قال تعالى: ) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا ( [1].
وقال تعالى: ) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً( [2].
وقال تعالى: ) أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا( [3].
يبرز الله سبحانه تعالى في هذه الآيات طرفاً من الآلاء والنعم التي قد أرفدها علينا ونعمنا بها ومن بين هذه النعم التي يشير إليها القرآن الكريم نعمة الجاذبية، الجاذبية الأرضية التي من شأنها أن تقر الأشياءَ على الأرض، ويكون هذا الاستقرار مناسباً ومنسجماً مع حجم هذه الأجسام التي تقلها الأرض، وبذلـك تتحقق الحياة عليها، وتثبت توابعها وتكون ملازمة لها دائماً في دورانها حول نفسها وحول أمِّها الشمس.
فقانون الجاذبية قانون عام شامل يعمل في الكون كله، حيث إن الكائنات كلها تتجاذب وإن لم نر نحن القوة الرابطة بين المتجاذبين، إلا أننا تعرفنا عليها من نتيجة أثر الجسم الكبير في الصغير، ورأينا فيما مضى كيف أن الشمس تجذب منظومتها كلها، والأرض كذلك تجذب كل من عليها بما في ذلك القمر، والغلاف الجوي خاضع لقانون الجاذبية ولولا الجاذبية لفرّ ولتلاشت الأحياء، وهكذا فإن هذا القانون عام وشامل، وسيحدثنا عنه العلماء وعن هذه القضايا التي أومأنا إليها، غير أن هذا القانون الذي اكتشفه "نيوتن" وأماط اللثام عنه، قد قرره الحق تبارك وتعالى في كثير من آيات القرآن المجيد، ولسوف نقف الآن عند ما قاله المفسرون واللغويون حول هذه النصوص القرآنية.
يقول ابن كثير: يقول تعالى
أَمَّن جَعَلَ ٱلأرْضَ قَرَاراً (أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، بل جعلها من فضله ورحمته مهاداً بساطاً ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك [4].
وعند الطبري يقول تعالى ذكره: اللَّهُ الذي له الألوهية خالصة أيها الناس، الَّذي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ التي أنتم على ظهرها سكان قَرَاراً تستقرون عليها، وتسكنون فوقها، والسَّماءَ بِناءً، بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم، وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم [5].
وفي«التفسير الكبير» يقول الرازي: كونها قراراً وذلك لوجوه، الأول: أنه دحاها وسواها للاستقرار الثاني: أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة، فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه، وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه الثالث: أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور، ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها، ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات الرابع: أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل، بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس، ولولا ذلك لما اختلفت الفصول، ولما حصلت المنافع [6].
وفي«روح المعاني»: أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب، بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم، فقراراً بمعنى مستقراً لا بمعنى قارة غير مضطربة [7].
وأما قوله تعالى
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلاْرْضَ كِفَاتاً( فالكفات اسم جنس أو اسم آلة، لما يكفت أي يضم ويجمع، من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع [8].
وإنما معنى الكلام، ألم نجعل الأرض كِفاتَ أحيائكم وأمواتكم، تَكْفِت أحياءكم في المساكن والمنازل، فتضمهم فيها وتجمعهم، وأمواتَكم في بطونها في القبور، فيُدفَنون فيها، وجائز أن يكون عُني بقوله: )كِفاتاً أحْياءاً وأمْوَاتاً( تكفت أذاهم في حال حياتهم، وجيفهم بعد مماتهم [9].
ولو رجعنا إلى معنى )قراراً ( في اللغة لوجدناها تعطينا معنى الثبات والاستقرار، يقول ابن منظور: قراراً، بطون الأرض قرارها، لأن الماء يستقر فيها، ويقال: القرار، مستقر الماء في الروضة وقراره ومستقرِّه، تناهى وثبت [10].
ونجد في « مفردات ألفاظ القرآن »: قرّ في مكانه يَقَرُّ قراراً، إذا ثبت ثُبُوتاً جامداً، وأصله من القرِّ … قال تعالى
أَمّن جعل الأرض قراراً ( أي مستقراً [11].
وأما معنى )كفاتا(ً، فالكفات، الموضع الذي يُضمُّ فيه الشيءُ ويُقبض، والكفتُ، القبضُ والجمعُ [12].
أي تجمع الناس أحياءهم وأمواتهم، وقيل: معـناه تضم الأحياء التي هي الإنسان والحيوانات والنـبات، والأموات التي هي الجمادات من الأرض والماء وغير ذلك [13].
إذن، يتضح من معطيات ما سبق أن )قراراً( و)كفاتاً( كلمتان تدلان على الضمّ والجمع وهذا هو المعنى العلمي الدقيق للجاذبية، إذ الجاذبية من شأنها أن تضم وتجمع إليها ما أحاط بها من أجسام...
فأيُّ تعبير أدقُ من تعبير القرآن الكريم، وهو يصف حالَ الكرة الأرضية وهي تسير في فلكها الذي رسم لها من قبل الخالق العظيم، وفي آنٍ واحدٍ تضم المخلوقات التي أوجدها الله سبحانه وتعالى عليها ضمّاً قد حشي بالرحمة والحنان والعطف، وكأنها أمٌّ رؤومٌ بأبنائها، فلا تؤذيهم حالَ دورانها حول نفسها والشمس، ولا تقذف بهم في دوَّامة التيه والفوضى، بل إنها تُقِلُّهم بين حناياها وتكفتهم بذراعيها بعامل الجاذبية الذي أشار الله إليه بقوله
قراراً( و)كفاتاً(.
فما أرحَمك يا خالقنا وما أعظمَ لطفك وحنانك بنا، فالأرض تدور وتجري بسرعةٍ كبيرة ونحن نعيش بين تضاعيفها وننعم بأرزاقها وظلالها الوارف، ولا يصيبنا أيُّ أذىً ولا نشعر بأيِّ خوفٍ أو قلق، فسبحانَ الذي خلق كُلَّ شيءٍ بقدر، ثم إن قوة الجاذبية لاتقتصر على كوكب الأرض وما حوى، بل إنها تلف الأجرام وحتى المجرات السماوية بأسرها، ذلك أن الجزر النجمية الضخمة العظيمة في الكون، مهما كانت متباعدة إلا أنها متماسكة فيما بينها بسبب قوة الجاذبية التي تربط أجرامها ببعض، وتمنعها من التفكك والتناثر،كما مرّ فيما مضى، وكيف أن قوة الجاذبية على عظمها لا يمكن أن ترى أبداً، ولقد أشار ربنا سبحانه وتعالى إلى الجاذبية الكونية، وأن السماء مبنية بناء دقيقاً ومتماسكاً على أعمدة غير مرئية، ولنتأمل في هذا قول الله تعالى
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( [14]، كما أن الحق عز وجل أمرنا أن نجيل النظر في السماء، لنرى كيف بنيت وكيف رفعت، وفي هذا يقول ربنا(سبحانه و تعالى)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ( [15] وقوله سبحانه
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ( [16]، وقوله سبحانه
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ( [17].
هذه الآيات تشير بكل وضوح إلى أن هناك أعمدة منتشرة في السماء، وأن السماء بنيت عليها إلا أن هذه الأعمدة لا ترى، وهذه الأعمدة هي قوة الجاذبية التي لاتخضع للرؤية كما سنرى بعد قليل من أقوال العلماء.
يقول القرطبي: لها عمد ولكنا لا نراه، قال ابن عباس لها عمد على جبل قاف ويمكن أن يقال على هذا القول: العمد قدرته التي يمسك بها السموات والأرض وهي غير مرئية لنا [18].
وفي «التفسير الشامل»: خلق السموات العلى على غاية ما يكون عليه الاتساع والامتداد والفخامة، وعلى أكمل ما يكون عليه الاتساق والتوازن والانتظام، خلائق كبيرة وكثيرة، وأجرام هائلة مبثوثة في أجواء الفضاء، يضمها نظام دقيق ومنضبط لا يعرف الخلل أو العشوائية أو الفوضى تلك هي السموات الشامخات الكبريات، قد رفع الله بناءها، وجعلها منسجمة رفيعة لا تستند إلى ما يمسكهن من الأعمدة المنظورة، ولكن الله قدر لها من النظام الكوني الوثيق ما يكفل لها تمام الدوران والحركة والاستمرار [19].
الحقائق العلمية:
حقيقة الجاذبية التي قررها القرآن، وأنزل الآيات التي تتحدث عنها على قلب النبي (عليه السلام) كشف عنها روّاد العلم بعد عصورٍ طويلة فحدثونا عنها، ويرجع الفضل في اكتشاف قانون الجاذبية إلى {إسحاق نيوتن}، والذي يعرف الجاذبية فيقول
إن جميع الأجسام والأجرام في هذا الكون تجذب بعضها البعض، بقوة يتوقف مقدارها على كمية الكتلتين المتجاذبتين، وعلى بعد المسافة بينهما وتزداد القوة، أي تتناسب طردياً مع مقدار حاصل ضرب الكتلتين، وتقل، أي تتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينهما، ويمكن أن نقول ببساطة: إن القوة تزداد مع مقدار الكتلتين وتقل كلما بعد المسافة بينهما، والقانون أو الناموس الحاكم في حالة التفاحة والأرض هو:
ثابت× كتلة الأرض× كتلة التفاحة
قوة الجاذبية الأرضية = ___________________
مربع المسافة
والثابت هو: ثابت الجذب الكوني، وأما المسافة، فهي المسافة بين مركز أو وسط التفاحة ومركز الأرض، ويسري القانون على جميع الكائنات والأشياء فوق الأرض، بل على جميع الأجرام الكونية فهناك قوة جذب بين الشمس والتسعة كواكب السيارة التي تدور حولها بما في ذلك كوكب الأرض والكواكب تجذب بعضها البعض، والأرض والقمر يتجاذبان [20].
وفي موسوعة «بهجة المعرفة»: الجاذبية هي التجاذب بين جسمين، وتتوقف قوتها على كتلتي الجسمين وعلى المسافة بينهما، تتوقف إذن قوة مجال الجاذبية الأرضية على كتلة الأرض، الجاذبية سبب جميع عوامل التعرية الرئيسية تقريباً، فالمطر المتساقط تحت تأثير الجاذبية وكذلك التيارات والأنهار [21].
والجاذبية العامة قانون كوني موجود في طبيعة الأشياء كلها، ويعمل في صمتٍ في الأرض والسماء، ولقد كان "لنيوتن" الفضل في اكتشاف قانون الجاذبية ولقد قال "نيوتن" نفسه: إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس، وهي تشد، أي تجذب مادة أخرى دون أي رباط بينها وتعمل الجاذبية في كل الأشياء كبيرها وصغيرها، فالكل يتجاذب وإن لم يظهر إلاّ أثر الكبير في الصغير، فالشمس تجذب الأرض، والأرض تجذب القمر، بل وتجذب كل شيءٍ قريب منها بقوة نشعر بها جميعاً وأنت نفسك سجين الجاذبية، لأنك لا تستطيع أن ترتفع عن الأرض لأنها تجـذبك إليها وأنت أيضاً تجذب الأرض لك، ولكن شتان ما بين كتلتك وكتلة الأرض، ورغم هذا الجذب فإنك تستطيع التحرك على الأرض نظراً لضآلة قوة الجذب بينك وبين الأرض...والطائر عندما يموت يقع على الأرض، ورفع الحجر عن الأرض يتطلب مجهوداً والصعود على الجبل أشق من النـزول منه بسبب الجاذبية، ومن فضل الله علينا أن الجاذبية الأرضية قد احتفظت لنا بغلاف جوي يحيط بأرضنا ولولا هذه الجاذبية لهرب الهواء وانعدمت الحياة على كوكبنا [22].
إذاً يمكن القول: إن جاذبية الأرض هي التي تقدم لنا نقط الاستهداء فيما نقوم به من أعمال المساحة والهندسة، فإذا ربطنا جسماً ثقيل الوزن بسلك ليّن تحمله نقطة ثابتة، نجد أن ليونة السلك تدفع به في اتجاه الخط الذي يتبعه الجسم مدفوعاً إليه نحو الأرض بقوة الجاذبية، وهو ما يستعمله البنّاؤون للتأكد من استقامة البناء، ويسمى الفادم، كما أنه يجسد خطوط جاذبية الأرض، وهذه الجاذبية التي تدفع الأجسام للسقوط نحو سطح الأرض، ليست قوة خاصة بل هي حالة خاصة من حالات الجاذبية العامة، والجاذبية التي يمارسها جسمان تخضع لمبدأ الجاذبية المعروف وهو: أن الأجسام تتجاذب بالنسبة إلى مقدار مادة كل منها، وبمقدار معاكس لمربع أبعادها، ولما كان كوكب الأرض كروي الشكل تقريباً، وهو خاضع لقانون الجاذبية، وتفوق مواده مواد الأجسام المحيطة به، فإن الجسم الذي يخضع لجاذبية الأرض يندفع نحو سطحها باتجاه مركزها الوسطي، وهو ما مكن مشاهدته في كل حين تأكيداً لصحة مبدأ الجاذبية المذكورة آنفاً المسيطر على تحركات الفضاء [23].
الإعجاز:
رأينا كيف أن قانون الجاذبية يشمل الكون بأسره، ويعمل بخفاء ولطف لتعود منافعه على الخلائق كلها، فسبحان الذي بحكمته رتب قوانين الحياة على هذا النسق، ويسرها كلها للإنسان وسجلها آياتٍ معجزةً في قرآنه ببيان واضح قبل أن يكتشفها العلماء، ليظل الإنسان شاكراً ومعترفاً بفضل ذي الجلال والإنعام.
الخاتمة
بعد حمد الله تبارك وتعالى والصلاة والسلام على رسوله الكريم سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
فقد انتهيت من الجزء الثاني من موسوعة الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، والذي تحدثت فيه عن الظواهر الجيولوجية في القرآن الكريم، حيث تطرقت للحديث عن شكل الأرض ودورانها والأدلة القرآنية العلمية في ذلك، كما تحدثت عن عوامل التجوية والتعرية وأثرهما في تغيير سطح الأرض، وأسهبت الحديث عن الجبال وأنواعها وأهميتها في تثبيت القشرة الأرضية...
ثم عرّجت للحديث عن نقص الأرض من أطرافها وكيفية هذا النقص وصوره، وأشرت إلى طبقات الأرض المتتالية، وصدوع الأرض وأنواعها ومنافعها، وفرّقت بين الأرض الهامدة والخاشعة، وختمت هذا الجزء بالحديث عن قانون الجاذبية الأرض...
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل صالح الأعمال، ويتجاوز عن الهفوات والزلات، إنه سميع كريم جواد، والحمد لله رب العالمين