشد انتفاءً؛ فإذا عُلم أننا الآن نؤمن بأنه تعالى هو القادر، فإبراهيم أولى منا بالإيمان بذلك؛ هذا هو معنى الحديث، ولا يحتمل غيره؛ فإن قلت: لا زال هنا إشكال؛ وهو: هل إبراهيم أكمل إيماناً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: لا؛ ولكن قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع؛ ولهذا قرن بينه وبين قوله (صلى الله عليه وسلم): «ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي»(143)؛ فيوسف بقي في السجن بضع سنين، وجاءه رسول الملك يدعوه؛ فقال له: لا أخرج، {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} [يوسف: 50] ؛ مع أن غيره لو حبس سبع سنين، وقالوا له: «اخرج»، فإنه يخرج؛ هذا مقتضى الطبيعة؛ لكن يوسف - عليه الصلاة والسلام - كان حليماً حازماً؛ قال: لا أخرج حتى تظهر براءتي كاملة؛ فتبين من هذا أنه لا يلزم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا أن يكون إبراهيم أقوى إيماناً.

9 - ومن فوائد الآية: إثبات زيادة الإيمان في القلب؛ لقوله تعالى: { بلى ولكن ليطمئن قلبي }؛ ففيه رد على من قال: إن الإيمان لا يزيد، ولا ينقص؛ ولا ريب أن هذا القول ضعيف؛ لأن الواقع يكذبه؛ والنصوص تكذبه أيضاً: ففي القرآن قال الله تعالى: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح: 4] ، وقال تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} [التوبة: 124] ؛ وفي السنة: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»(144)؛ فالإيمان يزيد كمية، وكيفية؛ فمثال زيادة الكمية: أن الذي يسبح عشراً أزيد إيماناً من الذي يسبح خمساً؛ والذي يصلي عشر ركعات أزيد إيماناً من الذي يصلي ستاً؛ وأما زيادة الكيفية فمثالها: رجل صلى ركعتين بطمأنينة، وخشوع، وتأمل فإيمانه أزيد ممن صلاهما بسرعة؛ كذلك يزداد الإيمان بحسب إقرار القلب: كلما كثرت الآيات لدى الإنسان فلا شك أن إيمانه يزداد قوة، ورسوخاً؛ اقرأ قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] أي على طرَف {فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11] : هذا إيمانه ضعيف مهزوز: إن لم تأته فتنة فهو مستقر؛ وإن أتته فتنة - شبهة، أو شهوة - انقلب على وجهه؛ فمثلاً نحن الآن في المملكة العربية السعودية ليس عندنا - ولله الحمد - أحد يعارضنا في العقيدة؛ فليس عندنا معتزلة، ولا جهمية، ولا جبرية...، فنحن ثابتون على الفطرة؛ ولكن لو يبتلى الإنسان، فيأتيه واحد من عفاريت الإنس جيد في المجادلة، والمحاجة من المعتزلة لأوشك أن يؤثر عليه، وينقله إذا لم يكن لديه رسوخ في العلم، والإيمان؛ كذلك لو أن إنساناً عنده إيمان لكن تعرضت له امرأة ذات منصب، وجمال، وأغرته حتى وقع في الفاحشة؛ وإنسان آخر تعرضت له هذه المرأة فقال: «إني أخاف الله» تجد الفرق بينهما؛ فالمهم أن القول الراجح الذي لا شك فيه، والذي تدل عليه الأدلة السمعية، والواقعية أن الإيمان يزيد، وينقص.

10 - ومن فوائد الآية: جواز الاقتصار في الجواب على الحرف الدال عليه؛ لقوله تعالى: { بلى }؛ وعليه فلو قيل للرجل: ألم تطلق زوجتك؟ فقال: «بلى»: طلقت؛ ولو قيل للرجل عند عقد النكاح: أقبلت النكاح، وقال: «نعم» انعقد النكاح؛ لأن حرف الجواب يغني عن ذكر الجملة.

11 - ومنها: امتنان الله على العبد بما يزداد به إيمانه، لقوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير... } إلى قوله تعالى: { يأتينك سعياً }.

12 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: «العزيز» و «الحكيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من الصفة؛ وهي العزة، والحكمة؛ لأن كل اسم من أسماء الله فهو متضمن لصفة ولا عكس؛ يعني: ليس كل صفة يؤخذ منها اسم؛ لكن كل اسم يؤخذ منه صفة؛ لأن أسماء الله عز وجل أعلام، وأوصاف؛ فكل اسم من أسمائه متضمن للصفة التي دل عليها اشتقاقه، أو لوازمها.



القرآن

)مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261)

التفسير:

{ 261 } قوله تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة }؛ يطلق المثل على الشبه؛ ويطلق على الصفة؛ فإن ذكر مماثل، فالمراد به الشبه؛ وإلا فالمراد به الصفة؛ ففي قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن...} [محمد: 15] المراد بالمثل الصفة؛ لأنه لم يذكر المماثل؛ أما إذا قيل: «مثَل هذا كمثَل هذا» فهذا يعني الشبه، كقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً...} [البقرة: 17]، وكما في هذه الآية: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة } فهذا المراد به الشبه؛ يعني شبه هؤلاء كشبه هذا الشيء؛ والذي يظهر من الآية أنه لا يوجد فيها مطابقة بين الممثل، والممثل به؛ لأن «الممثل» هو العامل؛ و«الممثل به» هو العمل؛ فالحبة ليست بإزاء المنفِق؛ لكنها بإزاء المنفَق؛ والذي يكون بإزاء المنفِق زارعَ الحبة؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الآية فيها تقدير: إما في المبتدأ؛ وإما في الخبر: فإما أن يقدر: مثل عمل الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة؛ أو يقدر: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل زارع حبة أنبتت سبع سنابل؛ والحكمة من هذا الطيّ أن يكون المثل صالحاً للتمثيل بالعامل، والتمثيل بالعمل؛ وهذا من بلاغة القرآن؛ و «الإنفاق» معناه البذل؛ و «أموال» جمع مال؛ وهو كل ما يتموله الإنسان من أعيان، أو منافع؛ الأعيان كالدراهم، والدنانير، والسيارات، والدور، وما أشبه ذلك؛ والمنافع كمنافع العين المستأجرة؛ فإن المستأجر مالك للمنفعة.

وقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ «سبيل» بمعنى طريق؛ وسبيل الله سبحانه وتعالى هو شرعه؛ لأنه يهدي إليه، ويوصل إليه؛ قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] ؛ وأضيف إلى الله لسببين؛ السبب الأول: أنه هو الذي وضعه لعباده، وشرعه لهم؛ والسبب الثاني: أنه موصل إليه؛ ويضاف «السبيل» أحياناً إلى سالك السبيل؛ فيقال: سبيل المؤمنين، كما قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] ؛ ولا تناقض بينهما؛ لأنه يضاف إلى المؤمنين باعتبار أنهم هم الذين سلكوه؛ وإلى الله باعتبار أنه الذي شرعه، وأنه موصل إليه.

قوله تعالى: { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }؛ حبة بذرها إنسان، فأنبتت سبع سنابل { في كل سنبلة مائة حبة }؛ فتكون الجميع سبعمائة؛ فالحسنة إذاً في الإنفاق في سبيل الله تكون بسبعمائة؛ وهذا ليس حدّاً.

قوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء } أي يزيد ثواباً لمن يشاء حسب ما تقتضيه حكمته.

قوله تعالى: { والله واسع } أي ذو سعة في جميع صفاته؛ فهو واسع العلم، والقدرة، والرحمة، والمغفرة، وغير ذلك من صفاته؛ فإنها صفات واسعة عظيمة عليا؛ و{ عليم } أي ذو علم - وهو واسع فيه - وعلمه شامل لكل شيء جملة، وتفصيلاً؛ حاضراً، ومستقبلاً، وماضياً.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: ضرب الأمثال؛ وهو تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لأن ذلك أقرب إلى الفهم.

2 - ومنها: أن القرآن على غاية ما يكون من البلاغة، والفصاحة، لأن الفصاحة هي الإفصاح بالمعنى، وبيانه؛ وضرب الأمثال من أشد ما يكون إفصاحاً، وبياناً: قال تعالى: { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] .

3 - ومنها: فضيلة الإنفاق في سبيل الله؛ لأنه ينمو للمنفق حتى تكون الحبة سبعمائة حبة.

4 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله في العمل؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله } بأن يقصدوا بذلك وجه الله عز وجل.

5 - ومنها: الإشارة إلى موافقة الشرع؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ لأن { في } للظرفية؛ والسبيل بمعنى الطريق؛ وطريق الله: شرعه؛ والمعنى: أن هذا الإنفاق لا يخرج عن شريعة الله؛ والإنفاق الذي يكون موافقاً للشرع هو ما ذكره بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67].

ومعنى إنفاقهم في شرع الله أن يكون ذلك إخلاصاً لله، واتباعاً لشرعه؛ فمن نوى بإنفاقه غير الله فليس في سبيل الله؛ مثل «المرائي»: رجل أنفق في الجهاد، أو أنفق في الصدقة على المساكين؛ لكنه أنفق ليقال: إن فلاناً جواد؛ أو أنه كريم؛ هذا ليس في سبيل الله، لأنه مراء؛ لم يقصد وجه الله عز وجل؛ إذاً لم يرد السبيل الذي يوصل إلى الله؛ ولا يهمه أن يقبل الله منه، أو لا يقبل؛ المهم عنده أنه يقال عند الناس: إنه رجل كريم، أو جواد.

وأما أن يكون على حسب شريعة الله: فإن أنفق في وجه لا يرضى به الله فليس في سبيل الله - وإن أخلص لله - كرجل ينفق على البدع يريد بذلك وجه الله - وهذا كثير: كبناء الربط للصوفية المنحرفة، وبناء البيوت للأعياد الميلادية، وبناء القصور للمآتم، وطبع الكتب المشتملة على بدع؛ هذا قد يريد الإنسان بذلك وجه الله لكنه خلاف شريعة الله؛ فلا يكون في سبيل الله.

6 - ومن فوائد الآية: إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: { أموالهم }؛ فإن الإضافة هنا تفيد الملكية.

7 - ومنها: وجه الشبه في قوله تعالى: { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }؛ فإن هذه الحبة أنبتت سبع سنابل؛ وشبهها الله بذلك؛ لأن السنابل غذاء للجسم، والبدن؛ كذلك الإنفاق في سبيل الله غذاء للقلب، والروح.

8 - ومنها: أن ثواب الله، وفضله أكثر من عمل العامل؛ لأنه لو عومل العامل بالعدل لكانت الحسنة بمثلها؛ لكن الله يعامله بالفضل، والزيادة؛ فتكون الحبة الواحدة سبعمائة حبة؛ بل أزيد؛ لقوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم }.

9 - ومنها: إثبات الصفات الفعلية - التي تتعلق بمشيئة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يضاعف }؛ و«المضاعفة» فعل.

10 - ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: { لمن يشاء }؛ ولكن هل هذه المشيئة مشيئة مجردة؛ أي أن الترجيح يكون فيها بدون سبب؛ أو هي مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؟ الجواب أنها مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؛ وعليه فخذ هذا مقياساً: كل شيء علقه الله على المشيئة فإنه مقيد بالحكمة؛ ودليله قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .

11 - ومنها: أن الله له السلطان المطلق في خلقه؛ ولا أحد يعترض عليه؛ لقوله تعالى: { يضاعف لمن يشاء}؛ ولهذا لما تناظر رجل من المعتزلة، وآخر من أهل السنة قال له المعتزلي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى أحسن إلي، أم أساء؟ - يريد أن يبين أن أفعال العباد لا تدخل في إرادة الله؛ لأنه إذا دخلت في إرادة الله فإن هذا الذي قضى عليه بالشقاء، ومنع الهدى يكون إساءة من الله إليه، فقال له السني: إن منعك ما هو لك فقد أساء؛ وإن منعك فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فغُلب المعتزلي؛ لأنه ليس لك حق على الله واجب؛ والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء.

12 - ومن فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «الواسع» ، و «العليم» ؛ لقوله تعالى: { واسع عليم }؛ وإثبات ما تضمناه من صفة؛ وهما السعة، والعلم.

13 - ومنها: الحث، والترغيب في الإنفاق في سبيل الله؛ يؤخذ هذا من ذكر فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فإن الله لم يذكر هذا إلا من أجل هذا الثواب؛ فلا بد أن يعمل له.



القرآن

)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:262)

التفسير:

{ 262 } قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } ذكره مرة أخرى ليبني عليها ما بعدها؛ وهي قوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى }.

قوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا } أي لا يحصل منهم بعد الصدقة مَنٌّ بأن يظهر المنفِق مظهر المترفع على المنفَق عليه؛ { ولا أذى } أي أذى المنفَق عليه بأن يقول المنفِق: «لقد أنفقت على فلان كذا، وكذا» أمام الناس؛ فإن هذا يؤذي المنفق عليه.

قوله تعالى: { لهم أجرهم }؛ «الأجر» ما يعطاه العامل في مقابلة عمله؛ ومنه أجرة الأجير؛ وسمى الله سبحانه وتعالى الثواب أجراً؛ لأنه عز وجل تكفل للعامل بأن يجزيه على هذا العمل؛ فصار كأجر الأجير.

قوله تعالى: { عند ربهم }: أصل العندية تكون في المكان؛ وقد يراد بها ما يعم المكان، والالتزام، كما تقول: عندي لفلان كذا، وكذا؛ أي في عهدي، وفي ذمتي له كذا، وكذا - حتى وإن لم يكن ذلك عنده في مكانه - فالعندية قد يراد بها المكان؛ وقد يراد بها ما يلتزم به الإنسان في ذمته، وعهده؛ وهنا { عند ربهم } يحتمل المعنيين؛ يحتمل أنه عند الله سبحانه وتعالى ملتزم به، ولا بد أن يوفيه؛ ويحتمل معنى آخر - وكلاهما صحيح - أن الثواب هذا يكون في الجنة التي سقفها عرش الرحمن؛ وهذه عندية مكان - ولا ينافي ما سبق من عندية العهد، والالتزام بالوفاء؛ فتكون الآية شاملة للمعنيين.

قوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي مما يستقبل { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى - لكمال نعيمهم - لأن المنعَّم لو أصابه الحزن، أو الخوف لتنغص نعيمه.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم }.

2 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله، ومتابعة الشرع؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }.

3 - ومنها: أن من أتبع نفقته منًّا، أو أذى، فإنه لا أجر له؛ لقوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم }؛ فإذا أتبع منًّا، أو أذًى بطل أجره، كما هو صريح قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .

4 - ومنها: أن المن والأذى يبطل الصدقة؛ وعليه فيكون لقبول الصدقة شروط سابقة، ومبطلات لاحقة؛ أما الشروط السابقة فالإخلاص لله، والمتابعة؛ وأما المبطلات اللاحقة فالمن، والأذى.

مـسألة:

هل مجرد إخبار المنفِق بأنه أعطى فلاناً دون منّ منه بذلك يعتبر من الأذى؟ الجواب: نعم؛ لأن المعطى تنزل قيمته عند من علم به؛ لكن لو أراد بالخبر أن يقتدي الناس به فيعطوه فليس في هذا أذًى؛ بل هو لمصلحة المعطى؛ أما إن ذكر أنه أعطى، ولم يعيِّن المعطى فهذا ليس فيه أذى؛ ولكن يخشى عليه الإعجاب، أو المراءاة.

مـسألة أخرى:

هل المنفق عليه إذا أحس بأن المنفق منّ عليه، أو ربما أذاه هل الأفضل أن يبقى قابلاً للإنفاق أو يرده؟ الجواب الأفضل أن يرده لئلا يكون لأحد عليه منة؛ ولكن إذا رده بعد القبض فهل يلزم المنفِق قبوله؟ الجواب: لا يلزمه قبوله؛ لأنه خرج عن ملكه إلى ملك المنفق عليه؛ فيكون رده إياه ابتداء عطية.

5 - ومن فوائد الآية: إثبات العندية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { عند ربهم }؛ والعندية تفيد القرب؛ فيكون الله عز وجل في مكان، وبعض الأشياء عنده، وبعض الأشياء بعيدة عنه؛ ولكن كلها قد أحاط الله بها؛ كلها بالنسبة إليه - إلى علمه، وقدرته، وسلطانه، وربوبيته - كلها سواء - لكن لا شك أن من كان حول العرش ليس كمن حول الفرش؛ ولكن يجب أن نعلم أن المكان ليس محيطاً به، كما قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] ؛ لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته.

6 - ومن فوائد الآية: أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويَسْلَمون من المحبطات لا ينالهم خوف في المستقبل، ولا حزن على الماضي؛ لقوله تعالى: { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.



القرآن

)قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة:263)

التفسير:

{ 263 } قوله تعالى: { قول } مبتدأ؛ و{ خير } خبره؛ وساغ الابتداء به هنا وهو نكرة؛ لأنه وصف؛ وإن شئت فقل: لأنه أفاد؛ وطريق إفادته الوصف؛ وإذا عللت بأنه أفاد صار أحسن؛ لأنه أعم.

قوله تعالى: { قول معروف } أي ما نطق به اللسان معروفاً في الشرع، ومعروفاً في العرف.

قوله تعالى: { ومغفرة } أي: مغفرة الإنسان لمن أساء إليه؛ قال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43] ؛ القول المعروف إحسان؛ والمغفرة إحسان؛ ولكن الفرق بينهما أن «القول المعروف» إسداء المعروف القولي إلى الغير؛ و «المغفرة» تسامح الإنسان عن حقه في جانب غيره.

قوله تعالى: { خير من صدقة يتبعها أذى }؛ «الصدقة» بذل الإحسان المالي؛ الإنسان قد ينتفع بالمال أكثر مما ينتفع بالكلمة؛ وقد ينتفع بالكلمة أكثر مما ينتفع بالمال؛ لكن لا شك أن القول المعروف خير من الصدقة التي يتبعها أذى - وإن نفعت؛ لأنك لو تعطي هذا الرجل ما تعطيه من المال صدقة لله عز وجل، ثم تتبعها الأذى؛ فإن هذا الإحسان صار في الحقيقة إساءة - وإن كان هذا قد ينتفع به في حاجاته - لكن هو في الحقيقة إساءة له.

قوله تعالى: { والله غني } أي عن غيره؛ فهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد؛ وكل من في السموات والأرض فإنه محتاج إلى الله تعالى؛ هو غني بذاته عن جميع مخلوقاته؛ فله الغنى المطلق من جميع الوجوه.

قوله تعالى: { حليم }؛ «الحلم» تأخير العقوبة عن مستحقها؛ قال ابن القيم في النونية:

(وهو الحليم فلا يعاجل عبده بعقوبة ليتوب من عصيان) وجمع الله في هذه الآية بين «الغِنى» و «الحِلم» ؛ لأن الآية في سياق الصدقة، فبين عز وجل أن الصدقات لا تنفع الله؛ وإنما تنفع من يتصدق؛ والآية أيضاً في سياق من أتبع الصدقة أذى ومِنّة؛ وهذا حري بأن يعاجَل بالعقوبة، حيث آذى هذا الرجل الذي أعطاه المال لله؛ ولكن الله حليم يحلم على عبده لعله يتوب من المعصية.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: فضيلة القول المعروف؛ لقوله تعالى: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة... }؛ و «القول المعروف» كل ما عرفه الشرع، والعادة؛ مثال ذلك: أن يأتي رجل يسأل مالاً بحاله، أو قاله؛ فكلمه المسؤول، وقال: ليس عندي شيء، وسيرزق الله، وإذا جاء شيء فإننا نجعلك على البال، وما أشبه ذلك؛ فهذا قول معروف ليِّن، وهيِّن.

2 - ومنها: الحث على المغفرة لمن أساء إليك؛ لكن هذا الحث مقيد بما إذا كانت المغفرة إصلاحاً؛ لقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ؛ أما إذا لم تكن المغفرة إصلاحاً، مثل أن أغفر لهذا الجاني، ثم يذهب، ويسيء إلى الآخرين، أو يكرر الإساءة إليَّ، فإن الغفر هنا غير مطلوب.

3 - ومنها: أن الأعمال الصالحة تتفاضل، ويلزم من تفاضلها تفاضل العامل، وزيادة الإيمان، أو نقصانه.

4 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغني» و «الحليم» ؛ وإثبات ما دلا عليه من الصفات.

5 - ومنها: المناسبة في ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين؛ لأن في الآية إنفاقاً؛ وإذا كان الله عز وجل هو الذي يخلِف هذا الإنفاق فإنه لكمال غناه؛ كذلك المغفرة عمن أساء إليك: فإن المغفرة تتضمن الحلم، وزيادة؛ فختم الله الآية بالحلم؛ وقد يقال: إن فيه مناسبة أخرى؛ وهي أن المن بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ والله سبحانه وتعالى حليم على أهل الكبائر؛ إذ لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، والله أعلم.



القرآن

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:45 am من طرف ahmadhamad
الاية 266 الي الاية 272

)أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة:266)

التفسير:

{ 266 } قوله تعالى: { أيود أحدكم } الاستفهام هنا بمعنى النفي، كما سيتبين من آخر الآية؛ و «يود» أي يحب؛ و «الود» خالص المحبة.

قوله تعالى: { أن تكون له جنة } أي بستان { من نخيل وأعناب }؛ وهذه من أفضل المأكولات؛ فالتمر حلوى، وقوت، وفاكهة؛ والعنب كذلك: حلوى، وقوت، وفاكهة؛ وظاهر كلمة «أنهار» أن الماء عذب؛ وجمع { الأنهار } باعتبار تفرقها في الجنة، وانتشارها في نواحيها؛ إذاً يعتبر هذا البستان كاملاً من كل النواحي: نخيل، وأعناب، ومياه، وثمرات؛ وهو أيضاً جنة كثيرة الأشجار، والأغصان، والزروع، وغير ذلك - هذا هو المشهد الأول من الآية.

والمشهد الثاني قوله تعالى: { وأصابه الكبر } أي أصاب صاحب الجنة الكِبَر، فعجز عن تصريفها، والقيام عليها؛ { وله ذرية ضعفاء } يعني صغاراً، أو عاجزين؛ فالأب كبير؛ والذرية ضعفاء - إما لصغرهم، أو عجزهم.

قوله تعالى: { فأصابها } أي أصاب هذه الجنة { إعصار } أي ريح شديدة؛ وقيل: ريح منطوية التي ينطوي بعضها على بعض؛ وهذا الإعصار { فيه نار } أي حرارة شديدة؛ مر الإعصار على هذه الجنة { فاحترقت } حتى تساقطت أوراقها، وثمراتها، ويبست أغصانها، وعروقها؛ فماذا يكون حال هذا الرجل؟! يكون في غاية ما يكون من البؤس؛ لأنه فقد هذه الجنة في حال الكبر، والذرية الضعفاء؛ فهو في نفسه لا يكتسب، وذريته لا يكتسبون له ولا لأنفسهم؛ فتكون عليه الدنيا أضيق ما يكون، ويتحسر على هذه الجنة أشد ما يكون من التحسر.

هذا الأمر الذي بينه الله هنا ضربه الله مثلاً للمنفق المانّ بنفقته؛ انظر كيف يبدئ الله ويعيد في القرآن العظيم للتنفير من المن بالصدقة؛ والذي يشبه الإعصار نفس المنّ؛ فهذا الرجل تصدق بألف درهم، فهذه الصدقة تنمو له: الألف يكون بسبعمائة ألف إلى أضعاف كثيرة؛ لكنه - والعياذ بالله - منّ بهذه الصدقة، فصار هذا المنّ بمنزلة الإعصار الذي أصاب تلك الجنة الفيحاء؛ ولا يمكن أن تنزل هذه الصورة على المرائي؛ لأن المرائي لم يغرس شيئاً أصلاً.

قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي مِثل ذلك البيان؛ وهذا التعبير يرد كثيراً في القرآن، وتقديره كما سبق؛ وإذا كان هذا التقدير فإننا نقول: الكاف اسم بمعنى مثل؛ وهي منصوبة على أنها مفعول مطلق؛ وعاملها { يبين }؛ و{ الآيات } يشمل الآيات الكونية، والشرعية - يبينها الله، ويوضحها.

قوله تعالى: { لعلكم تتفكرون }: «لعل» هنا للتعليل؛ و «التفكر» إعمال الفكر فيما يراد.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: بيان تثبيت المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة؛ لأنه أقرب إلى الفهم؛ وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثلاً للمانّ بالصدقة بصاحب هذه الجنة؛ ووجه الشبه سبقت الإشارة إليه.

2 - ومنها: جواز ضرب المثل بالقول؛ فهل يجوز ضرب المثل بالفعل - وهو ما يسمى بالتمثيل؟

الجواب: نعم، يجوز لكن بشرط ألا يشتمل على شيء محرم؛ ولنضرب لذلك أمثلة للأشياء المحرمة في التمثيل:

أولاً: أن يكون فيه قيام رجل بدور امرأة، أو قيام امرأة بدور رجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال(154).

ثانياً: أن يتضمن ازدراء ذوي الفضل من الصحابة، وأئمة المسلمين؛ لأن ازدراءهم واحتقارهم محرم؛ والقيام بتمثيلهم يحط من قدرهم - لا سيما إذا عُلم من حال الممثِّل أنه فاسق؛ لأن الغالب إذا كان فاسقاً وقد تقمص شخصية هذا الرجل التَّقي الذي له قدره، وفضله في الأمة، فإن هذا قد يحط من قدره بهذا الذي قام بدور في التمثيلية.

ثالثاً: أن يكون فيه تقليد لأصوات الحيوانات، مثل أن يقوم بدور تمثيل الكلب، أو الحمار؛ لأن الله لم يذكر التشبيه بالحيوانات إلا في مقام الذم، كقوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار} [الجمعة: 5] ، وقوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث...} [الأعراف: 175، 176] الآيتين؛ وكذلك السنة لم تأت بالتشبيه بالحيوان إلا في مقام الذم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة كمثل الحمار يحمل أسفاراً»(155)، وقوله: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»(156).

رابعاً: أن يتضمن تمثيل دَور الكافر، أو الفاسق؛ بمعنى أن يكون أحد القائمين بأدوار هذه التمثيلية يمثل دَور الكافر، أو دَور الفاسق؛ لأنه يخشى أن يؤثر ذلك على قلبه: أن يتذكر يوماً من الدهر أنه قام بدور الكافر، فيؤثر على قلبه، ويدخل عليه الشيطان من هذه الناحية؛ لكن لو فعل هل يكون كافراً؟

الجواب: لا يكون كافراً؛ لأن هذا الرجل لا ينسب الكفر إلى نفسه؛ بل صور نفسه صورة من ينسبه إلى نفسه، كمن قام بتمثيل رجل طلق زوجته؛ فإن زوجة الممثل لا تطلق؛ لأنه لم ينسب الطلاق إلى نفسه؛ بل إلى غيره.

وقد ظن بعض الناس أنه إذا قام بدور الكافر فإنه يكفر، ويخرج من الإسلام، ويجب عليه أن يجدد إسلامه، واستدل بالقرآن، وكلام أهل العلم؛ أما القرآن فاستدل بقوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66]: وهؤلاء القوم يدعون أنهم يخوضون، ويلعبون؛ يعني: على سبيل التسلية ليقطعوا بها عناء الطريق؛ ويقول أهل العلم: إن من أتى بكلمة الكفر - ولو مازحاً - فإنه يكفر؛ قالوا: وهذا الرجل مازح ليس جادّاً؛ فالجواب أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة»(157): فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق يمزح عليها فإنها تطلق؛ فهل تقولون: إذا قام الممثل بدور رجل طلق امرأته فإنها تطلق امرأته؟ سيقولون: لا؛ وكلنا يقول: لا؛ والفرق ظاهر؛ لأن المازح يضيف الفعل إلى نفسه، والممثل يضيفه إلى غيره؛ ولهذا لا تطلق زوجته لو قام بدور تمثيل المطلِّق؛ ولا يكفر لو قام بدوره تمثيل الكافر؛ لكن أرى أنه لا يجوز من ناحية أخرى؛ وهي أنه لعله يتأثر قلبه في المستقبل، حيث يتذكر أنه كان يوماً من الدهر يمثل دور الكافر؛ ثم إنه ربما يعَيَّر به فيقال مثلاً: أين أبو جهل؟! إذا قام بدوره.

ويمكن أن نأتي بدليل على جواز التمثيل؛ وذلك في قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأقرع، والأعمى، والأبرص؛ فالملك أتى الأبرص، والأقرع، والأعمى، وسألهم ماذا يريدون؛ كل ذكر أمنيته؛ فأعطاه الله سبحانه وتعالى أمنيته؛ ثم عاد إليهم المَلَك مرة أخرى؛ عاد إلى الأبرص بصورته، وهيئته - يعني أبرص فقيراً - وقال له: «إني رجل فقير، وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك»(158)؛ فالملَك يمثل دور رجل فقير - وهو ليس بفقير - وأبرص - وليس بأبرص - وكذلك بالنسبة للأقرع، والأعمى؛ فبعض العلماء استدل بهذا الحديث على جواز التمثيل.

فعليه نقول إذا كان التمثيل لا يشتمل على شيء محرم من الأمثلة التي ذكرناها، أو غيرها، فإنه لا بأس به، وليس من الكذب في شيء؛ لأن الكذب يضيف الإنسان الأمر إلى نفسه، فيأتي إليك يقرع الباب؛ تقول: مَن؟ يقول: أنا زيد - وليس هو بزيد؛ فهذا كاذب؛ لكن يأتي إنسان يقول: أنا أمثل دور فلان، ويعرف الناس أنه ليس فلاناً؛ فليس بكذب؛ لكنه إذا نسب القول إلى شخص معيَّن فهذا يحتاج إلى ثبوت هذا القول عن هذا الشخص المعين؛ أما إذا حكى قصة رجل بوصفه - لا بعينه - فليس بكذب.

3 - ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى يبين لعباده الآيات الشرعية، والكونية؛ كلها مبينة في كتابه سبحانه وتعالى أتم بيان.

4 - ومنها: الحث على التفكر، وأنه غاية مقصودة؛ لقوله تعالى: { لعلكم تتفكرون }؛ فالإنسان مأمور بالتفكر في الآيات الكونية، والشرعية؛ لأن التفكر يؤدي إلى نتائج طيبة؛ لكن هذا فيما يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه؛ أما ما لا يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه فإن التفكر فيه ضياع وقت، وربما يوصل إلى محظور، مثل التفكر في كيفية صفات الله عز وجل: هذا لا يجوز؛ لأنك لن تصل إلى نتيجة؛ ولهذا جاء في الأثر: «تفكروا في آيات الله ولا تفكروا في ذات الله»(159)؛ لأن هذا أمر لا يمكن الوصول إليه؛ وغاية لا تمكن الإحاطة بها، كما قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ؛ فلا يجوز لأحد أن يتفكر في كيفية استواء الله عز وجل على العرش؛ بل يجب الكف عنه؛ لأنه سيؤدي إلى نتيجة سيئة؛ إما إلى التكييف، أو التمثيل، أو التعطيل - ولا بد؛ وأما التفكر في معاني أسماء الله فمطلوب؛ لأن المعنى كما قال الإمام مالك - رحمه الله - لما سئل: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] : كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة .



القرآن

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (البقرة:267)

التفسير:

{ 267 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: سبق مراراً وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهميته، والعناية به؛ لأن النداء يتضمن التنبيه؛ والتنبيه على الشيء دليل على الاهتمام به، وأن تصديره بـ{ يا أيها الذين آمنوا } يفيد عدة فوائد:

أولاً: الإغراء؛ و«الإغراء» معناه الحث على قبول ما تخاطَب به؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه»(160)؛ ولهذا لو ناديتك بوصفك، وقلت: يا رجل، يا ذكي، يا كريم. معناه: يا من توصف بهذا اجعل آثار هذا الشيء بادياً عليك.

ثانياً: أن امتثال ما جاء في هذا الخطاب من مقتضيات الإيمان؛ كأنه تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا } إن إيمانكم يدعوكم إلى كذا وكذا.

ثالثاً: أن مخالفته نقص في الإيمان؛ لأنه لو حقق هذا الوصف لامتثل ما جاء في الخطاب.

قوله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }: بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق فضيلة الإنفاق ابتغاء وجهه، وسوء العاقبة لمن منَّ بصدقته، أو أنفق رياءً، حثَّ على الإنفاق؛ لكن الفرق بين ما هنا، وما سبق: أن ما هنا بيان للذي ينفَق منه؛ وهناك بيان للذي ينَفق عليه.

وقوله تعالى: { من طيبات ما كسبتم } أي مما كسبتموه بطريق حلال؛ و{ كسبتم } أي ما حصلتموه بالكسب، كالذي يحصل بالبيع والشراء، والتأجير، وغيرها؛ وكل شيء حصل بعمل منك فهو من كسبك.

قوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض }: قال بعضهم: إنه معطوف على { ما } في قوله تعالى: { ما كسبتم }؛ يعني: «ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض»؛ ولكن الصحيح الذي يظهر أنه معطوف على قوله تعالى: { طيبات }؛ يعني: «أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض»؛ لأن ما أخرج الله لنا من الأرض كله طيب ملك لنا، كما قال تعالى: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [البقرة: 29] .

وقوله: { مما }: لو قلنا: إن «مِن» للتبعيض يكون المعنى: أنفقوا بعض طيبات ما كسبتم، وبعض ما أخرجنا لكم من الأرض؛ وهناك احتمال أن «مِن» لبيان الجنس؛ فيشمل ما لو أنفق الإنسان كل ماله؛ وهذا عندي أحسن؛ لأن التي للجنس تعم القليل والكثير.

قوله تعالى: { أخرجنا لكم من الأرض } يشمل ما أخرج من ثمرات النخيل، والأعناب، والزروع، والفاكهة، والمعادن، وغير ذلك مما يجب أن ننفق منه.

قوله تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أي لا تقصدوا الخبيث منه فتنفقونه؛ لأن «التيمم» في اللغة: القصد؛ ومنه قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6] ؛ والمراد بـ{ الخبيث } هنا الرديء؛ يعني: لا تقصدوا الرديء تخرجونه، وتبقون لأنفسكم الطيب؛ فإن هذا ليس من العدل؛ ولهذا قال تعالى: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }.

وقوله تعالى: { منه تنفقون } يحتمل في { منه } وجهان؛ أحدهما: أنها متعلقة بـ{ الخبيث } على أنها حال؛ أي الخبيث حال كونه مما أخرجنا لكم من الأرض؛ وعلى هذا يكون في { تنفقون } ضمير محذوف؛ والتقدير: تنفقونه؛ الوجه الثاني: أنها متعلقة بقوله تعالى: { تنفقون }؛ يعني: ولا تقصدوا الخبيث تنفقون منه؛ وقدمت على عاملها للحصر؛ والوجهان من حيث المعنى لا يختلفان؛ فإن معناها أن الله ينهانا أن نقصد الخبيث - وهو الرديء - لننفق منه.

قوله تعالى: { ولستم بآخذيه }: أي لستم بآخذي الرديء عن الجيد لو كان الحق لكم { إلا أن تغمضوا فيه } أي تأخذوه عن إغماض؛ و «الإغماض» أخذ الشيء على كراهيته - كأنه أغمض عينيه كراهية أن يراه.

قوله تعالى: { واعلموا أن الله غني حميد }؛ فهو لم يطلب منكم الإنفاق لفقره واحتياجه؛ { حميد }: يحتمل أن تكون بمعنى حامد؛ وبمعنى محمود؛ وكلاهما صحيح؛ لأن «فعيلاً» تأتي بمعنى فاعل؛ وبمعنى مفعول؛ إتيانها بمعنى فاعل مثل: «رحيم» بمعنى راحم؛ و«سميع» بمعنى سامع؛ وإتيانها بمعنى مفعول مثل: «قتيل»، و«جريح»، و«ذبيح»، وما أشبه ذلك؛ وهنا { حميد } تصح أن تكون بمعنى حامد، وبمعنى محمود؛ أما كون الله محموداً فظاهر؛ وأما كونه حامداً فلأنه سبحانه وتعالى يَحمَد من يستحق الحمد من عباده؛ ولهذا أثنى على أنبيائه، ورسله، والصالحين من عباده؛ وهذا يدل على أنه عز وجل حامد لمن يستحق الحمد.

ووجه المناسبة في ذكر «الحميد» بعد «الغني» أن غناه عز وجل غِنًى يحمد عليه؛ بخلاف غنى المخلوق؛ فقد يحمد عليه، وقد لا يحمد؛ فلا يحمد المخلوق على غناه إذا كان بخيلاً؛ وإنما يحمد إذا بذله؛ والله عز وجل غني حميد؛ فهو لم يسألكم هذا لحاجته إليه؛ ولكن لمصلحتكم أنتم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ فإن هذا وصف يقتضي امتثال أمر الله؛ وهذا يدل على فضيلة الإيمان.

2 - ومنها: أن من مقتضى الإيمان امتثال أمر الله، واجتناب نهيه؛ ووجهه أن الله تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا }؛ فلولا أن للإيمان تأثيراً لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغواً لا فائدة منه.

3 - ومنها: وجوب الإنفاق من طيبات ما كسبنا؛ لقوله تعالى: { أنفقوا }؛ والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل صارف عن الوجوب.

4 - ومنها: وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لقوله تعالى: { ما كسبتم }؛ ولا شك أن عروض التجارة كسب؛ فإنها كسب بالمعاملة.

5 - ومنها: أن المال الحرام لا يؤمر بالإنفاق منه؛ لأنه خبيث؛ والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.

فإذا قال قائل: ماذا أصنع به إذا تبت؟

فالجواب أنه يرده على صاحبه إن أخذه بغير اختياره؛ فإن كان قد مات رده على ورثته؛ فإن لم يكن له ورثة فعلى بيت المال؛ فإن تعذر ذلك تصدق به عمن هو له؛ أما إذا أخذه باختيار صاحبه كالربا، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، فإنه لا يرده عليه؛ ولكن يتصدق به(161)؛ هذا إذا كان حين اكتسابه إياه عالماً بالتحريم؛ أما إن كان جاهلاً فإنه لا يجب عليه أن يتصدق به؛ لقوله تعالى: {فله ما سلف وأمره إلى الله} [البقرة: 275] .

6 - ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }؛ ووجه الدلالة: أنه لو كان الإنسان مجبراً على عمله لم يصح أن يوجه إليه الأمر بالإنفاق؛ لأنه لا يقدر على زعم هؤلاء الجبرية؛ ولأن الله أضاف الكسب إلى المخاطَب في قوله تعالى: { ما كسبتم }؛ ولو كان مجبراً عليه لم يصح أن يكون من كسبه؛ وليعلم أن مثل هذا الدليل في الرد على الجبرية كثير في القرآن، وإنما نذكره عند كل آية لينتفع بذلك من يريد إحصاء الأدلة على هؤلاء؛ وإلا فالدليل الواحد كافٍ لمن أراد الحق .

7 - ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض }؛ وظاهر الآية وجوب الزكاة في الخارج من الأرض مطلقاً سواء كان قليلاً، أم كثيراً؛ وسواء كان مما يوسَّق، ويكال، أم لا؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وهو أن الزكاة تجب في الخارج من الأرض مطلقاً لعموم الآية؛ ولكن الصواب ما دلت عليه السنة من أن الزكاة لا تجب إلا في شيء معين جنساً، وقدراً؛ فلا تجب الزكاة في القليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»(162)؛ و «الوسق» هو الحِمل؛ ومقدار خمسة أوسق: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي.

ولا تجب الزكاة إلا فيما يكال؛ وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق» ؛ و «الوسق» كما ذكرت هو الحمل؛ وهو ستون صاعاً؛ وعليه فلا تجب الزكاة في الخضراوات مثل: التفاح، والبرتقال، والأترج، وشبهها، لأن السنة بينت أنه لا بد من أن يكون ذلك الشيء مما يوسق.

تــنــبــيــه:

لم يبين في الآية مقدار الواجب إنفاقه من الكسب، والخارج من الأرض؛ ولكن السنة بينت أن مقدار الواجب فيما حصل من الكسب ربع العشر؛ ومقدار الواجب في الخارج من الأرض العشر فيما يسقى بلا مؤونة؛ ونصفه فيما يسقى بمؤونة.

8 - ومن فوائد الآية: ما يتبين من اختلاف التعبير في قوله تعالى: { من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض }؛ فلماذا عبر في الأول تعبيراً يدل على أن ذلك من فعل العبد؛ وفي الثاني عبر تعبيراً يدل على أنه ليس من فعل العبد؟ الأمر في ذلك واضح؛ لأن نمو التجارة بالكسب، وغالبه من فعل العبد: يبيع، ويشتري، ويكسب؛ أما ما خرج من الأرض فليس من فعل العبد في الواقع، كما قال تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63، 64] .

9 - من فوائد الآية: وجوب الزكاة في المعادن؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض } لكن العلماء يقولون: إن كان المعدن ذهباً أو فضة وجبت فيه الزكاة بكل حال؛ وإن كان غير ذهب، ولا فضة، كالنحاس، والرصاص، وما أشبههما ففيه الزكاة إن أعده للتجارة؛ لأن هذه المعادن لا تجب الزكاة فيها بعينها؛ إنما تجب الزكاة فيها إذا نواها للتجارة.

وهل يستفاد من الآية وجوب الزكاة في الركاز - والركاز هو ما وجد من دفن الجاهلية - أي مدفون الجاهلية؛ يعني ما وجد من النقود القديمة، أو غيرها التي تنسب إلى زمن بعيد بحيث يغلب على الظن أنه ليس لها أهل وقتَ وجودها؟ لا يستفاد؛ لكن السنة دلت على أن الواجب فيه الخمس(163)؛ ثم اختلف العلماء ما المراد بالخمس: هل هو الجزء المشاع - وهو واحد من خمسة؛ أو هو الخمس الذي مصرفه الفيء؟ على قولين؛ وبسط ذلك مذكور في كتب الفقه.

10 - ومن فوائد الآية: تحريم قصد الرديء في إخراج الزكاة؛ لقوله تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}.

11 - ومنها: إذا ضمت هذه الآية إلى حديث ابن عباس حين بعث النبي معاذاً إلى اليمن، وقال: «إياك وكرائم أموالهم»(164)، تبين لك العدل في الشريعة الإسلامية؛ لأن العامل على الزكاة لو قصد الكرائم من الأموال صار في هذا إجحاف على أهل الأموال؛ ولو قصد الرديء صار فيه إجحاف على أهل الزكاة؛ فصار الواجب وسطاً؛ لا نلزم صاحب المال بإخراج الأجود؛ ولا نمكنه من إخراج الأردأ؛ بل يخرج الوسط.

12 - ومنها: الإشارة إلى قاعدة إيمانية عامة؛ وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(165)؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قال: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }؛ فالإنسان لا يرضى بهذا لنفسه فلماذا يرضاه لغيره؟!! فإذا كنت أنت لو أُعطيت الرديء من مال مشترك بينك وبين غيرك ما أخذته إلا على إغماض، وإغضاء عن بعض الشيء؛ فلماذا تختاره لغيرك، ولا تختاره لنفسك؟!! وهذا ينبغي للإنسان أن يتخذه قاعدة فيما يعامل به غيره؛ وهو أن يعامله بما يحب أن يعامله به؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه»(166)، هذه قاعدة في المعاملة مع الناس؛ ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس اليوم لا يتعاملون فيما بينهم على هذا الوجه؛ كثير من الناس يرى أن المكر غنيمة، وأن الكذب غنيمة.

13 - ومن فوائد الآية: إثبات القياس؛ وذلك لقوله تعالى: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }؛ يعني إذا كنت لا ترضاه لنفسك فلا ترضاه لغيرك؛ أي قس هذا بهذا.

14 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله، وما تضمناه من صفة؛ وهما «غني» و «حميد» .



القرآن

)الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:268)

التفسير:

{ 268 } قوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء }؛ { الشيطان } مبتدأ؛ وخبره جملة: { يعدكم}؛ و{ يأمركم } فيها قراءتان: الضم، والسكون؛ فأما الضم فواضح؛ لأنه فعل مضارع لم يدخل عليه ناصب، ولا جازم؛ وأما السكون فللتخفيف سماعاً لا قياساً.

قوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً }: هذه الجملة مقابلة لما سبقها: الفضل ضد الفقر؛ والمغفرة ضد الفحشاء؛ لأن الفحشاء تُكسب الذنوب؛ والمغفرة تمحو الذنوب؛ ففرق بين هذا، وهذا؛ والجملة مكونة من مبتدأ، وخبر؛ المبتدأ: لفظ الجلالة: { الله }؛ والخبر: جملة: { يعدكم }.

قوله تعالى: { والله واسع عليم } جملة خبرية مكونة من مبتدأ، وخبر؛ المبتدأ: لفظ الجلالة: { الله }؛ والخبر: { واسع }؛ و{ عليم } خبر ثانٍ.

قوله تعالى: { الشيطان } اسم من أسماء إبليس؛ قيل: إنه مشتق من «شطن» إذا بعُد - وعلى هذا فالنون أصلية؛ وقيل: إنه مشتق من «شاط» إذا تغيظ، وغضب؛ لأن صفته هو التغيظ، والغضب، والحمق، والجهل؛ ولكن الأول أقرب: أنه من «شطن» إذا بعد؛ بدليل أنه مصروف؛ و «أل» فيه للجنس؛ فليس خاصاً بشيطان واحد.

قوله تعالى: { يعدكم الفقر } أي يهددكم الفقر إذا تصدقتم؛ وقوله تعالى: { بالفحشاء } أي البخل؛ وإنما فُسِّر بالبخل؛ لأن فحش كل شيء بحسب القرينة، والسياق؛ فقد يراد به الزنى، كقوله تعالى: { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } [الإسراء: 32] ؛ وقد يراد به اللواط، كما في قوله تعالى عن لوط إذا قال لقومه: {أتأتون الفاحشة} [الأعراف: 80] ؛ وقد يراد به ما يستفحش من الذنوب عموماً، كقوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} [الشورى: 37] .

قوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة } أي لذنوبكم إن تصدقتم؛ { وفضلًا } أي زيادة؛ فالصدقة تزيد المال؛ لقوله تعالى: { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } [الروم: 39] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»(167).

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: إثبات إغواء الشياطين لبني آدم؛ لقوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء}.

2 - ومنها: أن للشيطان تأثيراً على بني آدم إقداماً، أو إحجاماً؛ أما الإقدام: فيأمره بالزنى مثلاً، ويزين له حتى يُقْدم عليه؛ وأما الإحجام: فيأمره بالبخل، ويعده الفقر لو أنفق؛ وحينئذٍ يحجم عن الإنفاق.

3 - ومنها: أن أبواب التشاؤم لا يفتحها إلا الشياطين؛ لقوله تعالى: { يعدكم الفقر }؛ فالشيطان هو الذي يفتح لك باب التشاؤم يقول: «إذا أنفقت اليوم أصبحت غداً فقيراً؛ لا تنفق»؛ والإنسان بشر: ربما لا ينفق؛ ربما ينسى قول الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39] ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال» .

4 - ومنها: بيان عداوة الشيطان للإنسان؛ لأنه في الواقع عدو له في الخبر، وعدو له في الطلب؛ في الخبر: يعده الفقر؛ في الطلب: يأمره بالفحشاء؛ فهو عدو مخبراً، وطالباً - والعياذ بالله.

5 - ومنها: أن البخل من الفواحش؛ لأن المقام مقام إنفاق؛ فيكون المراد بالفاحشة: البخل، وعدم الإنفاق.

6 - ومنها: أن من أمر شخصاً بالإمساك عن الإنفاق المشروع؛ فهو شبيه بالشيطان؛ وكذلك من أمر غيره بالإسراف فالظاهر أنه شيطان؛ لقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً} [الإسراء: 27] .

7 - ومنها: البشرى لمن أنفق بالمغفرة، والزيادة؛ لقوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا } ؛ شتان ما بين الوعدين: { الشيطان يعدكم الفقر }؛ { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا }؛ فالله يعدنا بشيئين: المغفرة، والفضل؛ المغفرة للذنوب؛ والفضل لزيادة المال في بركته، ونمائه.

فإن قال قائل: كيف يزيد الله تعالى المنفِق فضلاً ونحن نشاهد أن الإنفاق ينقص المال حساً؛ فإذا أنفق الإنسان من العشرة درهماً صارت تسعة؛ فما وجه الزيادة؟

فالجواب: أما بالنسبة لزيادة الأجر في الآخرة فالأمر ظاهر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ ومن تصدق بما يعادل تمرة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يربيها له حتى تكون مثل الجبل؛ وأما بالنسبة للزيادة الحسية في الدنيا فمن عدة أوجه:

الوجه الأول: أن الله قد يفتح للإنسان باب رزق لم يخطر له على بال؛ فيزداد ماله.

الوجه الثاني: أن هذا المال ربما يقيه الله سبحانه وتعالى آفات لولا الصدقة لوقعت فيه؛ وهذا مشاهد؛ فالإنفاق يقي المال الآفات.

الوجه الثالث: البركة في الإنفاق بحيث ينفق القليل، وتكون ثمرته أكثر من الكثير؛ وإذا نُزعت البركة من الإنفاق فقد ينفق الإنسان شيئاً كثيراً في أمور لا تنفعه؛ أو تضره؛ وهذا شيء مشاهد.

8 - ومنها: أن هذه المغفرة التي يعدنا الله بها مغفرة عظيمة؛ لقوله تعالى: { منه }؛ لأن عظم العطاء من عظم المعطي؛ ولهذا جاء في الحديث الذي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر: «فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني»(168).

9 - ومنها: أنه ينبغي للمنفق أن يتفاءل بما وعد الله؛ لقوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا }؛ فإذا أنفق الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل أن الله يغفر له الذنوب، ويزيده من فضله كان هذا من خير ما تنطوي عليه السريرة.

10 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: { واسع }، و{ عليم }؛ وما تضمناه من صفة؛ ويستفاد من الاسمين، والصفتين إثبات صفة ثالثة باجتماعهما؛ لأن الاسم من أسماء الله إذا قرن بغيره تضمن معنًى زائداً على ما إذا كان منفرداً مثل قوله تعالى: {فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء: 149] ؛ فالجمع بين العفْوِ والقدرة لها ميزة: أن عفوه غير مشوب بعجز إطلاقاً؛ لأن بعض الناس قد يعفو لعجز؛ فقوله تعالى: { واسع عليم }: فالصفة الثالثة التي تحصل باجتماعهما: أن علمه واسع.

وكل صفاته واسعة؛ وهذا مأخوذ من اسمه «الواسع»؛ فعلمه، وسمعه، وبصره، وقدرته، وكل صفاته واسعة.

القرآن

)يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269)

التفسير:

{ 269 } قوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }؛ { يؤتي } بمعنى يعطي؛ وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ، والخبر؛ فالمفعول الأول هنا: { الحكمة }؛ والمفعول الثاني: { مَن } في قوله تعالى: { من يشاء }؛ والمعنى: أن الله يعطي الحكمة من يشاء؛ و{ الحكمة } مِن أحكم بمعنى أتقن؛ وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، وتستلزم علماً، ورشداً، فالجاهل لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة؛ والسفيه لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة.

قوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }، أي من يعطه الله سبحانه وتعالى الحكمة فقد أعطاه خيراً كثيراً.

فإن قال قائل: ما وجه اختلاف التعبير بين قوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }، وقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة }؟

فالجواب: - والله أعلم - أن الحكمة قد تكون غريزة؛ وقد تكون مكتسبة؛ بمعنى أن الإنسان قد يحصل له مع المران ومخالطة الناس من الحكمة وحسن التصرف ما لا يحصل له لو كان منعزلاً عن الناس؛ ولهذا أتى بالفعل المضارع المبني للمفعول ليعم كل طرق الحكمة التي تأتي - سواء أوتي الحكمة من قبل الله عز وجل، أو من قِبل الممارسة والتجارب؛ على أن ما يحصل من الحكمة بالممارسة والتجارب فهو من الله عز وجل؛ هو الذي قيض لك من يفتح لك أبواب الحكمة، وأبواب الخير.

قوله تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب }، أي ما يتعظ بآيات الله إلا أصحاب العقول الذين يتصرفون تصرفاً رشيداً.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: إثبات أفعال الله المتعلقة بمشيئته؛ لقوله تعالى: { يؤتي الحكمة }؛ وهذه من الصفات الفعلية.

2 - ومنها: أن ما في الإنسان من العلم والرشد فهو فضل من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }؛ فإذا منّ الله سبحانه وتعالى على العبد بعلم، ورشد، وقوة، وقدرة، وسمع، وبصر فلا يترفع؛ لأن هذه الصفات من الله عز وجل؛ ولو شاء الله لحرمه إياها، أو لسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها؛ فقد يسلب الله العلم من الإنسان بعد أن أعطاه إياه؛ وربما يسلب منه الحكمة؛ فتكون كل تصرفاته طيشاً، وضلالاً، وهدراً.

3 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { من يشاء }؛ واعلم أن كل شيء علقه الله سبحانه وتعالى بمشيئته فإنه تابع لحكمته البالغة؛ وليس لمجرد المشيئة؛ لكن قد نعلم الحكمة؛ وقد لا نعلمها؛ قال الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .

4 - ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل؛ لأن الحكمة كمال؛ ومعطي الكمال أولى به؛ فنأخذ من الآية إثبات الحكمة لله بهذا الطريق.

5 - ومنها: الفخر العظيم لمن آتاه الله الحكمة؛ لقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }.

6 - ومنها: وجوب الشكر على من آتاه الله الحكمة؛ لأن هذا الخير الكثير يستوجب الشكر.

7 - ومنها: أن بلوغ الحكمة متعدد الطرق؛ فقد يكون غريزياً جبل الله العبد عليه؛ وقد يكون كسبياً يحصل بالمران، ومصاحبة الحكماء.

8 - ومنها: منّة الله سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده بإيتائه الحكمة؛ لقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }.

9 - ومنها: فضيلة العقل؛ لقوله تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب }؛ لأن التذكر بلا شك يحمد عليه الإنسان؛ فإذا كان لا يقع إلا من صاحب العقل دل ذلك على فضيلة العقل؛ والعقل ليس هو الذكاء لأن العقل نتيجته حسن التصرف - وإن لم يكن الإنسان ذكياً؛ والذكاء؛ قوة الفطنة - وإن لم يكن الإنسان عاقلاً؛ ولهذا نقول: ليس كل ذكي عاقلاً، ولا كل عاقل ذكياً؛ لكن قد يجتمعان؛ وقد يرتفعان؛ وهناك عقل يسمى عقل إدراك؛ وهو الذي يتعلق به التكليف، وهذا لا يلحقه مدح، ولا ذم؛ لأنه ليس من كسب الإنسان.

10 - ومن فوائد الآية: أن عدم التذكر نقص في العقل - أي عقل الرشد؛ لقوله تعالى: { وما يذَّكر إلا أولو الألباب }؛ فإن الحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بقوة ذلك الوصف، ونقص بنقص ذلك الوصف.

11 - ومنها: أنه لا يتعظ بالمواعظ الكونية أو الشرعية إلا أصحاب العقول الذين يتدبرون ما حصل من الآيات سابقاً، ولاحقاً؛ فيعتبرون بها؛ وأما الغافل فلا تنفعه.



القرآن

)وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (البقرة:270)

التفسير:

{ 270 } قوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر }؛ { ما } هنا شرطية؛ والدليل على أنها شرطية أنها مركبة من شرط، وجواب؛ والشرط هو: { أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر }؛ والجواب: { فإن الله يعلمه}؛ و{ مِن } زائدة زائدة؛ أي زائدة إعراباً زائدة معنًى؛ لأنها تفيد النص على العموم؛ وهي حرف جر زائد من حيث الإعراب؛ ولهذا نعرب: { نفقةٍ } على أنها مفعول به - أي: ما أنفقتم نفقةً أو نذرتم نذراً فإن الله يعلمه؛ ويجوز أن تكون بياناً لاسم الشرط { ما } في قوله تعالى: { ما أنفقتم }؛ لأن «ما» الشرطية مبهمة؛ والمبهم يحتاج إلى بيان.

قوله تعالى: { فإن الله يعلمه } هذه جملة جواب الشرط؛ والفاء هنا واقعة في جواب الشرط وجوباً؛ لأنه جملة اسمية؛ وإذا وقع جواب الشرط جملة اسمية وجب اقترانه بالفاء؛ وفي ذلك يقول الناظم فيما يجب اقترانه بالفاء:

(اسمية طلبية وبجامدٍ وبما وقد وبلن وبالتنفيس) قوله تعالى: { وما للظالمين من أنصار } جملة منفية؛ والمبتدأ فيها قوله تعالى: { من أنصار }؛ و{ من } فيها زائدة إعراباً زائدة معنًى؛ يعنى تزيد المعنى - وهو النص على العموم - وإن كانت في الإعراب زائدة؛ ولهذا نعرب { أنصار } على أنها مبتدأ مؤخر مرفوع بالابتداء؛ وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

وقوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة }، أي أيّ شيء تنفقونه من قليل أو كثير فإن الله يعلمه.

وقوله تعالى: { أو نذرتم من نذر }، أي أوجبتم على أنفسكم من طاعة، مثل أن يقول القائل: «لله عليّ نذر أن أتصدق بكذا»؛ أو «أن أصوم كذا»؛ { فإن الله يعلمه }؛ وذِكر العلم يستلزم أن الله يجازيهم، فلا يضيع عند الله عز وجل.

قوله تعالى: { وما للظالمين } أي للمانعين ما يجب إنفاقه، أو الوفاء به من النذور { من أنصار } أي مانعين للعذاب عنهم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن الإنفاق قليله وكثيره يثاب عليه المرء؛ وذلك لقوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة }، وكلمة { نفقة } نكرة في سياق الشرط؛ فهي تعم؛ وعلى ذلك تشمل القليل، والكثير؛ لكن الثواب عليها مشروط بأمرين: الإخلاص لله؛ وأن تكون على وفق الشرع.

2 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا أنفق نفقة أن يحتسب الأجر على الله؛ لقوله تعالى: { فإن الله يعلمه }؛ لأنك إذا أنفقت وأنت تشعر أن الله يعلم هذا الإنفاق فسوف تحتسب الأجر على الله.

3 - ومنها: أن ما نذره الإنسان من طاعة فهو معلوم عند الله.

4 - هل تدل الآية على جواز النذر؟

الجواب: الآية لا تدل على الجواز، كما لو قال قائل مثلاً: «إن سرَقتَ فإن الله يعلم سرقتك»؛ فإن هذا لا يعني أن السرقة جائزة؛ وعلى هذا فالآية لا تعارض نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر(169)؛ لأن النهي عن النذر يعني إنشاءه ابتداءً؛ فأما الوفاء به فواجب إذا كان طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»(170).

5 - ومنها: عموم علم الله بكل ما ينفقه الإنسان، أو ينذره من قليل، أو كثير.

6 - ومنها: الرد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه تدخل إطلاقاً؛ وجه ذلك: أنه إذا كان الله يعلمه فلا بد أن يقع على حسب علمه؛ وإلا لزم أن يكون الله غير عالم؛ ولهذا قال بعض السلف: جادلوهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصِموا؛ وإن أنكروه كفروا.

7 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر الظالم؛ لقوله تعالى: { وما للظالمين من أنصار }؛ ولا يرد على هذا ما وقع في أُحد من انتصار الكافرين لوجهين:

الوجه الأول: أنه نوع عقوبة، حيث حصل من بعض المسلمين عصيانهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} [آل عمران: 152].

الوجه الثاني: أن هذا الانتصار من أجل أن يمحق الله الكافرين؛ لأن انتصارهم يغريهم بمقاتلة المسلمين؛ حتى تكون العاقبة للمسلمين، كما قال تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141] .

8 - ومن فوائد الآية: أن من دعا على أخيه وهو ظالم له فإن الله لا يجيب دعاءه؛ لأنه لو أجيب لكان نصراً له؛ وقد قال تعالى: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21] .

9 - ومنها: الثواب على القليل، والكثير؛ وفي القرآن ما يشهد لذلك، مثل قوله تعالى: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} [التوبة: 121] ، وقوله تعالى في آخر سورة الزلزلة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة: 7، 8] .



القرآن

)إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:271)

التفسير:

{ 271 } قوله تعالى: { إن تبدوا الصدقات } أي تظهروها { فنعمَّا هي }: جملة إنشائية للمدح؛ وقُرنت بالفاء وهي جواب الشرط لكونها فعلاً جامداً { وإن تخفوها } أي تصدَّقوا سراً { وتؤتوها الفقراء } أي تعطوها المعدمين؛ وذكر { الفقراء } هنا على سبيل المثال؛ { فهو خير لكم } أي من إظهارها؛ والجملة: جواب الشرط؛ وقرنت بالفاء لكونها اسمية.

قوله تعالى: { ويكفر عنكم من سيئاتكم } الجملة استئنافية؛ ولذلك كان الفعل مرفوعاً؛ و «التكفير» بمعنى السَّتر؛ { سيئاتكم } جمع سيئة؛ وهي ما يسوء المرء عمله، أو ثوابه.

قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }، أي عليم ببواطن الأمور كظواهرها.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الحث على الصدقة، والترغيب فيها سواء أبداها، أو أخفاها.

2 - ومنها: أن إخفاء الصدقة أفضل من إبدائها؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص؛ وأستر للمتصدق عليه؛ لكن إذا كان في إبدائها مصلحة ترجح على إخفائها - مثل أن يكون إبداؤها سبباً لاقتداء الناس بعضهم ببعض، أو يكون في إبدائها دفع ملامة عن المتصدق، أو غير ذلك من المصالح - فإبداؤها أفضل.

3 - ومنها: أن الصدقة لا تعتبر حتى يوصلها إلى الفقير؛ لقوله تعالى: { وتؤتوها الفقراء }.

ويتفرع على هذا فرعان:

أحدهما: أن مؤونة إيصالها على المتصدق.

الثاني: أنه لو نوى أن يتصدق بماله، ثم بدا له ألا يتصدق فله ذلك؛ لأنه لم يصل إلى الفقير.

4 - ومنها: تفاضل الأعمال - أي أن بعض الأعمال أفضل من بعض؛ لقوله تعالى: { فهو خير لكم }؛ وتفاضل الأعمال يكون بأسباب:

أ - منها التفاضل في الجنس ، كالصلاة - مثلاً - أفضل من الزكاة، وما دونها.

ب - ومنها التفاضل في النوع ؛ فالواجب من الجنس أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه»(171).

ج - ومنها التفاضل باعتبار العامل لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»(172).

د - ومنها التفاضل باعتبار الزمان ، كقوله صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من ذي الحجة: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»(173)، وكقوله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3].

هـ - ومنها التفاضل بحسب المكان ، كفضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره.

و - ومنها التفاضل بحسب جودة العمل وإتقانه ، كقوله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة؛ والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران»(174).

ز - ومنها التفاضل بحسب الكيفية ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...»، وذكر منهم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»(175).

وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ لأن الإنسان يشرف، ويفضل بعمله؛ وتفاضل الأعمال يستلزم زيادة الإيمان؛ لأن الإيمان قول، وعمل؛ فإذا تفاضلت الأعمال تفاضل الإيمان - أعني زيادة الإيمان، ونقصانه - وهو مذهب أهل السنة، والجماعة.

5 - ومن فوائد الآية: أن الصدقة سبب لتكفير السيئات؛ لقوله تعالى: { ويكفر عنكم من سيئاتكم }؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع...}(176) [السجدة: 16] .

6 - ومنها: إثبات أفعال الله الاختيارية - كما هو مذهب أهل السنة، والجماعة؛ لقوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} ؛ فإن تكفير السيئات حاصل بعد العمل الذي يحصل به التكفير.

7 - ومنها: بيان آثار الذنوب، وأنها تسوء العبد؛ لقوله تعالى: { من سيئاتكم }.

8 - ومنها: إثبات اسم الله عز وجل «الخبير» ؛ وإثبات ما دل عليه من صفة.

9 - ومنها: تحذير العبد من المخالفة؛ لقوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }؛ فإن إخباره إيانا بذلك يستلزم أن نخشى من خبرته عز وجل فلا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يرانا حيث نهانا.



القرآن

)لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (البقرة:272)

التفسير:

{ 272 } قوله تعالى: { ليس عليك هداهم }؛ الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ و{ هداهم }: الضمير يعود على بني آدم؛ والهدى المنفي هنا هدى التوفيق؛ وأما هدى البيان فهو على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] ؛ ولقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] ، وقوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر} [الغاشية: 21، 22] ، وقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40] ... إلى آيات كثيرة تدل أن على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدي الناس هداية الدلالة، والإرشاد؛ أما هداية التوفيق فليست على الرسول، ولا إلى الرسول؛ لا يجب عليه أن يهديهم؛ وليس بقدرته ولا استطاعته أن يهديهم؛ ولو كان بقدرته أن يهديهم لهدى عمه أبا طالب؛ ولكنه لا يستطيع ذلك؛ لأن هذا إلى الله سبحانه وتعالى وحده.

قوله تعالى: { ولكن الله يهدي من يشاء }؛ وهذا كالاستدراك لما سبق؛ أي لمّا نفى كون هدايتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك إلى الله عز وجل وحده؛ فيهدي من يشاء ممن اقتضت حكمته هدايته.

قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } أي: وليس لله عز وجل؛ فالله سبحانه وتعالى لا ينتفع به؛ بل لأنفسكم تقدمونه؛ وما لا تنفقونه فقد حرمتم أنفسكم؛ و{ ما } هذه شرطية بدليل اقتران الجواب بالفاء في قوله تعالى: { فلأنفسكم }؛ وقوله تعالى: { من خير } بيان لـ{ ما } الشرطية؛ لأن { ما } الشرطية مبهمة تحتاج إلى بيان؛ يعني: أيَّ خير تنفقونه فلأنفسكم؛ والمراد بـ «الخير» كل ما بذل لوجه الله عز وجل من عين، أو منفعة؛ وأغلب ما يكون في الأعيان.

وقوله تعالى: { فلأنفسكم }: الفاء رابطة للجواب؛ والجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فهو لأنفسكم؛ يعني: وليس لغيركم.

قوله تعالى: { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } يعني: لا تنفقون إنفاقاً ينفعكم إلا ما ابتغيتم به وجه الله؛ فأما ما ابتغي به سوى الله فلا ينفع صاحبه؛ بل هو خسارة عليه.

وقوله تعالى: { إلا ابتغاء } أي إلا طلب؛ و{ وجه الله }: المراد به الوجه الحقيقي؛ لأن من دخل الجنة نظر إلى وجه الله.

قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير يوف إليكم }؛ { ما } هذه أيضاً شرطية بدليل جزم الجواب: { يوف }؛ فإنه مجزوم بحذف حرف العلة؛ وهو الألف؛ يعني: أيَّ خير تنفقونه من الأعيان، والمنافع قليلاً كان أو كثيراً يوف إليكم؛ أي: تعطَونه وافياً من غير نقص؛ بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

قوله تعالى: { وأنتم لا تظلمون }، أي: لا تنقصون شيئاً منه.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن هداية الخلق لا تلزم الرسل؛ ونعنى بذلك هداية التوفيق؛ أما هداية الدلالة فهي لازمة عليهم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67].

2 - ومنها: أن الإنسان إذا بلغ شريعة الله برئت ذمته؛ لقوله تعالى: { ليس عليك هداهم }؛ ولو كانت ذمته لا تبرأ لكان ملزماً بأن يهتدوا.

3 - ومنها: إثبات أن جميع الأمور دقيقها، وجليلها بيد الله؛ لقوله تعالى: { ولكن الله يهدي من يشاء }.

4 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { ولكن الله يهدي من يشاء }؛ لأنهم يقولون: «إن العبد مستقل بعمله، ولا تعلق لمشيئة الله سبحانه وتعالى فيه».

5 - ومنها: إثبات المشيئة لله تعالى؛ لقوله تعالى: { من يشاء }.

6 - ومنها: أن هداية الخلق بمشيئة الله؛ ولكن هذه المشيئة تابعة للحكمة؛ فمن كان أهلاً لها هداه الله؛ لقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] ؛ ومن لم يكن أهلاً للهداية لم يهده؛ لقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ، ولقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .

7 - ومنها: أن أعمال الإنسان لا تنصرف إلى غيره؛ لقوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم }؛ وليس في الآية دليل على منع أن يتصدق الإنسان بعمله على غيره؛ ولكنها تبين أن ما عمله الإنسان فهو حق له؛ ولهذا جاءت السنة صريحة بجواز الصدقة عن الميت، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في قصة الرجل الذي قال: «يا رسول الله، إن أمي أفتلتت نفسها وأُراها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم تصدق عنها»(177)؛ وكذلك حديث سعد بن عبادة حين تصدق ببستانه لأمه(178)؛ إذاً فالآية لا تدل على منع الصدقة عن الغير؛ وإنما تدل على أن ما عمله الإنسان لا يصرف إلى غيره.

8 - ومن فوائد الآية: أن الإنفاق الذي لا يُبتغى به وجه الله لا ينفع العبد؛ لقوله تعالى: { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله }.

9 - ومنها: التنبيه على الإخلاص: أن يكون الإنسان مخلصاً لله عز وجل في كل عمله؛ حتى في الإنفاق وبذل المال ينبغي له أن يكون مخلصاً فيه؛ لقوله تعالى: { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله }؛ فالإنفاق قد يحمل عليه محبة ا
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:46 am من طرف ahmadhamad

الاية 273 الي الاية 279



لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273)

التفسير:

{ 273 } في هذه الآية بيان لمصرف الإنفاق؛ كأن سائلاً يسأل: إلى أين نصرف هذا الخير؟ فقال تعالى: { للفقراء... }؛ وعلى هذا فتكون { للفقراء } إما متعلقة بقوله تعالى: { تنفقوا }؛ أو بمحذوف تقديره: الإنفاق، أو الصدقات للفقراء؛ و{ الفقراء } جمع فقير؛ و «الفقير» هو المعدم؛ لأن أصل هذه الكلمة مأخوذة من «الفقر» الموافق لـ«القفر» في الاشتقاق الأكبر - الذي يتماثل فيه الحروف دون الترتيب؛ و«القفر» الأرض الخالية، كما قال الشاعر:

(وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفر وليس قربَ قبرِ حرب قبر) فـ «الفقير» معناه الخالي ذات اليد؛ ويقرن بـ«المسكين» أحياناً؛ فإذا قرن بـ«المسكين» صار لكل منهما معنى؛ وصار «الفقير» من كان خالي ذات اليد؛ أو من لا يجد من النفقة إلا أقل من النصف؛ والمسكين أحسن حالاً منه، لكن لا يجد جميع الكفاية؛ أما إذا انفرد أحدهما عن الآخر صار معناهما واحداً؛ فهو من الكلمات التي إذا اجتمعت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت.

قوله تعالى: { الذين أحصروا في سبيل الله } أي منعوا من الخروج من ديارهم { في سبيل الله } أي في شريعته { لا يستطيعون ضرباً في الأرض } أي لا يقدرون على السفر لقلة ذات اليد؛ أو لعجزهم عن السفر لما أصابهم من الجراح، أو الكسور، أو نحو ذلك.

قوله تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنياء } أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أغنياء؛ وفي { يحسبهم } قراءتان: فتح السين، وكسرها؛ و{ من التعفف } أي بسبب تعففهم عن السؤال، وإظهار المسكنة؛ لأنك إذا رأيتهم ظننتهم أغنياء مع أنهم فقراء، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة، واللقمتان والتمرة، والتمرتان؛ ولكن المسكين الذي لا يجد غِنًى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس»(181).

قوله تعالى: { تعرفهم بسيماهم } أي تعرف أحوالهم بعلامتهم؛ والعلامة التي فيهم هي أن الإنسان إذا رآهم ظنهم أغنياء؛ وإذا دقق في حالهم تبين له أنهم فقراء؛ لكنهم متعففون؛ وكم من إنسان يأتيك بمظهر الفقير المدقع: ثياب ممزقة، وشعر منفوش، ووجه كالح، وأنين، وطنين؛ وإذا أمعنت النظر فيه عرفت أنه غني؛ وكم إنسان يأتيك بزي الغني، وبهيئة الإنسان المنتصر على نفسه الذي لا يحتاج إلى أحد؛ لكن إذا دققت في حاله علمت أنه فقير؛ وهذا يعرفه من منّ الله عليه بالفراسة؛ وكثير من الناس يعطيهم الله سبحانه وتعالى علماً بالفراسة يعلمون أحوال الإنسان بملامح وجهه، ونظراته، وكذلك بعض عباراته، كما قال الله عز وجل: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30] .

قوله تعالى: { لا يسألون الناس إلحافاً }؛ هل النفي للقيد؛ أو للقيد والمقيد؟ إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ فإن النفي للقيد؛ أي أنهم لا يلحون في المسألة؛ ولكن يسألون؛ وإن نظرنا إلى مقتضى السياق ترجح أنهم لا يسألون الناس مطلقاً؛ فيكون النفي نفياً للقيد - وهو الإلحاف، والمقيد - وهو السؤال؛ والمعنى أنهم لا يسألون مطلقاً؛ ولو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء؛ بل لظنهم فقراء بسبب سؤالهم؛ ولكنه ذكر أعلى أنواع السؤال المذموم - وهو الإلحاح؛ ولهذا تجد الإنسان إذا ألح - وإن كان فقيراً - يثقل عليك، وتمل مسألته؛ حتى ربما تأخذك العزة بالإثم ولا تعطيه؛ فتحرمه، أو تنهره مع علمك باستحقاقه؛ وتجد الإنسان الذي يظهر بمظهر الغني المتعفف ترق له، وتعطيه أكثر مما تعطي السائل.

إذاً في قول الله تعالى: { الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً } خمس صفات؛ والسادسة أنهم فقراء؛ فهؤلاء هم المستحقون حقاً للصدقة، والإنفاق؛ وإذا تخلفت صفة من الصفات فالاستحقاق باقٍ؛ لكن ليست كما إذا تمت هذه الصفات الست.

قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }: هذه الجملة شرطية ذيلت بها الآية المبينة لأهل الاستحقاق حثاً على الإنفاق؛ لأنه إذا كان الله عليماً بأيّ خير ننفقه فسيجازينا عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أنه لا يجوز أن نعطي من يستطيع التكسب؛ لقوله تعالى: { لا يستطيعون ضرباً في الأرض }؛ لأنه عُلم منه أنهم لو كانوا يستطيعون ضرباً في الأرض، والتكسب فإنهم لا يعطون؛ ولهذا لما جاء رجلان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة صعَّد فيهما النظر وصوَّبه، ثم قال: «إن شئتما أعطيتكما؛ ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب»(182)؛ فإذا كان الإنسان يستطيع الضرب في الأرض والتجارة والتكسب، فإنه لا يعطى؛ لأنه وإن كان فقيراً بماله؛ لكنه ليس فقيراً بعمله.

2 - ومن فوائد الآية: فضيلة التعفف؛ لقوله تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }.

3 - ومنها: التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون فطناً ذا حزم، ودقة نظر؛ لأن الله وصف هذا الذي لا يعلم عن حال هؤلاء بأنه جاهل؛ فقال تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }؛ فينبغي للإنسان أن يكون ذا فطنة، وحزم، ونظر في الأمور.

4 - ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: { من التعفف }؛ فإن { من } هنا سببية؛ أي بسبب تعففهم يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء.

5 - ومنها: الإشارة إلى الفراسة، والفطنة؛ لقوله تعالى: { تعرفهم بسيماهم }؛ فإن السيما هي العلامة التي لا يطلع عليها إلا ذوو الفراسة؛ وكم من إنسان سليم القلب ليس عنده فراسة، ولا بُعد نظر يخدع بأدنى سبب؛ وكم من إنسان عنده قوة فراسة، وحزم، ونظر في العواقب يحميه الله سبحانه وتعالى بفراسته عن أشياء كثيرة.

6 - ومنها: الثناء على من لا يسأل الناس؛ لقوله تعالى: { لا يسألون الناس إلحافاً }؛ وقد كان من جملة ما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: ألا يسألوا الناس شيئاً؛ حتى إن الرجل ليسقط سوطه من على بعيره، فينزل، فيأخذه ولا يقول لأخيه: أعطني إياه(183)؛ كل هذا بعداً عن سؤال الناس.

والسؤال - أي سؤال المال - لغير ضرورة محرم إلا إذا علمنا أن المسؤول يفرح بذلك ويُسَر؛ فإنه لا بأس به؛ بل قد يكون السائل مثاباً مأجوراً لإدخاله السرور على أخيه؛ كما لو سأل إنسان صديقاً له يعرف أنه يكون ممتناً بهذا السؤال؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي على البرمة: «هو على بريرة صدقة؛ ولنا هدية»(184).

7 - ومن فوائد الآية: بيان عموم علم الله؛ لقوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }؛ فأيّ خير يفعله العبد فإن الله به عليم.



القرآن

)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:274)

التفسير:

{ 274 } قوله تعالى: { الذين } مبتدأ؛ وجملة: { فلهم أجرهم } خبر المبتدأ؛ واقترنت بالفاء لمشابهة المبتدأ بالشرط في العموم؛ لأن المبتدأ هنا اسم موصول؛ واسم الموصول يشبه الشرط في العموم.

قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم } يحتمل أن يراد بـ «الأموال» هنا كل الأموال؛ ويحتمل أن يراد الجنس فيشمل الكل، والبعض.

قوله تعالى: { بالليل والنهار }؛ الباء هنا للظرفية، وفيه عموم الزمن؛ وقوله تعالى: { سراً وعلانية } فيه عموم الأحوال؛ أي على كل حال، وفي كل زمان؛ و{ سراً } أي خفاءً؛ وهو مفعول مطلق لـ{ ينفقون }؛ يعني إنفاقاً سراً، و{ علانية } أي جهراً.

قوله تعالى: { فلهم أجرهم عند ربهم } أي ثوابهم عند الله؛ وسمي أجراً؛ لأنه يشبه عقد الإجارة التي يعوَّض فيه العامل على عمله؛ وهذا الأجر قد بُين فيما سبق بأن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261] .

قوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي فيما يستقبل؛ { ولا هم يحزنون } أي فيما مضى؛ فهم لا يحزنون على ما سبق؛ ولا يخافون من المستقبل؛ لأنهم يرجون ثواب الله عز وجل؛ ولا يحزنون على ما مضى؛ لأنهم أنفقوه عن طيب نفس.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الثناء على الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سواء كان ليلاً، أو نهاراً، أو سراً، أو جهاراً.

2 - ومنها: كثرة ثوابهم؛ لأنه سبحانه وتعالى أضاف أجرهم إلى نفسه، فقال تعالى: { فلهم أجرهم عند ربهم}؛ والثواب عند العظيم يكون عظيماً.

3 - ومنها: أن الإنفاق يكون سبباً لشرح الصدر، وطرد الهم، والغم؛ لقوله تعالى: { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ وهذا أمر مجرب مشاهد أن الإنسان إذا أنفق يبتغي بها وجه الله انشرح صدره، وسرت نفسه، واطمأن قلبه؛ وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد أن ذلك من أسباب انشراح الصدر.

4 - ومنها: كرم الله عز وجل حيث جعل هذا الثواب الذي سببه منه وإليه، أجراً لفاعله؛ كالأجير إذا استأجرته فإن أجره ثابت لازم.

5 - ومنها: كمال الأمن لمن أنفق في سبيل الله؛ وذلك لانتفاء الخوف، والحزن عنهم.


القرآن

)الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:275)

التفسير:

{ 275 } قوله تعالى: { الذين } مبتدأ؛ و{ لا يقومون } خبره؛ و{ الذين يأكلون الربا } أي الذين يأخذون الربا فينتفعون به بأكل، أو شرب، أو لباس، أو سكن، أو غير ذلك؛ لكنه ذكر الأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، وأكثرها إلحاحاً؛ و{ الربا } في اللغة: الزيادة؛ ومنه قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] أي زادت؛ وفي الشرع: زيادة في شيئين منع الشارع من التفاضل بينهما.

قوله تعالى: { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }؛ اختلف المفسرون في هذا القيام، ومتى يكون؛ فقال بعضهم - وهم الأكثر: إنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ يعني: كالمصروع الذي يتخبطه الشيطان؛ و «التخبط» هو الضرب العشوائي؛ فالشيطان يتسلّط على ابن آدم تسلطاً عشوائياً، فيصرعه؛ فيقوم هؤلاء من قبورهم يوم القيامة كقيام المصروعين - والعياذ بالله - يشهدهم الناس كلهم؛ وهذا القول هو قول جمهور المفسرين؛ وهو مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

القول الثاني: إنهم لا يقومون عند التعامل بالربا إلا كما يقوم المصروع؛ لأنهم - والعياذ بالله - لشدة شغفهم بالربا كأنما يتصرفون تصرف المتخبط الذي لا يشعر؛ لأنهم سكارى بمحبة الربا، وسكارى بما يربحونه - وهم الخاسرون؛ فيكون القيام هنا في الدنيا؛ شبَّه تصرفاتهم العشوائية الجنونية المبنية على الربا العظيم - الذي يتضخم المال من أجل الربا - بالإنسان المصروع الذي لا يعرف كيف يتصرف؛ وهذا قول كثير من المتأخرين؛ وقالوا: إن يوم القيامة هنا ليس له ذكر؛ ولكن الله شبَّه حالهم حين طلبهم الربا بحال المصروع من سوء التصرف؛ وكلما كان الإنسان أشد فقراً كانوا له أشد ظلماً؛ فيكثرون عليه الظلم لفقره؛ بينما حاله تقتضي الرأفة، والتخفيف؛ لكن هؤلاء ظلمة ليس همهم إلا أكل أموال الناس.

فاختلف المفسرون في معنى «القيام» ، ومتى يكون؛ لكنهم لم يختلفوا في قوله تعالى: { يتخبطه الشيطان من المس }؛ يعني متفقين على أن الشيطان يتخبط الإنسان؛ و{ من المس } أي بالمس بالجنون؛ وهذا أمر مشاهد: أن الشيطان يصرع بني آدم؛ وربما يقتله - نسأل الله العافية -؛ يصرعه، ويبدأ يتخبط، ويتكلم، والإنسان نفسه لا يتكلم - يتكلم الشيطان الذي صرعه.

قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا }: المشار إليه قيامهم كقيام المصروع؛ { بأنهم قالوا... } إلخ: الباء للسببية؛ يعني أنهم عُمّي عليهم الفرق بين البيع، والربا؛ أو أنهم كابروا فألحقوا الربا بالبيع؛ ولذلك عكسوا التشبيه، فقالوا: إنما البيع مثل الربا، ولم يقولوا: «إنما الربا مثل البيع»، كما هو مقتضى الحال.

قوله تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا } أي أباح البيع، ومنع الربا؛ وهذا رد لقولهم: { إنما البيع مثل الربا}؛ فأبطل الله هذه الشبهة بما ذكر.

قوله تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه } أي من بلغه حكم الربا بعد أن تعامل به { فانتهى } أي كف عن الربا بالتوبة منه { فله ما سلف }، أي ما أخذه من الربا قبل العلم بالحكم.

قوله تعالى: { وأمره إلى الله } أي شأنه إلى الله - تبارك وتعالى - في الآخرة؛ { ومن عاد } أي ومن رجع إلى الربا بعد أن أتته الموعظة { فأولئك }: أتى باسم الإشارة الدال على البعد؛ وذلك لسفوله - أي هوى بعيداً؛ { أصحاب النار } أي أهلها الملازمون لها؛ وأكد ذلك بقوله تعالى: { هم فيها خالدون }.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: التحذير من الربا، حيث شبه آكله بمن يتخبطه الشيطان من المس.

2 - ومنها: أن من تعامل بالربا فإنه يصاب بالنهمة العظيمة في طلبه.

3 - ومنها: أن الشيطان يتخبط بني آدم فيصرعه؛ ولا عبرة بقول من أنكر ذلك من المعتزلة، وغيرهم؛ وقد جاءت السنة بإثبات ذلك؛ والواقع شاهد به؛ وقد قسم ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد الصرع إلى قسمين: صرع بتشنج الأعصاب؛ وهذا يدركه الأطباء، ويقرونه، ويعالجونه بما عندهم من الأدوية، والثاني: صرع من الشيطان؛ وذلك لا علم للأطباء به؛ ولا يعالج إلا بالأدوية الشرعية كقراءة القرآن، والأدعية النبوية الواردة في ذلك.

4 - ومن فوائد الآية: بيان علة قيام المرابين كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ وهي: { أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } يعني: فإذا كان مثله فلا حرج علينا في طلبه.

5 - ومنها: مبالغة أهل الباطل في ترويج باطلهم؛ لأنهم جعلوا المقيس هو المقيس عليه؛ لقولهم: { إنما البيع مثل الربا }؛ وكان مقتضى الحال أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع.

6 - ومنها: أن الحكم لله - تبارك وتعالى - وحده؛ فما أحله فهو حلال؛ وما حرمه فهو حرام سواء علمنا الحكمة في ذلك، أم لم نعلم؛ لأنه تعالى رد قولهم: { إنما البيع مثل الربا } بقوله تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا }؛ فكأنه قال: ليس الأمر إليكم؛ وإنما هو إلى الله.

7 - ومنها: أن بين الربا والبيع فرقاً أوجب اختلافهما في الحكم؛ فإنا نعلم أن الله تعالى لا يفرق بين شيئين في الحكم إلا وبينهما فرق في العلة، والسبب المقتضي لاختلافهما؛ لقوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8] ، وقوله تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50] .

8 - ومنها: أن ما أخذه الإنسان من الربا قبل العلم فهو حلال له بشرط أن يتوب، وينتهي؛ لقوله تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف }.

9 - ومنها: أنه لو تاب من الربا قبل أن يقبضه فإنه يجب إسقاطه؛ لقوله تعالى: { فانتهى }؛ ومن أخذه بعد العلم فإنه لم ينته؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة في حجة الوداع: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع؛ وأول رباً أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله»(185)؛ فبين صلى الله عليه وسلم أن ما لم يؤخذ من الربا فإنه موضوع.

10 - ومنها: رأفة الله تعالى بمن شاء من عباده؛ لقوله تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى }؛ وهذه ربوبية خاصة تستلزم توفيق العبد للتوبة حتى ينتهي عما حرم الله عليه.

11 - ومنها: التحذير من الرجوع إلى الربا بعد الموعظة؛ لقوله تعالى: { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.

12 - ومنها: التخويف من التفاؤل البعيد لمن تاب من الربا؛ لأنه تعالى قال: { فله ما سلف وأمره إلى الله }؛ يعني أن الإنسان يتفاءل، ويؤمل؛ لأن الأمر قد لا يكون على حسب تفاؤله.

13 - ومنها: بيان عظم الربا؛ لقوله تعالى: { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.



القرآن

)يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة:276)

التفسير:

{ 276 } قوله تعالى: { يمحق الله الربا }؛ «المحق» بمعنى الإزالة؛ أي يزيل الربا؛ والإزالة يحتمل أن تكون إزالة حسية، أو إزالة معنوية، فالإزالة الحسية: أن يسلط الله على مال المرابي ما يتلفه؛ والمعنوية : أن يَنزع منه البركة.

قوله تعالى: { ويربي الصدقات } أي يزيدها: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

قوله تعالى: { والله لا يحب كل كفار أثيم }؛ إذا نفى الله تعالى المحبة فالمراد إثبات ضدها - وهي الكراهة؛ و «الكَفّار» كثير الكفر، أو عظيم الكفر؛ و «الأثيم» بمعنى الآثم، كالسميع بمعنى السامع، والبصير بمعنى الباصر، وما أشبه ذلك.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: محق الربا: إما حساً، وإما معنًى، كما سبق.

2 - ومنها: التحذير من الربا، وسد أبواب الطمع أمام المرابين.

3 - ومنها: أن الله يرْبي الصدقات - أي يزيدها؛ والزيادة إما أن تكون حسية؛ وإما أن تكون معنوية؛ فإن كانت حسية فبالكمية، مثل أن ينفق عشرة، فيخلف الله عليه عشرين؛ وأما المعنوية فأن يُنْزل الله البركة في ماله.

4 - ومنها: مقابلة الضد بالضد؛ فكما أن الربا يُمحَق، ويزال؛ فالصدقة تزيد المال، وتنميه؛ لأن الربا ظلم، والصدقة إحسان.

5 - ومنها: إثبات المحبة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { والله لا يحب كل كفار أثيم }؛ ووجه الدلالة أن نفي المحبة عن الموصوف بالكفر، والإثم يدل على إثباتها لمن لم يتصف بذلك - أي لمن كان مؤمناً مطيعاً؛ ولولا ذلك لكان نفي المحبة عن «الكفار الأثيم» لغواً من القول لا فائدة منه؛ ولهذا استدل الشافعي - رحمه الله - بقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] على أن الأبرار يرون الله عز وجل؛ لأنه لما حجب الفجار عن رؤيته في حال الغضب دل على ثبوتها للأبرار في حال الرضا؛ وهذا استدلال خفي جيد؛ والمحبة الثابتة لله عز وجل هي محبة حقيقية تليق بجلاله، وعظمته؛ وليست - كما قال أهل التعطيل - إرادة الثواب، أو الثواب؛ لأن إرادة الثواب ناشئة عن المحبة؛ وليست هي المحبة؛ وهذه القاعدة - أعني إجراء النصوص على ظاهرها في باب صفات الله - اتفق عليها علماء السلف، وأهل السنة والجماعة؛ لأن ما يتحدث الله به عن نفسه أمور غيبية يجب علينا الاقتصار فيها على ما ورد.



القرآن

)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:277)

التفسير:

{ 277 } قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } أي آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به؛ { وعملوا الصالحات } أي عملوا الأعمال الصالحات؛ وهي المبنية على الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ { وأقاموا الصلاة } أي أتوا بها قويمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها؛ وعطْفها على العمل الصالح من باب عطف الخاص على العام؛ لأن إقامة الصلاة من الأعمال الصالحة، ونُص عليها لأهميتها؛ { وآتوا الزكاة } أي أعطوا الزكاة مستحقها؛ وعلى هذا فتكون { الزكاة } مفعولاً أولاً بـ{ آتوا }؛ والمفعول الثاني محذوف - أي آتوا الزكاة مستحقها؛ و «الزكاة» هي النصيب الذي أوجبه الله عز وجل في الأموال الزكوية؛ وهو معروف في كتب الفقه.

قوله تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم } أي لهم ثوابهم عند الله؛ والجملة هذه خبر { إن } في قوله تعالى: { إن الذين آمنوا... }.

قوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي فيما يستقبل من أمرهم؛ { ولا هم يحزنون } أي فيما مضى من أمرهم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الحث على الإيمان، والعمل الصالح؛ لأن ذكر الثواب يستلزم التشجيع، والحث، والإغراء.

2 - ومنها: أنه لابد مع الإيمان من العمل الصالح؛ فمجرد الإيمان لا ينفع العبد حتى يقوم بواجبه - أي واجب الإيمان: وهو العمل الصالح.

3 - ومنها: أن العمل لا يفيد حتى يكون صالحاً؛ والصلاح أن ينبني العمل على أمرين: الإخلاص لله عز وجل - وضده الشرك؛ والمتابعة - وضدها البدعة؛ فمن أخلص لله في شيء، ولكنه أتى بعمل مبتدع لم يقبل منه؛ ومن أتى بعمل مشروع لكن خلطه بالشرك لم يقبل منه؛ وأدلة هذا معروفة.

4 - ومنها: بيان أهمية إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.

5 - ومنها: أن هذين الركنين - أعني إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة - أعلى أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ للنص عليهما من بين سائر الأعمال الصالحة.

6 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى ضمن الأجر لمن آمن، وعمل صالحاً، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة؛ لقوله تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم }.

7 - ومنها: الإشارة إلى عظمة هذا الثواب؛ لأنه أضافه إلى نفسه - تبارك وتعالى - والمضاف إلى العظيم يكون عظيماً.

8 - ومنها: أن هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع - الإيمان، والعمل الصالح، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة - ليس عليهم خوف من مستقبل أمرهم؛ ولا حزن فيما مضى من أمرهم؛ لأنهم فعلوا ما به الأمن التام، كما قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] .



القرآن

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:278)

التفسير:

{ 278 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: الجملة ندائية؛ فائدتها: تنبيه المخاطب.

قوله تعالى: { اتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.

قوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا } أي اتركوا ما بقي من الربا.

قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }: هذا من باب الإغراء، والحث على الامتثال؛ يعني: إن كنتم مؤمنين حقاً فدعوا ما بقي من الربا؛ وهذه الجملة يقصد بها الإغراء، والإثارة - أعني إثارة الهمة.

فإن قلت: كيف يوجِّه الخطاب للمؤمنين، ويقول: { إن كنتم مؤمنين }؛ أفلا يكون في هذا تناقض؟ فالجواب: ليس هنا تناقض؛ لأن معنى الثانية التحدي؛ أي إن كنتم صادقين في إيمانكم فاتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: بلوغ القرآن أكمل البلاغة؛ لأن الكلام في القرآن يأتي دائماً مطابقاً لمقتضى الحال؛ فإذا كان الشيء مهماً أحاطه بالكلمات التي تجعل النفوس قابلة له؛ وهذا أكمل ما يكون من البلاغة.

2 - ومنها: أنه إذا كان الشيء هاماً فإنه ينبغي أن يصَدَّر بما يفيد التنبيه من نداء، أو غيره.

3 - ومنها: وجوب تقوى الله، لقوله تعالى: { اتقوا الله }؛ و «التقوى» وصية الله لعباده الأولين، والآخرين؛ قال الله تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131] .

4 - ومنها: وجوب ترك الربا - وإن كان قد تم العقد عليه؛ لقوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا }؛ وهذا في عقد استوفي بعضه، وبقي بعضه.

5 - ومنها: أنه لا يجوز تنفيذ العقود المحرمة في الإسلام - وإن عقدت في حال الشرك؛ لعموم قوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا }، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في عرفة عام حجة الوداع: «وربا الجاهلية موضوع؛ وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله»(186)؛ ولكن يجب أن نعلم أن العقود التي مضت في الكفر على وجه باطل، وزال سبب البطلان قبل الإسلام فإنها تبقى على ما كانت عليه؛ مثال ذلك: لو تبايع رجلان حال كفرهما بيعاً محرماً في الإسلام، ثم أسلما فالعقد يبقى بحاله؛ ومثال آخر: لو تزوج الكافر امرأة في عدتها، ثم أسلما بعد انقضاء عدتها فالنكاح باق؛ ولهذا أمثلة كثيرة.

6 - ومن فوائد الآية: تحريم أخذ ما يسمى بالفوائد من البنوك؛ لقوله تعالى: { وذروا ما بقي من الربا }؛ وزعم بعض الناس أن الفوائد من البنوك تؤخذ لئلا يستعين بها على الربا؛ وإذا كان البنك بنك كفار فلئلا يستعين بها على الكفر؛ فنقول: أأنتم أعلم أم الله!!! وقد قال الله تعالى: { ذروا ما بقي من الربا }؛ والاستحسان في مقابلة النص باطل.

فإن قال قائل: إذا كان البنك بنكاً غير إسلامي، ولو تركناه لهم صرفوه إلى الكنائس، وإلى السلاح الذي يقاتَل به المسلمون، أو أبقوه عندهم، ونما به رباهم؛ فنقول: إننا مخاطبون بشيء، فالواجب علينا أن نقوم بما خوطبنا به؛ والنتائج ليست إلينا؛ ثم إننا نقول: هذه الفائدة التي يسمونها فائدة هل هي قد دخلت في أموالنا حتى نقول: إننا أخرجنا من أموالنا ما يستعين به أعداؤنا على كفرهم، أو قتالنا؟

والجواب: أن الأمر ليس كذلك؛ فإن هذه الزيادة التي يسمونها فائدة ليست نماءَ أموالنا؛ فلم تدخل في ملكنا؛ ثم إننا نقول له: إذا أخذته فأين تصرفه؟ قال: أصرفه في صدقة؛ في إصلاح طرق؛ في بناء مساجد تخلصاً منه، أو تقرباً به؛ نقول له: إن فعلت ذلك تقرباً لم يقبل منك، ولم تسلم من إثمه؛ لأنك صرفته في هذه الحال على أنه ملكك؛ وإذا صرفته على أنه ملكك لم يقبل منك؛ لأنه صدقة من مال خبيث؛ ومن اكتسب مالاً خبيثاً فتصدق به لم يقبل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»(187)؛ وإن أخرجته تخلصاً منه فأي فائدة من أن تلطخ مالك بالخبيث، ثم تحاول التخلص منه؛ ثم نقول أيضاً: هل كل إنسان يضمن من نفسه أن يخرج هذا تخلصاً منه؟! فربما إذا رأى الزيادة الكبيرة تغلبه نفسه، ولا يخرجها؛ أيضاً إذا أخذت الربا، وقال الناس: إن فلاناً أخذ هذه الأموال التي يسمونها الفائدة؛ أفلا تخشى أن يقتدي الناس بك؟! لأنه ليس كل إنسان يعلم أنك سوف تخرج هذا المال، وتتخلص منه.

ولهذا أرى أنه لا يجوز أخذ شيء من الربا مطلقاً؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا }؛ ولم يوجه العباد إلى شيء آخر.

8 - ومن فوائد الآية: أن ممارسة الربا تنافي الإيمان؛ لقوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }؛ ولكن هل يُخرج الإنسانَ من الإيمان إلى الكفر؟ مذهب الخوارج أنه يخرجه من الإيمان إلى الكفر؛ فهو عند الخوارج كافر، كفرعون، وهامان، وقارون؛ لأنه فعل كبيرة من كبائر الذنوب؛ ومذهب أهل السنة والجماعة أنه مؤمن ناقص الإيمان؛ لكنه يُخشى عليه من الكفر لا سيما آكل الربا؛ لأنه غذي بحرام؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام: «فأنى يستجاب لذلك»(188) - نسأل الله العافية.

9 - ومن فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث حرم عليهم ما يتضمن الظلم؛ وأكد هذا التحريم، وأنزل القرآن فيه بلفظ يحمل على ترك هذا المحرم؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }، وقوله تعالى: { اتقوا الله }، وقوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }؛ والحكم: { ذروا ما بقي من الربا }.



القرآن

)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة:279)

التفسير:

{ 279 } قوله تعالى: { فإن لم تفعلوا } يعني: فإن لم تتركوا ما بقي من ربا؛ { فأذنوا } بالقصر وفتح الذال، بمعنى أعلنوا؛ وفي قراءة { فآذنوا } بالمد، وكسر الذال؛ والمعنى: أن من لم ينته عن الربا فقد أعلن الحرب على الله ورسوله.

قوله تعالى: { وإن تبتم } أي رجعتم إلى الله سبحانه وتعالى من معصيته إلى طاعته؛ وذلك هنا بترك الربا؛ والتوبة من الربا، كالتوبة من غيره - لابد فيها من توافر الشروط الخمسة المعروفة.

قوله تعالى: { فلكم رؤوس أموالكم }؛ { رؤوس } جمع رأس؛ و «الرأس» هنا بمعنى الأصل؛ أي لكم أصول الأموال؛ وأما الربا فليس لكم، ثم علل الله عز وجل هذا الحكم بقوله تعالى: { لا تظلمون }؛ لأنكم لم تأخذوا الزيادة؛ { ولا تُظلمون }؛ لأنها لم تنقص رؤوس أموالكم.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { فإن لم تفعلوا }؛ لأن الجبرية يقولون: إن الإنسان لا يستطيع الفعل، ولا الترك؛ لأنه مجبر؛ وحقيقة قولهم تعطيل الأمر والنهي؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ما أمر به، ولا ترك ما نهي عنه.

2 - ومنها: أن المصِرّ على الربا معلن الحرب على الله ورسوله؛ لقوله تعالى: { فأذنوا بحرب من الله ورسوله }.

ويتفرع على هذه الفائدة أنه إذا كان معلناً الحرب على الله، ورسوله فهو معلن الحرب على أولياء الله، ورسوله - وهم المؤمنون؛ وذلك بدلالة الالتزام؛ لأن كل مؤمن يجب أن ينتصر لله، ورسوله؛ فالمؤمنون هم حزب الله عز وجل ورسوله.

3 - ومن فوائد الآية: عظم الربا لعظم عقوبته؛ وإنما كان بهذه المثابة ردعاً لمتعاطيه عن الاستمرار فيه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه جاء في الوعيد على الربا ما لم يأت على ذنب دون الشرك؛ ولهذا جاء في الحديث الذي طرقه متعددة: «إن الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه»(189)؛ وهذا كلٌّ يستبشعه؛ فالربا ليس بالأمر الهين؛ والمؤمن ترتعد فرائصه إذا سمع مثل هذه الآية.

4 - ومنها: أنه يجب على كل من تاب إلى الله عز وجل من الربا ألا يأخذ شيئاً مما استفاده من الربا؛ لقوله تعالى: { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم }.

5 - ومنها: أنه لا يجوز أخذ ما زاد على رأس المال من الربا لأيّ غرض كان؛ سواء أخذه ليتصدق به، أو ليصرفه في وجوه البر تخلصاً منه، أو لغير ذلك؛ لأن الله أمر بتركه؛ ولو كان هنا طريق يمكن صرفه فيه لبينه الله عز وجل.

6 - ومنها: الإشارة إلى الحكمة من تحريم الربا - وهي الظلم؛ لقوله تعالى: { لا تظلمون ولا تظلمون }.

فإن قال قائل: إن بعض صور الربا ليس فيه ظلم، مثل أن يشتري صاعاً من البر الجيد بصاعين من الرديء يساويانه في القيمة؛ فإنه لا ظلم في هذه الصورة؛ قلنا: إن العلة إذا كانت منتشرة لا يمكن ضبطها فإن الحكم لا ينتقض بفقدها؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي إليه بتمر جيد فسأل: «من أين هذا؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديّ فبعت منه صاعين بصاع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوَّه أوَّه! عين الربا عين الربا لا تفعل»(190)؛ ثم أرشدهم إلى أن يبيعوا التمر الرديء بالدراهم؛ ويشتروا بالدراهم تمراً جيداً؛ فدل هذا على أن تخلف الظلم في بعض صور الربا لا يخرجه عن الحكم العام للربا؛ لأن هذه العلة منتشرة لا يمكن ضبطها؛ ولهذا أمثلة كثيرة؛ ودائماً نجد في كلام أهل العلم أن العلة إذا كانت منتشرة غير منضبطة فإن الحكم يعم، ولا ينظر للعلة.

7 - ومن فوائد الآية: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { ورسوله }.

8 - ومنها: رحمة الله سبحانه وتعالى بالعباد، حيث أرسل إليهم الرسل؛ لأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة ما ينفعها، ويضرها على وجه التفصيل لقصورها؛ إنما تعرفه على سبيل الجملة؛ لقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] ؛ فمن أجل ذلك أرسل الله الرسل؛ فكان في هذا رحمة عظيمة للخلق.

9 - ومنها: مراعاة العدل في معاملة الناس بعضهم مع بعض؛ لقوله تعالى: { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون }.
ahmadhamad
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الخميس سبتمبر 29, 2011 1:54 am من طرف ahmadhamad
الاية 280 الي الاية 286

)وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:280)

التفسير:

{ 280 } قوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة } { كان } تامة تكتفي بمرفوعها؛ و{ ذو } فاعل رفعت بالواو؛ لأنها من الأسماء الستة؛ والجملة شرطية؛ والجواب: جملة: { فنظرة إلى ميسرة }.

قوله تعالى: { إن كنتم تعلمون } جملة شرطية نقول في إعرابها ما سبق في قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }.

أما القراءات في هذه الآية: قوله تعالى: { ميسرة } فيها قراءتان: { ميسَرة } بفتح السين؛ و{ ميسُرة } بضمها؛ و{ تصدقوا } فيها قراءتان: { تصَدَّقوا } بتخفيف الصاد؛ و{ تَصَّدَّقوا } بتشديدها؛ أي تتصدقوا؛ لكن أدغمت التاء في الصاد.

قوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة } أي إن وجِد ذو عسرة؛ أي صاحب إعسار لا يستطيع الوفاء؛ والجملة شرطية؛ وجواب الشرط قوله تعالى: { فنظرة إلى ميسرة }؛ ويجوز في «نظرة» في إعرابها وجهان؛ أحدهما: أن تكون مبتدأ، والخبر محذوف؛ والتقدير: فعليكم نظرة؛ أو فله نظرة؛ وأما أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالواجب عليه نظرة؛ أي إنظار إلى ميسرة؛ أي: إيسار.

قوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم } أي تُبرءوا المعسر في دينه؛ و{ أن } وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ خبره قوله تعالى: { خير لكم } أي من إنظاره.

قوله تعالى: { إن كنتم تعلمون } هذه الجملة الشرطية مستقلة يراد بها الحث على العلم؛ «مستقلة» أي أنها لا توصل بما قبلها؛ لأنها لو وصلت بما قبلها لأوهم معنًى فاسداً: أوهم أن التصدق خير لنا إن كنا نعلم؛ فإن لم نكن نعلم فليس خيراً لنا؛ ولا شك أن هذا معنًى فاسد لا يراد بالآية؛ لكن المعنى: إن كنتم من ذوي العلم فافعلوا - أي تصدقوا.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: ثبوت رحمة الله عز وجل؛ وجه ذلك أنه أوجب على الدائن إنظار المدين؛ وهذا رحمة بالمعسر.

2 - ومنها: حكمة الله عز وجل بانقسام الناس إلى موسر، ومعسر؛ الموسر في الآية: الدائن؛ والمعسر: المدين؛ وحكمة الله عز وجل هذه لا يمكن أن تستقيم أمور العباد إلا بها، ولذلك بدأ الشيوعيون - الذين يريدون أن يساووا بين الناس - يتراجعون الآن؛ لأنهم عرفوا أنه لا يمكن أن يصلح العباد إلا هذا الخلاف؛ قال عز وجل: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} [الزخرف: 32] ؛ ولولا هذا الاختلاف لم يمكن أن يسخر لنا أحد ليعمل ما نريد؛ لأن كل واحد ندّ للآخر؛ فلا يمكن إصلاح الخلق إلا بما تقتضيه حكمة الله عز وجل، وشرعه من التفاوت بينهم: فهذا موسر؛ وهذا فقير؛ حتى يتبين بذلك حكمة الله عز وجل، وتقوم أحوال العباد.

3 - ومن فوائد الآية: وجوب إنظار المعسر - أي إمهاله حتى يوسر؛ لقوله تعالى: { فنظرة إلى ميسرة }؛ فلا تجوز مطالبته بالدَّين؛ ولا طلب الدَّين منه.

4 - ومنها: أن الحكم يدور مع علته وجوداً، وعدماً؛ لأنه لما كان وجوب الإنظار معللًا بالإعسار صار مستمراً إلى أن تزول العلة - وهي العسرة - حتى تجوز مطالبته.

ولو أن الناس مشوا على تقوى الله عز وجل في هذا الباب لسلمت أحوال الناس من المشاكل؛ لكن نجد الغني يماطل: يأتيه صاحب الحق يقول: اقضني حقي؛ فيقول: غداً؛ ويأتيه غداً فيقول: بعد غد؛ وهكذا؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مطل الغني ظلم»(191)؛ ونجد أولئك القوم الأشحاء ذوي الطمع لا يُنظرون المعسر، ولا يرحمونه؛ يقول له: أعطني؛ وإلا فالحبس؛ ويحبس فعلاً - وإن كان لا يجوز حبسه إذا تيقنا أنه معسر، ولا مطالبته، ولا طلب الدين؛ بل يعزر الدائن إذا ألح عليه في الطلب وهو معسر؛ لأن طلبه مع الإعسار معصية؛ والتعزير عند أهل العلم واجب في كل معصية لا حدّ فيها، ولا كفارة.

5 - ومن فوائد الآية: فضيلة الإبراء من الدَّين، وأنه صدقة؛ لقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }؛ والإبراء سنة؛ والإنظار واجب؛ وهنا السنة أفضل من الواجب بنص القرآن؛ لقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }؛ ووجه ذلك أن الواجب ينتظم في السنة؛ لأن إبراء المعسر من الدَّين إنظار، وزيادة؛ وعلى هذا فيبطل إلغاز من ألغز بهذه المسألة، وقال: «لنا سنة أفضل من الواجب»، ومثل ذلك قول بعضهم في الوضوء ثلاثاً: «إنه أفضل من الوضوء واحدة مع أن الواحدة واجب، والثلاث سنة»؛ فيُلغِز بذلك، ويقول: «هنا سنة أفضل من واجب»؛ فيقال له: هذا إلغاز باطل؛ لأن هذه السنة مشتملة على الواجب؛ فهي واجب، وزيادة؛ وصدق الله، حيث قال في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه»(192)؛ وهذا الحديث يبطل مثل هذه الألغاز التافهة.

6 - ومن فوائد الآية: تفاضل الأعمال؛ لقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل، وأن العاملين بعضهم أفضل من بعض؛ وهذا أمر معلوم بالضرورة الشرعية والعقلية أن العمال يختلفون، كما قال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} [النساء: 95] ، وكما قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] .

ويتفرع على تفاضل العمال بتفاضل الأعمال: تفاضل الإيمان، لأن الأعمال من الإيمان عند أهل السنة، والجماعة؛ فإذا تفاضلت لزم من ذلك تفاضل الإيمان؛ ولهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.

7 - ومن فوائد الآية: فضيلة العلم، وأن العلم يهدي صاحبه إلى الخير؛ لقوله تعالى: { إن كنتم تعلمون }.

8 - وهل يستفاد من الآية الكريمة: أن إبراء الغريم يجزئ من الزكاة: فلو أن إنساناً أبرأ فقيراً، ثم قال: أبرأته عن زكاتي؛ لأن الله سمى الزكاة صدقة؛ فقال تعالى: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين... }؟

فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يجزئ؛ لأن الله عز وجل قال: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} [البقرة: 267] ؛ وجعْل الدَّين زكاة للعين هذا من تيمم الخبيث لإخراجه عن الطيب؛ والمراد بالخبيث هنا الرديء - وليس الحرام؛ لأن العين مُلك قائم بيد المالك يتصرف فيه كيف يشاء؛ والدَّين الذي على معسر مال تالف؛ لأن الأصل بقاء الإعسار؛ وحينئذٍ يكون هذا الدَّين بمنزلة المال التالف؛ فلا يصح أن يجعل هذا المال التالف زكاة عن العين؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن إبراء الغريم المعسر لا يجزئ من الزكاة بلا نزاع؛ ولو قلنا: يجزئ لكان كل إنسان له غرماء لا يستطيعون الوفاء يقول: أبرأتكم ونويتها من الزكاة؛ فتبقى الأموال عنده، والديون التالفة الهالكة التي لا يرجى حصولها تكون هي الزكاة؛ وهذا لا يجوز؛ ولهذا لو خيرت شخصاً، وقلت له: أنا أعطيك عشرة ريالات نقداً، أو أحولك على إنسان فقير معسر عنده العشرة فإنه يختار العشرة نقداً؛ ولا يتردد؛ بل لو خيرته بين عشرة نقداً، وعشرين في ذمة معسر لاختار العشرة؛ فصارت العشرة المنقودة بالنسبة للدَّين من باب الطيب؛ وذاك من باب الرديء؛ وبهذا يتبين أنه لا يجزئ إبراء المدين المعسر عن زكاة مال بيد مالكه؛ لأنه من باب تيمم الخبيث؛ إذاً نقول: لا يجوز إبراء الفقير، واحتساب ذلك من الزكاة؛ نعم لو فرض أنه سيجعلها زكاة عن الدَّين الذي في ذمة المعسر - إذا قلنا بوجوب الزكاة في الدَّين - لكان ذلك مجزئاً؛ لأن هذا صار من جنس المال الذي أديت الزكاة عنه.

الخلاصة:

تبين مما ذكر من الآيتين أن المعاملة بالدَّين ثلاثة أقسام:

الأول: أن يأخذ به رباً؛ وهذا محرم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278] .

الثاني: أن يكون المدين معسراً؛ فلا تجوز مطالبته، ولا طلب الدّين منه حتى يوسر؛ لقوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }.

الثالث: أن يبرئ المعسر من دينه؛ وهذا أعلى الأقسام؛ لقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }.

تتمة:

في هذه الآية وجوب الإنظار إلى ميسرة؛ ومن المعلوم أن حصول الميسرة مجهول؛ وهذا لا يضر؛ لأنه ليس من باب المعاوضة؛ ولكن لو اشترى فقير من شخص، وجعل الوفاء مقيداً بالميسرة فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان؛ فأكثر العلماء على عدم الجواز لأن الأجل مجهول؛ فيكون من باب الغرر المنهي عنه؛ والقول الثاني: أن ذلك جائز لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «قدم لفلان اليهودي بزّ من الشأم لو أرسلت إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة؛ فأرسل إليه فامتنع»(193)؛ ولأن هذا مقتضى العقد إذا علم البائع بإعسار المشتري؛ إذ لا يحلّ له حينئذٍ أن يطلب منه الثمن حتى يوسر؛ وهذا القول هو الراجح.

القرآن

)وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281)

التفسير:

{ 281 } قوله تعالى: { واتقوا يوماً } أي اتقوا عذاب يوم؛ أي احذروه؛ والمراد به يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { ترجعون فيه إلى الله }؛ وعلى هذا تكون { يوماً } منصوبة على المفعولية؛ لأن الفعل وقع عليها - لا فيها.

قوله تعالى: { ترجعون } صفة لـ { يوماً }؛ لأنه نكرة؛ والجمل بعد النكرات صفات؛ وهي بضم التاء، وفتح الجيم على أنه مبني لما لم يسم فاعله؛ وفي قراءة بفتح التاء، وكسر الجيم على أنه مبني للفاعل.

قوله تعالى: { ثم توفى كل نفس } أي تعطى؛ والتوفية بمعنى الاستيفاء؛ وهو أخذ الحق ممن هو عليه؛ فـ { توفى كل نفس } أي تعطى ثوابها، وأجرها المكتوب لها - إن كان عملها صالحاً؛ أو تعطى العقاب على عملها - إن كان عملها سيئاً.

قوله تعالى: { ما كسبت } أي ما حصلت عليه من ثواب الحسنات، وعقوبة السيئات.

قوله تعالى: { وهم لا يظلمون } جملة استئنافية؛ ويحتمل أن تكون جملة حالية؛ لكن الأول أظهر؛ والمعنى: لا ينقصون شيئاً من ثواب الحسنات،ولا يزاد عليهم شيئاً من عقوبة السيئات.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: وجوب اتقاء هذا اليوم الذي هو يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله }؛ واتقاؤه يكون بفعل أوامر الله، واجتناب نواهيه.

2 - ومنها: أن التقوى قد تضاف لغير الله - لكن إذا لم تكن على وجه العبادة؛ فيقال: اتق فلاناً، أو: اتق كذا؛ وهذا في القرآن والسنة كثير؛ قال الله سبحانه وتعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 130، 131] ؛ لكن فرق بين التقويين؛ التقوى الأولى تقوى عبادة، وتذلل، وخضوع؛ والثانية تقوى وقاية فقط: يأخذ ما يتقي به عذاب هذا اليوم، أو عذاب النار؛ وفي السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتق دعوة المظلوم»(194)؛ فأضاف «التقوى» هنا إلى «دعوة المظلوم» ؛ واشتهر بين الناس: اتق شر من أحسنت إليه؛ لكن هذه التقوى المضافة إلى المخلوق ليست تقوى العبادة الخاصة بالله عز وجل؛ بل هي بمعنى الحذر.

3 - ومن فوائد الآية: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: {ترجعون فيه إلى الله} .

4 - ومنها: أن مرجع الخلائق كلها إلى الله حكماً، وتقديراً، وجزاءً؛ فالمرجع كله إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42] ، وقال تعالى: {إن إلى ربك الرجعى} [العلق: 8] ، أي في كل شيء.

5 - ومنها: إثبات قدرة الله عز وجل؛ وذلك بالبعث؛ فإن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد أن كانوا رميماً، وتراباً.

6 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { واتقوا يوماً }؛ لأن توجيه الأمر إلى العبد إذا كان مجبراً من تكليف ما لا يطاق.

7 - ومنها: أن الإنسان لا يوفى يوم القيامة إلا عمله؛ لقوله تعالى: { ثم توفى كل نفس ما كسبت }؛ واستدل بعض العلماء على أنه لا يجوز إهداء القرب من الإنسان إلى غيره؛ أي أنك لو عملت عملاً صالحاً لشخص معين؛ فإن ذلك لا ينفعه، ولا يستفيد منه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: { توفى كل نفس ما كسبت }؛ لا ما كسب غيرها؛ فما كسبه غيره فهو له؛ واستثني من ذلك ما دلت السنة على الانتفاع به من الغير كالصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»(195)؛ والحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي استفتته أن تحج عن أبيها وكان شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة قالت: أفأحج عنه قال: «نعم»(196)؛ وكذلك المرأة التي استفتته أن تحج عن أمها التي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت قالت: أفأحج عنها قال صلى الله عليه وسلم: «نعم»(197)؛ وكذلك الصدقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن استفتاه أن يتصدق عن أمه: «نعم»(198)؛ وأذن لسعد بن عبادة أن يتصدق بمخرافه عن أمه(199)؛ وأما الدعاء للغير إذا كان المدعو له مسلماً فإنه ينتفع به بالنص، والإجماع؛ أما النص ففي الكتاب، والسنة؛ أما الكتاب ففي قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10] ؛ وأما السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه»(200)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل»(201)؛ وأما الإجماع: فإن المسلمين كلهم يصلون على الأموات، ويقولون في الصلاة: «اللهم اغفر له، وارحمه»؛ فهم مجمعون على أنه ينتفع بذلك.

والخلاف في انتفاع الميت بالعمل الصالح من غيره فيما عدا ما جاءت به السنة معروف؛ وقد ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن أيّ قربة فعلها، وجعل ثوابها لميت مسلم قريب، أو بعيد نفعه ذلك؛ ومع هذا فالدعاء للميت أفضل من إهداء القرب إليه؛ لأنه الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(202)؛ ولم يذكر العمل مع أن الحديث في سياق العمل.

وأما ما استدل به المانعون من إهداء القرب من مثل قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 3] فإنه لا يدل على المنع؛ بل على أن سعي الإنسان ثابت له؛ وليس له من سعي غيره شيء إلا أن يجعل ذلك له؛ ونظير هذا أن تقول: «ليس لك إلا مالك»، فإنه لا يمنع أن يقبل ما تبرع به غيره من المال.

وأما الاقتصار على ما ورد فيقال: إن ما وردت قضايا أعيان؛ لو كانت أقوالاً من الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا: نعم، نتقيد بها؛ لكنها قضايا أعيان: جاءوا يسألون قالوا: فعلت كذا، قال: نعم، يجزئ؛ وهذا مما يدل على أن العمل الصالح من الغير يصل إلى من أُهدي له؛ لأننا لا ندري لو جاء رجل وقال: يا رسول الله، صليت ركعتين لأمي، أو لأبي، أو لأخي أفيجزئ ذلك عنه، أو يصل إليه ثوابه لا ندري ماذا يكون الجواب؛ ونتوقع أن يكون الجواب: «نعم»؛ أما لو كانت هذه أقوال بأن قال: «من تصدق لأمه أو لأبيه فإنه ينفعه»، أو ما أشبه ذلك لقلنا: إن هذا قول، ونقتصر عليه.

8 - ومن فوائد الآية: أن الصغير يكتب له الثواب؛ وذلك لعموم قوله تعالى: { ثم توفى كل نفس }.

فإن قال قائل: وهل يعاقب على السيئات.

فالجواب: «لا»؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة...» ، وذكر منها: «الصغير حتى يحتلم»(203)؛ ولأنه ليس له قصد تام لعدم رشده؛ فيشبه البالغ إذا أخطأ، أو نسي.

القرآن

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282)

التفسير:

هذه الآية الكريمة أطول آية في كتاب الله؛ وهي في المعاملات بين الخلق؛ وأقصر آية في كتاب الله قوله تعالى: {ثم نظر} [المدثر: 21] ؛ لأنها خمسة أحرف؛ وأجمع آية للحروف الهجائية كلها آيتان في القرآن فقط؛ إحداهما: قوله تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً} [آل عمران: 154] الآية؛ والثانية قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه...} [الفتح: 29] الآية؛ فقد اشتملت كل واحدة منهما على جميع الحروف الهجائية.

{ 282 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ سبق الكلام على مثل هذه العبارة.

قوله تعالى: { إذا تداينتم بدين } أي إذا داين بعضكم بعضاً؛ و «الدين» كل ما ثبت في الذمة من ثمن بيع، أو أجرة، أو صداق، أو قرض، أو غير ذلك.

قوله تعالى: { إلى أجل مسمى } أي إلى مدة محدودة { فاكتبوه } أي اكتبوا الدين المؤجل إلى أجله؛ والفاء هنا رابطة لجواب الشرط في { إذا }.

قوله تعالى: { وليكتب } أللام للأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الواو؛ وهي تسكن إذا وقعت بعد الواو، كما هنا؛ وبعد «ثم». والفاء، كما في قوله تعالى: {ثم ليقطع فلينظر} [الحج: 15] بخلاف لام التعليل؛ فإنها مكسورة بكل حال؛ و{ بينكم } أي في قضيتكم؛ و{ كاتب } نكرة يشمل أيّ كاتب؛ { بالعدل } أي بالاستقامة - وهو ضد الجور؛ والمراد به ما طابق الشرع؛ وهو متعلق بقوله تعالى: { ليكتب }.

قوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب }، أي لا يمتنع كاتب الكتابة إذا طلب منه ذلك.

قوله تعالى: { كما علمه الله } يحتمل أن تكون الكاف للتشبيه؛ فالمعنى حينئذ: أن يكتب كتابة حسب علمه بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه؛ ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل؛ فالمعنى: أنه لما علمه الله فليشكر نعمته عليه، ولا يمتنع من الكتابة.

قوله تعالى: { فليكتب }؛ الفاء للتفريع: واللام لام الأمر؛ ولكنها سكنت؛ لأنها وقعت بعد الفاء؛ وموضع: {فليكتب } مما قبلها في المعنى قال بعض العلماء: إنها من التوكيد؛ لأن النهي عن إباء الكتابة يستلزم الأمر بالكتابة؛ فهي توكيد معنوي؛ وقيل: بل هي تأسيس تفيد الأمر بالمبادرة إلى الكتابة، أو هي تأسيس توطئة لما بعدها؛ والقاعدة: أنه إذا احتمل أن يكون الكلام توكيداً، أو تأسيساً، حمل على التأسيس؛ لأنه فيه زيادة معنى؛ وبناءً على هذه القاعدة يكون القول بأنها تأسيس أرجح.

قوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق } أي يملي؛ وهما لغتان فصيحتان؛ فـ «الإملال» و«الإملاء» بمعنًى واحد؛ فتقول: «أمليت عليه»؛ و«أمللت عليه» لغة عربية فصحى - وهي في القرآن.

قوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }؛ لما أمر الله عز وجل بأن الذي يملي هو الذي عليه الحق دون غيره وجه إليه أمراً، ونهياً؛ الأمر: { وليتق الله ربه } يعني يتخذ وقاية من عذاب الله، فيقول الصدق؛ والنهي: { ولا يبخس منه شيئاً } أي لا ينقص لا في كميته، ولا كيفيته، ولا نوعه.

قوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً }، أي لا يحسن التصرف؛ { أو ضعيفاً }؛ الضعف هنا ضعف الجسم، وضعف العقل؛ وضعف الجسم لصغره؛ وضعف العقل لجنونه؛ كأن يكون الذي عليه الحق صغيراً لم يبلغ؛ أو كان كبيراً لكنه مجنون، أو معتوه؛ فهذا لا يملل؛ وإنما يملل وليه؛ { أو لا يستطيع أن يمل هو} أي لا يقدر أن يملي لخرس، أو غيره؛ وقوله تعالى: { أن يمل } مؤولة بمصدر على أنه مفعول به؛ والضمير: { هو } للتوكيد؛ وليست هي الفاعل؛ بل الفاعل مستتر في { يمل }.

قوله تعالى: { فليملل }: اللام هنا لام الأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الفاء؛ { وليه } أي الذي يتولى شؤونه من أب، أو جد، أو أخ، أو أم، أو غيرهم.

قوله تعالى: { بالعدل } متعلق بقوله تعالى: { فليملل } يعني إملاءً بالعدل بحيث لا يجور على من له الحق لمحاباة قريبه، ولا يجور على قريبه خوفاً من صاحب الحق؛ بل يجب أن يكون إملاؤه بالعدل؛ و «العدل» هنا هو الصدق المطابق للواقع؛ فلا يزيد، ولا ينقص.

قوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم }، أي اطلبوا شهيدين من رجالكم.

وقوله تعالى: { من رجالكم } الخطاب للمؤمنين.

قوله تعالى: { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان }، أي إن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان؛ وهذا يدل على التخيير مع ترجيح الرجلين على الرجل والمرأتين.

وقوله تعالى: { فرجل وامرأتان }: الجملة جواب الشرط في قوله تعالى: { فإن لم يكونا... }؛ والفاء هنا رابطة للجواب؛ و «رجل» خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالشاهد رجل، وامرأتان.

وقوله تعالى: { فرجل } أي فذَكَر بالغ؛ و{ امرأتان } أي أنثيان بالغتان؛ لأن الرجل والمرأة إنما يطلقان على البالغ.

قوله تعالى: { ممن ترضون من الشهداء }: الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة؛ أي رجل وامرأتان كائنون ممن ترضون من الشهداء؛ والخطاب في قوله تعالى: { ترضون } موجه للأمة؛ يعني بحيث يكون الرجل والمرأتان مرضيين عند الناس؛ لأنه قد يُرضى شخص عند شخص ولا يُرضى عند آخر؛ فلا بد أن يكون هذان الشاهدان؛ أو هؤلاء الشهود - أي الرجل والمرأتان - ممن عرف عند الناس أنهم مرضيون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب»(204)؛ إذاً العبرة بالرضى عند عموم الناس؛ لا برضى المشهود له؛ لأنه قد يرضى بمن ليس بمرضي.

وقوله تعالى: { من الشهداء }: بيان لـ «مَنْ» الموصولة؛ لأن الاسم الموصول من المبهمات؛ فيحتاج إلى بيان؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً» فهذا مبهم؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً من الطلاب» صار مبيناً.

قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } فيها قراءات؛ القراءة الأولى بفتح همزة { أنْ }؛ وعلى هذا يجوز قراءتان في قوله تعالى: { فتذكر }: تخفيف الكاف: { فتذْكِرَ }، وتشديدها: { فتذَكِّرَ }؛ مع فتح الراء فيهما؛ والقراءة الثالثة: بكسر همزة { إن } مع ضم الراء في قوله تعالى: { فتذكِّرُ }، وتشديد الكاف.

وقوله تعالى: { فتذكر إحداهما الأخرى } من التذكير؛ وهو تنبيه الإنسان الناسي على ما نسي؛ ومن غرائب التفسير أن بعضهم قال: { فتذكر } معناه تجعلها بمنزلة الذَّكَر - لا سيما على قراءة التخفيف؛ أي تكون المرأتان كالذَّكَر؛ وهذا غريب؛ لأنه لا يستقيم مع قوله تعالى: { أن تضل إحداهما } فالذي يقابل الضلال بمعنى النسيان: التذكير - أي تنبيه الإنسان على نسيانه.

وفي قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } من البلاغة: إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه لم يقل: فتذكرها الآخرى؛ لأن النسيان قد يكون متفاوتاً، فتنسى هذه جملة، وتنسى الأخرى جملة؛ فهذه تذكر هذه بما نسيت؛ وهذه تذكر هذه بما نسيت؛ فلهذا قال تعالى: { فتذكر إحداهما الأخرى }: لئلا يكون المعنى قاصراً على واحدة هي الناسية، والأخرى تذكرها.

قوله تعالى: { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } أي لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، أو أدائها؛ و{ ما } هذه زائدة لوقوعها بعد { إذا }؛ وفيها بيت مشهور يقول فيه:

(يا طالباً خذ فائدة ما بعد إذا زائدة) واستعمالات «ما» عشر؛ هي كما جاءت في بيت من الشعر:

(محامل «ما» عشر إذا رمت عدّها فحافظ على بيت سليم من الشعر) (ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرها بكفّ ونفي زيد تعظيم مصدر) ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في القرآن شيء زائد بمعنى أنه لا معنى له؛ بل زائد إعراباً فقط؛ أما في المعنى فليس بزائد.

قوله تعالى: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله }، أي لا تمَلّوا أن تكتبوا الدَّين صغيراً كان أو كبيراً إلى أجله المسمى.

قوله تعالى: { ذلكم } المشار إليه كل ما سبق من الأحكام؛ { أقسط عند الله } أي أقوم، وأعدل؛ { وأقوم للشهادة } أي أقرب إلى إقامتها؛ { وأدنى ألا ترتابوا } أي أقرب إلى انتفاء الريبة عندكم.

قوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم }: فيها قراءتان؛ إحداهما بنصب { تجارةً }، و{ حاضرةً }؛ والثانية برفعهما؛ على الأول اسم { تكون } مستتر؛ والتقدير: إلا أن تكون الصفقة تجارة حاضرة؛ وجملة: { تديرونها } صفة ثانية لـ { تجارة }؛ أما على قراءة الرفع فإن { تجارة } اسم { تكون }؛ و{ حاضرة } صفة؛ وجملة: { تديرونها } خبر { تكون }.

والتجارة هي كل صفقة يراد بها الربح؛ فتشمل البيع، والشراء، وعقود الإجارات؛ ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى الإيمان، والجهاد في سبيله تجارة، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10] .

وأما قوله تعالى: { حاضرة } فهي ضد قوله تعالى: { إذا تداينتم بدين }؛ فالحاضر ما سوى الدَّين.

و قوله تعالى: { تديرونها } أي تتعاطونها بينكم بحيث يأخذ هذا سلعته، والآخر يأخذ الثمن، وهكذا.

قوله تعالى: { فليس عليكم جناح }: الفاء عاطفة، أو للتفريع؛ يعني ففي هذه الحال ليس عليكم إثم في عدم كتابتها؛ والضمير في قوله تعالى: { تكتبوه } يعود على التجارة؛ فهذه التجارة المتداولة بين الناس ليس على الإنسان جناح إذا لم يكتبها؛ لأن الخطأ فيها، والنسيان بعيد؛ إذ إنها حاضرة تدار، ويتعاطاها الناس بخلاف المؤجلة.

قوله تعالى: { وأشهدوا إذا تبايعتم } أي باع بعضكم على بعض.

قوله تعالى: { ولا يضار كاتب ولا شهيد }؛ مأخوذة من: الإضرار؛ يحتمل أن تكون مبنية للفاعل؛ فيكون أصلها «يضارِر» بكسر الراء الأولى؛ أو للمفعول؛ فيكون أصلها «يضارَر» بفتحها؛ ويختلف إعراب { كاتب }، و{ شهيد } بحسب بناء الفعل؛ فإن كانت مبنية للفاعل فـ { كاتب } فاعل؛ وإن كانت للمفعول فـ { كاتب } نائب فاعل؛ وهذا من بلاغة القرآن تأتي الكلمة صالحة لوجهين لا ينافي أحدهما الآخر.

قوله تعالى: { وإن تفعلوا } أي يضار الكاتب، أو الشهيد - على الوجهين { فإنه } أي الفعل - وهو المضارة؛ { فسوق بكم } أي خروج بكم عن طاعة الله إلى معصيته؛ وأصل «الفسق» في اللغة الخروج؛ ومنه قولهم: فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها.

قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذاب الله؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.

قوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ الواو هنا للاستئناف؛ ولا يصح أن تكون معطوفة على { اتقوا الله }؛ لأن تعليم الله لنا حاصل مع التقوى، وعدمها - وإن كان العلم يزداد بتقوى الله، لكن هذا يؤخذ من أدلة أخرى.

قوله تعالى: { والله بكل شيء عليم } يشمل كل ما في السماء، والأرض.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: العناية بما ذُكر من الأحكام؛ وذلك لتصدير الحكم بالنداء، ثم توجيه النداء إلى المؤمنين؛ لأنه هذا يدل على العناية بهذه الأحكام، وأنها جديرة بالاهتمام بها.

2 - ومنها: أن التزام هذه الأحكام من مقتضى الإيمان؛ لأنه لا يوجه الخطاب بوصف إلا لمن كان هذا الوصف سبباً لقبوله ذلك الحكمَ.

3 - ومنها: أن مخالفة هذه الأحكام نقص في الإيمان كأنه قال: { يا أيها الذين آمنوا } لإيمانكم افعلوا كذا؛ فإن لم تفعلوا فإيمانكم ناقص؛ لأن كل من يدَّعي الإيمان، ثم يخالف ما يقتضيه هذا الإيمان فإن دعواه ناقصة إما نقصاً كلياً، أو نقصاً جزئياً.

4 - ومنها: بيان أن الدين الإسلامي كما يعتني بالعبادات - التي هي معاملة الخالق - فإنه يعتني بالمعاملات الدائرة بين المخلوقين.

5 - ومنها: دحر أولئك الذين يقولون: إن الإسلام ما هو إلا أعمال خاصة بعبادة الله عز وجل، وبالأحوال الشخصية، كالمواريث، وما أشبهها؛ وأما المعاملات فيجب أن تكون خاضعة للعصر، والحال؛ وعلى هذا فينسلخون من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالبيوع، والإجارات وغيرها، إلى الأحكام الوضعية المبنية على الظلم، والجهل.

فإن قال قائل: لهم في ذلك شبهة؛ وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، ورآهم يلقحون الثمار قال: «لو لم تفعلوا لصلح» فخرج شيصاً - أي فاسداً -؛ فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؛ قالوا: قلت كذا، وكذا؛ قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»(205)؛ قالوا: «والمعاملات من أمور الدنيا، وليست من أمور الآخرة».

فالجواب: أنه لا دليل في هذا الحديث لما ذهبوا إليه؛ لأن الحادثة المذكورة من أمور الصنائع التي من يمارسها فهو أدرى بها، وتدرك بالتجارِب؛ وإلا لكان علينا أن نقول: لا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نصنع السيارات والمسجلات، والطوب، وكل شيء!!! أما الأحكام - الحلال، والحرام - فهذا مرجعه إلى الشرع؛ وقد وفى بكل ما يحتاج الإنسان إليه.

6 - ومن فوائد الآية: جواز الدَّين؛ لقوله تعالى: { تداينتم بدين } سواء كان هذا الدَّين ثمن مبيع، أو قرضاً، أو أجرة، أو صداقاً، أو عوض خلع، أو أي دين يكون؛ المهم أن في الآية إثبات الدَّين شرعاً.

7 - ومنها: أن الدَّين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مؤجل بأجل مسمى؛ ومؤجل بأجل مجهول؛ وغير مؤجل؛ لقوله تعالى: { بدين إلى أجل مسمى }؛ والدَّين إلى غير أجل جائز مثل أن أشتري منك هذه السلعة، ولا أعطيك ثمنها، ولا أعينه لك؛ فهذا دَين غير مؤجل؛ وفي هذه الحال لك أن تطالبني بمجرد ما ينتهي العقد؛ وأما الدَّين إلى أجل غير مسمى فلا يصح؛ وأُخذ هذا القسم من قوله تعالى: { مسمى } - مثل أن أقول لك: «اشتريت منك هذه السلعة إلى قدوم زيد» - وقدومه مجهول؛ لأن فيه غرراً؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم»(206)؛ والدين إلى أجل غير مسمى لا يكتب؛ لأنه عقد فاسد، والدَّين إلى أجل مسمى جائز بنص الآية.

8 - ومن فوائد الآية: جواز السلم - وهو تعجيل الثمن، وتأخير المثمن، مثل أن أشتري مائة صاع من البر إلى سنة، وأعطيك الدراهم؛ فيسمى هذا سلماً؛ لأن المشتري أسلم الثمن، وقدمه.

9 - ومنها: وجوب كتابة الدَّين المؤجل؛ لقوله تعالى: { فاكتبوه }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى في آخر الآية: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها }؛ وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الكتابة - أعني كتابة الدين المؤجل؛ لقوله تعالى في الآية التي تليها: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283] ؛ وينبغي على هذا القول أن يستثنى من ذلك ما إذا كان الدائن متصرفاً لغيره، كوليّ اليتيم فإنه يجب عليه أن يكتب الدَّين الذي له لئلا يضيع حقه.

10 - ومنها: حضور كل من الدائن، والمدين عند كتابة الدَّين؛ لقوله تعالى: { بينكم }؛ ولا تتحقق البينية إلا بحضورهما.

11 - ومنها: أنه لابد أن يكون الكاتب محسناً للكتابة في أسلوبه، وحروفه؛ لقوله تعالى: { وليكتب بينكم كاتب }.

12 - ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل بحيث لا يجحف مع الدائن، ولا مع المدين؛ و«العدل» هو ما طابق الشرع؛ لقوله تعالى: { وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلًا } [الأنعام: 115] .

ويتفرع على ذلك أن يكون الكاتب ذا علم بالحكم الشرعي فيما يكتب.

13 - ومنها: أنه لا يشترط تعيين كاتب للناس بشخصه، وأن أيّ كاتب يتصف بإحسان الكتابة والعدل، فكتابته ماضية نافذة؛ لقوله تعالى: { كاتب بالعدل }؛ وهي نكرة لا تفيد التعيين.

14 - ومنها: تحريم امتناع الكاتب أن يكتب كما علمه الله؛ لقوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }؛ ولهذا أكد هذا النهي بالأمر بالكتابة في قوله تعالى { فليكتب } - هذا ظاهر الآية - ويحتمل أن يقال: إنْ توقف ثبوت الحق على الكتابة كانت الكتابة واجبة على من طلبت منه؛ وإلا لم تجب، كما قلنا بوجوب تحمل الشهادة إذا توقف ثبوت الحق عليها.

15 - ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب على حسب علمه من الشريعة؛ لقوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }.

16 - ومنها: تذكير هؤلاء الكتبة بنعمة الله، وأن مِن شُكر نعمة الله عليهم أن يكتبوا؛ لقوله تعالى: { كما علمه الله }؛ وهذا مبني على أن الكاف هنا للتعليل.

فإن قيل: «إنها للتشبيه» صار المعنى: أنه مأمور أن يكتب على الوجه الذي علمه الله من إحسان الخط، وتحرير الكتابة.

17 - ومنها: أن الإنسان لا يستقل بالعلم؛ لقوله تعالى: { كما علمه الله }؛ حتى في الأمور الحسية التي تدرك عن طريق النظر، أو السمع، أو الشم، لا يستطيع الإنسان أن يعلمها إلا بتعليم الله عز وجل.

18 - ومنها: مبادرة الكاتب إلى الكتابة بدون مماطلة؛ لقوله تعالى: { فليكتب }.

19 - ومنها: أن الرجوع في مقدار الدَّين، أو نوعه، أو كيفيته؛ بل في كل ما يتعلق به إلى المدين الذي عليه الحق - لا إلى الدائن؛ لقوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق }؛ لأنه لو أملل الذي له الحق فربما يزيد.

لكن إذا قال قائل: وإذا أملى الذي عليه الحق فربما ينقص؟!

فالجواب: أن الله حذره من ذلك في قوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }.

20 - ومنها: أن من عليه الحق لا يكتب؛ وإنما يكتب كاتب بين الطرفين؛ لأن الذي عليه الحق وظيفته الإملال؛ ولكن لو كتب صحت كتابته؛ إلا أن ذلك لا يؤخذ من هذه الآية؛ يؤخذ من أدلة أخرى، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135] ؛ وكتابة الإنسان على نفسه إقرار؛ وإقرار الإنسان على نفسه مقبول.

21 - ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عز وجل على من عليه الحق، وأن يتحرى العدل؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه }.

22 - ومنها: أنه ينبغي في مقام التحذير أن يُذْكَر كلُّ ما يكون به التحذير؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }؛ ففي مقام الألوهية يتخذ التقوى عبادة؛ لأن الألوهية هي توحيد العبادة؛ وفي مقام الخوف من الانتقام يكون مشهده الربوبية؛ لأن الرب عز وجل خالق مالك مدبر.

23 - ومنها: أنه يحرم على من عليه الدَّين أن يبخس منه شيئاً لا كمية، ولا نوعاً، ولا صفة؛ لقوله تعالى: { ولا يبخس منه شيئاً }.

24 - ومنها: أن الوليّ يقوم مقام المولَّى عليه في الإملال؛ لقوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل }.

25 - ومنها: أن أسباب القصور ثلاثة: السفه؛ والضعف؛ وعدم الاستطاعة؛ السفه: ألا يحسن التصرف؛ والضعيف يشمل الصغير، والمجنون؛ ومن لا يستطيع يشمل من لا يقدر على الإملال لخرس، أو عييّ، أو نحو ذلك.

26 - ومنها: قبول قول الوليّ فيما يقر به على مولّاه؛ لقوله تعالى: { فليملل وليه }.

27 - ومنها: وجوب مراعاة العدل على الوليّ؛ لقوله تعالى: { بالعدل }؛ فلا يبخس من له الحق؛ ولا يبخس من عليه الحق ممن هو مولى عليه.

28 - ومنها: طلب الإشهاد على الحق.

29 - ومنها: أن البينة إما رجلان؛ وإما رجل، وامرأتان؛ وجاءت السنة بزيادة بينة ثالثة - وهي الرجل، ويمين المدّعي؛ وأنواع طرق الإثبات مبسوطة في كتب الفقهاء.

30 - ومنها: أنه لابد في الشاهدين من كونهما مرضيين عند المشهود له، والمشهود عليه.

31 - ومنها: قصر حفظ المرأة وإدراكها عن حفظ الرجل، وهذا باعتبار الجنس؛ فلا يرد على ذلك من نبوغ بعض النساء، وغفلة بعض الرجال.

32 - ومنها: جواز شهادة الإنسان فيما نسيه إذا ذُكِّر به، فذكر؛ لقوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }؛ فإن ذُكِّر ولم يذكر لم يشهد.

33 - ومنها: تحريم امتناع الشاهد إذا دُعي للشهادة؛ وهذا تحته أمران:

الأمر الأول: أن يُدعى لتحمل الشهادة؛ وقد قال العلماء في هذا: إنه فرض كفاية؛ وظاهر الآية الكريمة أنه فرض عين على من طلبت منه الشهادة بعينه؛ وهو الحق؛ لأنه قد لا يتسنى لطالب الشهادة أن يشهد له من تُرضى شهادته.

الأمر الثاني: أن يُدعى لأداء الشهادة؛ فيجب عليه الاستجابة؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283] .

34 - ومن فوائد الآية: النهي عن السأَم في كتابة الدَّين سواء كان صغيراً، أو كبيراً؛ والظاهر أن النهي هنا للكراهة.

35 - ومنها: أنه إذا كان الدَّين مؤجلاً فإنه يبيَّن الأجل؛ لقوله تعالى: { إلى أجله }.

36 - ومنها: أن ما ذُكر من التوجيهات الإلهية في هذه الآية فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: أنه أقسط عند الله - أي أعدل عنده لما فيه من حفظ الحق لمن هو له، أو عليه.

الثانية: أنه أقوم للشهادة؛ لأنه إذا كتب لم يحصل النسيان.

الثالثة: أنه أقرب لعدم الارتياب.

37 - ومن فوائد الآية: العمل بالكتابة، واعتمادها حجةً شرعية إذا كانت من ثقة معروف خطه؛ ويؤيد هذا قوله (صلى الله عليه وسلم): «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»(207).

38 - ومنها: أن الشهادات تتفاوت؛ فمنها الأقوم؛ ومنها القيم؛ ومنها ما ليس بقيم؛ فالذي ليس بقيم هو الذي لم تتم فيه شروط القبول؛ والقيم هو الذي صار فيه أدنى الواجب؛ والأقوم ما كان أكمل من ذلك؛ بدليل قوله تعالى: { وأقوم للشهادة }. فإذا قيل: ما مثال القيم؟ فنقول: مثل شاهد، ويمين؛ لكن أقوم منه الشاهدان؛ لأن الشاهدين أقرب إلى الصواب من الشاهد الواحد؛ ولأن الشاهدين لا يحتاج معهما إلى يمين المدعي؛ فكانت شهادة الشاهدين أقوم للشهادة.

39 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب كل ما يكون له فيه ارتياب، وشك؛ لقوله تعالى: { وأدنى ألا ترتابوا }.

ويتفرع على هذه الفائدة: أن دين الإسلام يريد من معتنقيه أن يكونوا دائماً على اطمئنان، وسكون.

ويتفرع أيضاً منها: أن دين الإسلام يحارب ما يكون فيه القلق الفكري، أو النفسي؛ لأن الارتياب يوجب قلق الإنسان، واضطرابه.

ويتفرع عليه أيضاً: أنه ينبغي للإنسان إذا وقع في محلّ قد يستراب منه أن ينفي عن نفسه ذلك؛ وربما يؤيد هذا الأثرُ المشهور: «رحم الله امرئ كفّ الغيبة عن نفسه»(208)؛ لا تقل: إن الناس يحسنون الظن بي، ولن يرتابوا في أمري؛ لا تقل هكذا؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فربما لا يزال يوسوس في صدور الناس حتى يتهموك بما أنت منه بريء.

40 - ومن فوائد الآية: جواز الاتجار؛ لقوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة حاضرة }؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد بالشروط التي دلت عليها النصوص؛ فلو اتجر الإنسان بأمر محرم فهذا لا يجوز من نصوص أخرى؛ ولو رابى الإنسان يريد التجارة والربح قلنا: هذا حرام من نصوص أخرى؛ إذاً هذا المطلق الذي هو التجارة مقيد بالنصوص الدالة على أن التجارة لا بد فيها من شروط.

41 - ومنها: أن التجارة نوعان: تجارة حاضرة، وتجارة غير حاضرة؛ فأما الحاضرة فهي التي تدار بين الناس بدون أجل؛ وأما غير الحاضرة فهي التي تكون بأجل، أو على مسمى موصوف غير حاضر.

42 - ومنها: أن الأصل في التجارة الدوران؛ لقوله تعالى: { تديرونها بينكم }؛ فأما الشيء الراكد الذي لا يدار فهل يسمى تجارة؟ يرى بعض العلماء أنه ليس تجارة؛ ولذلك يقولون: ليس فيه زكاة، وأن الزكاة إنما هي في المال الذي يدار - يعني يتداول؛ ويرى آخرون أنها تجارة؛ ولكنها تجارة راكدة؛ وهذا يقع كثيراً فيما إذا فسدت التجارة، وكسد البيع؛ فربما تبقى السلع عند أصحابها مدة طويلة لا يحركونها؛ لكن هي في حكم المدارة؛ لأن أصحابها ينتظرون أيّ إنسان يأتي، فيبيعون عليه.

43 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجب كتابة التجارة الحاضرة المدارة - ولو كان ثمنها غير منقود؛ بخلاف ما إذا تداين بدين إلى أجل مسمى؛ فإنه تجب كتابة الدَّين على ما سبق من الخلاف في ذلك؛ لقوله تعالى: { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها}.

44 - ومنها: الأمر بالإشهاد عند التبايع؛ وهل الأمر للوجوب؛ أو للاستحباب؛ أو للإرشاد؟ فيه خلاف؛ والراجح أنه ليس للوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى، ولم يُشهِد(209)؛ والأصل عدم الخصوصية؛ ولأن إيجابه فيه شيء من الحرج، والمشقة؛ لكثرة تداول التجارة؛ اللهم إلا أن يكون التصرف للغير، كالوكيل، والوليّ؛ فربما يقال بوجوب الإشهاد في المبايعات الخطيرة.

45 - ومن فوائد الآية: أن الإشهاد ينبغي أن يكون حين التبايع؛ بمعنى أنه لا يتقدم، ولا يتأخر؛ لقوله تعالى: { إذا تبايعتم }؛ لأن العقد لم يتم إذا كان الإشهاد قبله؛ وإذا كان بعده فربما يكون المبيع قد تغير.

46 - ومنها: تحريم مضارة الكاتب، أو الشهيد: سواء وقع الإضرار منهما، أو عليهما.

47 - ومنها: أن المضارة سواء وقعت من الكاتب، أو الشاهد، أو عليهما، فسوق؛ والفسق يترتب عليه زوال الولايات العامة والخاصة إلا ما استثني؛ والفاسق يُهجر إما جوازاً؛ أو استحباباً، أو وجوباً - على حسب الحال - إن كان في الهجر إصلاح له.

فإن قال قائل: أفلا يشكل هذا على القاعدة المعروفة أن الفسق لا يتصف به الفاعل إلا إذا تكرر منه، أو كان كبيرة؟.

فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى حكم على المضارة بأنها فسوق؛ والقرآن يَحكم، ولا يُحكَم عليه.

48 - ومن فوائد الآية: أن هذا الفعل فسوق لا يخرج من الإيمان؛ لأنه لم يصف الفاعل بالكفر؛ بل قال تعالى: { فإنه فسوق بكم }؛ ومجرد الفسق لا يخرج من الإيمان؛ ولكن الفسق المطلق يخرج من الإيمان؛ لأن الخروج عن الطاعة خروجاً عاماً يخرج من الإيمان، ويوجب الخلود في النار، كما قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة: 18 - 20] .

49 - ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.

50 - ومنها: امتنان الله عز وجل على عباده بالتعليم، حيث قال تعالى: { ويعلمكم الله }.

51 - ومنها: أن الدِّين الإسلامي شامل للأحكام المتعلقة بعبادة الله عز وجل، والمتعلقة بمعاملة عباد الله؛ لأنه بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التوجيهات قال تعالى: { ويعلمكم الله }؛ فيكون في ذلك إبطال لزعم من زعم أن الدين الاسلامي في إصلاح ما بين العبد وبين ربه؛ ولا علاقة له بالمعاملة بين الناس.

52 - ومنها: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ قال الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل: 78] .

53 - ومنها: ثبوت صفة العلم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ لأن المعلم عالم.

54 - ومنها: أن العلم من منة الله عز وجل على عباده؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }، وكما قال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164] ؛ ولا شك أن العلم من أكبر النعم، حيث قال الله عز وجل: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] ؛ والعلماء كذلك ورثة الأنبياء؛ فالعلم أفضل من المال - ولا مقارنة؛ وهو كالجهاد في سبيل الله؛ لأن الدِّين الإسلامي لم ينتشر إلا بالعلم، والسلاح؛ فالسلاح يذلل العدو؛ والعلم ينير له الطريق؛ ولهذا إذا ذلّ العدو للإسلام، وخضع لأحكامه، وبذل الجزية وجب الكف عنه، ولا يقاتَل؛ لكن العلم جهاد يجب أن يكون لكل أحد؛ ثم الجهاد بالسلاح لا يكون إلا للكافر المعلن كفره، ولا يكون للمنافق؛ والجهاد بالعلم يكون لهذا، ولهذا - للمنافق، وللكافر المعلن بكفره؛ والعلم أفضل بكثير من المال؛ والعلم جهاد في سبيل الله - ولا سيما في وقتنا الحاضر؛ فإن الناس قد انفتح بعضهم على بعض، واختلط بعضهم ببعض، وصاروا يأخذون الثقافات من يمين ويسار، واحتاج الناس الآن للعلم الراسخ المبني على الكتاب والسنة حتى لا يقع الناس في ظلمات بعضها فوق بعض؛ لذلك تجد رجلاً يمر به حديث، أو حديثان، ثم يقال: أنا ابن جلا، وطلاع الثنايا! من ينال مرتبتي! أنا الذي أفتي بعشرة مذاهب! ثم مع ذلك يندد بمن خالفه - ولو كان من كبار العلماء؛ وربما يضخم الخطأ الذي يقع منه - ولو كان ممن يشار إليه بالفضل، والعلم، والدِّين؛ وهذه خطيرة جداً؛ لأن العامي وإن كان وثق بشخص لا يهمه هذا الكلام؛ لكن كلما كرر الضرب على الحديد لابد أن يتأثر؛ لذلك نرى أن طلب العلم من أهم الأمور خصوصاً في هذا الوقت.

55 - ومن فوائد الآية: إثبات هذا الاسم من أسماء الله - وهو { عليم }؛ وإثبات ما دلّ عليه من الصفة - وهي العلم.

56 - ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم }.

57 - ومنها: الرد على القدرية سواء الغلاة منهم، أو غيرهم؛ فإن غلاتهم يقولون: إن الله لا يعلم شيئاً من أفعال العباد حتى يقع؛ يقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: إن هؤلاء قليل - وهذا في عهده؛ ولا ندري الآن هل زادوا، أم نقصوا؛ لكن في الآية ردّ حتى على غير الغالية منهم - وهم الذين يقولون: إن الله يعلم؛ لكنه لم يُرد أفعال الإنسان، وأن الإنسان مستقل بإرادته، وفعله؛ وجه ذلك ما قاله الشافعي - رحمه الله: «ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا»؛ وعلى هذا نقول: في هذه الآية الكريمة دليل على أن أفعال العباد مرادة لله عز وجل؛ لأنها إن لم تكن مرادة فهي إما أن تقع على وفق علمه، أو على خلافه؛ فإن كان على خلافه فهو إ
sherif
رد: تفسير سورة البقرة
مُساهمة الثلاثاء أكتوبر 04, 2011 2:28 am من طرف sherif
بارك الله فيك
ربنا يكثر من امثالك
دائم التميز بأذن الله
 

تفسير سورة البقرة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» تفسير سورة الإخلاص
» تفسير سورة الكهف
» تفسير سورة الفاتحة
» تفسير سورة الناس
» تفسير سورة الفلق

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ahla-3alm :: &عام& :: المنتدي الاسلامي :: منتدى تفسير القرأن-
انتقل الى: